الباحث القرآني
﴿يُدَبِّرُ الأمْرَ مِنَ السَّماءِ إلى الأرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إلَيْهِ في يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ ألْفَ سَنَةٍ مِمّا تَعُدُّونَ﴾
جُمْلَةُ (يُدَبِّرُ الأمْرَ) في مَوْضِعِ الحالِ مِنِ اسْمِ الجَلالَةِ في قَوْلِهِ تَعالى ﴿اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ والأرْضَ﴾ [السجدة: ٤]، أيْ خَلَقَ تِلْكَ الخَلائِقِ مُدَبِّرًا أمْرَها. ويَجُوزُ أنْ تَكُونَ الجُمْلَةُ اسْتِئْنافًا، وقَوْلُهُ (مِنَ السَّماءِ) مُتَعَلِّقٌ بِـ (يُدَبِّرُ) أوْ صِفَةٌ لِلْأمْرِ أوْ حالٌ مِنهُ، ومِنِ ابْتِدائِيَّةٌ، والمَقْصُودُ مِن حَرْفَيِ الِابْتِداءِ والِانْتِهاءِ شُمُولُ تَدْبِيرِ اللَّهِ تَعالى الأُمُورَ كُلَّها في العالَمَيْنَ العُلْوِيِّ والسُّفْلِيِّ تَدْبِيرًا شامِلًا لَها مِنَ السَّماءِ إلى الأرْضِ، فَأفادَ حَرْفُ الِانْتِهاءِ شُمُولَ التَّدْبِيرِ لِأُمُورِ كُلِّ ما في السَّماواتِ والأرْضِ وفِيما بَيْنَهُما.
والتَّدْبِيرُ: حَقِيقَتُهُ التَّفْكِيرُ في إصْدارِ فِعْلٍ مُتْقَنٍ أوَّلُهُ وآخِرُهُ، وهو مُشْتَقٌّ مِن دُبُرِ الأمْرِ، أيْ آخِرِهِ لِأنَّ التَّدْبِيرَ النَّظَرُ في اسْتِقامَةِ الفِعْلِ ابْتِداءً ونِهايَةً. وهو إذا وُصِفَ بِهِ اللَّهُ تَعالى كِنايَةً عَنْ لازِمِ حَقِيقَتِهِ وهو تَمامُ الإتْقانِ، وتَقَدَّمَ شَيْءٌ مِن هَذا في أوَّلِ سُورَةِ يُونُسَ وأوَّلِ سُورَةِ الرَّعْدِ.
والأمْرُ: الشَّأْنُ لِلْأشْياءِ ونِظامِها وما بِهِ تَقَوُّمُها. والتَّعْرِيفُ فِيهِ لِلْجِنْسِ وهو مُفِيدٌ لِاسْتِغْراقِ الأُمُورِ كُلِّها لا يَخْرُجُ عَنْ تَصَرُّفِهِ شَيْءٍ مِنها، فَجَمِيعُ ما نُقِلَ عَنْ سَلَفِ المُفَسِّرِينَ في تَفْسِيرِ الأمْرِ يَرْجِعُ إلى بَعْضِ هَذا العُمُومِ.
والعُرُوجُ: الصُّعُودُ. وضَمِيرُ يَعْرُجُ عائِدٌ عَلى الأمْرِ، وتَعْدِيَتُهُ بِحَرْفِ الِانْتِهاءِ مُفِيدَةٌ أنَّ تِلْكَ الأُمُورَ المُدَبَّرَةَ تَصْعَدُ إلى اللَّهِ تَعالى؛ فالعُرُوجُ هُنا مُسْتَعارٌ لِلْمَصِيرِ إلى تَصَرُّفِ الخالِقِ دُونَ شائِبَةِ تَأْثِيرٍ مِن غَيْرِهِ ولَوْ في الصُّورَةِ كَما في أحْوالٍ (p-٢١٣)الدُّنْيا مِن تَأْثِيرِ الأسْبابِ. ولَمّا كانَ الجَلالُ يُشَبَّهُ بِالرِّفْعَةِ في مُسْتَعْمَلِ الكَلامِ شُبِّهَ المَصِيرُ إلى ذِي الجَلالِ بِانْتِقالِ الذَّواتِ إلى المَكانِ المُرْتَفِعِ وهو المُعَبَّرُ عَنْهُ في اللُّغَةِ بِالعُرُوجِ، كَما قالَ تَعالى: ﴿إلَيْهِ يَصْعَدُ الكَلِمُ الطَّيِّبُ والعَمَلُ الصّالِحُ يَرْفَعُهُ﴾ [فاطر: ١٠]، أيْ يَرْفَعُهُ إلَيْهِ.
و(ثُمَّ) لِلتَّراخِي الرُّتْبِيِّ لِأنَّ مَرْجِعَ الأشْياءِ إلى تَصَرُّفِهِ بَعْدَ صُدُورِها مِن لَدُنْهُ أعْظَمُ وأعْجَبُ.
وقَدْ أفادَ التَّرْكِيبُ أنَّ تَدْبِيرَ الأُمُورِ مِنَ السَّماءِ إلى الأرْضِ مِن وقْتِ خَلْقِهِما وخَلْقِ ما بَيْنَهُما يَسْتَقِرُّ عَلى ما دُبِّرَ عَلَيْهِ كُلٌّ بِحَسَبِ ما يَقْتَضِيهِ حالُ تَدْبِيرِهِ مِنِ اسْتِقْرارِهِ، ويَزُولُ بَعْضُهُ ويَبْقى بَعْضُهُ ما دامَتِ السَّماواتُ والأرْضُ، ثُمَّ يَجْمَعُ ذَلِكَ كُلَّهُ فَيَصِيرُ إلى اللَّهِ مَصِيرًا مُناسِبًا لِحَقائِقِهِ؛ فالذَّواتُ تَصِيرُ مَصِيرَ الذَّواتِ والأعْراضُ والأعْمالُ تَصِيرُ مَصِيرَ أمْثالِها، أيْ يَصِيرُ وصْفُها ووَصْفُ أصْحابِها إلى عِلْمِ اللَّهِ وتَقْدِيرِ الجَزاءِ، فَذَلِكَ المَصِيرُ هو المُعَبَّرُ عَنْهُ بِالعُرُوجِ إلى اللَّهِ فَيَكُونُ الحِسابُ عَلى جَمِيعِ المَخْلُوقاتِ يَوْمَئِذٍ.
واليَوْمُ مِن قَوْلِهِ: ﴿فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ ألْفَ سَنَةٍ﴾ هو اليَوْمُ الَّذِي جاءَ ذِكْرُهُ في آيَةِ سُورَةِ الحَجِّ بِقَوْلِهِ: ﴿وإنَّ يَوْمًا عِنْدَ رَبِّكَ كَألْفِ سَنَةٍ مِمّا تَعُدُّونَ﴾ [الحج: ٤٧] .
ومَعْنى تَقْدِيرِهِ بِألْفِ سَنَةٍ أنَّهُ تَحْصُلُ فِيهِ مِن تَصَرُّفاتِ اللَّهِ في كائِناتِ السَّماءِ والأرْضِ ما لَوْ كانَ مِن عَمَلِ النّاسِ لَكانَ حُصُولُ مِثْلِهِ في ألْفِ سَنَةٍ، فَلَكَ أنْ تُقَدِّرَ ذَلِكَ بِكَثْرَةِ التَّصَرُّفاتِ، أوْ بِقَطْعِ المَسافاتِ، وقَدْ فُرِضَتْ في ذَلِكَ عِدَّةُ احْتِمالاتٍ. والمَقْصُودُ: التَّنْبِيهُ عَلى عِظَمِ القُدْرَةِ وسَعَةِ مَلَكُوتِ اللَّهِ وتَدْبِيرِهِ. ويَظْهَرُ أنَّ هَذا اليَوْمَ هو يَوْمُ السّاعَةِ، أيْ ساعَةُ اضْمِحْلالِ العالَمِ الدُّنْيَوِيِّ، ولَيْسَ اليَوْمُ المَذْكُورُ هُنا هو يَوْمَ القِيامَةِ المَذْكُورَ في سُورَةِ المَعارِجِ؛ قالَهُ ابْنُ عَبّاسٍ.
ولَمْ يُعَيِّنْ واحِدًا مِنهُما، ولَيْسَ مِن غَرَضِ القُرّاءِ تَعْيِينُ أحَدِ اليَوْمَيْنِ ولَكِنْ حُصُولُ العِبْرَةِ بِأهْوالِهِما.
وقَوْلُهُ ”في يَوْمٍ“ يَتَنازَعُهُ كُلٌّ مِن فِعْلَيْ ”يُدَبِّرُ“ و”يَعْرُجُ“، أيْ يَحْصُلُ الأمْرانِ في يَوْمٍ.
(p-٢١٤)و(ألْفَ) عِنْدَ العَرَبِ مُنْتَهى أسْماءِ العَدَدِ وما زادَ عَلى ذَلِكَ مِنَ المَعْدُوداتِ يُعَبَّرُ عَنْهُ بِأعْدادٍ أُخْرى مَعَ عَدَدِ الألْفِ كَما يَقُولُونَ خَمْسَةُ آلافٍ، ومِائَةُ ألْفٍ، وألْفُ ألْفٍ.
و(ألْفَ) يَجُوزُ أنْ يُسْتَعْمَلَ كِنايَةً عَنِ الكَثْرَةِ الشَّدِيدَةِ كَما يُقالُ: زُرْتُكَ ألْفَ مَرَّةٍ، وقَوْلِهِ تَعالى: ﴿يَوَدُّ أحَدُهم لَوْ يُعَمَّرُ ألْفَ سَنَةٍ﴾ [البقرة: ٩٦]، وهو هُنا بِتَقْدِيرِ كافِ التَّشْبِيهِ أوْ كَلِمَةِ نَحْوَ، أيْ كانَ مِقْدارُهُ كَألْفِ سَنَةٍ أوْ نَحْوَ ألْفِ سَنَةٍ كَما في قَوْلِهِ ﴿وإنَّ يَوْمًا عِنْدَ رَبِّكَ كَألْفِ سَنَةٍ مِمّا تَعُدُّونَ﴾ [الحج: ٤٧] .
ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ (ألْفَ) مُسْتَعْمَلًا في صَرِيحِ مَعْناهُ. وقَوْلُهُ: ”مِمّا تَعُدُّونَ“، أيْ مِمّا تَحْسُبُونَ في أعْدادِكم، و(ما) مَصْدَرِيَّةٌ أوْ مَوْصُولِيَّةٌ وهو وصْفٌ لِـ ”ألْفَ سَنَةٍ“ . وهَذا الوَصْفُ لا يَقْتَضِي كَوْنَ اسْمِ ألْفٍ مُسْتَعْمَلًا في صَرِيحِ مَعْناهُ لِأنَّهُ يَجُوزُ أنْ يَكُونَ إيضاحًا لِلتَّشْبِيهِ فَهو قَرِيبٌ مِن ذِكْرِ وجْهِ الشَّبَهِ مَعَ التَّشْبِيهِ، وقَدْ يَتَرَجَّحُ أنَّ هَذا الوَصْفَ لَمّا كانَ في مَعْنى المَوْصُوفِ صارَ بِمَنزِلَةِ التَّأْكِيدِ اللَّفْظِيِّ لِمَدْلُولِهِ فَكانَ رافِعًا لِاحْتِمالِ المَجازِ في العَدَدِ.
{"ayah":"یُدَبِّرُ ٱلۡأَمۡرَ مِنَ ٱلسَّمَاۤءِ إِلَى ٱلۡأَرۡضِ ثُمَّ یَعۡرُجُ إِلَیۡهِ فِی یَوۡمࣲ كَانَ مِقۡدَارُهُۥۤ أَلۡفَ سَنَةࣲ مِّمَّا تَعُدُّونَ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق