الباحث القرآني
ثُمَّ قالَ تَعالى: ﴿يُدَبِّرُ الأمْرَ مِنَ السَّماءِ إلى الأرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إلَيْهِ في يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ ألْفَ سَنَةٍ مِمّا تَعُدُّونَ﴾
لَمّا بَيَّنَ اللَّهُ تَعالى الخَلْقَ بَيَّنَ الأمْرَ كَما قالَ تَعالى: ﴿ألا لَهُ الخَلْقُ والأمْرُ﴾ [الأعراف: ٥٤] والعَظَمَةُ تَتَبَيَّنُ بِهِما، فَإنَّ مَن يَمْلِكُ مَمالِيكَ كَثِيرِينَ عُظَماءَ تَكُونُ لَهُ عَظَمَةٌ، ثُمَّ إذا كانَ أمْرُهُ نافِذًا فِيهِمْ يَزْدادُ في أعْيُنِ الخَلْقِ، وإنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ نَفاذُ أمْرٍ يَنْقُصُ مِن عَظَمَتِهِ.
وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿ثُمَّ يَعْرُجُ إلَيْهِ﴾ مَعْناهُ - واللَّهُ أعْلَمُ - أنَّ أمْرَهُ يَنْزِلُ مِنَ السَّماءِ عَلى عِبادِهِ، وتَعْرُجُ إلَيْهِ أعْمالُهُمُ الصّالِحَةُ الصّادِرَةُ عَلى مُوافَقَةِ ذَلِكَ الأمْرِ، فَإنَّ العَمَلَ أثَرُ الأمْرِ.
وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ ألْفَ سَنَةٍ مِمّا تَعُدُّونَ﴾ فِيهِ وُجُوهٌ.
أحَدُها: أنَّ نُزُولَ الأمْرِ وعُرُوجَ العَمَلِ في مَسافَةِ ألْفِ سَنَةٍ مِمّا تَعُدُّونَ وهو في يَوْمٍ، فَإنَّ بَيْنَ السَّماءِ والأرْضِ مَسِيرَةَ خَمْسِمِائَةِ سَنَةٍ، فَيَنْزِلُ في مَسِيرَةِ خَمْسِمِائَةِ سَنَةٍ، ويَعْرُجُ في مَسِيرَةِ خَمْسِمِائَةِ سَنَةٍ، فَهو مِقْدارُ ألْفِ سَنَةٍ.
ثانِيها: هو أنَّ ذَلِكَ إشارَةٌ إلى امْتِدادِ نَفاذِ الأمْرِ، وذَلِكَ لِأنَّ مَن نَفَذَ أمْرُهُ غايَةَ النَّفاذِ في يَوْمٍ أوْ يَوْمَيْنِ وانْقَطَعَ لا يَكُونُ مِثْلَ مَن يَنْفُذُ أمْرُهُ في سِنِينَ مُتَطاوِلَةٍ، فَقَوْلُهُ تَعالى: ﴿فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ ألْفَ سَنَةٍ﴾ يَعْنِي ﴿يُدَبِّرُ الأمْرَ﴾ في زَمانٍ يَوْمٌ مِنهُ ألْفُ سَنَةٍ، فَكَمْ يَكُونُ شَهْرٌ مِنهُ، وكَمْ تَكُونُ سَنَةٌ مِنهُ، وكَمْ يَكُونُ دَهْرٌ مِنهُ ؟ وعَلى هَذا الوَجْهِ لا فَرْقَ بَيْنَ هَذا وبَيْنَ قَوْلِهِ: ﴿مِقْدارُهُ خَمْسِينَ ألْفَ سَنَةٍ﴾ لِأنَّ تِلْكَ إذا كانَتْ إشارَةً إلى دَوامِ نَفاذِ الأمْرِ، فَسَواءٌ يُعَبَّرُ بِالألْفِ أوْ بِالخَمْسِينَ ألْفًا لا يَتَفاوَتُ إلّا أنَّ المُبالَغَةَ تَكُونُ في الخَمْسِينَ أكْثَرُ، ونُبَيِّنُ فائِدَتَها في مَوْضِعِها إنْ شاءَ اللَّهُ تَعالى.
وفِي هَذِهِ لَطِيفَةٌ، وهو أنَّ اللَّهَ ذَكَرَ في الآيَةِ المُتَقَدِّمَةِ عالَمَ الأجْسامِ والخَلْقِ، وأشارَ إلى عَظَمَةِ المَلِكِ، وذَكَرَ في هَذِهِ الآيَةِ عالَمَ الأرْواحِ والأمْرِ بِقَوْلِهِ: ﴿يُدَبِّرُ الأمْرَ﴾ والرُّوحُ مِن عالَمِ الأمْرِ كَما قالَ تَعالى: ﴿ويَسْألُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِن أمْرِ رَبِّي﴾ [الإسراء: ١٥] وأشارَ إلى دَوامِهِ بِلَفْظٍ يُوهِمُ الزَّمانَ، والمُرادُ دَوامُ البَقاءِ كَما يُقالُ في العُرْفِ: طالَ زَمانُ فُلانٍ. والزَّمانُ لا يَطُولُ، وإنَّما الواقِعُ في الزَّمانِ يَمْتَدُّ فَيُوجَدُ في أزْمِنَةٍ كَثِيرَةٍ فَيَطُولُ ذَلِكَ فَيَأْخُذُ أزْمِنَةً كَثِيرَةً، فَأشارَ هُناكَ إلى عَظَمَةِ المُلْكِ بِالمَكانِ وأشارَ إلى دَوامِهِ هَهُنا بِالزَّمانِ، فالمَكانُ مِن خَلْقِهِ ومُلْكِهِ، والزَّمانُ بِحُكْمِهِ وأمْرِهِ.
واعْلَمْ أنَّ ظاهِرَ قَوْلِهِ: ﴿يُدَبِّرُ الأمْرَ﴾ في يَوْمٍ يَقْتَضِي أنْ يَكُونَ أمْرُهُ في يَوْمٍ، واليَوْمُ لَهُ ابْتِداءٌ وانْتِهاءٌ، فَيَكُونُ أمْرُهُ في زَمانٍ حادِثٍ، فَيَكُونُ حادِثًا، وبَعْضُ مَن يَقُولُ بِأنَّ اللَّهَ عَلى العَرْشِ اسْتَوى يَقُولُ: (p-١٥١)بِأنَّ أمْرَهُ قَدِيمٌ حَتّى الحُرُوفِ، وكَلِمَةِ “ كُنْ “، فَكَيْفَ فُهِمَ مِن كَلِمَةِ “ عَلى “ كَوْنُهُ في مَكانٍ ؟ ولَمْ يُفْهَمُ مِن كَلِمَةٍ “ في “ كَوْنُ أمْرِهِ في زَمانٍ ؟ ثُمَّ بَيَّنَ أنَّ هَذا المَلِكَ العَظِيمَ النّافِذَ الأمْرِ غَيْرُ غافِلٍ، فَإنَّ المَلِكَ إذا كانَ آمِرًا ناهِيًا يُطاعُ في أمْرِهِ ونَهْيِهِ، ولَكِنْ يَكُونُ غافِلًا لا يَكُونُ مَهِيبًا عَظِيمًا كَما يَكُونُ مَعَ ذَلِكَ خَبِيرًا يَقِظًا لا تَخْفى عَلَيْهِ أُمُورُ المَمالِكِ والمَمالِيكِ، فَقالَ: ﴿ذَلِكَ عالِمُ الغَيْبِ والشَّهادَةِ﴾ .
ولَمّا ذَكَرَ مِن قَبْلُ عالَمَ الأشْباحِ بِقَوْلِهِ: ﴿خَلَقَ السَّماواتِ﴾ وعالَمَ الأرْواحِ بِقَوْلِهِ: ﴿يُدَبِّرُ الأمْرَ مِنَ السَّماءِ إلى الأرْضِ﴾ قالَ: ﴿عالِمُ الغَيْبِ﴾ يَعْلَمُ ما في الأرْواحِ: ﴿والشَّهادَةِ﴾ يَعْلَمُ ما في الأجْسامِ، أوْ نَقُولُ قالَ: ﴿عالِمُ الغَيْبِ﴾ إشارَةٌ إلى ما لَمْ يَكُنْ بَعْدُ: ﴿والشَّهادَةِ﴾ إشارَةٌ إلى ما وُجِدَ وكانَ، وقَدَّمَ العِلْمَ بِالغَيْبِ لِأنَّهُ أقْوى وأشَدُّ إنْباءٍ عَنْ كَمالِ العِلْمِ، ثُمَّ قالَ تَعالى: ﴿العَزِيزُ الرَّحِيمُ﴾ لَمّا بَيَّنَ أنَّهُ عالِمٌ ذَكَرَ أنَّهُ عَزِيزٌ قادِرٌ عَلى الِانْتِقامِ مِنَ الكَفَرَةِ رَحِيمٌ واسِعُ الرَّحْمَةُ عَلى البَرَرَةِ.
* * *
ثُمَّ قالَ تَعالى: ﴿الَّذِي أحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وبَدَأ خَلْقَ الإنْسانِ مِن طِينٍ﴾ لَمّا بَيَّنَ الدَّلِيلَ الدّالَّ عَلى الوَحْدانِيَّةِ مِنَ الآفاقِ بِقَوْلِهِ: ﴿خَلَقَ السَّماواتِ والأرْضَ وما بَيْنَهُما﴾ وأتَمَّهُ بِتَوابِعِهِ ومُكَمِّلاتِهِ ذَكَرَ الدَّلِيلَ الدّالَّ عَلَيْها مِنَ الأنْفُسِ بِقَوْلِهِ: ﴿الَّذِي أحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ﴾ يَعْنِي أحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ مِمّا ذَكَرَهُ، وبَيَّنَ أنَّ الَّذِي بَيْنَ السَّماواتِ والأرْضِ خَلَقَهُ وهو كَذَلِكَ؛ لِأنَّكَ إذا نَظَرْتَ إلى الأشْياءِ رَأيْتَها عَلى ما يَنْبَغِي، صَلابَةُ الأرْضِ لِلنَّباتِ، وسَلاسَةُ الهَواءِ لِلِاسْتِنْشاقِ، وقَبُولُ الِانْشِقاقِ لِسُهُولَةِ الِاسْتِطْراقِ، وسَيَلانُ الماءِ لِنَقْدِرَ عَلَيْهِ في كُلِّ مَوْضِعٍ، وحَرَكَةُ النّارِ إلى فَوْقُ لِأنَّها لَوْ كانَتْ مِثْلَ الماءِ تَتَحَرَّكُ يَمْنَةً ويَسْرَةً لاحْتَرَقَ العالَمُ، فَخُلِقَتْ طالِبَةً لِجِهَةِ فَوْقٍ؛ حَيْثُ لا شَيْءَ هُناكَ يَقْبَلُ الِاحْتِراقَ.
وقَوْلُهُ: ﴿وبَدَأ خَلْقَ الإنْسانِ مِن طِينٍ﴾ قِيلَ المُرادُ آدَمُ عَلَيْهِ السَّلامُ فَإنَّهُ خُلِقَ مَن طِينٍ، ويُمْكِنُ أنْ يُقالَ بِأنَّ الطِّينَ ماءٌ وتُرابٌ مُجْتَمِعانِ، والآدَمِيُّ أصْلُهُ مَنِيٌّ، والمَنِيُّ أصْلُهُ غِذاءٌ، والأغْذِيَةُ إمّا حَيَوانِيَّةٌ، وإمّا نَباتِيَّةٌ، والحَيَوانِيَّةُ بِالآخِرَةِ تَرْجِعُ إلى النَّباتِيَّةِ، والنَّباتُ وُجُودُهُ بِالماءِ والتُّرابِ الَّذِي هو طِينٌ.
{"ayah":"یُدَبِّرُ ٱلۡأَمۡرَ مِنَ ٱلسَّمَاۤءِ إِلَى ٱلۡأَرۡضِ ثُمَّ یَعۡرُجُ إِلَیۡهِ فِی یَوۡمࣲ كَانَ مِقۡدَارُهُۥۤ أَلۡفَ سَنَةࣲ مِّمَّا تَعُدُّونَ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق