الباحث القرآني

وهي مَكِّيَّةٌ كَما رَواهُ ابْنُ الضُّرَيْسِ وابْنُ مَرْدَوَيْهِ، والبَيْهَقِيُّ في الدَّلائِلِ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ، ورَواهُ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ الزُّبَيْرِ. وأخْرَجَ ابْنُ النَّجّارِ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ قالَ: هي مَكِّيَّةٌ سِوى ثَلاثِ آياتٍ ﴿أفَمَن كانَ مُؤْمِنًا﴾ إلى تَمامِ الآياتِ الثَّلاثِ [السجدة: ١٨ ٢٠]، وكَذا قالَ الكَلْبِيُّ ومُقاتِلٌ، وقِيلَ: إلّا خَمْسَ آياتٍ مِن قَوْلِهِ ﴿تَتَجافى جُنُوبُهم﴾ إلى قَوْلِهِ ﴿الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ﴾ [السجدة: ١٦ ٢٠] وقَدْ ثَبَتَ عِنْدَ مُسْلِمٍ وأهْلِ السُّنَنِ مِن حَدِيثِ أبِي هُرَيْرَةَ أنَّ النَّبِيَّ - صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ - «كانَ يَقْرَأُ في صَلاةِ الفَجْرِ يَوْمَ الجُمُعَةِ بِـ الم تَنْزِلُ السَّجْدَةُ، و﴿هَلْ أتى عَلى الإنْسانِ﴾» [الدهر: ١] . وأخْرَجَهُ البُخارِيُّ، ومُسْلِمٌ وغَيْرُهُما مِن حَدِيثِهِ أيْضًا. وأخْرَجَ أبُو عُبَيْدٍ في فَضائِلِهِ وأحْمَدُ وعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ والدّارِمِيُّ، والتِّرْمِذِيُّ، والنَّسائِيُّ والحاكِمُ وصَحَّحَهُ وابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ جابِرٍ قالَ كانَ النَّبِيُّ - صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ - «لا يَنامُ حَتّى يَقْرَأ ﴿آلَمَ تَنْزِيلُ﴾ السَّجْدَةِ و﴿تَبارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ المُلْكُ﴾ [الملك: ١]» . وأخْرَجَ أبُو نَصْرٍ والطَّبَرانِيُّ، والبَيْهَقِيُّ في سُنَنِهِ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ يَرْفَعُهُ إلى رَسُولِ اللَّهِ - صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ - قالَ «مَن صَلّى أرْبَعَ رَكَعاتٍ خَلْفَ العِشاءِ الأخِيرَةِ قَرَأ في الرَّكْعَتَيْنِ الأُولَيَيْنِ ﴿قُلْ ياأيُّها الكافِرُونَ﴾ [الكافرون: ١] و﴿قُلْ هو اللَّهُ أحَدٌ﴾ [الإخلاص: ١] وفي الرَّكْعَتَيْنِ الأُخْرَيَيْنِ ﴿تَبارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ المُلْكُ﴾ [الملك: ١] و﴿الم تَنْزِيلُ﴾ [السجدة: ١] كُتِبْنَ لَهُ كَأرْبَعِ رَكَعاتٍ مِن لَيْلَةِ القَدْرِ» . وأخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ عُمَرَ قالَ: قالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ - «مَن قَرَأ ﴿تَبارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ المُلْكُ﴾ [الملك: ١]، و﴿الم تَنْزِيلُ﴾ السَّجْدَةِ بَيْنَ المَغْرِبِ والعِشاءِ الآخِرَةِ فَكَأنَّما قامَ لَيْلَةَ القَدْرِ» . وأخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ عائِشَةَ قالَتْ: قالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ -: «مَن قَرَأ في لَيْلَةٍ ﴿الم تَنْزِيلُ﴾ السَّجْدَةِ و" يس " و﴿اقْتَرَبَتِ السّاعَةُ﴾ [القمر: ١] و﴿تَبارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ المُلْكُ﴾ كُنْ لَهُ نُورًا وحِرْزًا مِنَ الشَّيْطانِ، ورَفْعٌ في الدَّرَجاتِ إلى يَوْمِ القِيامَةِ» . وأخْرَجَ ابْنُ الضُّرَيْسِ عَنِ المُسَيِّبِ بْنِ رافِعٍ أنَّ النَّبِيَّ - صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ - قالَ: «﴿آلَمَ تَنْزِيلُ﴾ تَجِيءُ لَها جَناحانِ يَوْمَ القِيامَةِ تُظِلُّ صاحِبَها وتَقُولُ: لا سَبِيلَ عَلَيْهِ لا سَبِيلَ عَلَيْهِ» . بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ قَوْلُهُ: الم قَدْ قَدَّمَنا الكَلامَ عَلى فاتِحَةِ هَذِهِ السُّورَةِ وعَلى مَحَلِّها مِنَ الإعْرابِ في سُورَةِ البَقَرَةِ وفي مَواضِعَ كَثِيرَةٍ مِن فَواتِحِ السُّوَرِ. وارْتِفاعُ تَنْزِيلُ عَلى أنَّهُ خَبَّرٌ لِمُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ أوْ خَبَرٌ بَعْدَ خَبَرٍ عَلى تَقْدِيرِ أنَّ الم في مَحَلِّ رَفْعٍ عَلى أنَّهُ خَبَرٌ لِمُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، أوْ خَبَرٌ لِقَوْلِهِ الم عَلى تَقْدِيرِ أنَّهُ اسْمٌ لِلسُّورَةِ، و﴿لا رَيْبَ فِيهِ﴾ في مَحَلِّ نَصْبٍ عَلى الحالِ، ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ ارْتِفاعُ " تَنْزِيلُ " عَلى أنَّهُ مُبْتَدَأٌ وخَبَرُهُ لا رَيْبَ فِيهِ، ومِن رَبِّ العالَمِينَ في مَحَلِّ نَصْبٍ عَلى الحالِ، ويَجُوزُ أنْ تَكُونَ هَذِهِ كُلُّها أخْبارًا لِلْمُبْتَدَأِ المُقَدَّرِ قَبْلَ " تَنْزِيلُ "، أوْ لِقَوْلِهِ الم عَلى تَقْدِيرِ أنَّهُ مُبْتَدَأٌ لا عَلى تَقْدِيرِ أنَّهُ حُرُوفٌ مَسْرُودَةٌ عَلى نَمَطِ التَّعْدِيدِ. قالَ مَكِّيٌّ: وأحْسَنُ الوُجُوهِ أنْ تَكُونَ ﴿لا رَيْبَ فِيهِ﴾ في مَوْضِعِ الحالِ، و﴿مِن رَبِّ العالَمِينَ﴾ الخَبَرُ، والمَعْنى عَلى هَذِهِ الوُجُوهِ: أنَّ تَنْزِيلَ الكِتابِ المَتْلُوِّ لا رَيْبَ فِيهِ ولا شَكَّ وأنَّهُ مُنَزَّلٌ مِن رَبِّ العالَمِينَ، وأنَّهُ لَيْسَ بِكَذِبٍ ولا سِحْرٍ ولا كِهانَةٍ ولا أساطِيرِ الأوَّلِينَ. و" أمْ " في ﴿أمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ﴾ هي المُنْقَطِعَةُ الَّتِي بِمَعْنى بَلْ والهَمْزَةُ أيْ: بَلْ أيَقُولُونَ هو مُفْتَرًى، (p-١١٤٨)فَأضْرَبَ عَنِ الكَلامِ الأوَّلِ إلى ما هو مُعْتَقَدُ الكُفّارِ مَعَ الِاسْتِفْهامِ المُتَضَمِّنِ لِلتَّقْرِيعِ والتَّوْبِيخِ، ومَعْنى ﴿افْتَراهُ﴾ افْتَعَلَهُ واخْتَلَقَهُ. ثُمَّ أضْرَبَ عَنْ مُعْتَقَدِهِمْ إلى بَيانِ ما هو الحَقُّ في شَأْنِ الكِتابِ فَقالَ: ﴿بَلْ هو الحَقُّ مِن رَبِّكَ﴾ فَكَذَّبَهم - سُبْحانَهُ - في دَعْوى الِافْتِراءِ، ثُمَّ بَيَّنَ العِلَّةَ الَّتِي كانَ التَّنْزِيلُ لِأجْلِها فَقالَ: ﴿لِتُنْذِرَ قَوْمًا ما أتاهم مِن نَذِيرٍ مِن قَبْلِكَ﴾ وهُمُ العَرَبُ وكانُوا أُمَّةً أُمَيَّةً لَمْ يَأْتِهِمْ رَسُولٌ، وقِيلَ: قُرَيْشٌ خاصَّةً، والمَفْعُولُ الثّانِي لِتُنْذِرَ مَحْذُوفٌ أيْ: لِتُنْذِرَ قَوْمًا العِقابَ، وجُمْلَةُ ما أتاهم مِن نَذِيرٍ في مَحَلِّ نَصْبٍ عَلى الحالِ ومِن قَبْلِكَ صِفَةٌ لِنَذِيرِ. وجَوَّزَ أبُو حَيّانَ أنْ تَكُونَ ما مَوْصُولَةً، والتَّقْدِيرُ: لِتُنْذِرَ قَوْمًا العِقابَ الَّذِي أتاهم مِن نَذِيرٍ مِن قَبْلِكَ، وهو ضَعِيفٌ جِدًّا، فَإنَّ المُرادَ تَعْلِيلُ الإنْزالِ بِالإنْذارِ لِقَوْمٍ لَمْ يَأْتِهِمْ نَذِيرٌ قَبْلَهُ، لا تَعْلِيلُهُ بِالإنْذارِ لِقَوْمٍ قَدْ أُنْذِرُوا بِما أنْذَرَهم بِهِ، وقِيلَ: المُرادُ بِالقَوْمِ أهْلُ الفَتْرَةِ ما بَيْنَ عِيسى ومُحَمَّدٍ - صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ - ﴿لَعَلَّهم يَهْتَدُونَ﴾ رَجاءَ أنْ يَهْتَدُوا أوْ كَيْ يَهْتَدُوا. ﴿اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ والأرْضَ وما بينهما في سِتَّةِ أيّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلى العَرْشِ﴾ قَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ هَذِهِ الآيَةِ في سُورَةِ الأعْرافِ، والمُرادُ مِن ذِكْرِها هُنا تَعْرِيفُهم كَمالَ قُدْرَتِهِ وعَظِيمَ صُنْعِهِ لِيَسْمَعُوا القُرْآنَ ويَتَأمَّلُوهُ، مَعْنى خَلَقَ: أوْجَدَ، وأبْدَعَ. قالَ الحَسَنُ: الأيّامُ هُنا هي مِن أيّامِ الدُّنْيا، وقِيلَ: مِقْدارُ اليَوْمِ ألْفُ سَنَةٍ مِن سِنِي الدُّنْيا، قالَهُ الضَّحّاكُ. فَعَلى هَذا المُرادُ بِالأيّامِ هُنا هي مِن أيّامِ الآخِرَةِ لا مِن أيّامِ الدُّنْيا، ولَيْسَتْ ثُمَّ لِلتَّرْتِيبِ في قَوْلِهِ: ﴿ثُمَّ اسْتَوى عَلى العَرْشِ﴾ وقَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ هَذا مُسْتَوْفًى ﴿ما لَكم مِن دُونِهِ مِن ولِيٍّ ولا شَفِيعٍ﴾ أيْ: لَيْسَ لَكم مِن دُونِ اللَّهِ أوْ مِن دُونِ عَذابِهِ مِن ولِيٍّ يُوالِيكم ويَرُدُّ عَنْكم عَذابَهُ ولا شَفِيعٍ يَشْفَعُ لَكم عِنْدَهُ ﴿أفَلا تَتَذَكَّرُونَ﴾ تَذَكُّرَ تَدَبُّرٍ وتَفَكُّرٍ، وتَسْمَعُونَ هَذِهِ المَواعِظَ سَماعَ مَن يَفْهَمُ ويَعْقِلُ حَتّى تَنْتَفِعُوا بِها. ﴿يُدَبِّرُ الأمْرَ مِنَ السَّماءِ إلى الأرْضِ﴾ لَمّا بَيَّنَ - سُبْحانَهُ - خَلْقَ السَّماواتِ والأرْضِ، وما بَيْنَهُما بَيَّنَ تَدْبِيرَهُ لِأمْرِها أيْ: يُحْكِمُ الأمْرَ بِقَضائِهِ وقَدْرِهِ مِنَ السَّماءِ إلى الأرْضِ والمَعْنى: يُنْزِلُ أمْرَهُ مِن أعْلى السَّماواتِ إلى أقْصى تُخُومِ الأرْضِ السّابِعَةِ كَما قالَ - سُبْحانَهُ -: ﴿اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ ومِنَ الأرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الأمْرُ بَيْنَهُنَّ﴾ [الطلاق: ١٢] ومَسافَةُ ما بَيْنَ سَماءِ الدُّنْيا والأرْضِ الَّتِي تَحْتَها نُزُولًا وطُلُوعًا ألْفُ سَنَةٍ مِن أيّامِ الدُّنْيا. وقِيلَ: المُرادُ بِالأُمُورِ المَأْمُورُ بِهِ مِنَ الأعْمالِ أيْ: يُنَزِّلُهُ مُدَبَّرًا مِنَ السَّماءِ إلى الأرْضِ. وقِيلَ: يُدَبِّرُ أمْرَ الدُّنْيا بِأسْبابٍ سَماوِيَّةٍ مِنَ المَلائِكَةِ وغَيْرِها نازِلَةٍ أحْكامُها وآثارُها إلى الأرْضِ. وقِيلَ: يَنْزِلُ الوَحْيُ مَعَ جِبْرِيلَ. وقِيلَ: العَرْشُ مَوْضِعُ التَّدْبِيرِ كَما أنَّ ما دُونَ العَرْشِ مَوْضِعُ التَّفْصِيلِ كَما في قَوْلِهِ: ﴿ثُمَّ اسْتَوى عَلى العَرْشِ﴾ . . . . . . . . . . . . . . ﴿يُدَبِّرُ الأمْرَ يُفَصِّلُ الآياتِ﴾ [الرعد: ٢] وما دُونَ السَّماواتِ مَوْضِعُ التَّصَرُّفِ. قالَ اللَّهُ: ﴿ولَقَدْ صَرَّفْناهُ بَيْنَهم لِيَذَّكَّرُوا﴾ [الفرقان: ٥٠] ثُمَّ لَمّا ذَكَرَ - سُبْحانَهُ - تَدْبِيرَ الأمْرِ قالَ: ﴿ثُمَّ يَعْرُجُ إلَيْهِ في يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ ألْفَ سَنَةٍ مِمّا تَعُدُّونَ﴾ أيْ: ثُمَّ يَرْجِعُ ذَلِكَ الأمْرُ ويَعُودُ ذَلِكَ التَّدْبِيرُ إلَيْهِ - سُبْحانَهُ - في يَوْمٍ مِقْدارُهُ ألْفَ سَنَةٍ مِن أيّامِ الدُّنْيا، وذَلِكَ بِاعْتِبارِ مَسافَةِ النُّزُولِ مِنَ السَّماءِ والطُّلُوعِ مِنَ الأرْضِ كَما قَدَّمْنا. وقِيلَ: إنَّ المُرادَ أنَّهُ يَعْرُجُ إلَيْهِ في يَوْمِ القِيامَةِ الَّذِي مِقْدارُهُ ألْفَ سَنَةٍ مِن أيّامِ الدُّنْيا، وذَلِكَ حِينَ يَنْقَطِعُ أمْرُ الدُّنْيا ويَمُوتُ مَن فِيها. وقِيلَ: هي أخْبارُ أهْلِ الأرْضِ تَصْعَدُ إلَيْهِ مَعَ مَن يُرْسِلُهُ إلَيْها مِنَ المَلائِكَةِ، والمَعْنى: أنَّهُ يُثْبِتُ ذَلِكَ عِنْدَهُ ويَكْتُبُ في صُحُفِ مَلائِكَتِهِ ما عَمِلَهُ أهْلُ الأرْضِ في كُلِّ وقْتٍ مِنَ الأوْقاتِ إلى أنْ تَبْلُغَ مُدَّةُ الدُّنْيا آخِرَها. وقِيلَ: مَعْنى ﴿يَعْرُجُ إلَيْهِ﴾: يَثْبُتُ في عِلْمِهِ مَوْجُودًا بِالفِعْلِ في بُرْهَةٍ مِنَ الزَّمانِ هي مِقْدارُ ألْفِ سَنَةٍ، والمُرادُ طُولُ امْتِدادِ ما بَيْنَ تَدْبِيرِ الحَوادِثِ وحُدُوثِها مِنَ الزَّمانِ. وقِيلَ: يُدَبِّرُ أمْرَ الحَوادِثِ اليَوْمِيَّةِ بِإثْباتِها في اللَّوْحِ المَحْفُوظِ فَتَنْزِلُ بِها المَلائِكَةُ، ثُمَّ تَعْرُجُ إلَيْهِ في زَمانٍ هو كَألْفِ سَنَةٍ مِن أيّامِ الدُّنْيا. وقِيلَ: يَقْضِي قَضاءَ ألْفِ سَنَةٍ فَتَنْزِلُ بِهِ المَلائِكَةُ، ثُمَّ تَعْرُجُ بَعْدَ الألْفِ لِألْفٍ آخَرَ. وقِيلَ: المُرادُ أنَّ الأعْمالَ الَّتِي هي طاعاتٌ يُدَبِّرُها اللَّهُ - سُبْحانَهُ - ويَنْزِلُ بِها مَلائِكَتُهُ ثُمَّ لا يَعْرُجُ إلَيْها مِنها إلّا الخالِصُ بَعْدَ مُدَّةٍ مُتَطاوِلَةٍ لِقِلَّةِ المُخَلِّصِينَ مِن عِبادِهِ. وقِيلَ: الضَّمِيرُ في يَعْرُجُ يَعُودُ إلَيْها مِنها إلّا الخالِصُ بَعْدَ مُدَّةٍ مُتَطاوِلَةٍ لِقِلَّةِ المُخَلِّصِينَ مِن عِبادِهِ. وقِيلَ: الضَّمِيرُ في يَعْرُجُ يَعُودُ إلى المَلِكِ وإنْ لَمْ يَجْرِ لَهُ ذِكْرٌ لِأنَّهُ مَفْهُومٌ مِنَ السِّياقِ، وقَدْ جاءَ صَرِيحًا في قَوْلِهِ: ﴿تَعْرُجُ المَلائِكَةُ والرُّوحُ إلَيْهِ﴾ [المعارج: ٤] والضَّمِيرُ في إلَيْهِ يَرْجِعُ إلى السَّماءِ عَلى لُغَةِ مَن يَذْكُرُها، أوْ إلى مَكانِ المَلِكِ الَّذِي يَرْجِعُ إلَيْهِ وهو الَّذِي أقَرَّهُ اللَّهُ فِيهِ. وقِيلَ: المَعْنى: يُدَبِّرُ أمْرَ الشَّمْسِ في طُلُوعِها وغُرُوبِها ورُجُوعِها إلى مَوْضِعِها مِنَ الطُّلُوعِ في يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ في المَسافَةِ ألْفَ سَنَةٍ، وقِيلَ: المَعْنى: أنَّ المَلِكَ يَعْرُجُ إلى اللَّهِ في يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ لَوْ سارَهُ غَيْرُ المَلِكِ ألْفَ سَنَةٍ؛ لَأنَّ ما بَيْنَ السَّماءِ والأرْضِ مَسافَةُ خَمْسِمِائَةِ عامٍ، فَمَسافَةُ النُّزُولِ مِنَ السَّماءِ إلى الأرْضِ والرُّجُوعِ مِنَ الأرْضِ إلى السَّماءِ ألْفُ عامٍ، وقَدْ رَجَّحَ هَذا جَماعَةٌ مِنَ المُفَسِّرِينَ مِنهُمُ ابْنُ جَرِيرٍ. وقِيلَ: مَسافَةُ النُّزُولِ ألْفُ سَنَةٍ ومَسافَةُ الطُّلُوعِ ألْفُ سَنَةٍ، رُوِيَ ذَلِكَ عَنِ الضَّحّاكِ. وهَذا اليَوْمُ هو عِبارَةٌ عَنْ زَمانٍ يَتَقَدَّرُ بِألْفِ سَنَةٍ، ولَيْسَ المُرادُ بِهِ مُسَمّى اليَوْمِ الَّذِي هو مُدَّةُ النَّهارِ بَيْنَ لَيْلَتَيْنِ، والعَرَبُ قَدْ تُعَبِّرُ عَنِ المُدَّةِ بِاليَوْمِ كَما قالَ الشّاعِرُ: ؎يَوْمانِ يَوْمُ مَقاماتٍ وأنْدِيَةٍ ويَوْمُ سَيْرٍ إلى الأعْداءِ تَأْدِيبُ فَإنَّ الشّاعِرَ لَمْ يُرِدْ يَوْمَيْنِ مَخْصُوصَيْنِ، وإنَّما أرادَ أنَّ زَمانَهم يَنْقَسِمُ شَطْرَيْنِ، فَعَبَّرَ عَنْ كُلِّ واحِدٍ مِنَ الشَّطْرَيْنِ بِيَوْمٍ. قَرَأ الجُمْهُورُ " يَعْرُجُ " عَلى البِناءِ لِلْفاعِلِ. وقَرَأ ابْنُ أبِي عَبْلَةَ عَلى البِناءِ لِلْمَفْعُولِ، والأصْلُ يُعْرَجُ بِهِ، ثُمَّ حُذِفَ حَرْفُ الجارِّ فاسْتَتَرَ الضَّمِيرُ. وقَدِ اسْتَشْكَلَ جَماعَةٌ الجَمْعَ بَيْنَ هَذِهِ الآيَةِ وبَيْنَ قَوْلِهِ - سُبْحانَهُ -: ﴿تَعْرُجُ المَلائِكَةُ والرُّوحُ إلَيْهِ في يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ خَمْسِينَ ألْفَ سَنَةٍ﴾ [المعارج: ٤] . فَقِيلَ: في الجَوابِ إنَّ يَوْمَ القِيامَةِ مِقْدارُهُ ألْفُ سَنَةٍ مِن أيّامِ الدُّنْيا، ولَكِنَّهُ بِاعْتِبارِ صُعُوبَتِهِ وشِدَّةِ أهْوالِهِ عَلى الكُفّارِ كَخَمْسِينَ ألْفَ سَنَةٍ، والعَرَبُ تَصِفُ كَثِيرًا يَوْمَ المَكْرُوهِ بِالطُّولِ كَما (p-١١٤٩)تَصِفُ يَوْمَ السُّرُورِ بِالقِصَرِ كَما قالَ الشّاعِرُ: ؎ويَوْمٌ كَظِلِّ الرُّمْحِ قَصَّرَ طُولَهُ ∗∗∗ دَمُ الزِّقِّ عَنّا واصْطِفافُ المَزاهِرِ وقَوْلُ الآخَرِ: ؎ويَوْمٌ كَإبْهامِ القِطَّةِ قَطَّعْتُهُ وقِيلَ: إنْ يَوْمَ القِيامَةِ فِيهِ أيّامٌ، فَمِنها ما مِقْدارُهُ ألْفَ سَنَةٍ، ومِنها ما مِقْدارُهُ خَمْسُونَ ألْفَ سَنَةٍ. وقِيلَ: هي أوْقاتٌ مُخْتَلِفَةٌ يُعَذَّبُ الكافِرُ بِنَوْعٍ مِن أنْواعِ العَذابِ ألْفَ سَنَةٍ، ثُمَّ يُنْقَلُ إلى نَوْعٍ آخَرَ، فَيُعَذَّبُ بِهِ خَمْسِينَ ألْفَ سَنَةٍ. وقِيلَ: مَواقِفُ القِيامَةِ خَمْسُونَ مَوْقِفًا كُلُّ مَوْقِفٍ ألْفُ سَنَةٍ، فَيَكُونُ مَعْنى ﴿يَعْرُجُ إلَيْهِ في يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ ألْفَ سَنَةٍ﴾ أنَّهُ يَعْرُجُ إلَيْهِ في وقْتٍ مِن تِلْكَ الأوْقاتِ أوْ مَوْقِفٍ مِن تِلْكَ المَواقِفِ. وحَكى الثَّعْلَبِيُّ عَنْ مُجاهِدٍ، وقَتادَةَ، والضَّحّاكِ أنَّهُ أرادَ - سُبْحانَهُ - في قَوْلِهِ: ﴿تَعْرُجُ المَلائِكَةُ والرُّوحُ إلَيْهِ في يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ خَمْسِينَ ألْفَ سَنَةٍ﴾ [المعارج: ٤] المَسافَةَ مِنَ الأرْضِ إلى سِدْرَةِ المُنْتَهى الَّتِي هي مَقامُ جِبْرِيلَ، والمُرادُ أنَّهُ يَسِيرُ جِبْرِيلُ ومَن مَعَهُ مِنَ المَلائِكَةِ في ذَلِكَ المَقامِ إلى الأرْضِ مَسِيرَةَ خَمْسِينَ ألْفَ سَنَةٍ في مِقْدارِ يَوْمٍ واحِدٍ مِن أيّامِ الدُّنْيا، وأرادَ بِقَوْلِهِ: ﴿فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ ألْفَ سَنَةٍ﴾ المَسافَةَ الَّتِي بَيْنَ الأرْضِ وبَيْنَ سَماءِ الدُّنْيا هُبُوطًا وصُعُودًا فَإنَّها مِقْدارُ ألْفِ سَنَةٍ مِن أيّامِ الدُّنْيا. وقِيلَ: إنَّ ذَلِكَ إشارَةٌ إلى امْتِدادِ نَفاذِ الأمْرِ، وذَلِكَ لِأنَّ مَن نَفَذَ أمْرُهُ غايَةَ النَّفاذِ في يَوْمٍ أوْ يَوْمَيْنِ وانْقَطَعَ لا يَكُونُ مِثْلَ مَن يَنْفُذُ أمْرُهُ في سِنِينَ مُتَطاوِلَةٍ، فَقَوْلُهُ: ﴿فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ ألْفَ سَنَةٍ﴾ يَعْنِي يُدَبِّرُ الأمْرَ في زَمانٍ يَوْمٌ مِنهُ ألْفُ سَنَةٍ. فَكَمْ يَكُونُ الشَّهْرُ مِنهُ ؟ وكَمْ تَكُونُ السَّنَةُ مِنهُ ؟ وعَلى هَذا فَلا فَرْقَ بَيْنَ ألْفِ سَنَةٍ وبَيْنَ خَمْسِينَ ألْفَ سَنَةٍ. وقِيلَ: غَيْرُ ذَلِكَ. وقَدْ وقَفَ حَبْرُ الأُمَّةِ ابْنُ عَبّاسٍ لَمّا سُئِلَ عَنِ الآيَتَيْنِ كَما سَيَأْتِي في آخِرِ البَحْثِ إنْ شاءَ اللَّهُ. قَرَأ الجُمْهُورُ " مِمّا تَعُدُّونَ " بِالفَوْقِيَّةِ عَلى الخِطابِ، وقَرَأ الحَسَنُ، والسُّلَمِيُّ، وابْنُ وثّابٍ، والأعْمَشُ بِالتَّحْتِيَّةِ عَلى الغَيْبَةِ. والإشارَةُ بِقَوْلِهِ: ذَلِكَ إلى اللَّهِ - سُبْحانَهُ - بِاعْتِبارِ اتِّصافِهِ بِتِلْكَ الأوْصافِ، وهو مُبْتَدَأٌ وخَبَرُهُ ﴿عالِمُ الغَيْبِ والشَّهادَةِ﴾ أيِ: العالِمُ بِما غابَ عَنِ الخَلْقِ وما حَضَرَهم. وفِي هَذا مَعْنى التَّهْدِيدِ؛ لِأنَّهُ - سُبْحانَهُ - إذا عَلِمَ بِما يَغِيبُ وما يَحْضُرُ، فَهو مُجازٍ لِكُلِّ عامِلٍ بِعَمَلِهِ. أوْ فَهو يُدَبِّرُ الأمْرَ بِما تَقْتَضِيهِ حِكْمَتُهُ العَزِيزُ القاهِرُ الغالِبُ الرَّحِيمُ بِعِبادِهِ، وهَذِهِ أخْبارٌ لِذَلِكَ المُبْتَدَأِ. وكَذَلِكَ قَوْلُهُ: ﴿الَّذِي أحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ﴾ هو خَبَرٌ آخَرُ. قَرَأ الجُمْهُورُ خَلَقَهُ بِفَتْحِ اللّامِ. وقَرَأ ابْنُ كَثِيرٍ وأبُو عَمْرٍو، وابْنُ عامِرٍ بِإسْكانِها، فَعَلى القِراءَةِ الأُولى هو فِعْلٌ ماضٍ نَعْتًا لِشَيْءٍ، فَهو في مَحَلِّ جَرٍّ. وقَدِ اخْتارَ قِراءَةَ الجُمْهُورِ أبُو عُبَيْدَةَ وأبُو حاتِمٍ، ويَجُوزُ أنْ تَكُونَ صِفَةً لِلْمُضافِ، فَيَكُونُ في مَحَلِّ نَصْبٍ. وأمّا عَلى القِراءَةِ الثّانِيَةِ، فَفي نَصْبِهِ أوْجُهٌ: الأوَّلُ أنْ يَكُونَ بَدَلًا مِن كُلِّ شَيْءٍ بَدَلَ اشْتِمالٍ، والضَّمِيرُ عائِدٌ إلى كُلِّ شَيْءٍ، وهَذا هو الوَجْهُ المَشْهُورُ عِنْدَ النُّحاةِ. الثّانِي أنَّهُ بَدَلُ كُلٍّ مِن كُلٍّ، والضَّمِيرُ راجِعٌ إلى اللَّهِ - سُبْحانَهُ -؛ ومَعْنى أحْسَنَ: حَسَّنَ، لِأنَّهُ ما مِن شَيْءٍ إلّا وهو مَخْلُوقٌ عَلى ما تَقْتَضِيهِ الحِكْمَةُ، فَكُلُّ المَخْلُوقاتِ حَسَنَةٌ. الثّالِثُ أنْ يَكُونَ كُلُّ شَيْءٍ هو المَفْعُولُ الأوَّلُ، وخَلَقَهُ هو المَفْعُولُ الثّانِي عَلى تَضْمِينِ أحْسَنَ مَعْنى أعْطى، والمَعْنى: أعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ الَّذِي خَصَّهُ بِهِ. وقِيلَ: عَلى تَضْمِينِهِ مَعْنى ألْهَمَ. قالَ الفَرّاءُ: ألْهَمَ خَلْقَهُ كُلَّ شَيْءٍ مِمّا يَحْتاجُونَ إلَيْهِ. الرّابِعُ أنَّهُ مَنصُوبٌ عَلى المَصْدَرِ المُؤَكِّدِ لِمَضْمُونِ الجُمْلَةِ أيْ: خَلَقَهُ خَلْقًا كَقَوْلِهِ: ﴿صُنْعَ اللَّهِ﴾ [النمل: ٨٨] وهَذا قَوْلُ سِيبَوَيْهِ والضَّمِيرُ يَعُودُ إلى اللَّهِ - سُبْحانَهُ - . والخامِسُ أنَّهُ مَنصُوبٌ بِنَزْعِ الخافِضِ، والمَعْنى أحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ في خَلْقِهِ، ومَعْنى الآيَةِ: أنَّهُ أتْقَنَ وأحْكَمَ خَلْقَ مَخْلُوقاتِهِ، فَبَعْضُ المَخْلُوقاتِ وإنْ لَمْ تَكُنْ حَسَنَةً في نَفْسِها، فَهي مُتْقَنَةٌ مَحْكَمَةٌ، فَتَكُونُ هَذِهِ الآيَةُ مَعْناها مَعْنى﴿أعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ﴾ أيْ: لَمْ يَخْلُقِ الإنْسانَ عَلى خَلْقِ البَهِيمَةِ ولا خَلَقَ البَهِيمَةَ عَلى خَلْقِ الإنْسانِ، وقِيلَ: هو عُمُومٌ في اللَّفْظِ خُصُوصٌ في المَعْنى: أيْ: أحْسَنَ خَلْقَ كُلَّ شَيْءٍ حَسَنٍ ﴿وبَدَأ خَلْقَ الإنْسانِ مِن طِينٍ﴾ يَعْنِي: آدَمَ خَلَقَهُ مِن طِينٍ فَصارَ عَلى صُورَةٍ بَدِيعَةٍ وشَكْلٍ حَسَنٍ. ﴿جَعَلَ نَسْلَهُ﴾ أيْ: ذُرِّيَّتَهُ ﴿مِن سُلالَةٍ﴾ سُمِّيَتِ الذُّرِّيَّةُ سُلالَةً لِأنَّها تُسَلُّ مِنَ الأصْلِ وتَنْفَصِلُ عَنْهُ، وقَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُها في سُورَةِ المُؤْمِنِينَ، ومَعْنى ﴿مِن ماءٍ مَهِينٍ﴾ مِن ماءِ مُمْتَهَنٍ لا خَطَرَ لَهُ عِنْدَ النّاسِ وهو المَنِيُّ. وقالَ الزَّجّاجُ: مِن ماءٍ ضَعِيفٍ. ﴿ثُمَّ سَوّاهُ﴾ أيِ: الإنْسانُ الَّذِي بَدَأ خَلْقَهُ مِن طِينٍ، وهو: آدَمُ، أوْ جَمِيعُ النَّوْعِ، والمُرادُ أنَّهُ عَدَّلَ خَلْقَهُ وسَوّى شَكْلَهُ وناسَبَ بَيْنَ أعْضائِهِ ﴿ونَفَخَ فِيهِ مِن رُوحِهِ﴾ الإضافَةُ لِلتَّشْرِيفِ والتَّكْرِيمِ، وهَذِهِ الإضافَةُ تُقَوِّي أنَّ الكَلامَ في آدَمَ لا في ذُرِّيَّتِهِ وإنْ أمْكَنَ تَوْجِيهُهُ بِالنِّسْبَةِ إلى الجَمِيعِ. ثُمَّ خاطَبَ جَمِيعَ النَّوْعِ فَقالَ: ﴿وجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ والأبْصارَ والأفْئِدَةَ﴾ أيْ: خَلَقَ لَكم هَذِهِ الأشْياءَ تَكْمِيلًا لِنِعْمَتِهِ عَلَيْكم وتَتْمِيمًا لِتَسْوِيَتِهِ لِخَلْقِكم حَتّى تَجْتَمِعَ لَكُمُ النِّعَمُ، فَتَسْمَعُونَ كُلَّ مَسْمُوعٍ وتُبْصِرُونَ كُلَّ مُبْصِرٍ، وتَتَعَقَّلُونَ كُلَّ مُتَعَقِّلٍ، وتَفْهَمُونَ كُلَّ ما يُفْهَمُ، وأفْرَدَ السَّمْعَ لِكَوْنِهِ مَصْدَرًا يَشْمَلُ القَلِيلَ والكَثِيرَ، وخَصَّ السَّمْعَ بِذِكْرِ المَصْدَرِ دُونَ البَصَرِ والفُؤادَ فَذَكَرَهُما بِالِاسْمِ ولِهَذا جُمِعا، لِأنَّ السَّمْعَ قُوَّةٌ واحِدَةٌ ولَها مَحَلٌّ واحِدٌ وهو الأُذُنُ ولا اخْتِيارَ لَها فِيهِ، فَإنَّ الصَّوْتَ يَصِلُ إلَيْها ولا تَقْدِرُ عَلى رَدِّهِ، ولا عَلى تَخْصِيصِ السَّمْعِ بِبَعْضِ المَسْمُوعاتِ دُونَ بَعْضٍ، بِخِلافِ الأبْصارِ فَمَحَلُّها العَيْنُ ولَهُ فِيهِ اخْتِيارٌ، فَإنَّها تَتَحَرَّكُ إلى جانِبِ المَرْئِيِّ دُونَ غَيْرِهِ، وتُطْبِقُ أجْفانَها إذا لَمْ تُرِدِ الرُّؤْيَةَ لِشَيْءٍ؛ وكَذَلِكَ الفُؤادُ لَهُ نَوْعُ اخْتِيارٍ في إدْراكِهِ، فَيَتَعَقَّلُ هَذا دُونَ هَذا، ويُفْهَمُ هَذا دُونَ هَذا. قَرَأ الجُمْهُورُ " وبَدَأ " بِالهَمْزِ، والزُّهْرِيُّ بِألْفٍ خالِصَةٍ بِدُونِ هَمْزٍ، وانْتِصابُ ﴿قَلِيلًا ما تَشْكُرُونَ﴾ عَلى أنَّهُ صِفَةُ مَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ أيْ: شُكْرًا قَلِيلًا، أوْ صِفَةُ زَمانٍ مَحْذُوفٍ أيْ: زَمانًا قَلِيلًا. وفِي هَذا بَيانٌ لِكُفْرِهِمْ لِنِعَمِ اللَّهِ، (p-١١٥٠)وتَرْكِهِمْ لِشُكْرِها إلّا فِيما نَدَرَ مِنَ الأحْوالِ. ﴿وقالُوا أئِذا ضَلَلْنا في الأرْضِ﴾ قَدْ تَقَدَّمَ اخْتِلافُ القُرّاءِ في هَذِهِ الهَمْزَةِ وفي الهَمْزَةِ الَّتِي بَعْدَها، والضَّلالُ الغَيْبُوبَةُ، يُقالُ: ضَلَّ المَيِّتُ في التُّرابِ إذا غابَ وبَطَلَ، والعَرَبُ تَقُولُ لِلشَّيْءِ إذا غَلَبَ عَلَيْهِ غَيْرُهُ حَتّى خَفِيَ أثَرُهُ قَدْ ضَلَّ. ومِنهُ قَوْلٌ الأخْطَلِ: ؎كُنْتُ القَذى في مَوْجِ أكْدَرَ مُزْبِدٍ ∗∗∗ قَذَفَ الأتِيُّ بِها فَضَلَّ ضَلالًا قالَ قُطْرُبٌ: مَعْنى ضَلَلْنا في الأرْضِ: غِبْنا في الأرْضِ. قَرَأ الجُمْهُورُ " ضَلَلْنا " بِفَتْحِ ضادٍ مُعْجَمَةٍ ولامٍ مَفْتُوحَةٍ بِمَعْنى ذَهَبْنا وضِعْنا وصِرْنا تُرابًا وغِبْنا عَنِ الأعْيُنِ، وقَرَأ يَحْيى بْنُ يَعْمُرَ وابْنُ مُحَيْصِنٍ وأبُو رَجاءٍ " ضَلَلْنا " بِكَسْرِ اللّامِ، وهي لُغَةُ العالِيَةِ مِن نَجْدٍ. قالَ الجَوْهَرِيُّ: وأهْلُ العالِيَةِ يَقُولُونَ ضَلَلْتُ بِالكَسْرِ. قالَ وأضَلَّهُ أيْ: أضاعَهُ وأهْلَكَهُ، يُقالُ: ضَلَّ المَيِّتُ إذا دُفِنَ. وقَرَأ عَلِيُّ بْنُ أبِي طالِبٍ، والحَسَنُ، والأعْمَشُ وأبانُ بْنُ سَعِيدٍ " صَلَلْنا " بِصادٍ مُهْمَلَةٍ ولامٍ مَفْتُوحَةٍ أيْ: أنْتَنّا. قالَ النَّحّاسُ: ولا يُعْرَفُ في اللُّغَةِ صَلَلْنا، ولَكِنْ يُقالُ: صَلَّ اللَّحْمُ إذا أنْتَنَ. قالَ الجَوْهَرِيُّ: صَلَّ اللَّحْمُ يَصِلُّ بِالكَسْرِ صُلُولًا إذا أنْتَنَ، مَطْبُوخًا كانَ أوْ نَيِّئًا، ومِنهُ قَوْلُ الحُطَيْئَةِ: ؎ذاكَ فَتًى يَبْذُلُ ذا قُدْرَةٍ ∗∗∗ لا يُفْسِدُ اللَّحْمَ لَدَيْهِ الصُّلُولُ ﴿أئِنّا لَفي خَلْقٍ جَدِيدٍ﴾ أيْ: نُبْعَثُ ونَصِيرُ أحْياءً، والِاسْتِفْهامُ لِلِاسْتِنْكارِ. وهَذا قَوْلُ مُنْكِرِي البَعْثِ مِنَ الكُفّارِ، فَأضْرَبَ اللَّهُ - سُبْحانَهُ - مِن بَيانِ كُفْرِهِمْ بِإنْكارِ البَعْثِ إلى بَيانِ ما هو أبْلَغُ مِنهُ، وهو كُفْرُهم بِلِقاءِ اللَّهِ، فَقالَ: ﴿بَلْ هم بِلِقاءِ رَبِّهِمْ كافِرُونَ﴾ أيْ: جاحِدُونَ لَهُ مُكابَرَةً وعِنادًا، فَإنَّ اعْتِرافَهم بِأنَّهُ المُبْتَدِئُ لِلْخَلْقِ يَسْتَلْزِمُ اعْتِرافَهم بِأنَّهُ قادِرٌ عَلى الإعادَةِ. ثُمَّ أمَرَ - سُبْحانَهُ - رَسُولَهُ - صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ - أنْ يُبَيِّنَ لَهُمُ الحَقَّ ويَرُدَّ عَلَيْهِمْ ما زَعَمُوهُ مِنَ الباطِلِ، فَقالَ: ﴿قُلْ يَتَوَفّاكم مَلَكُ المَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكم﴾ يُقالُ: تَوَفّاهُ اللَّهُ واسْتَوْفى رُوحَهُ إذا قَبَضَهُ إلَيْهِ، ومَلَكُ المَوْتِ هو عِزْرائِيلُ، ومَعْنى وُكِّلَ بِكم: وُكِّلَ بِقَبْضِ أرْواحِكم عِنْدَ حُضُورِ آجالِكم ﴿ثُمَّ إلى رَبِّكم تُرْجَعُونَ﴾ أيْ: تَصِيرُونَ إلَيْهِ أحْياءً بِالبَعْثِ والنُّشُورِ لا إلى غَيْرِهِ، فَيُجازِيكم بِأعْمالِكم، إنْ خَيْرًا فَخَيْرٌ، وإنَّ شَرًّا فَشَرٌّ. وقَدْ أخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وابْنُ المُنْذِرِ، عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ في قَوْلِهِ: ﴿يُدَبِّرُ الأمْرَ﴾ الآيَةَ قالَ: هَذا في الدُّنْيا تَعْرُجُ المَلائِكَةُ في يَوْمٍ مِقْدارُهُ ألْفَ سَنَةٍ. وأخْرَجَ الفِرْيابِيُّ، وابْنُ جَرِيرٍ، وابْنُ أبِي حاتِمٍ، والحاكِمُ وصَحَّحَهُ عَنْهُ في قَوْلِهِ: ﴿فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ ألْفَ سَنَةٍ﴾ . قالَ: مِنَ الأيّامِ السِّتَّةِ الَّتِي خَلَقَ اللَّهُ فِيها السَّماواتِ والأرْضَ. وأخْرَجَ، عَبْدُ الرَّزّاقِ، وسَعِيدُ بْنُ مَنصُورٍ، وابْنُ المُنْذِرِ، وابْنُ أبِي حاتِمٍ، وابْنُ الأنْبارِيِّ في المَصاحِفِ والحاكِمُ وصَحَّحَهُ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أبِي مُلَيْكَةَ قالَ: دَخَلْتُ عَلى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبّاسٍ أنا وعَبْدُ اللَّهِ بْنِ فَيْرُوزَ مَوْلى عُثْمانَ بْنِ عَفّانَ، فَقالَ لَهُ ابْنُ فَيْرُوزَ: يا أبا عَبّاسٍ، قَوْلُهُ: ﴿يُدَبِّرُ الأمْرَ مِنَ السَّماءِ إلى الأرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إلَيْهِ في يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ ألْفَ سَنَةٍ﴾ فَكَأنَّ ابْنَ عَبّاسٍ اتَّهَمَهُ فَقالَ: ما يَوْمٌ كانَ مِقْدارُهُ خَمْسِينَ ألْفَ سَنَةٍ ؟ قالَ: إنَّما سَألْتُكَ لِتُخْبِرَنِي، فَقالَ ابْنُ عَبّاسٍ: هُما يَوْمانِ ذَكَرَهُما اللَّهُ في كِتابِهِ، اللَّهُ أعْلَمُ بِهِما، وأكْرَهُ أنْ أقُولَ في كِتابِ اللَّهِ ما لا أعْلَمُ، فَضَرَبَ الدَّهْرُ مِن ضَرَباتِهِ حَتّى جَلَسْتُ إلى ابْنِ المُسَيَّبِ، فَسَألَهُ عَنْهُما إنْسانٌ فَلَمْ يُخْبِرْهُ ولَمْ يَدْرِ. فَقُلْتُ: ألا أُخْبِرُكَ بِما حَضَرْتُ مِنِ ابْنِ عَبّاسٍ ؟ قالَ: بَلى، فَأخْبَرْتُهُ فَقالَ لِلسّائِلِ: هَذا ابْنُ عَبّاسٍ قَدْ أبى أنْ يَقُولَ فِيها، وهو أعْلَمُ مِنِّي. وأخْرَجَ ابْنُ أبِي حاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ في قَوْلِهِ: ﴿كانَ مِقْدارُهُ ألْفَ سَنَةٍ﴾ قالَ: لا يَنْتَصِفُ النَّهارُ في مِقْدارِ يَوْمٍ مِن أيّامِ الدُّنْيا في ذَلِكَ اليَوْمِ حَتّى يَقْضِيَ بَيْنَ العِبادِ، فَيَنْزِلُ أهْلُ الجَنَّةِ الجَنَّةَ وأهْلُ النّارِ النّارَ، ولَوْ كانَ إلى غَيْرِهِ لَمْ يَفْرَغْ في خَمْسِينَ ألْفَ سَنَةٍ. وأخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْهُ أيْضًا في قَوْلِهِ: ﴿ثُمَّ يَعْرُجُ إلَيْهِ في يَوْمٍ﴾ مِن أيّامِكم هَذِهِ، ومَسِيرَةُ ما بَيْنَ السَّماءِ والأرْضِ خَمْسِمِائَةِ عامٍ. وأخْرَجَ ابْنُ أبِي شَيْبَةَ والحَكِيمُ التِّرْمِذِيُّ في نَوادِرِ الأُصُولِ، وابْنُ جَرِيرٍ، وابْنُ المُنْذِرِ، عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ أنَّهُ كانَ يَقْرَأُ ﴿الَّذِي أحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ﴾ قالَ: ما رَأيْتُ القِرَدَةَ لَيْسَتْ بِحَسَنَةٍ، ولَكِنَّهُ أحْكَمَ خَلْقَها. وأخْرَجَ ابْنُ أبِي حاتِمٍ عَنْهُ أيْضًا في الآيَةِ أنَّهُ قالَ: أما إنَّ اسْتَ القِرَدَةِ لَيْسَتْ بِحَسَنَةٍ ولَكِنَّهُ أحْكَمَ خَلْقَها، وقالَ: خَلَقَهُ: صُورَتُهُ. وقالَ: ﴿أحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ﴾ القَبِيحُ، والحَسَنُ والعَقارِبُ والحَيّاتُ وكُلُّ شَيْءٍ مِمّا خَلَقَ، وغَيْرُهُ لا يُحْسِنُ شَيْئًا مِن ذَلِكَ. وأخْرَجَ الطَّبَرانِيُّ عَنْ أبِي أُمامَةَ قالَ «بَيْنَما نَحْنُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ - إذْ لَقِينا عَمْرَو بْنَ زُرارَةَ الأنْصارِيَّ في حُلَّةٍ قَدْ أسْبَلَ، فَأخَذَ النَّبِيُّ - صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ - بِناحِيَةِ ثَوْبِهِ، فَقالَ: يا رَسُولَ اللَّهِ إنِّي أحْمَشُ السّاقَيْنِ، فَقالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ -: يا عَمْرُو بْنَ زُرارَةَ إنَّ اللَّهَ - عَزَّ وجَلَّ - قَدْ أحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ، يا عَمْرُو بْنَ زُرارَةَ إنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ المُسْبِلِينَ» . وأخْرَجَ أحْمَدُ والطَّبَرانِيُّ عَنِ الشَّرِيدِ بْنِ سُوَيْدٍ قالَ " «أبْصَرَ النَّبِيُّ - صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ - رَجُلًا قَدْ أسْبَلَ إزارَهُ، فَقالَ: ارْفَعْ إزارَكَ، فَقالَ: يا رَسُولَ اللَّهِ إنِّي أحْنَفُ تَصْطَكُّ رُكْبَتايَ، فَقالَ: ارْفَعْ إزارَكَ كُلُّ خَلْقِ اللَّهِ حَسَنٌ» .
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب