الباحث القرآني

تَفْسِيرُ سُورَةِ الصّافّاتِ وهِيَ مَكِّيَّةٌ. قالَ القُرْطُبِيُّ: في قَوْلِ الجَمِيعِ. وأخْرَجَ ابْنُ الضُّرَيْسِ، وابْنُ النَّحّاسِ، وابْنُ مَرْدَوَيْهِ، والبَيْهَقِيُّ في الدَّلائِلِ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ قالَ: نَزَلَتْ بِمَكَّةَ. وأخْرَجَ النَّسائِيُّ، والبَيْهَقِيُّ في سُنَنِهِ عَنِ ابْنِ عُمَرَ قالَ: «كانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ - يَأْمُرُنا بِالتَّخْفِيفِ ويَؤُمُّنا بِالصّافّاتِ» . قالَ ابْنُ كَثِيرٍ: تَفَرَّدَ بِهِ النَّسائِيُّ. وأخْرَجَ ابْنُ أبِي داوُدَ في فَضائِلِ القُرْآنِ، وابْنُ النَّجّارِ في تارِيخِهِ مِن طَرِيقِ نَهْشَلِ بْنِ سَعِيدٍ الوَرْدانِيِّ عَنِ الضَّحّاكِ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ قالَ: قالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ -: «مَن قَرَأ يس والصّافّاتِ يَوْمَ الجُمُعَةِ ثُمَّ سَألَ اللَّهَ أعْطاهُ سُؤْلَهُ» . وأخْرَجَ أبُو نُعَيْمٍ في الدَّلائِلِ، والسِّلَفِيُّ في الطُّيُورِيّاتِ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ: «" أنَّ النَّبِيَّ - صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ - لَمّا سَألَهُ مُلُوكُ حَضْرَمَوْتَ عِنْدَ قُدُومِهِمْ عَلَيْهِ أنْ يَقْرَأ عَلَيْهِمْ شَيْئًا مِمّا أنْزَلَ اللَّهُ قَرَأ ﴿والصّافّاتِ صَفًّا﴾ حَتّى بَلَغَ ﴿ورَبُّ المَشارِقِ﴾» [ أيْ: سُورَةَ الصّافّاتِ ] الحَدِيثَ. بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ قَوْلُهُ: ﴿والصّافّاتِ صَفًّا﴾ قَرَأ أبُو عَمْرٍو، وحَمْزَةُ، وقِيلَ: حَمْزَةُ فَقَطْ بِإدْغامِ التّاءِ مِنَ الصّافّاتِ في صادِ صَفًّا، وإدْغامِ التّاءِ مِنَ الزّاجِراتِ في زايِ زَجْرًا، وإدْغامِ التّاءِ مِنَ التّالِياتِ في ذالِ ذِكْرًا، وهَذِهِ القِراءَةُ قَدْ أنْكَرَها أحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ لَمّا سَمِعَها. قالَ النَّحّاسُ: وهي بَعِيدَةٌ في العَرَبِيَّةِ مِن ثَلاثِ جِهاتٍ: الجِهَةُ الأُولى أنَّ التّاءَ لَيْسَتْ مِن مَخْرَجِ الصّادِ ولا مِن مَخْرَجِ الزّايِ ولا مِن مَخْرَجِ الدّالِ ولا مِن أخَواتِهِنَّ. الجِهَةُ الثّانِيَةُ أنَّ التّاءَ في كَلِمَةٍ وما بَعْدَها في كَلِمَةٍ أُخْرى. الثّالِثَةُ أنَّكَ إذا أدْغَمْتَ جَمَعْتَ بَيْنَ ساكِنَيْنِ مِن كَلِمَتَيْنِ، وإنَّما يَجُوزُ الجَمْعُ بَيْنَ ساكِنَيْنِ في مِثْلِ هَذا إذا كانا في كَلِمَةٍ واحِدَةٍ. وقالَ الواحِدِيُّ: إدْغامُ التّاءِ في الصّادِ حَسَنٌ لِمُقارَبَةِ الحَرْفَيْنِ، ألا تَرى أنَّهُما مِن طَرَفِ اللِّسانِ. وقَرَأ الباقُونَ بِإظْهارِ جَمِيعِ ذَلِكَ، والواوُ لِلْقَسَمِ، والمُقْسَمُ بِهِ المَلائِكَةُ: الصّافّاتُ، والزّاجِراتُ، والتّالِياتُ والمُرادُ بِالصّافّاتِ: الَّتِي تُصَفُّ في السَّماءِ مِنَ المَلائِكَةِ كَصُفُوفِ الخَلْقِ في الدُّنْيا، قالَهُ ابْنُ مَسْعُودٍ وابْنُ عَبّاسٍ وعِكْرِمَةُ وسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ ومُجاهِدٌ، وقَتادَةُ. وقِيلَ: إنَّها تَصُفُّ أجْنِحَتَها في الهَواءِ واقِفَةً فِيهِ حَتّى يَأْمُرَها اللَّهُ بِما يُرِيدُ. وقالَ الحَسَنُ: صَفًّا كَصُفُوفِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ في صَلاتِهِمْ. وقِيلَ: المُرادُ بِالصّافّاتِ هُنا الطَّيْرُ كَما في قَوْلِهِ: ﴿أوَلَمْ يَرَوْا إلى الطَّيْرِ فَوْقَهم صافّاتٍ﴾ [الملك: ١٩] . والأوَّلُ أوْلى، والصَّفُّ: تَرْتِيبُ الجَمْعِ عَلى خَطٍّ كالصَّفِّ في الصَّلاةِ. وقِيلَ: الصّافّاتُ جَماعَةُ النّاسِ المُؤْمِنِينَ إذا قامُوا صَفًّا في الصَّلاةِ أوْ في الجِهادِ، ذَكَرَهُ القُشَيْرِيُّ. والمُرادُ بِـ الزّاجِراتِ الفاعِلاتُ لِلزَّجْرِ مِنَ المَلائِكَةِ، إمّا لِأنَّها تَزْجُرُ السَّحابَ كَما قالَ السُّدِّيُّ، وإمّا لِأنَّها تَزْجُرُ عَنِ المَعاصِي بِالمَواعِظِ والنَّصائِحِ. وقالَ قَتادَةُ: المُرادُ بِالزّاجِراتِ الزَّواجِرُ مِنَ القُرْآنِ، وهي كُلُّ ما يَنْهى ويَزْجُرُ عَنِ القَبِيحِ. والأوَّلُ أوْلى. وانْتِصابُ ﴿صَفًّا﴾ و﴿زَجْرًا﴾ عَلى المَصْدَرِيَّةِ لِتَأْكِيدِ ما قَبْلَهُما. وقِيلَ: المُرادُ بِالزّاجِراتِ العُلَماءُ، لِأنَّهُمُ الَّذِينَ يَزْجُرُونَ أهْلَ المَعاصِي، والزَّجْرُ في الأصْلِ: الدَّفْعُ بِقُوَّةٍ، وهو هُنا قُوَّةُ التَّصْوِيتِ، ومِنهُ قَوْلُ الشّاعِرِ: ؎زَجْرَ أبِي عُرْوَةَ السِّباعَ إذا أشْفَقَ أنْ يَخْتَلِطْنَ بِالغَنَمِ ومِنهُ زَجَرْتُ الإبِلَ والغَنَمَ: إذا أفْزَعْتَها بِصَوْتِكَ. والمُرادُ (p-١٢٣٥)بِـ ﴿فالتّالِياتِ ذِكْرًا﴾ المَلائِكَةُ الَّتِي تَتْلُو القُرْآنَ كَما قالَ ابْنُ مَسْعُودٍ، وابْنُ عَبّاسٍ، والحَسَنُ، ومُجاهِدٌ، وابْنُ جُبَيْرٍ والسُّدِّيُّ. وقِيلَ: المُرادُ جِبْرِيلُ وحْدَهُ، فَذُكِرَ بِلَفْظِ الجَمْعِ تَعْظِيمًا لَهُ مَعَ أنَّهُ لا يَخْلُو مِن أتْباعٍ لَهُ مِنَ المَلائِكَةِ. وقالَ قَتادَةُ: المُرادُ كُلُّ مَن تَلا ذِكْرَ اللَّهِ وكُتُبَهُ. وقِيلَ: المُرادُ آياتُ القُرْآنِ، ووَصْفُها بِالتِّلاوَةِ وإنْ كانَتْ مَتْلُوَّةً كَما في قَوْلِهِ: ﴿إنَّ هَذا القُرْآنَ يَقُصُّ عَلى بَنِي إسْرائِيلَ﴾ [النمل: ٧٦] وقِيلَ: لِأنَّ بَعْضَهم يَتْلُو بَعْضًا ويَتْبَعُهُ. وذَكَرَ الماوَرْدِيُّ أنَّ التّالِياتِ هُمُ الأنْبِياءُ يَتْلُونَ الذِّكْرَ عَلى أُمَمِهِمْ، وانْتِصابُ " ذِكْرًا " عَلى أنَّهُ مَفْعُولٌ بِهِ ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ مَصْدَرًا كَما قَبْلَهُ مِن قَوْلِهِ " صَفًّا، وزَجْرًا " . قِيلَ: وهَذِهِ الفاءُ في قَوْلِهِ " فالزّاجِراتِ، فالتّالِياتِ " إمّا لِتَرْتِيبِ الصِّفاتِ أنْفُسِها في الوُجُودِ أوْ لِتَرْتِيبِ مَوْصُوفاتِها في الفَضْلِ، وفي الكُلِّ نَظَرٌ. وقَوْلُهُ: ﴿إنَّ إلَهَكم لَواحِدٌ﴾ جَوابُ القَسَمِ أيْ: أقْسَمَ اللَّهُ بِهَذِهِ الأقْسامِ إنَّهُ واحِدٌ لَيْسَ لَهُ شَرِيكٌ. وأجازَ الكِسائِيُّ فَتْحَ إنَّ الواقِعَةِ في جَوابِ القَسَمِ. ﴿رَبُّ السَّماواتِ والأرْضِ﴾ يَجُوزُ أنْ يَكُونَ خَبَرًا ثانِيًا، وأنْ يَكُونَ بَدَلًا مِن " لَواحِدٌ " وأنْ يَكُونَ خَبَرَ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ. قالَ ابْنُ الأنْبارِيِّ: الوَقْفُ عَلى " لَواحِدٌ " وقْفٌ حَسَنٌ، ثُمَّ يَبْتَدِئُ " رَبُّ السَّماواتِ والأرْضِ " عَلى مَعْنى هو رَبُّ السَّماواتِ والأرْضِ. قالَ النَّحّاسُ: ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ بَدَلًا مِن " لَواحِدٌ " . والمَعْنى في الآيَةِ: أنَّ وُجُودَ هَذِهِ المَخْلُوقاتِ عَلى هَذا الشَّكْلِ البَدِيعِ مِن أوْضَحِ الدَّلائِلِ عَلى وُجُودِ الصّانِعِ وقُدْرَتِهِ، وأنَّهُ رَبُّ ذَلِكَ كُلِّهِ أيْ: خالِقُهُ ومالِكُهُ. والمُرادُ بِـ " ما بَيْنَهُما ": ما بَيْنَ السَّماواتِ والأرْضِ مِنَ المَخْلُوقاتِ. والمُرادُ بِـ ﴿المَشارِقِ﴾ مَشارِقُ الشَّمْسِ. قِيلَ: إنَّ اللَّهَ - سُبْحانَهُ - خَلَقَ لِلشَّمْسِ كُلَّ يَوْمٍ مَشْرِقًا ومَغْرِبًا بِعَدَدِ أيّامِ السَّنَةِ، تَطْلُعُ كُلَّ يَوْمٍ مِن واحِدٍ مِنها وتَغْرُبُ مِن واحِدٍ، كَذا قالَ ابْنُ الأنْبارِيِّ وابْنُ عَبْدِ البَرِّ. وأمّا في قَوْلِهِ في سُورَةِ الرَّحْمَنِ ﴿رَبُّ المَشْرِقَيْنِ ورَبُّ المَغْرِبَيْنِ﴾ [الرحمن: ١٧] فالمُرادُ بِالمَشْرِقَيْنِ: أقْصى مَطْلَعٍ تَطْلُعُ مِنهُ الشَّمْسُ في الأيّامِ الطِّوالِ، وأقْصَرُ يَوْمٍ في الأيّامِ القِصارِ، وكَذَلِكَ في المَغْرِبَيْنِ. وأمّا ذِكْرُ المَشْرِقِ والمَغْرِبِ بِالإفْرادِ فالمُرادُ بِهِ الجِهَةُ الَّتِي تُشْرِقُ مِنها الشَّمْسُ، والجِهَةُ الَّتِي تَغْرُبُ مِنها، ولَعَلَّهُ قَدْ تَقَدَّمَ لَنا في هَذا كَلامٌ أوْسَعُ مِن هَذا. ﴿إنّا زَيَّنّا السَّماءَ الدُّنْيا بِزِينَةٍ الكَواكِبِ﴾ المُرادُ بِالسَّماءِ الدُّنْيا الَّتِي تَلِي الأرْضَ، مِنَ الدُّنُوِّ وهو القُرْبُ، فَهي أقْرَبُ السَّماواتِ إلى الأرْضِ. قَرَأ الجُمْهُورُ " بِزِينَةِ الكَواكِبِ " بِإضافَةِ " زِينَةِ " إلى الكَواكِبِ. والمَعْنى: زَيَّنّاها بِتَزْيِينِ الكَواكِبِ أيْ: بِحُسْنِها. وقَرَأ مَسْرُوقٌ، والأعْمَشُ، والنَّخَعِيُّ، وحَمْزَةُ بِتَنْوِينِ " زِينَةٍ " وخَفْضِ " الكَواكِبِ " عَلى أنَّها بَدَلٌ مِنَ الزِّينَةِ عَلى أنَّ المُرادَ بِالزِّينَةِ الِاسْمُ لا المَصْدَرُ، والتَّقْدِيرُ بَعْدَ طَرْحِ المُبْدَلِ مِنهُ: إنّا زَيَّنّا السَّماءَ بِالكَواكِبِ، فَإنَّ الكَواكِبَ في أنْفُسِها زِينَةٌ عَظِيمَةٌ، فَإنَّها في أعْيُنِ النّاظِرِينَ لَها كالجَواهِرِ المُتَلَأْلِئَةِ. وقَرَأ عاصِمٌ في رِوايَةِ أبِي بَكْرٍ عَنْهُ بِتَنْوِينِ " زِينَةٍ " ونَصْبِ " الكَواكِبَ " عَلى أنَّ الزِّينَةَ مَصْدَرٌ وفاعِلُهُ مَحْذُوفٌ، والتَّقْدِيرُ: بِأنَّ اللَّهَ زَيَّنَ الكَواكِبَ بِكَوْنِها مُضِيئَةً حَسَنَةً في أنْفُسِها، أوْ تَكُونُ الكَواكِبُ مَنصُوبَةً بِإضْمارِ أعْنِي، أوْ بَدَلًا مِنَ السَّماءِ بَدَلَ اشْتِمالٍ، وانْتِصابُ " حِفْظًا " عَلى المَصْدَرِيَّةِ بِإضْمارِ فِعْلٍ أيْ: حَفِظْناها حِفْظًا، أوْ عَلى أنَّها مَفْعُولٌ لِأجْلِهِ أيْ: زَيَّنّاها بِالكَواكِبِ لِلْحِفْظِ، أوْ بِالعَطْفِ عَلى مَحَلِّ زِينَةٍ كَأنَّهُ قالَ: إنّا خَلَقْنا الكَواكِبَ زِينَةً لِلسَّماءِ. ﴿وحِفْظًا مِن كُلِّ شَيْطانٍ مارِدٍ﴾ أيْ: مُتَمَرِّدٍ خارِجٍ عَنِ الطّاعَةِ يُرْمى بِالكَواكِبِ، كَقَوْلِهِ: ﴿ولَقَدْ زَيَّنّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ وجَعَلْناها رُجُومًا لِلشَّياطِينِ﴾ [الملك: ٥] . وجُمْلَةُ ﴿لا يَسَّمَّعُونَ إلى المَلَإ الأعْلى﴾ مُسْتَأْنَفَةٌ لِبَيانِ حالِهِمْ بَعْدَ حِفْظِ السَّماءِ مِنهم. وقالَ أبُو حاتِمٍ أيْ: لِئَلّا يَسْمَعُوا، ثُمَّ حَذَفَ إنْ فَرَفَعَ الفِعْلَ، وكَذا قالَ الكَلْبِيُّ، والمَلَأُ الأعْلى: أهْلُ السَّماءِ الدُّنْيا فَما فَوْقَها، وسُمِّيَ الكُلُّ مِنهم أعْلى بِإضافَتِهِ إلى مَلَأِ الأرْضِ، والضَّمِيرُ في " يَسَّمَّعُونَ " إلى الشَّياطِينِ. وقِيلَ: إنَّ جُمْلَةَ " لا يَسَّمَّعُونَ " صِفَةٌ لِكُلِّ شَيْطانٍ، وقِيلَ: جَوابًا عَنْ سُؤالٍ مُقَدَّرٍ كَأنَّهُ قِيلَ: فَما كانَ حالُهم بَعْدَ حِفْظِ السَّماءِ عَنْهم ؟ فَقالَ: ﴿لا يَسَّمَّعُونَ إلى المَلَإ الأعْلى﴾ قَرَأ الجُمْهُورُ " يَسْمَعُونَ " بِسُكُونِ السِّينِ وتَخْفِيفِ المِيمِ. وقَرَأ حَمْزَةُ والكِسائِيُّ وعاصِمٌ في رِوايَةِ حَفْصٍ عَنْهُ بِتَشْدِيدِ المِيمِ والسِّينِ، والأصْلُ " يَتَسَمَّعُونَ " فَأدْغَمَ التّاءَ في السِّينِ، فالقِراءَةُ الأُولى تَدُلُّ عَلى انْتِفاءِ سَماعِهِمْ دُونَ اسْتِماعِهِمْ، والقِراءَةُ الثّانِيَةُ تَدُلُّ عَلى انْتِفائِهِما وفي مَعْنى القِراءَةِ الأُولى قَوْلُهُ - تَعالى -: ﴿إنَّهم عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ﴾ [الشعراء: ٢١٢] قالَ مُجاهِدٌ: كانُوا يَتَسَمَّعُونَ ولَكِنْ لا يَسْمَعُونَ. واخْتارَ أبُو عُبَيْدَةَ القِراءَةَ الثّانِيَةَ، قالَ: لِأنَّ العَرَبَ لا تَكادُ تَقُولُ: سَمِعْتُ إلَيْهِ، وتَقُولُ تَسَمَّعْتُ إلَيْهِ. ﴿ويُقْذَفُونَ مِن كُلِّ جانِبٍ دُحُورًا﴾ أيْ: يُرْمَوْنَ مِن كُلِّ جانِبٍ مِن جَوانِبِ السَّماءِ بِالشُّهُبِ إذا أرادُوا الصُّعُودَ لِاسْتِراقِ السَّمْعِ، وانْتِصابُ " دُحُورًا " عَلى أنَّهُ مَفْعُولٌ لِأجْلِهِ والدُّحُورُ الطَّرْدُ، تَقُولُ دَحَرْتُهُ دَحْرًا ودُحُورًا: طَرَدْتُهُ. قَرَأ الجُمْهُورُ ﴿دُحُورًا﴾ بِضَمِّ الدّالِ، وقَرَأ عَلِيٌّ، والسُّلَمِيُّ، ويَعْقُوبُ الحَضْرَمِيُّ، وابْنُ أبِي عَبْلَةَ بِفَتْحِها. ورُوِيَ عَنْ أبِي عَمْرٍو أنَّهُ قَرَأ " يَقْذِفُونَ " مَبْنِيًّا لِلْفاعِلِ، وهي قِراءَةٌ غَيْرُ مُطابِقَةٍ لِما هو المُرادُ مِنَ النَّظْمِ القُرْآنِيِّ، وقِيلَ: إنَّ انْتِصابَ " دُحُورًا " عَلى الحالِ: أيْ: مَدْحُورِينَ، وقِيلَ: هو جَمْعُ داحِرٍ نَحْوُ قاعِدٍ وقُعُودٍ فَيَكُونُ حالًا أيْضًا. وقِيلَ: إنَّهُ مَصْدَرٌ لِمُقَدَّرٍ أيْ: يُدْحَرُونَ دُحُورًا. وقالَ الفَرّاءُ: إنَّ المَعْنى يُقْذَفُونَ بِما يَدْحَرُهم أيْ: بِدُحُورٍ، ثُمَّ حُذِفَتِ الباءُ فانْتَصَبَ بِنَزْعِ الخافِضِ. واخْتُلِفَ هَلْ كانَ هَذا الرَّمْيُ لَهم بِالشُّهُبِ قَبْلَ المَبْعَثِ أوْ بَعْدَهُ، فَقالَ بِالأوَّلِ طائِفَةٌ، وبِالآخَرِ آخَرُونَ وقالَتْ طائِفَةٌ بِالجَمْعِ بَيْنَ القَوْلَيْنِ: إنَّ الشَّياطِينَ لَمْ تَكُنْ تُرْمى قَبْلَ المَبْعَثِ رَمْيًا يَقْطَعُها عَنِ السَّمْعِ، ولَكِنْ كانَتْ تُرْمى وقْتًا ولا تُرْمى وقْتًا آخَرَ وتُرْمى مِن جانِبٍ ولا تُرْمى مِن جانِبٍ آخَرَ، ثُمَّ بَعْدَ المَبْعَثِ رُمِيَتْ في كُلِّ وقْتٍ ومِن كُلِّ جانِبٍ حَتّى صارَتْ لا تَقْدِرُ عَلى اسْتِراقِ شَيْءٍ مِنَ السَّمْعِ إلّا مَنِ اخْتَطَفَ الخَطْفَةَ فَأتْبَعَهُ شِهابٌ ثاقِبٌ، ومَعْنى ﴿ولَهم عَذابٌ واصِبٌ﴾ ولَهم عَذابٌ دائِمٌ لا يَنْقَطِعُ، والمُرادُ بِهِ العَذابُ في (p-١٢٣٦)الآخِرَةِ غَيْرُ العَذابِ الَّذِي لَهم في الدُّنْيا مِنَ الرَّمْيِ بِالشُّهُبِ. وقالَ مُقاتِلٌ: يَعْنِي دائِمًا إلى النَّفْخَةِ الأُولى، والأوَّلُ أوْلى. وقَدْ ذَهَبَ جُمْهُورُ المُفَسِّرِينَ إلى أنَّ الواصِبَ الدّائِمُ. وقالَ السُّدِّيُّ وأبُو صالِحٍ والكَلْبِيُّ: هو المُوجِعُ الَّذِي يَصِلُ وجَعُهُ إلى القَلْبِ، مَأْخُوذٌ مِنَ الوَصَبِ وهو المَرَضُ، وقِيلَ: هو الشَّدِيدُ. والِاسْتِثْناءُ في قَوْلِهِ: ﴿إلّا مَن خَطِفَ الخَطْفَةَ﴾ هو مِن قَوْلِهِ ﴿لا يَسَّمَّعُونَ﴾ أوْ مِن قَوْلِهِ ﴿ويُقْذَفُونَ﴾ . وقِيلَ: الِاسْتِثْناءُ راجِعٌ إلى غَيْرِ الوَحْيِ لِقَوْلِهِ: ﴿إنَّهم عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ﴾ [الشعراء: ٢١٢] بَلْ يَخْطِفُ الواحِدُ مِنهم خَطْفَةً مِمّا يَتَفاوَضُ فِيهِ المَلائِكَةُ ويَدُورُ بَيْنَهم مِمّا سَيَكُونُ في العالَمِ قَبْلَ أنْ يَعْلَمَهُ أهْلُ الأرْضِ. والخَطْفُ الِاخْتِلاسُ مُسارَقَةً وأخْذُ الشَّيْءِ بِسُرْعَةٍ. قَرَأ الجُمْهُورُ ﴿خَطِفَ﴾ بِفَتْحِ الخاءِ وكَسْرِ الطّاءِ مُخَفَّفَةً، وقَرَأ قَتادَةُ، والحَسَنُ بِكَسْرِهِما وتَشْدِيدِ الطّاءِ، وهي لُغَةُ تَمِيمِ بْنِ مُرٍّ وبَكْرِ بْنِ وائِلٍ. وقَرَأ عِيسى بْنُ عُمَرَ بِفَتْحِ الخاءِ وكَسْرِ الطّاءِ مُشَدَّدَةً. وقَرَأ ابْنُ عَبّاسٍ بِكَسْرِهِما مَعَ تَخْفِيفِ الطّاءِ. وقِيلَ: إنَّ الِاسْتِثْناءَ مُنْقَطِعٌ ﴿فَأتْبَعَهُ شِهابٌ ثاقِبٌ﴾ أيْ: لَحِقَهُ وتَبِعَهُ شِهابٌ ثاقِبٌ: نَجْمٌ مُضِيءٌ فَيَحْرُقُهُ، ورُبَّما لا يَحْرُقُهُ فَيُلْقِي إلى إخْوانِهِ ما خَطِفَهُ، ولَيْسَتِ الشُّهُبُ الَّتِي يُرْجَمُ بِها هي مِنَ الكَواكِبِ الثَّوابِتِ بَلْ مِن غَيْرِ الثَّوابِتِ، وأصْلُ الثُّقُوبِ الإضاءَةُ. قالَ الكِسائِيُّ: ثَقَبَتِ النّارُ تَثْقُبُ ثَقابَةً وثُقُوبًا: إذا اتَّقَدَتْ، وهَذِهِ الآيَةُ هي كَقَوْلِهِ: ﴿إلّا مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ فَأتْبَعَهُ شِهابٌ مُبِينٌ﴾ [الحجر: ١٨] . ﴿فاسْتَفْتِهِمْ أهم أشَدُّ خَلْقًا أمْ مَن خَلَقْنا﴾ أيِ: اسْألِ الكُفّارَ المُنْكِرِينَ لِلْبَعْثِ أهم أشَدُّ خَلْقًا وأقْوى أجْسامًا وأعْظَمُ أعْضاءً، أمْ مَن خَلَقْنا مِنَ السَّماواتِ والأرْضِ والمَلائِكَةِ ؟ قالَ الزَّجّاجُ: المَعْنى: فاسْألْهم سُؤالَ تَقْرِيرٍ أهم أشَدُّ خَلْقًا أيْ: أحْكَمُ صَنْعَةً أمْ مَن خَلَقْنا قَبْلَهم مِنَ الأُمَمِ السّالِفَةِ ؟ يُرِيدُ أنَّهم لَيْسُوا بِأحْكَمَ خَلْقًا مِن غَيْرِهِمْ مِنَ الأُمَمِ وقَدْ أهْلَكْناهم بِالتَّكْذِيبِ فَما الَّذِي يُؤَمِّنُهم مِنَ العَذابِ ؟ ثُمَّ ذَكَرَ خَلْقَ الإنْسانِ فَقالَ: ﴿إنّا خَلَقْناهم مِن طِينٍ لازِبٍ﴾ أيْ: إنّا خَلَقْناهم في ضِمْنِ خَلْقِ أبِيهِمْ آدَمَ مِن طِينٍ لازِبٍ أيْ: لاصِقٍ، يُقالُ: لَزَبَ يَلْزُبُ لُزُوبًا: إذا لَصِقَ. وقالَ قَتادَةُ وابْنُ زَيْدٍ: اللّازِبُ اللّازِقُ. وقالَ عِكْرِمَةُ: اللّازِبُ اللَّزِجُ. وقالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: اللّازِبُ الجَيِّدُ الَّذِي يُلْصَقُ بِاليَدِ. وقالَ مُجاهِدٌ: هو اللّازِمُ، والعَرَبُ تَقُولُ: طِينٌ لازِبٌ ولازِمٌ تُبْدِلُ الباءَ مِنَ المِيمِ، واللّازِمُ الثّابِتُ كَما يُقالُ: صارَ الشَّيْءُ ضَرْبَةَ لازِبٍ، ومِنهُ قَوْلُ النّابِغَةِ: ؎لا تَحْسَبُونَ الخَيْرَ لا شَرَّ بَعْدَهُ ∗∗∗ ولا تَحْسَبُونَ الشَّرَّ ضَرْبَةَ لازِبٍ وحَكى الفَرّاءُ عَنِ العَرَبِ: طِينٌ لاتِبٌ بِمَعْنى لازِمٍ، واللّاتِبُ الثّابِتُ. قالَ الأصْمَعِيُّ واللّاتِبُ اللّاصِقُ مِثْلُ اللّازِبِ. والمَعْنى في الآيَةِ: أنَّ هَؤُلاءِ كَيْفَ يَسْتَبْعِدُونَ المَعادَ وهم مَخْلُوقُونَ مِن هَذا الخَلْقِ الضَّعِيفِ ولَمْ يُنْكِرْهُ مَن هو مَخْلُوقٌ خَلْقًا أقْوى مِنهم وأعْظَمَ وأكْمَلَ وأتَمَّ. وقِيلَ: اللّازِبُ هو المُنْتِنُ قالَهُ مُجاهِدٌ، والضَّحّاكُ. قَرَأ الجُمْهُورُ ﴿أمْ مَن خَلَقْنا﴾ بِتَشْدِيدِ المِيمِ وهي أمِ المُتَّصِلَةُ، وقَرَأ الأعْمَشُ بِالتَّخْفِيفِ، وهو اسْتِفْهامٌ ثانٍ عَلى قِراءَتِهِ. قِيلَ: وقَدْ قُرِئَ " لازِمٍ ولاتِبٍ "، ولا أدْرِي مَن قَرَأ بِذَلِكَ. ثُمَّ أضْرَبَ - سُبْحانَهُ - عَنِ الكَلامِ السّابِقِ فَقالَ: ﴿بَلْ عَجِبْتَ﴾ يا مُحَمَّدُ مِن قُدْرَةِ اللَّهِ - سُبْحانَهُ - ﴿ويَسْخَرُونَ﴾ مِنكَ بِسَبَبِ تَعَجُّبِكَ، أوْ ويَسْخَرُونَ مِنكَ بِما تَقُولُهُ مِن إثْباتِ المَعادِ. قَرَأ الجُمْهُورُ بِفَتْحِ التّاءِ مِن ﴿عَجِبْتَ﴾ عَلى الخِطابِ لِلنَّبِيِّ - صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ - . وقَرَأ حَمْزَةُ والكِسائِيُّ بِضَمِّها، ورُوِيَتْ هَذِهِ القِراءَةُ عَنْ عَلِيٍّ وابْنِ مَسْعُودٍ وابْنِ عَبّاسٍ، واخْتارَها أبُو عُبَيْدٍ والفَرّاءُ. قالَ الفَرّاءُ: قَرَأها النّاسُ بِنَصْبِ التّاءِ ورَفْعِها، والرَّفْعُ أحَبُّ إلَيَّ لِأنَّها عَنْ عَلِيٍّ وعَبْدِ اللَّهِ وابْنِ عَبّاسٍ. قالَ: والعَجَبُ أنْ أُسْنِدَ إلى اللَّهِ فَلَيْسَ مَعْناهُ مِنَ اللَّهِ كَمَعْناهُ مِنَ العِبادِ. قالَ الهَرَوِيُّ: وقالَ بَعْضُ الأئِمَّةِ: مَعْنى قَوْلِهِ: ﴿بَلْ عَجِبْتَ﴾ بَلْ جازَيْتَهم عَلى عَجَبِهِمْ، لِأنَّ اللَّهَ أخْبَرَ عَنْهم في غَيْرِ مَوْضِعٍ بِالتَّعَجُّبِ مِنَ الخَلْقِ كَما قالَ: ﴿وعَجِبُوا أنْ جاءَهم مُنْذِرٌ مِنهُمْ﴾ [ص: ٤] وقالُوا: ﴿إنَّ هَذا لَشَيْءٌ عُجابٌ﴾ [ص: ٥] ﴿أكانَ لِلنّاسِ عَجَبًا أنْ أوْحَيْنا إلى رَجُلٍ مِنهم﴾ [يونس: ٢] وقالَ عَلِيُّ بْنُ سُلَيْمانَ: مَعْنى القِراءَتَيْنِ واحِدٌ، والتَّقْدِيرُ: قُلْ يا مُحَمَّدُ بَلْ عَجِبْتُ؛ لِأنَّ النَّبِيَّ - صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ - مُخاطَبٌ بِالقُرْآنِ. قالَ النَّحّاسُ: وهَذا قَوْلٌ حَسَنٌ وإضْمارُ القَوْلِ كَثِيرٌ. وقِيلَ: إنَّ مَعْنى الإخْبارِ مِنَ اللَّهِ - سُبْحانَهُ - عَنْ نَفْسِهِ بِالعَجَبِ أنَّهُ ظَهَرَ مِن أمْرِهِ وسُخْطِهِ عَلى مَن كَفَرَ بِهِ ما يَقُومُ مَقامَ العَجَبِ مِنَ المَخْلُوقِينَ. قالَ الهَرَوِيُّ: ويُقالُ: مَعْنى عَجِبَ رَبُّكم أيْ: رَضِيَ رَبُّكم وأثابَ، فَسَمّاهُ عَجَبًا، ولَيْسَ بِعَجَبٍ في الحَقِيقَةِ، فَيَكُونُ مَعْنى " عَجِبْتَ " هُنا عَظُمَ فِعْلُهم عِنْدِي. وحَكى النَّقّاشُ أنَّ مَعْنى " بَلْ عَجِبْتَ ": بَلْ أنْكَرْتَ. قالَ الحَسَنُ بْنُ الفَضْلِ: التَّعَجُّبُ مِنَ اللَّهِ إنْكارُ الشَّيْءِ وتَعْظِيمُهُ، وهو لُغَةُ العَرَبِ، وقِيلَ: مَعْناهُ: أنَّهُ بَلَغَ في كَمالِ قُدْرَتِهِ وكَثْرَةِ مَخْلُوقاتِهِ إلى حَيْثُ عُجِبَ مِنها، وهَؤُلاءِ لِجَهْلِهِمْ يَسْخَرُونَ مِنها، والواوُ في " ويَسْخَرُونَ " لِلْحالِ أيْ: بَلْ عَجِبْتَ والحالُ أنَّهم يَسْخَرُونَ، ويَجُوزُ أنْ تَكُونَ لِلِاسْتِئْنافِ. ﴿وإذا ذُكِّرُوا لا يَذْكُرُونَ﴾ أيْ: وإذا وُعِظُوا بِمَوْعِظَةٍ مِن مَواعِظِ اللَّهِ أوْ مَواعِظِ رَسُولِهِ لا يَذْكُرُونَ أيْ: لا يَتَّعِظُونَ بِها ولا يَنْتَفِعُونَ بِما فِيها. قالَ سَعِيدُ بْنُ المُسَيَّبِ أيْ: إذا ذُكِرَ لَهم ما حَلَّ بِالمُكَذِّبِينَ مِمَّنْ كانَ قَبْلَهم أعْرَضُوا عَنْهُ ولَمْ يَتَدَبَّرُوا. ﴿وإذا رَأوْا آيَةً﴾ أيْ: مُعْجِزَةً مِن مُعْجِزاتِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ - ﴿يَسْتَسْخِرُونَ﴾ أيْ: يُبالِغُونَ في السُّخْرِيَةِ. قالَ قَتادَةُ: يَسْخَرُونَ ويَقُولُونَ إنَّها سُخْرِيَةٌ، يُقالُ: سَخِرَ واسْتَسْخَرَ بِمَعْنًى، مِثْلُ قَرَّ واسْتَقَرَّ، وعَجِبَ واسْتَعْجَبَ. والأوَّلُ أوْلى، لِأنَّ زِيادَةَ البِناءِ تَدُلُّ عَلى زِيادَةِ المَعْنى. وقِيلَ: مَعْنى " يَسْتَسْخِرُونَ ": يَسْتَدْعُونَ السُّخْرى مِن غَيْرِهِمْ. وقالَ مُجاهِدٌ: يَسْتَهْزِئُونَ. ﴿وقالُوا إنْ هَذا إلّا سِحْرٌ مُبِينٌ﴾ أيْ: ما هَذا الَّذِي تَأْتِينا بِهِ إلّا سِحْرٌ واضِحٌ ظاهِرٌ. ﴿أئِذا مِتْنا وكُنّا تُرابًا وعِظامًا﴾ الِاسْتِفْهامُ لِلْإنْكارِ أيْ: أنُبْعَثُ إذا مِتْنا ؟ فالعامِلُ في إذا هو ما دَلَّ عَلَيْهِ ﴿أئِنّا لَمَبْعُوثُونَ﴾ وهو أنُبْعَثُ، لِأنْفُسٍ مَبْعُوثُونَ لِتَوَسُّطِ ما يَمْنَعُ مِن عَمَلِهِ فِيهِ، وهَذا الإنْكارُ لِلْبَعْثِ مِنهم هو السَّبَبُ الَّذِي لِأجْلِهِ كَذَّبُوا الرُّسُلَ وما نَزَلَ عَلَيْهِمْ واسْتَهْزَءُوا بِما جاءُوا بِهِ مِنَ المُعْجِزاتِ، وقَدْ تَقَدَّمَ (p-١٢٣٧)تَفْسِيرُ مَعْنى هَذِهِ الآيَةِ في مَواضِعَ. ﴿أوَآباؤُنا الأوَّلُونَ﴾ هو مُبْتَدَأٌ وخَبَرُهُ مَحْذُوفٌ أيْ: أوَآباؤُنا الأوَّلُونَ مَبْعُوثُونَ، وقِيلَ: مَعْطُوفٌ عَلى مَحَلِّ إنَّ واسْمِها، وقِيلَ: عَلى الضَّمِيرِ في مَبْعُوثُونَ لِوُقُوعِ الفَصْلِ بَيْنَهُما والهَمْزَةُ لِلْإنْكارِ داخِلَةٌ عَلى حَرْفِ العَطْفِ، ولِهَذا قَرَأ الجُمْهُورُ بِفَتْحِ الواوِ، وقَرَأ ابْنُ عامِرٍ، وقالُونُ بِسُكُونِها عَلى أنَّ أوْ هي العاطِفَةُ، ولَيْسَتِ الهَمْزَةُ لِلِاسْتِفْهامِ. ثُمَّ أمَرَ اللَّهُ - سُبْحانَهُ - رَسُولَهُ بِأنْ يُجِيبَ عَنْهم تَبْكِيتًا لَهم، فَقالَ: ﴿قُلْ نَعَمْ وأنْتُمْ داخِرُونَ﴾ أيْ: نَعَمْ تُبْعَثُونَ وأنْتُمْ صاغِرُونَ ذَلِيلُونَ. قالَ الواحِدِيُّ: والدُّخُورُ أشَدُّ الصَّغارِ، وجُمْلَةُ " وأنْتُمْ داخِرُونَ " في مَحَلِّ نَصْبٍ عَلى الحالِ. ثُمَّ ذَكَرَ - سُبْحانَهُ - أنَّ بَعْثَهم يَقَعُ بِزَجْرَةٍ واحِدَةٍ فَقالَ: ﴿فَإنَّما هي زَجْرَةٌ واحِدَةٌ﴾ الضَّمِيرُ لِلْقِصَّةِ أوِ البِعْثَةِ المَفْهُومَةِ مِمّا قَبْلَها أيْ: إنَّما قِصَّةُ البَعْثِ أوِ البِعْثَةِ زَجْرَةٌ واحِدَةٌ أيْ: صَيْحَةٌ واحِدَةٌ مِن إسْرافِيلَ بِنَفْخِهِ في الصُّورِ عِنْدَ البَعْثِ ﴿فَإذا هم يَنْظُرُونَ﴾ أيْ: يُبْصِرُونَ ما يَفْعَلُ اللَّهُ بِهِمْ مِنَ العَذابِ. وقالَ الحَسَنُ: هي النَّفْخَةُ الثّانِيَةُ، وسُمِّيَتِ الصَّيْحَةُ زَجْرَةً، لِأنَّ المَقْصُودَ مِنها الزَّجْرُ، وقِيلَ: مَعْنى يَنْظُرُونَ: يَنْتَظِرُونَ ما يُفْعَلُ بِهِمْ، والأوَّلُ أوْلى. وقَدْ أخْرَجَ عَبْدُ الرَّزّاقِ، والفِرْيابِيُّ، وعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وابْنُ جَرِيرٍ، وابْنُ المُنْذِرِ، وابْنُ أبِي حاتِمٍ، والطَّبَرانِيُّ، والحاكِمُ وصَحَّحَهُ مِن طُرُقٍ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ ﴿والصّافّاتِ صَفًّا﴾ قالَ: المَلائِكَةُ ﴿فالزّاجِراتِ زَجْرًا﴾ قالَ: المَلائِكَةُ ﴿فالتّالِياتِ ذِكْرًا﴾ قالَ: المَلائِكَةُ. وأخْرَجَ، عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ عَنْ مُجاهِدٍ وعِكْرِمَةَ مِثْلَهُ. وأخْرَجَ ابْنُ المُنْذِرِ، وأبُو الشَّيْخِ في العَظَمَةِ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ مِثْلَهُ. وأخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وابْنُ المُنْذِرِ، وابْنُ أبِي حاتِمٍ، وابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْهُ أنَّهُ كانَ يَقْرَأُ " لا يَسْمَعُونَ إلى المَلَأِ الأعْلى " مُخَفَّفَةً، وقالَ: إنَّهم كانُوا يَتَسَمَّعُونَ ولَكِنْ لا يَسْمَعُونَ. وأخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْهُ أيْضًا في قَوْلِهِ: ﴿عَذابٌ واصِبٌ﴾ قالَ: دائِمٌ. وأخْرَجَ ابْنُ أبِي حاتِمٍ، وأبُو الشَّيْخِ في العَظَمَةِ عَنْهُ أيْضًا ﴿فَأتْبَعَهُ شِهابٌ ثاقِبٌ﴾ . وأخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وابْنُ المُنْذِرِ عَنْهُ أيْضًا ﴿فَأتْبَعَهُ شِهابٌ ثاقِبٌ﴾ قالَ: لا يُقْتَلُونَ بِالشِّهابِ ولا يَمُوتُونَ. ولَكِنَّها تُحْرَقُ وتُخْبَلُ وتُجْرَحُ في غَيْرِ قَتْلٍ. وأخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وابْنُ جَرِيرٍ، وابْنُ المُنْذِرِ، وابْنُ أبِي حاتِمٍ عَنْهُ أيْضًا في قَوْلِهِ: ﴿مِن طِينٍ لازِبٍ﴾ قالَ: مُلْتَصِقٌ. وأخْرَجَ ابْنُ أبِي شَيْبَةَ، وابْنُ جَرِيرٍ، وابْنُ المُنْذِرِ، عَنْهُ أيْضًا ﴿مِن طِينٍ لازِبٍ﴾ قالَ: اللَّزِجُ الجَيِّدُ. وأخْرَجَ ابْنُ أبِي حاتِمٍ عَنْهُ أيْضًا قالَ: اللّازِبُ والحَمَأُ والطِّينُ واحِدٌ: كانَ أوَّلُهُ تُرابًا ثُمَّ صارَ حَمَأً مُنْتِنًا، ثُمَّ صارَ طِينًا لازِبًا، فَخَلَقَ اللَّهُ مِنهُ آدَمَ. وأخْرَجَ ابْنُ أبِي حاتِمٍ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قالَ: اللّازِبُ الَّذِي يَلْصَقُ بَعْضُهُ إلى بَعْضٍ. وأخْرَجَ الفِرْيابِيُّ، وسَعِيدُ بْنُ مَنصُورٍ، وعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وابْنُ أبِي حاتِمٍ، والحاكِمُ وصَحَّحَهُ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ أنَّهُ كانَ يَقْرَأُ " بَلْ عَجِبْتُ ويَسْخَرُونَ " بِالرَّفْعِ لِلتّاءِ مِن عَجِبْتُ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب