الباحث القرآني

﴿بَلْ عَجِبْتَ ويَسْخَرُونَ﴾ ﴿وإذا ذُكِّرُوا لا يَذْكُرُونَ﴾ ﴿وإذا رَأوْا آيَةً يَسْتَسْخِرُونَ﴾ ”بَلْ“ لِلْإضْرابُ الِانْتِقالِيِّ مِنَ التَّقْرِيرِ التَّوْبِيخِيِّ إلى أنَّ حالَهم عَجَبٌ. وقَرَأ الجُمْهُورُ (﴿بَلْ عَجِبْتَ﴾) بِفَتْحِ التّاءِ لِلْخِطابِ. والخِطِابُ لِلنَّبِيءِ ﷺ (p-٩٦)المُخاطَبِ بِقَوْلِهِ (﴿فاسْتَفْتِهِمْ﴾ [الصافات: ١١])، وفِعْلُ المُضِيِّ مُسْتَعْمَلٌ في مَعْنى الأمْرِ وهو مِنِ اسْتِعْمالِ الخَبَرِ في مَعْنى الطَّلَبِ لِلْمُبالَغَةِ كَما يُسْتَعْمَلُ الخَبَرُ في إنْشاءِ صِيَغِ العُقُودِ نَحْوُ: بِعْتُ. والمَعْنى: اعْجَبْ لَهم. ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ العَجَبُ قَدْ حَصَلَ مِنَ النَّبِيءِ ﷺ لَمّا رَأى إعْراضَهم وقِلَّةَ إنْصافِهِمْ فَيَكُونُ الخَبَرُ مُسْتَعْمَلًا في حَقِيقَتِهِ. ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ الكَلامُ عَلى تَقْدِيرِ هَمْزَةِ الِاسْتِفْهامِ، أيْ بَلْ أعَجِبْتَ ؟ . والمَعْنى عَلى الجَمِيعِ: أنَّ حالَهم حَرِيَّةٌ بِالتَّعَجُّبِ كَقَوْلِهِ تَعالى (﴿وإنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهم أإذا كُنّا تُرابًا إنّا لَفي خَلْقٍ جَدِيدٍ﴾ [الرعد: ٥]) في سُورَةِ الرَّعْدِ. وقَرَأ حَمْزَةُ والكِسائِيُّ وخَلَفٌ ”﴿بَلْ عَجِبْتُ﴾“ بِضَمِّ التّاءِ لِلْمُتَكَلِّمِ فَيَجُوزُ أنْ يَكُونَ المُرادُ: أنَّ اللَّهَ أسْنَدَ العَجَبَ إلى نَفْسِهِ. ويُعْرَفُ أنَّهُ لَيْسَ المُرادُ حَقِيقَةَ العَجَبِ المُسْتَلْزِمَةِ الرَّوْعَةَ والمُفاجَأةَ بِأمْرٍ غَيْرِ مُتَرَقَّبٍ بَلِ المُرادُ التَّعْجِيبُ أوِ الكِنايَةُ عَنْ لازِمِهِ، وهو اسْتِعْظامُ الأمْرِ المُتَعَجَّبِ مِنهُ. ولَيْسَ لِهَذا الِاسْتِعْمالِ نَظِيرٌ في القُرْآنِ ولَكِنَّهُ تَكَرَّرَ في كَلامِ النُّبُوءَةِ مِنهُ قَوْلُهُ ﷺ «إنَّ اللَّهَ لَيَعْجَبُ مِن رَجُلَيْنِ يَقْتُلُ أحَدُهُما الآخَرَ يَدْخُلانِ الجَنَّةَ، يُقاتِلُ هَذا في سَبِيلِ اللَّهِ فَيُقْتَلُ، ثُمَّ يَتُوبُ اللَّهُ عَلى القاتِلِ فَيُسْتَشْهَدُ» رَواهُ النَّسائِيُّ بِهَذا اللَّفْظِ. يَعْنِي ثُمَّ يُسْلِمُ القاتِلُ الَّذِي كانَ كافِرًا فَيُقاتِلُ فَيُسْتَشْهَدُ في سَبِيلِ اللَّهِ. وقَوْلُهُ في حَدِيثِ الأنْصارِيِّ وزَوْجِهِ إذْ أضافا رَجُلًا فَأطْعَماهُ عَشاءَهُما وتَرَكا صِبْيانَهُما «عَجِبَ اللَّهُ مِن فِعالِكُما» . ونَزَلَ فِيهِ (﴿ويُؤْثِرُونَ عَلى أنْفُسِهِمْ﴾ [الحشر: ٩])، وقَوْلُهُ «عَجِبَ اللَّهُ مِن قَوْمٍ يَدْخُلُونَ الجَنَّةَ في السَّلاسِلِ» إنَّما عَدَلَ عَنِ الصَّرِيحِ وهو الِاسْتِعْظامُ لِأنَّ الكِنايَةَ أبْلَغُ مِنَ التَّصْرِيحِ، والصّارِفُ عَنْ مَعْنى اللَّفْظِ الصَّرِيحِ في قَوْلِهِ (عَجِبْتُ) ما هو مَعْلُومٌ مِن مُخالَفَتِهِ تَعالى لِلْحَوادِثِ. (p-٩٧)ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ أُطْلِقَ (عَجِبْتَ) عَلى مَعْنى المُجازاةِ عَلى عَجَبِهِمْ لِأنَّ قَوْلَهُ ﴿فاسْتَفْتِهِمْ أهم أشَدُّ خَلْقًا﴾ [الصافات: ١١] دَلَّ عَلى أنَّهم عَجِبُوا مِن إعادَةِ الخَلْقِ فَتَوَعَّدَهُمُ اللَّهُ بِعِقابٍ عَلى عَجَبِهِمْ. وأطْلَقَ عَلى ذَلِكَ العِقابِ فِعْلَ (عَجِبْتَ) كَما أطْلَقَ عَلى عِقابِ مَكْرِهِمُ المَكْرَ في قَوْلِهِ ﴿ومَكَرُوا ومَكَرَ اللَّهُ واللَّهُ خَيْرُ الماكِرِينَ﴾ [آل عمران: ٥٤] . والواوُ في (ويَسْخَرُونَ) واوُ الحالِ، والجُمْلَةُ في مَوْضِعِ الحالِ مِن ضَمِيرِ (عَجِبْتَ) أيْ كانَ أمْرُهم عَجَبًا في حالِ اسْتِسْخارِهِمْ بِكَ في اسْتِفْتائِهِمْ. وجِيءَ بِالمُضارِعِ في يَسْخَرُونَ لِإفادَةِ تَجَدُّدِ السُّخْرِيَةِ، وأنَّهم لا يَرْعَوُونَ عَنْها. والسُّخْرِيَةُ: الِاسْتِهْزاءُ، وتَقَدَّمَتْ في قَوْلِهِ تَعالى ﴿فَحاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنهُمْ﴾ [الأنعام: ١٠] في سُورَةِ الأنْعامِ. والتَّذْكِيرُ بِأنْ يَذْكُرُوا ما يَغْفُلُونَ عَنْهُ مِن قُدْرَةِ اللَّهِ تَعالى عَلَيْهِمْ، ومِن تَنْظِيرِ حالِهِمْ بِحالِ الأُمَمِ الَّتِي اسْتَأْصَلَها اللَّهُ تَعالى فَلا يَتَّعِظُوا بِذَلِكَ عِنادًا فَأطْلَقَ (لا يَذْكُرُونَ) عَلى أثَرِ الفِعْلِ، أيْ لا يَحْصُلُ فِيهِمْ أثَرُ تَذَكُّرِ ما يُذَكَّرُونَ بِهِ وإنْ كانُوا قَدْ ذَكَرُوا ذَلِكَ. ويَجُوزُ أنْ يُرادَ (لا يَذْكُرُونَ) ما ذُكِّرُوا بِهِ، أيْ لِشِدَّةِ إعْراضِهِمْ عَنِ التَّأمُّلِ فِيما ذُكِّرُوا بِهِ لِاسْتِقْرارِ ما ذُكِّرُوا بِهِ في عُقُولِهِمْ فَلا يَذْكُرُونَ ما هم غافِلُونَ عَنْهُ، عَلى حَدِّ قَوْلِهِ تَعالى (﴿أمْ تَحْسَبُ أنَّ أكْثَرَهم يَسْمَعُونَ أوْ يَعْقِلُونَ إنْ هم إلّا كالأنْعامِ﴾ [الفرقان: ٤٤]) . (﴿وِإذا رَأوْا آيَةً﴾) أيْ خارِقَ عادَةٍ أظْهَرَهُ الرَّسُولُ ﷺ دالًّا عَلى صِدْقِهِ لِأنَّ اللَّهَ تَعالى لا يُغَيِّرُ نِظامَ خِلْقَتِهِ في العالَمِ إلّا إذا أرادَ تَصْدِيقَ الرَّسُولِ لِأنَّ خَرْقَ العادَةِ مِن خالِقِ العاداتِ وناظِمِ سُنَنِ الأكْوانِ قائِمٌ مَقامَ قَوْلِهِ: صَدَقَ هَذا الرَّسُولُ فِيما أخْبَرَ بِهِ عَنِّي. وقَدْ رَأوُا انْشِقاقَ القَمَرِ، فَقالُوا: هَذا سِحْرٌ، قالَ تَعالى ﴿اقْتَرَبَتِ السّاعَةُ وانْشَقَّ القَمَرُ﴾ [القمر: ١] ﴿وإنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا ويَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ﴾ [القمر: ٢] . (p-٩٨)و(يَسْتَسْخِرُونَ) مُبالَغَةٌ في السُّخْرِيَةِ، فالسِّينُ والتّاءُ لِلْمُبالَغَةِ كَقَوْلِهِ (﴿فاسْتَجابَ لَهم رَبُّهُمْ﴾ [آل عمران: ١٩٥]) وقَوْلِهِ (﴿فاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إلَيْكَ﴾ [الزخرف: ٤٣]) . فالسُّخْرِيَةُ المَذْكُورَةُ في قَوْلِهِ ويَسْخَرُونَ سُخْرِيَةٌ مِن مُحاجَّةِ النَّبِيءِ ﷺ إيّاهم بِالأدِلَّةِ. والسُّخْرِيَةُ المَذْكُورَةُ هُنا سُخْرِيَةٌ مِن ظُهُورِ الآياتِ المُعْجِزاتِ، أيْ يَزِيدُونَ في السُّخْرِيَةِ بِمَن ظَنَّ مِنهم أنَّ ظُهُورَ المُعْجِزاتِ يَحُولُ بِهِمْ عَنْ كُفْرِهِمْ، ألا تَرى أنَّهم قالُوا (﴿إنْ كادَ لَيُضِلُّنا عَنْ آلِهَتِنا لَوْلا أنْ صَبَرْنا عَلَيْها﴾ [الفرقان: ٤٢]) .
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب