﴿ٱللَّهُ ٱلَّذِی خَلَقَ ٱلسَّمَـٰوَ ٰتِ وَٱلۡأَرۡضَ وَمَا بَیۡنَهُمَا فِی سِتَّةِ أَیَّامࣲ ثُمَّ ٱسۡتَوَىٰ عَلَى ٱلۡعَرۡشِۖ مَا لَكُم مِّن دُونِهِۦ مِن وَلِیࣲّ وَلَا شَفِیعٍۚ أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ ٤ یُدَبِّرُ ٱلۡأَمۡرَ مِنَ ٱلسَّمَاۤءِ إِلَى ٱلۡأَرۡضِ ثُمَّ یَعۡرُجُ إِلَیۡهِ فِی یَوۡمࣲ كَانَ مِقۡدَارُهُۥۤ أَلۡفَ سَنَةࣲ مِّمَّا تَعُدُّونَ ٥ ذَ ٰلِكَ عَـٰلِمُ ٱلۡغَیۡبِ وَٱلشَّهَـٰدَةِ ٱلۡعَزِیزُ ٱلرَّحِیمُ ٦﴾ [السجدة ٤-٦]
[الرَّدُّ عَلى المَلاحِدَةِ والمُعَطِّلَةِ]
وَتَأمَّلْ ما في هَذِهِ الآياتِ مِنَ الرَّدِّ عَلى طَوائِفِ المُعَطِّلِينَ والمُشْرِكِينَ فَقَوْلُهُ:
﴿خَلَقَ السَّماواتِ والأرْضَ وما بَيْنَهُما في سِتَّةِ أيّامٍ﴾يَتَضَمَّنُ إبْطالَ قَوْلِ المَلاحِدَةِ القائِلِينَ بِقِدَمِ العالَمِ وأنَّهُ لَمْ يَزَلْ وأنَّ اللَّهَ سُبْحانَهُ لَمْ يَخْلُقْهُ بِقُدْرَتِهِ ومَشِيئَتِهِ ومَن أثْبَتَ مِنهم وُجُودَ الرَّبِّ جَعَلَهُ لازِمًا لِذاتِهِ أوَّلًا وأبَدًا غَيْرَ مَخْلُوقٍ كَما هو قَوْلُ ابْنِ سِينا والنَّصِيرِ الطُّوسِيِّ وأتْباعِهِما مِنَ المَلاحِدَةِ الجاحِدِينَ لِما اتَّفَقَتْ عَلَيْهِ الرُّسُلُ عَلَيْهِمُ الصَّلاةُ والسَّلامُ والكُتُبُ وشَهِدَتْ بِهِ العُقُولُ والفِطَرُ.
وَقَوْلُهُ تَعالى:
﴿ثُمَّ اسْتَوى عَلى العَرْشِ﴾ يَتَضَمَّنُ إبْطالَ قَوْلِ المُعَطِّلَةِ والجَهْمِيَّةِ الَّذِينَ يَقُولُونَ لَيْسَ عَلى العَرْشِ شَيْءٌ سِوى العَدَمِ وأنَّ اللَّهَ لَيْسَ مُسْتَوِيًا عَلى عَرْشِهِ، ولا تُرْفَعُ إلَيْهِ الأيْدِي، ولا يَصْعَدُ إلَيْهِ الكَلِمُ الطَّيِّبُ، ولا رَفَعَ المَسِيحَ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ إلَيْهِ، ولا عُرِجَ بِرَسُولِهِ مُحَمَّدٍ ﷺ " إلَيْهِ " ولا تَعْرُجُ المَلائِكَةُ والرُّوحُ إلَيْهِ ولا يَنْزِلُ مِن عِنْدِهِ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ ولا غَيْرُهُ، ولا يَنْزِلُ هو كُلَّ لَيْلَةٍ إلى السَّماءِ الدُّنْيا، ولا يَخافُهُ عِبادُهُ مِنَ المَلائِكَةِ
وَغَيْرِهِمْ مِن فَوْقِهِمْ ولا يَراهُ المُؤْمِنُونَ في الدّارِ الآخِرَةِ عِيانًا بِأبْصارِهِمْ مِن فَوْقِهِمْ، ولا تَجُوزُ الإشارَةُ إلَيْهِ بِالأصابِعِ إلى فَوْقٍ كَما أشارَ إلَيْهِ النَّبِيُّ ﷺ في أعْظَمِ مَجامِعِهِ في حِجَّةِ الوَداعِ وجَعَلَ يَرْفَعُ إصْبَعَهُ إلى السَّماءِ ويَنْكُبُها إلى النّاسِ ويَقُولُ: اللَّهُمَّ اشْهَدْ.
[إثْباتُ اسْتِواءِ اللَّهِ عَلى عَرْشِهِ بِالكِتابِ]
قالَ شَيْخُ الإسْلامِ: " وهَذا كِتابُ اللَّهِ مِن أوَّلِهِ إلى آخِرِهِ وسُنَّةُ رَسُولِهِ ﷺ وعامَّةُ كَلامِ الصَّحابَةِ والتّابِعِينَ وكَلامُ سائِرِ الأئِمَّةِ مَمْلُوءٌ بِما هو نَصٌّ أوْ ظاهِرٌ في أنَّ اللَّهَ سُبْحانَهُ وتَعالى فَوْقَ كُلِّ شَيْءٍ، وأنَّهُ فَوْقَ العَرْشِ فَوْقَ السَّماواتِ مُسْتَوٍ عَلى عَرْشِهِ. مِثْلُ قَوْلِهِ تَعالى:
﴿إلَيْهِ يَصْعَدُ الكَلِمُ الطَّيِّبُ والعَمَلُ الصّالِحُ يَرْفَعُهُ﴾ [فاطر: ١٠] الآيَةَ، وقَوْلِهِ تَعالى:
﴿إذْ قالَ اللَّهُ ياعِيسى إنِّي مُتَوَفِّيكَ ورافِعُكَ إلَيَّ﴾ [آل عمران: ٥٥] الآيَةَ، وقَوْلِهِ تَعالى:
﴿بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إلَيْهِ﴾ [النساء: ١٥٨] الآيَةَ، وقَوْلِهِ تَعالى: (. . . . . . . . .
﴿ذِي المَعارِجِ تَعْرُجُ المَلائِكَةُ والرُّوحُ إلَيْهِ﴾ [المعارج: ٣] الآيَةَ، وقَوْلِهِ تَعالى:
﴿يُدَبِّرُ الأمْرَ مِنَ السَّماءِ إلى الأرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إلَيْهِ﴾ [السجدة: ٥] الآيَةَ، وقَوْلِهِ تَعالى:
﴿يَخافُونَ رَبَّهم مِن فَوْقِهِمْ﴾ [النحل: ٥٠] الآيَةَ، وقَوْلِهِ تَعالى:
﴿هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكم ما في الأرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ اسْتَوى إلى السَّماءِ فَسَوّاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ﴾ [البقرة: ٢٩] الآيَةَ، وقَوْلِهِ تَعالى:
﴿إنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ والأرْضَ في سِتَّةِ أيّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلى العَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا والشَّمْسَ والقَمَرَ والنُّجُومَ مُسَخَّراتٍ بِأمْرِهِ ألا لَهُ الخَلْقُ والأمْرُ تَبارَكَ اللَّهُ رَبُّ العالَمِينَ﴾ [الأعراف: ٥٤] وقَوْلِهِ تَعالى:
﴿إنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ والأرْضَ في سِتَّةِ أيّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلى العَرْشِ يُدَبِّرُ الأمْرَ ما مِن شَفِيعٍ إلّا مِن بَعْدِ إذْنِهِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكم فاعْبُدُوهُ أفَلا تَذَكَّرُونَ﴾ [يونس: ٣]، فَذَكَرَ التَّوْحِيدَيْنِ في هَذِهِ الآيَةِ.
وَقَوْلِهِ تَعالى:
﴿تَنْزِيلًا مِمَّنْ خَلَقَ الأرْضَ والسَّماواتِ العُلا الرَّحْمَنُ عَلى العَرْشِ اسْتَوى﴾ [طه: ٤].
وَقَوْلِهِ تَعالى:
﴿وَتَوَكَّلْ عَلى الحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ وسَبِّحْ بِحَمْدِهِ وكَفى بِهِ بِذُنُوبِ عِبادِهِ خَبِيرًا الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ والأرْضَ وما بَيْنَهُما في سِتَّةِ أيّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلى العَرْشِ الرَّحْمَنُ فاسْألْ بِهِ خَبِيرًا﴾ [الفرقان: ٥٨].
وَقَوْلِهِ تَعالى
﴿هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ والأرْضَ في سِتَّةِ أيّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلى العَرْشِ يَعْلَمُ ما يَلِجُ في الأرْضِ وما يَخْرُجُ مِنها وما يَنْزِلُ مِنَ السَّماءِ وما يَعْرُجُ فِيها وهو مَعَكم أيْنَ ما كُنْتُمْ واللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ﴾ [الحديد: ٤] فَذَكَرَ عُمُومَ عِلْمِهِ وعُمُومَ قُدْرَتِهِ وعُمُومَ إحاطَتِهِ وعُمُومَ رُؤْيَتِهِ.
وَقَوْلِهِ تَعالى:
﴿أأمِنتُمْ مَن في السَّماءِ أنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الأرْضَ فَإذا هي تَمُورُ أمْ أمِنتُمْ مَن في السَّماءِ أنْ يُرْسِلَ عَلَيْكم حاصِبًا فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ﴾ [الملك: ١٦] وقَوْلُهُ تَعالى:
﴿تَنْزِيلٌ مِن حَكِيمٍ حَمِيدٍ﴾ [فصلت: ٤٢]، وقَوْلِهِ تَعالى:
﴿تَنْزِيلُ الكِتابِ مِنَ اللَّهِ العَزِيزِ الحَكِيمِ﴾ [الزمر: ١]، وقَوْلِهِ تَعالى:
﴿وَقالَ فِرْعَوْنُ ياهامانُ ابْنِ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أبْلُغُ الأسْبابَ أسْبابَ السَّماواتِ فَأطَّلِعَ إلى إلَهِ مُوسى وإنِّي لَأظُنُّهُ كاذِبًا﴾ [غافر: ٣٦] الآيَةَ.
قالَ أبُو الحَسَنِ الأشْعَرِيُّ: وقَدِ احْتُجَّ بِهَذِهِ الآيَةِ عَلى الجَهْمِيَّةِ فَكَذَّبَ فِرْعَوْنُ مُوسى عَلَيْهِ السَّلامُ في قَوْلِهِ: إنَّ اللَّهَ " فَوْقَ " السَّماواتِ وسَيَأْتِي إنْ شاءَ اللَّهُ تَعالى حِكايَةُ كَلامِهِ بِحُرُوفِهِ.
[إثْباتُ اسْتِواءِ اللَّهِ عَلى عَرْشِهِ بِالسُّنَّةِ]
وَأمّا الأحادِيثُ فَمِنها قِصَّةُ المِعْراجِ وهي مُتَواتِرَةٌ
«وَتَجاوُزِ النَّبِيِّ ﷺ " السَّماواتِ " سَماءً سَماءً حَتّى انْتَهى إلى رَبِّهِ تَعالى فَقَرَّبَهُ وأدْناهُ وفَرَضَ عَلَيْهِ الصَّلَواتِ خَمْسِينَ صَلاةً فَلَمْ يَزَلْ يَتَرَدَّدُ بَيْنَ مُوسى عَلَيْهِ السَّلامُ وبَيْنَ رَبِّهِ تَبارَكَ وتَعالى، يَنْزِلُ مِن عِنْدِ رَبِّهِ إلى عِنْدِ مُوسى فَيَسْألُهُ كَمْ فَرَضَ عَلَيْهِ؟ فَيُخْبِرُهُ فَيَقُولُ: ارْجِعْ إلى رَبِّكَ فاسْألْهُ التَّخْفِيفَ فَيَصْعَدُ إلى رَبِّهِ " فَيَسْألُهُ التَّخْفِيفَ».
وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قالَ: قالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: (
«لَمّا خَلَقَ اللَّهُ الخَلْقَ كَتَبَ في كِتابِهِ فَهو عِنْدَهُ فَوْقَ العَرْشِ إنَّ رَحْمَتِي تَغْلِبُ غَضَبِي». وفي لَفْظٍ آخَرَ:
«كَتَبَ في كِتابِهِ عَلى نَفْسِهِ فَهو مَوْضُوعٌ عِنْدَهُ إنَّ رَحْمَتِي تَغْلِبُ غَضَبِي») وفي لَفْظٍ:
«وُضِعَ عِنْدَهُ عَلى العَرْشِ»، وفي لَفْظٍ:
«فَهُوَ مَكْتُوبٌ " عِنْدَهُ " فَوْقَ العَرْشِ». وهَذِهِ الألْفاظُ كُلُّها صِحاحٌ في صَحِيحِ البُخارِيِّ ومُسْلِمٍ، " وفي صَحِيحِ مُسْلِمٍ " عَنْ أبِي مُوسى الأشْعَرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قالَ:
«قامَ فِينا رَسُولُ اللَّهِ ﷺ بِخَمْسَ كَلِماتٍ فَقالَ: إنَّ اللَّهَ لا يَنامُ ولا يَنْبَغِي لَهُ أنْ يَنامَ يَخْفِضُ القِسْطَ ويَرْفَعُهُ، يُرْفَعُ إلَيْهِ عَمَلُ اللَّيْلِ قَبْلَ عَمَلِ النَّهارِ وعَمَلُ النَّهارِ قَبْلَ عَمَلِ اللَّيْلِ حِجابُهُ النُّورُ لَوْ كَشَفَهُ لَأحْرَقَتْ سُبُحاتُ وجْهِهِ ما انْتَهى إلَيْهِ بَصَرُهُ مِن خَلْقِهِ».
وَذَكَرَ البُخارِيُّ في كِتابِ التَّوْحِيدِ في صَحِيحِهِ حَدِيثَ أنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ حَدِيثَ الإسْراءِ،
«وَقالَ فِيهِ: ثُمَّ عَلا بِهِ - يَعْنِي جِبْرائِيلَ - فَوْقَ ذَلِكَ بِما لا يَعْلَمُهُ إلّا اللَّهُ حَتّى جاوَزَ سِدْرَةَ المُنْتَهى ودَنا الجَبّارُ رَبُّ العِزَّةِ فَتَدَلّى حَتّى كانَ مِنهُ قابَ قَوْسَيْنِ أوْ أدْنى فَأوْحى إلَيْهِ فِيما أوْحى إلَيْهِ خَمْسِينَ صَلاةً عَلى أُمَّتِكَ كُلَّ يَوْمٍ ولَيْلَةٍ، ثُمَّ هَبَطَ حَتّى بَلَغَ مُوسى فاحْتَبَسَهُ فَقالَ: يا مُحَمَّدُ ماذا عَهِدَ إلَيْكَ رَبُّكَ؟ قالَ: عَهِدَ إلَيَّ خَمْسِينَ صَلاةً " كُلَّ يَوْمٍ ولَيْلَةٍ " قالَ: إنَّ أُمَّتَكَ لا تَسْتَطِيعُ " ذَلِكَ " فارْجِعْ فَلْيُخَفِّفْ عَنْكَ رَبُّكَ وعَنْهُمْ، فالتَفَتَ النَّبِيُّ ﷺ إلى جِبْرائِيلَ كَأنَّهُ يَسْتَشِيرُهُ في ذَلِكَ فَأشارَ إلَيْهِ جِبْرائِيلُ أنْ نَعَمْ إنْ شِئْتَ، فَعَلا بِهِ إلى الجَبّارِ تَبارَكَ وتَعالى فَقالَ وهو مَكانُهُ: يا رَبِّ خَفِّفْ عَنّا. . . وذَكَرَ الحَدِيثَ».
وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنِ الأعْرَجِ عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أنَّ النَّبِيَّ ﷺ
«قالَ: يَتَعاقَبُونَ فِيكم مَلائِكَةٌ بِاللَّيْلِ ومَلائِكَةٌ بِالنَّهارِ ويَجْتَمِعُونَ في صَلاةِ العَصْرِ وصَلاةِ الفَجْرَ ثُمَّ يَعْرُجُ الَّذِينَ باتُوا فِيكم فَيَسْألُهم - وهو أعْلَمُ بِهِمْ - فَيَقُولُ: كَيْفَ تَرَكْتُمْ عِبادِي؟ فَيَقُولُونَ: تَرَكْناهم وهم يُصَلُّونَ وأتَيْناهم وهم يُصَلُّونَ» ". ولَمّا
«حَكَمَ سَعْدُ بْنُ مُعاذٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ في بَنِي قُرَيْظَةَ بِأنْ تُقْتَلَ مُقاتِلَتُهم وتُسْبى ذُرِّيَّتُهم وتُقَسَّمَ أمْوالُهُمْ، قالَ لَهُ النَّبِيُّ ﷺ: لَقَدْ حَكَمَتْ فِيهِمْ بِحُكْمِ اللَّهِ مِن فَوْقِ سَبْعَةِ أرْقِعَةٍ» وفي لَفْظٍ
«مِن فَوْقِ سَبْعِ سَماواتٍ».
وَأصْلُ القِصَّةِ في الصَّحِيحَيْنِ وهَذا السِّياقُ لِمُحَمَّدِ بْنِ إسْحاقَ في المَغازِي.
وَفِي الصَّحِيحَيْنِ مِن حَدِيثٍ أبِي سَعِيدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قالَ:
«بَعَثَ عَلِيُّ بْنُ أبِي طالِبٍ إلى النَّبِيِّ بِذُهَيْبَةٍ في أدِيمٍ مَقْرُوضٍ لَمْ تُحَصَّلْ مِن تُرابِها. قالَ: فَقَسَّمَها بَيْنَ أرْبَعَةٍ بَيْنَ - عُيَيْنَةَ بْنِ بَدْرٍ والأقْرَعِ بْنِ حابِسٍ وزَيْدٍ الخَيْرِ " والرّابِعُ: إمّا عَلْقَمَةُ بْنُ عُلاثَةَ، وإمّا عامِرُ بْنُ الطُّفَيْلِ "، قالَ رَجُلٌ مِن أصْحابِهِ: كُنّا نَحْنُ أحَقَّ بِهَذا مِن هَؤُلاءِ، قالَ: فَبَلَغَ ذَلِكَ النَّبِيَّ ﷺ فَقالَ: ألا تَأْمَنُونِي وأنا أمِينُ مَن في السَّماءِ يَأْتِينِي خَبَرُ السَّماءِ صَباحًا ومَساءً» ".
وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ مُعاوِيَةَ بْنِ الحَكَمِ السُّلَمِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ
«قالَ: لَطَمْتُ جارِيَةً لِي فَأخْبَرْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ فَعَظَّمَ ذَلِكَ عَلَيَّ، قَلَتْ يا رَسُولَ اللَّهِ أفَلا أعْتِقُها؟ قالَ: بَلى ائْتِنِي بِها قالَ: فَجِئْتُ بِها رَسُولَ اللَّهِ ﷺ فَقالَ لَها: أيْنَ اللَّهُ؟ قالَتْ: في السَّماءِ قالَ: فَمَن أنا؟ قالَتْ: أنْتَ رَسُولُ اللَّهِ، قالَ: " اعْتِقْها " فَإنَّها مُؤْمِنَةٌ».
وَفِي صَحِيحِ البُخارِيِّ عَنْ أنَسِ بْنِ مالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قالَ: كانَتْ زَيْنَبُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْها تَفْخَرُ عَلى أزْواجِ النَّبِيِّ ﷺ وتَقُولُ: زَوَّجَكُنَّ أهالِيكُنَّ وزَوَّجَنِي اللَّهُ مِن فَوْقِ سَبْعِ سَماواتٍ.
وَفِي سُنَنِ أبِي داوُدَ مِن حَدِيثِ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ قالَ:
«أتى رَسُولَ اللَّهِ ﷺ أعْرابِيٌّ فَقالَ: يا رَسُولَ اللَّهِ جَهِدَتِ الأنْفُسُ، وجاعَ العِيالُ، ونُهِكَتِ الأمْوالُ، وهَلَكَتِ الأنْعامُ، فاسْتَسْقِ اللَّهَ لَنا فَإنّا نَسْتَشْفِعُ بِكَ عَلى اللَّهِ ونَسْتَشْفِعُ بِاللَّهِ عَلَيْكَ، قالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: " ويْحَكَ! أتُدْرِي ما تَقُولُ؟ " وسَبَّحَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ فَما زالَ يُسَبِّحُ حَتّى عُرِفَ ذَلِكَ في وُجُوهِ أصْحابِهِ، ثُمَّ قالَ: " ويْحَكَ! إنَّهُ لا يُسْتَشْفَعُ بِاللَّهِ عَلى أحَدٍ مِن خَلْقِهِ، شَأْنُ اللَّهِ أعْظَمُ مِن ذَلِكَ، ويْحَكَ! أتُدْرِي ما اللَّهُ؟ إنَّ عَرْشَهُ عَلى سَماواتِهِ لَهَكَذا " وقالَ بِأصابِعِهِ مِثْلَ القُبَّةِ عَلَيْهِ " وإنَّهُ لَيَئِطُّ بِهِ أطِيطَ الرَّحْلِ بِالرّاكِبِ» ". وفي سُنَنِ أبِي داوُدَ أيْضًا ومُسْنَدِ الإمامِ أحْمَدَ مِن حَدِيثِ العَبّاسِ بْنِ عَبْدِ المُطَّلِبِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قالَ:
«كُنْتُ في البَطْحاءِ في عِصابَةٍ فِيهِمْ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ فَمَرَّتْ بِهِمْ سَحابَةٌ فَنَظَرَ إلَيْها فَقالَ: " ما تُسَمُّونَ هَذِهِ؟ " قالُوا: السَّحابُ قالَ: " والمُزْنُ " قالُوا: والمُزْنُ قالَ: " والعَنانُ " قالُوا: والعَنانُ قالَ: " هَلْ تَدْرُونَ كَمْ بُعْدُ ما بَيْنَ السَّماءِ والأرْضِ؟ " قالُوا: لا نَدْرِي قالَ: " إنَّ بُعْدَ ما بَيْنَهُما إمّا واحِدَةٌ أوِ اثْنَتانِ أوْ ثَلاثٌ وسَبْعُونَ سَنَةً ثُمَّ السَّماءُ فَوْقَها كَذَلِكَ " حَتّى عَدَّ سَبْعَ سَماواتٍ " ثُمَّ فَوْقَ السّابِعَةِ بَحْرٌ بَيْنَ أعْلاهُ وأسْفَلِهِ مِثْلَ ما بَيْنَ سَماءٍ إلى سَماءٍ ثُمَّ فَوْقَ ذَلِكَ ثَمانِيَةُ أوْعالَ بَيْنَ أظْلافِهِمْ ورُكَبِهِمْ مِثْلَ ما بَيْنَ سَماءٍ إلى سَماءٍ ثُمَّ عَلى ظُهُورِهِمُ العَرْشُ (بَيْنَ) أسْفَلِهِ وأعْلاهُ مِثْلُ ما بَيْنَ سَماءٍ إلى سَماءٍ ثُمَّ اللَّهُ عَزَّ وجَلَّ فَوْقَ ذَلِكَ» " زادَ أحْمَدُ:
«وَلَيْسَ يَخْفى عَلَيْهِ مِن أعْمالِ بَنِي آدَمَ شَيْءٌ».
وَفِي سُنَنِ أبِي داوُدَ أيْضًا عَنْ فَضالَةَ بْنِ عُبَيْدٍ عَنْ أبِي الدَّرْداءِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ يَقُولُ:
«مَنِ اشْتَكى مِنكم شَيْئًا أوِ اشْتَكاهُ أخٌ لَهُ فَلْيَقُلْ: رَبَّنا اللَّهُ الَّذِي في السَّماءِ تَقَدَّسَ اسْمُكَ، أمْرُكَ في السَّماءِ والأرْضِ، كَما رَحْمَتُكَ في السَّماءِ فاجْعَلْ رَحْمَتَكَ في الأرْضِ، واغْفِرْ لَنا حُوبَنا وخَطايانا، أنْتَ رَبُّ الطَّيِّبِينَ، أنْزِلْ رَحْمَةً مِن رَحْمَتِكَ وشِفاءً مِن شِفائِكَ عَلى " هَذا " الوَجَعِ فَيَبْرَأُ»، وفي مُسْنَدِ الإمامِ أحْمَدَ عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ
«أنَّ رَجُلًا أتى النَّبِيَّ ﷺ بِجارِيَةٍ سَوْداءَ أعْجَمِيَّةٍ فَقالَ: يا رَسُولَ اللَّهِ إنَّ عَلَيَّ رَقَبَةً مُؤْمِنَةً فَقالَ لَها رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: أيْنَ اللَّهُ؟ فَأشارَتْ بِإصْبَعِها السَّبّابَةِ إلى السَّماءِ فَقالَ لَها: مَن أنا؟ فَأشارَتْ بِإصْبَعِها إلى رَسُولِ اللَّهِ صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ وإلى السَّماءِ أيْ: أنْتَ رَسُولُ اللَّهِ فَقالَ: أعْتِقْها»)، وفي جامِعِ التِّرْمِذِيِّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ العاصِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ قالَ:
«الرّاحِمُونَ يَرْحَمُهُمُ الرَّحْمَنُ، ارْحَمُوا مَن في الأرْضِ يَرْحَمْكم مَن في السَّماءِ». قالَ التِّرْمِذِيُّ: حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ، وفِيهِ أيْضًا عَنْ عِمْرانَ بْنِ حُصَيْنٍ قالَ:
«قالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ لِأبِي: يا حُصَيْنُ كَمْ تَعْبُدُ اليَوْمَ إلَهًا؟ قالَ أبِي: سَبْعَةً، سِتَّةً في الأرْضِ وواحِدًا في السَّماءِ قالَ: فَأيُّهم تُعِدُّ لِرَغْبَتِكَ ورَهْبَتِكَ؟ قالَ الَّذِي في السَّماءِ قالَ: يا حُصَيْنُ أما أنَّكَ لَوْ أسْلَمْتَ عَلَّمْتُكَ كَلِمَتَيْنِ يَنْفَعانِكَ قالَ: فَلَمّا أسْلَمَ حَصِينٌ جاءَ فَقالَ: يا رَسُولُ اللَّهِ عَلِّمْنِي الكَلِمَتَيْنِ اللَّتَيْنِ وعَدْتَنِي قالَ: قُلِ اللَّهُمَّ ألْهِمْنِي رُشْدِي وأعِذْنِي مِن شَرِّ نَفْسِي».
وَفِي صَحِيحٍ مُسْلِمٍ عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أنَّ النَّبِيَّ صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ قالَ:
«والَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ ما مِن رَجُلٍ يَدْعُو امْرَأتَهُ إلى فِراشِهِ فَتَأْبى عَلَيْهِ إلّا كانَ الَّذِي في السَّماءِ ساخِطًا عَلَيْها حَتّى يَرْضى عَنْها» " ورَوى الشّافِعِيُّ في مُسْنَدِهِ مِن حَدِيثِ أنَسِ بْنِ مالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قالَ: "
«أتى جِبْرِيلُ وفي كَفِّهِ مِرْآةٌ بَيْضاءُ فِيها نُكْتَةٌ سَوْداءُ إلى النَّبِيِّ صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ فَقالَ النَّبِيُّ ﷺ ما هَذِهِ يا (جِبْرِيلُ)؟
قالَ: هَذِهِ الجُمْعَةُ فُضِّلْتَ بِها أنْتَ وأُمَّتُكَ فالنّاسُ لَكم فِيها تَبَعٌ اليَهُودُ والنَّصارى ولَكم فِيها خَيْرٌ وفِيها ساعَةٌ لا يُوافِقُها مُؤْمِنٌ يَدْعُو اللَّهَ بِخَيْرٍ إلّا اسْتُجِيبَ لَهُ وهي عِنْدُنا يَوْمُ المَزِيدِ، فَقالَ النَّبِيُّ صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ: يا جِبْرِيلُ وما يَوْمُ المَزِيدُ؟ قالَ: إنَّ رَبَّكَ اتَّخَذَ في الجَنَّةِ وادِيًا أفْيَحَ فِيهِ كُثُبٌ مِن مِسْكٍ فَإذا كانَ يَوْمُ الجُمْعَةِ أنْزَلَ اللَّهُ تَبارَكَ وتَعالى ما شاءَ مِن مَلائِكَتِهِ وحَوْلَهُ مَنابِرُ مِن نُورٍ عَلَيْها مَقاعِدُ النَّبِيِّينَ وحَفَّ تِلْكَ المَنابِرَ بِمَنابِرَ مِن ذَهَبٍ مُكَلَّلَةٍ بِالياقُوتِ والزَّبَرْجَدِ عَلَيْها الشُّهَداءُ والصِّدِّيقُونَ فَجَلَسُوا مِن ورائِهِمْ عَلى تِلْكَ الكُثُبِ فَيَقُولُ اللَّهُ عَزَّ وجَلَّ: أنا رَبُّكم وقَدْ صَدَقْتُكم وعْدِي فاسْألُونِي أُعْطِكم فَيَقُولُونَ: رَبَّنا نَسْألُكَ رِضْوانَكَ فَيَقُولُ: قَدْ رَضِيتُ عَنْكم ولَكم ما تَمَنَّيْتُمْ ولَدَيَّ مَزِيدٌ، فَهم يُحِبُّونَ يَوْمَ الجُمْعَةِ لِما يُعْطِيهِمْ فِيهِ رَبُّهم مِنَ الخَيْرِ وهو اليَوْمُ الَّذِي اسْتَوى فِيهِ رَبُّكَ سُبْحانَهُ وتَعالى عَلى العَرْشِ، وفِيهِ خُلِقَ آدَمُ، وفِيهِ تَقُومُ السّاعَةُ».
وَلِهَذا الحَدِيثِ عِدَّةُ طُرُقٍ جَمَعَها أبُو بَكْرِ بْنُ أبِي داوُدَ في جُزْءٍ، وفي سُنَنِ ابْنِ ماجَهْ مِن حَدِيثِ جابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما قالَ: قالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: "
«بَيْنا أهْلُ الجَنَّةِ في نَعِيمِهِمْ إذْ سَطَعَ لَهم نُورٌ فَرَفَعُوا رُءُوسَهم فَإذا الرَّبُّ تَعالى قَدْ أشْرَفَ عَلَيْهِمْ مِن فَوْقِهِمْ فَقالَ السَّلامَ عَلَيْكم يا أهْلَ الجَنَّةِ قالَ: وذَلِكَ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿سَلامٌ قَوْلًا مِن رَبٍّ رَحِيمٍ﴾ [يس: ٥٨]، قالَ فَيَنْظُرُ إلَيْهِمْ ويَنْظُرُونَ إلَيْهِ فَلا يَلْتَفِتُونَ إلى شَيْءٍ مِنَ النَّعِيمِ ما دامُوا يَنْظُرُونَ إلَيْهِ حَتّى يَحْتَجِبَ عَنْهم ويَبْقى نُورُهُ وبَرَكَتُهُ عَلَيْهِمْ في دِيارِهِمْ»، وفي الصَّحِيحَيْنِ مِن حَدِيثِ أبِي صالِحٍ عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قالَ: قالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ "
«مَن تَصَدَّقَ بِعَدْلِ تَمْرَةٍ مِن كَسْبٍ طَيِّبٍ ولا يَصْعَدُ إلى اللَّهِ إلّا الطَّيِّبُ فَإنَّ اللَّهَ يَتَقَبَّلُها بِيَمِينِهِ ثُمَّ يُرْبِيها لِصاحِبِها كَما يُرَبِّي أحَدُكم فَلُوَّهُ حَتّى تَكُونَ مِثْلَ الجَبَلِ» ".
وَفِي صَحِيحِ ابْنِ حِبّانَ عَنْ أبِي عُثْمانَ النَّهْدَيِّ عَنْ سَلْمانَ الفارِسِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ قالَ: (
«إنَّ رَبَّكم حَيِيٌّ كَرِيمٌ يَسْتَحِي مِن عَبْدِهِ إذا رَفَعَ إلَيْهِ يَدَيْهِ أنْ يَرُدَّهُما صِفْرًا لَيْسَ فِيهِما شَيْءٌ»)، ورَوى ابْنُ وهْبٍ قالَ: أخْبَرَنِي سَعِيدُ بْنُ أبِي أيُّوبَ عَنْ زَهْرَةَ بْنِ مَعْبَدٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما أخْبَرَهُ أنَّهُ سَمِعَ عُقْبَةَ بْنَ عامِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَقُولُ: قالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ: "
«مَن تَوَضَّأ فَأحْسَنَ وُضُوءَهُ ثُمَّ رَفَعَ نَظَرَهُ إلى السَّماءِ فَقالَ: أشْهَدُ أنْ لا إلَهَ إلّا اللَّهُ وحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ " وأشْهَدُ " أنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ ورَسُولُهُ فُتِحَتْ لَهُ ثَمانِيَةُ أبْوابِ الجَنَّةِ يَدْخُلُ مِن أيُّها شاءَ» " وفي حَدِيثِ الشَّفاعَةِ الطَّوِيلِ عَنْ أنَسِ بْنِ مالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ قالَ:
«فَأدْخُلُ عَلى رَبِّي تَبارَكَ وتَعالى وهو عَلى عَرْشِهِ» وذَكَرَ الحَدِيثَ، وفي بَعْضِ ألْفاظِ البُخارِيِّ في صَحِيحِهِ،
«فَأسْتَأْذِنُ عَلى رَبِّي في دارِهِ فَيُؤْذَنُ لِي عَلَيْهِ»، قالَ عَبْدُ الحَقِّ في الجَمْعِ بَيْنَ الصَّحِيحَيْنِ هَكَذا قالَ في دارِهِ في المَواضِعِ الثَّلاثِ يُرِيدُ مَواضِعَ الشَّفاعاتِ الثَّلاثِ الَّتِي يَسْجُدُ فِيها ثُمَّ يَرْفَعُ رَأْسَهُ، ورَوى يَحْيى بْنُ سَعِيدٍ الأُمَوِيُّ في مَغازِيهِ مِن طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ إسْحاقَ قالَ:
«خَرَجَ عَبْدٌ أسْوَدُ لِبَعْضِ أهْلِ خَيْبَرَ حَتّى جاءَ رَسُولَ اللَّهِ صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ فَقالَ: مَن هَذا؟ قالُوا: رَسُولُ اللَّهِ صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ قالَ: الَّذِي في السَّماءِ؟ قالُوا: نَعَمْ. قالَ: أنْتَ رَسُولُ اللَّهِ؟ قالَ: نَعَمْ، قالَ الَّذِي في السَّماءِ؟ قالَ: نَعَمْ. فَأمَرَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ بِالشَّهادَةِ فَتَشَهَّدَ فَقاتَلَ حَتّى اسْتُشْهِدَ» ورَوى عَدِيُّ بْنُ عَمِيرَةَ الكِنْدِيُّ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ حَدَّثَ عَنْ رَبِّهِ عَزَّ وجَلَّ فَقالَ: "
«وَعِزَّتِي وجَلالِي وارْتِفاعِي فَوْقَ عَرْشِي ما مِن أهْلِ قَرْيَةٍ ولا بَيْتٍ ولا رَجُلٍ بِبادِيَةٍ كانُوا عَلى ما كَرِهْتُ مِن مَعْصِيَتِي فَتَحَوَّلُوا عَنْها إلى ما أحْبَبْتُ مِن طاعَتِي إلّا تَحَوَّلْتُ لَهم عَمّا يَكْرَهُونَ مِن عَذابِي إلى ما يُحِبُّونَ مِن رَحْمَتِي»، رَواهُ ابْنُ أبِي شَيْبَةَ في كِتابِ العَرْشِ، وأبُو أحْمَدَ العَسّالُ في كِتابِ المَعْرِفَةِ. وصَحَّ عَنْهُ عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بِإسْنادِ مُسْلِمٍ قالَ: قالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ "
«إنَّ لِلَّهِ مَلائِكَةً سَيّارَةً " فَضَلًا " يَتَّبِعُونَ مَجالِسَ الذِّكْرِ فَإذا وجَدُوا مَجْلِسَ ذِكْرٍ جَلَسُوا مَعَهم فَإذا تَفَرَّقُوا صَعَدُوا إلى رَبِّهِمْ» " وأصْلُ الحَدِيثِ في صَحِيحِ مُسْلِمٍ، ولَفْظُهُ:
«فَإذا تَفَرَّقُوا صَعَدُوا إلى السَّماءِ. فَيَسْألُهُمُ اللَّهُ عَزَّ وجَلَّ وهو أعْلَمُ بِهِمْ مِن " أيْنَ " جِئْتُمْ؟ الحَدِيثَ». . . وذَكَرَ الدّارَقُطْنِيُّ في كِتابِ نُزُولِ الرَّبِّ عَزَّ وجَلَّ كُلَّ لَيْلَةٍ إلى سَماءِ الدُّنْيا مِن حَدِيثِ عُبادَةَ بْنِ الصّامِتِ قالَ: قالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ، "
«يَنْزِلُ اللَّهُ كُلَّ لَيْلَةٍ إلى سَماءِ الدُّنْيا حِينَ يَبْقى ثُلْثُ اللَّيْلِ الآخِرُ فَيَقُولُ: ألا عَبْدٌ مِن عِبادِي يَدْعُونِي فَأسْتَجِيبَ لَهُ؟ ألا ظالِمٌ لِنَفْسِهِ يَدْعُونِي فَأفُكَّهُ؟ فَيَكُونُ كَذَلِكَ إلى مَطْلَعِ الصُّبْحِ ويَعْلُو عَلى كُرْسِيِّهِ». وعَنْ جابِرِ بْنِ سُلَيْمٍ قالَ:
«سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ يَقُولُ: إنَّ رَجُلًا مِمَّنْ كانَ قَبْلُكم لَبِسَ بُرْدَيْنِ لَهُ فَتَبَخْتَرَ فِيهِما فَنَظَرَ اللَّهُ إلَيْهِ مِن فَوْقِ عَرْشِهِ فَمَقَتَهُ فَأمَرَ الأرْضَ فَأخَذَتْهُ فَهو يَتَجَلْجَلُ فِيها» " رَواهُ الدّارِمِيُّ عَنْ سَهْلِ بْنِ بَكّارٍ أحَدِ شُيُوخِ البُخارِيِّ، ولَهُ شاهِدٌ في صَحِيحِ البُخارِيِّ مِن حَدِيثِ أبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وعَنْ عِمْرانَ بْنِ حُصَيْنٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما قالَ:
«قالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ: اقْبَلُوا البُشْرى يا بَنِي تَمِيمٍ قالُوا قَدْ بَشَّرَتْنا فَأعْطِنا، فَدَخَلَ ناسٌ مِن أهْلِ اليَمَنِ، فَقالَ اقْبَلُوا البُشْرى يا أهْلَ اليَمَنِ إذْ لَمْ يَقْبَلْها بَنُو تَمِيمٍ قالُوا: قَبِلْنا جِئْناكَ لِنَتَفَقَّهَ في الدِّينِ ولِنَسْألَكَ عَنْ أوَّلِ هَذا الأمْرِ ما كانَ؟ فَقالَ: كانَ اللَّهُ عَزَّ وجَلَّ عَلى العَرْشِ وكانَ قَبْلَ كُلِّ شَيْءٍ وكَتَبَ في اللَّوْحِ المَحْفُوظِ كُلَّ شَيْءٍ يَكُونُ») حَدِيثٌ صَحِيحٌ أصْلُهُ في صَحِيحِ البُخارِيِّ، ورَوى الخَلّالُ في كِتابِ السُّنَّةِ بِإسْنادٍ صَحِيحٍ عَلى شَرْطِ البُخارِيِّ عَنْ قَتادَةَ بْنِ النُّعْمانِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ يَقُولُ: "
«لَمّا فَرَغَ اللَّهُ مِن خَلْقِهِ اسْتَوى عَلى عَرْشِهِ» " وفي قِصَّةِ وفاةِ النَّبِيِّ ﷺ مِن حَدِيثِ جابِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ
«أنَّ النَّبِيَّ صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ قالَ لِعَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: " إذا أنا مِتُّ فَغَسِّلْنِي أنْتَ وابْنُ عَبّاسٍ يَصُبُّ الماءَ وجِبْرائِيلُ ثالِثُكُما وكَفِّنِّي في ثَلاثَةِ أثْوابٍ (بِيضٍ) جُدُدٍ وضَعُونِي في المَسْجِدِ فَإنَّ أوَّلَ مَن يُصَلِّي عَلَيَّ الرَّبُّ عَزَّ وجَلَّ مِن فَوْقِ عَرْشِهِ» " وقَدْ رُوِيَ في حَدِيثِ خِطْبَةِ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لِفاطِمَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْها
«أنَّ النَّبِيَّ صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ لَمّا اسْتَأْذَنَها قالَتْ: يا أبَتِ كَأنَّكَ إنَّما ادَّخَرْتَنِي لِفَقِيرِ قُرَيْشٍ، فَقالَ: والَّذِي بَعَثَنِي بِالحَقِّ (نَبِيًّا) ما تَكَلَّمْتُ بِهَذا حَتّى أذِنَ اللَّهُ فِيهِ مِنَ السَّماءِ فَقالَتْ: رَضِيتُ بِما رَضِيَ اللَّهُ لِي»، وفي مُسْنَدِ الإمامِ أحْمَدَ مِن حَدِيثِ ابْنِ عَبّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما قِصَّةُ الشَّفاعَةِ الحَدِيثُ بِطُولِهِ مَرْفُوعًا، وفِيهِ:
«فَآتِي رَبِّي عَزَّ وجَلَّ فَأجِدُهُ عَلى كُرْسِيِّهِ أوْ سَرِيرِهِ جالِسًا». وعَنْ أنَسِ بْنِ مالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قالَ: حَدَّثَنا رَسُولُ اللَّهِ صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ
«قالَ: " يَأْتُونِي فَأمْشِي بَيْنَ أيْدِيهِمْ حَتّى آتِيَ بابَ الجَنَّةِ ولِلْجَنَّةِ مِصْراعانِ مِن ذَهَبٍ مَسِيرَةَ ما بَيْنَهُما خَمْسِمِائَةِ عامٍ قالَ مَعْبَدٌ: فَكَأنِّي أنْظُرُ إلى أصابِعِ أنَسٍ حِينَ فَتَحَها، يَقُولُ مَسِيرَةَ ما بَيْنَهُما خَمْسِمِائَةِ عامٍ فاسْتَفْتَحَ فَيُؤْذَنُ لِي فَأدْخُلُ عَلى رَبِّي فَأجِدُهُ قاعِدًا عَلى كُرْسِيِّ العِزَّةِ فَأخِرُّ لَهُ ساجِدًا»، رَواهُ خُشَيْشُ بْنُ أصْرَمَ النَّسائِيُّ في كِتابِ السُّنَّةِ لَهُ، وذَكَرَ عَبْدُ الرَّزّاقِ عَنْ مَعْمَرٍ عَنِ ابْنِ المُسَيَّبِ عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ
«عَنِ النَّبِيِّ صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ قالَ: إنَّ اللَّهَ عَزَّ وجَلَّ يَنْزِلُ إلى سَماءِ الدُّنْيا ولَهُ في كُلِّ سَماءٍ كُرْسِيٌّ فَإذا نَزَلَ إلى سَماءِ الدُّنْيا جَلَسَ عَلى كُرْسِيِّهِ ثُمَّ يَقُولُ: مَن ذا الَّذِي يُقْرِضُ غَيْرَ عَدِيمٍ ولا ظَلُومٍ؟ مَن ذا الَّذِي يَسْتَغْفِرُنِي فَأغْفِرُ لَهُ؟ مَن ذا الَّذِي يَتُوبُ فَأتُوبُ عَلَيْهِ؟ فَإذا كانَ عِنْدَ الصُّبْحِ ارْتَفَعَ فَجَلَسَ عَلى كُرْسِيِّهِ»، رَواهُ أبُو عَبْدِ اللَّهِ بْنُ مَندَهْ ورُوِيَ عَنْ سَعِيدٍ مُرْسَلًا ومَوْصُولًا، قالَ الشّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعالى مُرْسَلُ سَعِيدٍ عِنْدَنا حَسَنٌ وعَنْ أنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قالَ: قالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ: "
«إذا جَمَعَ اللَّهُ الخَلائِقَ حاسَبَهم فَيَمِيزُ بَيْنَ أهْلِ الجَنَّةِ وأهْلِ النّارِ وهو في جَنَّتِهِ عَلى عَرْشِهِ»، قالَ مُحَمَّدُ بْنُ عُثْمانَ الحافِظُ هَذا حَدِيثٌ صَحِيحٌ وعَنْ جابِرِ بْنِ سُلَيْمٍ قالَ
«سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ يَقُولُ إنَّ رَجُلًا مِمَّنْ كانَ قَبْلَكم لَبِسَ بُرْدَيْنِ فَتَبَخْتَرَ فَنَظَرَ اللَّهُ إلَيْهِ مِن فَوْقِ عَرْشِهِ فَمَقَتَهُ فَأمَرَ الأرْضَ فَأخَذَتْهُ» " حَدِيثٌ صَحِيحٌ ورَوى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ بَكْرٍ السَّهْمِيُّ، حَدَّثَنا يَزِيدُ بْنُ عَوانَةَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ ذَكْوانَ عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينارٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما قالَ:
«كُنّا جُلُوسًا ذاتَ يَوْمٍ بِفَناءِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ إذْ مَرَّتْ بِنا امْرَأةٌ مِن بَناتِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ فَقالَ رَجُلٌ مِنَ القَوْمِ هَذِهِ ابْنَةُ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ فَقالَ أبُو سُفْيانَ ما مَثَلُ مُحَمَّدٍ في بَنِي هاشِمٍ إلّا كَمَثَلِ رَيْحانَةٍ في وسَطِ الذَّبْلِ فَسَمِعَتْهُ تِلْكَ المَرْأةُ فَأبْلَغَتْهُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ فَخَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ أحْسَبُهُ قالَ مُغْضَبًا فَصَعِدَ عَلى مِنبَرِهِ وقالَ: " ما بالُ أقْوالٍ تَبْلُغُنِي عَنْ أقْوامٍ أنَّ اللَّهَ خَلَقَ سَماواتِهِ سَبْعًا فاخْتارَ العُلْيا فَسَكَنَها وأسْكَنَ سَماواتِهِ مَن شاءَ مِن خَلْقِهِ وخَلَقَ أرَضِينَ سَبْعًا فاخْتارَ العُلْيا فَأسْكَنَ فِيها مِن خَلْقِهِ واخْتارَ خَلْقَهُ فاخْتارَ بَنِي آدَمَ ثُمَّ اخْتارَ بَنِي آدَمَ فاخْتارَ العَرَبَ ثُمَّ اخْتارَ مُضَرَ فاخْتارَ قُرَيْشًا، ثُمَّ اخْتارَ قُرَيْشًا فاخْتارَ بَنِي هاشِمٍ ثُمَّ اخْتارَ بَنِي هاشِمٍ فاخْتارَنِي مِن بَنِي هاشِمٍ فَلَمْ أزَلْ خِيارًا، ألا مَن أحَبَّ قُرَيْشًا فَبِحُبِّي أحَبَّهم ومَن أبْغَضَ قُرَيْشًا فَبِبُغْضِي أبْغَضَهُمْ» ورَوى الإمامُ أحْمَدُ في مُسْنَدِهِ مِن حَدِيثِ ابْنِ أبِي ذِئْبٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرِو عَنْ عَطاءٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ يَسارٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ أبِي (هُرَيْرَةَ) رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قالَ:
«إنَّ المَيِّتَ تَحْضُرُهُ المَلائِكَةُ فَإذا كانَ الرَّجُلُ الصّالِحُ قالُوا: اخْرُجِي أيَّتُها النَّفْسُ الطَّيِّبَةُ كانَتْ في الجَسَدِ الطَّيِّبِ اخْرُجِي حَمِيدَةً وأبْشِرِي بِرَوْحٍ ورَيْحانٍ ورَبٍّ غَيْرِ غَضْبانَ فَلا يَزالُ يُقالُ لَها ذَلِكَ حَتّى يَنْتَهِيَ بِها إلى السَّماءِ الَّتِي فِيها اللَّهُ تَعالى وإذا كانَ الرَّجُلُ السُّوءُ قالُوا: اخْرُجِي أيَّتُها النَّفْسُ الخَبِيثَةُ كانَتْ في الجَسَدِ الخَبِيثِ اخْرُجِي ذَمِيمَةً وأبْشِرِي بِحَمِيمٍ وغَسّاقٍ وآخَرَ مِن شَكْلِهِ أزْواجٌ فَلا يَزالُ يُقالُ لَها ذَلِكَ حَتّى تَخْرُجَ ثُمَّ يُعْرَجُ بِها إلى السَّماءِ، فَيُسْتَفْتَحُ لَها فَيُقالُ مَن هَذا؟ فَيُقالُ فُلانٌ فَيُقالُ: لا مَرْحَبًا بِالنَّفْسِ الخَبِيثَةِ كانَتْ في الجَسَدِ الخَبِيثِ ارْجِعِي ذَمِيمَةً فَإنَّهُ لا يُفْتَحُ لَكِ أبْوابُ السَّماءِ فَتُرْسَلُ مِنَ السَّماءِ ثُمَّ تَصِيرُ إلى القَبْرِ. . .»وَرَوى الإمامُ أحْمَدُ أيْضًا في مُسْنَدِهِ مِن حَدِيثِ البَراءِ بْنِ عازِبٍ قالَ
«خَرَجْنا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ في جِنازَةِ رَجُلٍ مِنَ الأنْصارِ فانْتَهَيْنا إلى القَبْرِ ولَمْ يُلْحَدْ فَجَلَسَ رَسُولُ اللَّهِ صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ وجَلَسْنا حَوْلَهُ كَأنَّ عَلى رُءُوسِنا الطَّيْرَ وفي يَدِهِ عُودٌ يَنْكُتُ بِهِ في الأرْضِ فَرَفَعَ رَأْسَهُ فَقالَ اسْتَعِيذُوا بِاللَّهِ مِن عَذابِ القَبْرِ مَرَّتَيْنِ أوْ ثَلاثًا ثُمَّ قالَ إنَّ العَبْدَ المُؤْمِنَ إذا كانَ في انْقِطاعٍ مِنَ الدُّنْيا وإقْبالٍ مِنَ الآخِرَةِ نَزَلَ إلَيْهِ مَلائِكَةٌ مِنَ السَّماءِ بِيضُ الوُجُوهِ كَأنَّ وُجُوهَهُمُ الشَّمْسُ مَعَهم كَفَنٌ مِن أكْفانِ الجَنَّةِ وحَنُوطٌ مِن حَنُوطِ الجَنَّةِ حَتّى يَجْلِسُوا مِنهُ مَدَّ البَصَرِ ثُمَّ يَجِيءُ مَلَكُ المَوْتِ حَتّى يَجْلِسَ عِنْدَ رَأْسِهِ فَيَقُولُ: أيَّتُها النَّفْسُ الطَّيِّبَةُ اخْرُجِي إلى مَغْفِرَةٍ مِنَ اللَّهِ ورِضْوانٍ قالَ: فَتَخْرُجُ فَتَسِيلُ كَما تَسِيلُ القَطْرَةُ مِن فِيِّ السِّقاءِ فَيَأْخُذُها فَإذا أخَذَها لَمْ يَدْعُوها في يَدِهِ طَرْفَةَ عَيْنٍ حَتّى يَأْخُذُوها فَيَجْعَلُوها في ذَلِكَ الكَفَنِ وفي ذَلِكَ الحَنُوطِ ويَخْرُجُ مِنها كَأطْيَبِ نَفْحَةِ مِسْكٍ وُجِدَتْ عَلى وجْهِ الأرْضِ قالَ فَيَصْعَدُونَ بِها فَلا يَمُرُّونَ بِها عَلى مَلَأٍ مِنَ المَلائِكَةِ إلّا قالُوا ما هَذِهِ الرُّوحِ الطَّيِّبَةِ؟ فَيَقُولُونَ: فُلانٌ ابْنُ فُلانٍ بِأحْسَنِ أسْمائِهِ الَّتِي كانُوا يُسَمُّونَهُ بِها في الدُّنْيا حَتّى يَنْتَهُوا إلى سَماءِ الدُّنْيا فَيَسْتَفْتِحُونَ لَهُ فَيُشَيِّعُهُ مِن كُلِّ سَماءٍ مُقَرَّبُوها إلى السَّماءِ الَّتِي تَلِيها حَتّى يُنْتَهى بِها إلى السَّماءِ السّابِعَةِ فَيَقُولُ اللَّهُ تَعالى (اكْتُبُوا كِتابَ عَبْدِي في عِلِّيِّينَ وأعِيدُوهُ إلى الأرْضِ فَإنِّي مِنها خَلَقْتُهم وفِيها أُعِيدُهم ومِنها أُخْرِجُهم تارَةً أُخْرى، قالَ فَتُعادُ رُوحُهُ في جَسَدِهِ فَيَأْتِيهِ مَلَكانِ فَيُجْلِسانِهِ فَيَقُولانِ لَهُ: مَن رَبُّكَ؟ فَيَقُولُ: رَبِّيَ اللَّهُ، فَيَقُولانِ لَهُ: ما دِينُكَ؟ فَيَقُولُ: دِينَيَ الإسْلامُ، فَيَقُولانِ لَهُ: ما هَذا الرَّجُلُ الَّذِي بُعِثَ فِيكُمْ؟ فَيَقُولُ: هو رَسُولُ اللَّهِ فَيَقُولانِ " لَهُ ": وما عِلْمُكَ؟ فَيَقُولُ: قَرَأْتُ كِتابَ اللَّهِ فَآمَنتُ بِهِ وصَدَّقْتُ فَيُنادِي مُنادٍ مِنَ السَّماءِ أنْ صَدَقَ عَبْدِي فافْرِشُوهُ مِنَ الجَنَّةِ وألْبِسُوهُ مِنَ الجَنَّةِ وافْتَحُوا لَهُ بابًا إلى الجَنَّةِ، قالَ: فَيَأْتِيهِ مِن رُوحِها وطِيبِها ويُفْسِحُ لَهُ في قَبْرِهِ مُدَّ بَصَرِهِ، قالَ: ويَأْتِيهِ رَجُلٌ حَسَنُ الوَجْهِ، حَسَنُ الثِّيابِ طَيِّبُ الرِّيحِ فَيَقُولُ: أبْشِرْ بِالَّذِي يَسُرُّكَ فَهَذا يَوْمُكَ الَّذِي كُنْتَ تُوْعَدُ فَيَقُولُ لَهُ: مَن أنْتَ؟ فَوَجَهُكَ وجْهُ الَّذِي يَأْتِي بِالخَيْرِ، فَيَقُولُ: أنا عَمَلُكَ الصّالِحُ فَيَقُولُ: رَبِّ أقِمِ السّاعَةَ، رَبِّ أقِمِ السّاعَةَ، حَتّى أرْجِعَ إلى أهْلِي ومالِي». .)
وَذَكَرَ الحَدِيثَ وهو صَحِيحٌ صَحَّحَهُ جَماعَةٌ مِنَ الحُفّاظِ.
وَقالَ عُثْمانُ بْنُ سَعِيدٍ الدّارِمِيُّ الإمامُ الحافِظُ أحَدُ أئِمَّةِ الإسْلامِ: حَدَّثَنا مُوسى بْنُ إسْماعِيلَ حَدَّثَنا حَمّادٌ وهو ابْنُ سَلَمَةَ حَدَّثَنا عَطاءُ بْنُ السّائِبِ عَنِ السّائِبِ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما أنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ قالَ:
«لَمّا أُسْرِيَ بِي مَرَرْتُ بِرائِحَةٍ طَيِّبَةٍ فَقُلْتُ يا جِبْرائِيلُ ما هَذِهِ الرّائِحَةُ الطَّيِّبَةُ قالَ هَذِهِ رائِحَةُ ماشِطَةِ ابْنَةِ فِرْعَوْنَ وأوْلادِها كانَتْ تُمَشِّطُها فَوَقَعَ المُشْطُ مِن يَدِها فَقالَتْ: بِسْمِ اللَّهِ تَعالى فَقالَتِ ابْنَتُهُ أبِي؟ قالَتْ: لا، ولَكِنْ رَبِّي ورَبُّ أبِيكِ اللَّهُ، فَقالَتْ: أُخْبِرُ ذَلِكَ أبِي " قالَتْ: نَعَمْ "، فَأخْبَرَتْهُ فَدَعا بِها فَقالَ: مَن رَبُّكِ هَلْ لَكِ رَبٌّ غَيْرِي قالَتْ رَبِّي ورَبُّكَ اللَّهُ الَّذِي في السَّماءِ فَأمَرَ بِنَقْرَةٍ مِن نُحاسٍ فَأُحْمِيَتْ ثُمَّ دَعا بِها وبِوَلَدِها فَألْقاهُما فِيها» وساقَ الحَدِيثَ بِطُولِهِ، وعَنْ أبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قالَ: قالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ: "
«كانَ مَلَكُ المَوْتِ يَأْتِي النّاسَ " عِيانًا " فَأتى مُوسى فَلَطَمَهُ فَذَهَبَ بِعَيْنِهِ فَعَرَجَ إلى رَبِّهِ فَقالَ: بَعَثْتَنِي إلى مُوسى فَلَطَمَنِي فَذَهَبَ بِعَيْنِي، ولَوْلا كَرامَتُهُ عَلَيْكَ لَشَقَقْتُ عَلَيْهِ. قالَ: ارْجِعْ إلى عَبْدِي فَقُلْ لَهُ. . فَلْيَضَعْ يَدَهُ عَلى مَتْنِ ثَوْرٍ فَلَهُ بِكُلِّ شَعْرَةٍ تَوارَتْ بِيَدِهِ سَنَةٌ يَعِيشُها فَأتى فَبَلَّغَهُ ما أمَرَهُ بِهِ، فَقالَ: ما بَعْدَ ذَلِكَ؟ قالَ: المَوْتُ، قالَ: الآنَ، فَشَمَّهُ شَمَّةً قَبَضَ رَوْحَهُ فِيها ورَدَّ اللَّهُ عَلى مَلَكِ المَوْتِ بَصَرَهُ». هَذا حَدِيثٌ صَحِيحٌ أصْلُهُ وشاهِدُهُ في الصَّحِيحَيْنِ، وقالَ أيْضًا: حَدَّثَنا ابْنُ هِشامٍ الرِّفاعِيُّ حَدَّثَنا إسْحاقُ بْنُ سُلَيْمانَ حَدَّثَنا أبُو جَعْفَرٍ الرّازِيُّ عَنْ عاصِمِ ابْنِ بَهْدَلَةَ عَنْ أبِي صالِحٍ عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قالَ: قالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ
«لَمّا أُلْقِيَ إبْراهِيمُ في النّارِ قالَ: اللَّهُمَّ إنَّكَ في السَّماءِ أحَدٌ وأنا في الأرْضِ واحِدٌ أعْبُدُكَ»، وعَنِ ابْنِ عَبّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما يَرْفَعُهُ
«عَجِبْتُ مِن مَلَكَيْنِ نَزَلا يَلْتَمِسانِ عَبْدًا في مُصَلّاهُ كانَ يُصَلِّي فِيهِ فَلَمْ يَجِداهُ فَعَرَجا إلى اللَّهِ فَقالا: يا رَبَّنا عَبْدُكَ فُلانٌ كُنّا نَكْتُبُ لَهُ مِنَ العَمَلِ فَوَجَدْناهُ قَدْ حَبَسْتَهُ في حِبالِكَ فَقالَ: اكْتُبُوا لِعَبْدِي عَمَلَهُ الَّذِي كانَ يَعْمَلُ» رَواهُ ابْنُ أبِي الدُّنْيا ولَهُ شاهِدٌ في البُخارِيِّ، وفي حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أنِيسٍ الأنْصارِيِّ الَّذِي رَحَلَ إلى جابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مِنَ المَدِينَةِ إلى مِصْرَ حَتّى سَمِعَهُ مِنهُ، وقالَ لَهُ: بَلَغَنِي أنَّكَ تُحَدِّثُ بِحَدِيثٍ في القَصاصِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ لَمْ أشْهَدْهُ ولَيْسَ أحَدٌ أحْفَظُ لَهُ مِنكَ، فَقالَ: نَعَمْ
«سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ يَقُولُ: إنَّ اللَّهَ يَبْعَثُكم يَوْمَ القِيامَةِ حُفاةً عُراةً غُرْلًا بُهْمًا ثُمَّ يَجْمَعُكم ثُمَّ يُنادِي - وهو قائِمٌ عَلى عَرْشِهِ» - وذَكَرَ الحَدِيثَ احْتَجَّ بِهِ أئِمَّةُ أهْلِ السُّنَّةِ أحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ وغَيْرُهُ، ورَوى الحارِثُ بْنُ أبِي أُسامَةَ في مُسْنَدِهِ مِن حَدِيثِ عُبادَةَ بْنِ نُسَيٍّ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ غَنْمٍ عَنْ مُعاذِ بْنِ جَبَلٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ قالَ:
«إنَّ اللَّهَ لَيَكْرَهَ في السَّماءِ أنْ يُخَطَّأ أبُو بَكْرٍ في الأرْضِ». ولا تَعارُضَ بَيْنَ هَذا الحَدِيثِ وبَيْنَ قَوْلِ النَّبِيِّ صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ في حَدِيثِ الرُّؤْيا:
«أصَبْتَ بَعْضًا وأخْطَأْتَ بَعْضًا». لِوَجْهَيْنِ: أحَدُهُما أنَّ اللَّهَ سُبْحانَهُ وتَعالى يَكْرَهُ تَخْطِئَةَ غَيْرِهِ مِن آحادِ الأُمَّةِ لَهُ لا تَخْطِئَةَ الرَّسُولِ ﷺ لَهُ في أمْرٍ ما، فَإنَّ الحَقَّ والصَّوابَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ قَطَعا بِخِلافِ غَيْرِهِ مِنَ الأُمَّةِ فَإنَّهُ إذا أخْطَأ الصِّدِّيقُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لَمْ يَتَحَقَّقْ أنَّ الصَّوابَ مَعَهُ بَلْ ما تَنازَعَ الصِّدِّيقُ وغَيْرُهُ في أمْرٍ ما إلّا وكانَ الصَّوابُ مَعَ الصِّدِّيقِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ.
الثّانِي: أنَّ التَّخْطِئَةَ هُنا نِسْبَةٌ إلى الخَطَأِ (العَمْدِ) الَّذِي هو الإثْمُ، كَقَوْلِهِ تَعالى:
﴿إنَّ قَتْلَهم كانَ خِطْئًا كَبِيرًا﴾ [الإسراء: ٣١]، لا مِنَ الخَطَأِ الَّذِي هو ضِدُّ العِلْمِ والتَّعَمُّدُ واللَّهُ أعْلَمُ.
وَرَوى أبُو نُعَيْمٍ مِن حَدِيثِ شُعْبَةَ عَنِ الحَكَمِ عَنْ مُجاهِدٍ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما، قالَ: قالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ
«إنَّ العَبْدَ لَيُشْرِفُ عَلى حاجَةٍ مِن حاجاتِ الدُّنْيا فَيَذْكُرُهُ اللَّهُ مِن فَوْقِ سَبْعِ سَماواتٍ فَيَقُولُ: مَلائِكَتِي إنَّ عَبْدِي هَذا قَدْ أشْرَفَ عَلى حاجَةٍ مِن حاجاتِ الدُّنْيا فَإنْ فَتَحْتُها لَهُ فَتَحْتُ لَهُ بابًا مِن أبْوابِ النّارِ ولَكِنِ ازْوُوها عَنْهُ، فَيُصْبِحُ العَبْدُ عاضًّا عَلى أنامِلِهِ يَقُولُ: مَن سَبَقَنِي مَن دَهانِي؟ وما هي إلّا رَحْمَةٌ رَحِمَهُ اللَّهُ بِها»، وفي مُسْنَدِ الإمامِ أحْمَدَ مِن حَدِيثِ أُسامَةَ بْنِ زَيْدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما،
«قالَ: قُلْتُ يا رَسُولَ اللَّهِ ما أرَكَ تَصُومُ مِن شَهْرٍ مِنَ الشُّهُورِ ما تَصُومُ مِن شَعْبانَ؟ قالَ: ذاكَ شَهْرٌ يَغْفُلُ النّاسُ عَنْهُ بَيْنَ رَجَبٍ ورَمَضانَ وهو شَهْرٌ تُرْفَعُ فِيهِ الأعْمالُ إلى رَبِّ العالَمِينَ عَزَّ وجَلَّ فَأُحِبُّ أنْ يُرْفَعَ عَمَلِي وأنا صائِمٌ». وفي الثَّقَفِيّاتِ مِن حَدِيثِ جابِرِ بْنِ سُلَيْمٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ
«أنَّ رَجُلًا مِمَّنْ كانَ قَبْلُكم لَبِسَ بُرْدَيْنِ فَتَبَخْتَرَ فِيهِما فَنَظَرَ اللَّهُ إلَيْهِ مِن فَوْقِ عَرْشِهِ فَمَقَتَهُ فَأمَرَ الأرْضَ فَأخَذَتْهُ فَهو يَتَجَلْجَلُ» (فِي الأرْضِ) فاحْذَرُوا مَعاصِيَ اللَّهِ وأصْلُهُ في الصَّحِيحِ.
وَقالَ أبُو بَكْرِ بْنُ أبِي شَيْبَةَ حَدَّثَنا عَبْدَةُ بْنُ سُلَيْمانَ عَنْ أبِي حَيّانَ عَنْ حَبِيبِ بْنِ أبِي ثابِتٍ أنَّ حَسّانَ بْنَ ثابِتٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أنْشَدَ النَّبِيَّ صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ:
شَهِدْتُ بِإذْنِ اللَّهِ أنَّ مُحَمَّدًا ∗∗∗ رَسُولُ الَّذِي فَوْقَ السَّماواتِ مِن عَلِ
وَإنَّ أبا يَحْيى ويَحْيى كِلاهُما ∗∗∗ لَهُ عَمَلٌ في دِينِهِ مُتَقَبَّلُ
وَإنَّ أخا الأحْقافِ إذْ يَعُذْ لَوْنُهُ ∗∗∗ يُجاهِدُ في ذاتِ الإلَهِ ويَعْدِلُ
وَقالَ شَيْخُ الإسْلامِ: أخْبَرَنا عَلِيُّ بْنُ بِشْرٍ أخْبَرَنا ابْنُ مَندَهْ أخْبَرَنا خَيْثَمَةُ بْنُ سُلَيْمانَ حَدَّثَنا السَّرِيُّ " بْنُ يَحْيى حَدَّثَنا هَنّادُ بُنْ السَّرِيِّ " حَدَّثَنا أبُو بَكْرِ بْنُ عَيّاشٍ عَنْ أبِي سَعِيدٍ البَقّالِ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما
«أنَّ اليَهُودَ أتَوُا النَّبِيَّ ﷺ فَسَألُوهُ عَنْ خَلْقِ السَّماواتِ والأرْضِ فَذَكَرَ حَدِيثًا طَوِيلًا. . قالُوا: ثُمَّ ماذا يا مُحَمَّدُ؟ قالَ: ثُمَّ اسْتَوى عَلى العَرْشِ قالُوا: أصَبْتَ يا مُحَمَّدُ لَوْ أتْمَمْتَ ثُمَّ اسْتَراحَ فَغَضِبَ غَضَبًا شَدِيدًا فَنَزَلَتْ: ﴿وَلَقَدْ خَلَقْنا السَّماواتِ والأرْضَ وما بَيْنَهُما في سِتَّةِ أيّامٍ وما مَسَّنا مِن لُغُوبٍ﴾ [ق: ٣٨].
* [فَصْلٌ فِيما حُفِظَ عَنْ أصْحابِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ والتّابِعِينَ والأئِمَّةِ الأرْبَعَةِ وغَيْرِهِمْ مِن ذَلِكَ]
[قَوْلُ أبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ]
* فَصْلٌ: فِيما حُفِظَ عَنْ أصْحابِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ والتّابِعِينَ والأئِمَّةِ الأرْبَعَةِ وغَيْرِهِمْ مِن ذَلِكَ:أوَّلًا: ما حُفِظَ عَنْ أصْحابِ الرَّسُولِ ﷺ: (قَوْلُ أبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ) قالَ أبُو بَكْرِ بْنُ أبِي شَيْبَةَ: حَدَّثَنا مُحَمَّدُ بْنُ فُضَيْلٍ عَنْ أبِيهِ عَنْ نافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ قالَ: لَمّا قُبِضَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ قالَ أبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أيُّها النّاسُ إنْ كانَ مُحَمَّدٌ إلَهَكُمُ الَّذِي تَعْبُدُونَ فَإنَّ إلَهَكم قَدْ ماتَ وإنْ كانَ إلَهَكُمُ اللَّهُ الَّذِي في السَّماءِ فَإنَّ إلَهَكم لَمْ يَمُتْ ثُمَّ تَلا:
﴿وَما مُحَمَّدٌ إلّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ﴾ [آل عمران: ١٤٤] حَتّى خَتَمَ الآيَةَ.
وَقالَ البُخارِيُّ في تارِيخِهِ: قالَ مُحَمَّدُ بْنُ فُضَيْلٍ عَنْ فُضَيْلِ بْنِ غَزْوانَ عَنْ نافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما قالَ: لَمّا قُبِضَ رَسُولُ اللَّهِ صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ دَخَلَ أبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَلَيْهِ (فَأكَبَّ عَلَيْهِ) وقَبَّلَ جَبْهَتَهُ وقالَ: بِأبِي أنْتَ وأُمِّي طِبْتَ حَيًّا ومَيِّتًا، وقالَ: مَن كانَ يَعْبُدُ مُحَمَّدًا فَإنَّ مُحَمَّدًا قَدْ ماتَ ومَن كانَ يَعْبُدُ اللَّهَ فَإنَّ اللَّهَ في السَّماءِ (حَيٌّ) لا يَمُوتُ، وفي صَحِيحِ البُخارِيِّ مِن حَدِيثِ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ السّاعِدِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ
«أنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ ذَهَبَ إلى بَنِي عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ لِيُصْلِحَ بَيْنَهم فَحانَتِ الصَّلاةُ فَجاءَ المُؤَذِّنُ إلى أبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَذَكَرَ الحَدِيثَ وفِيهِ أنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ أشارَ إلى أبِي بَكْرٍ أنِ امْكُثْ مَكانَكَ فَرَفَعَ أبُو بَكْرٍ يَدَيْهِ فَحَمِدَ اللَّهَ عَلى ما أمَرَهُ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ ثُمَّ اسْتَأْخَرَ. . . فَذَكَرَهُ».
[ذِكْرُ قَوْلِ عُمَرَ بْنِ الخَطّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ]
عَنْ إسْماعِيلَ عَنْ قَيْسٍ قالَ: لَمّا قَدِمَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ الشّامَ اسْتَقْبَلَهُ النّاسُ وهو عَلى بَعِيرِهِ فَقالُوا: يا أمِيرَ المُؤْمِنِينَ لَوْ رَكِبْتَ بِرْذَوْنًا لِيَلْقاكَ عُظَماءُ النّاسِ ووُجُوهُهم فَقالَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: ألا أراكم هاهُنا إنَّما الأمْرُ مِن هاهُنا وأشارَ بِيَدِهِ إلى السَّماءِ.
وَذَكَرَ أبُو نُعَيْمٍ بِإسْنادِهِ عَنْهُ: ويْلٌ لِدَيّانِ الأرْضِ مِن دَيّانِ السَّماءِ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ إلّا مَن أمَرَ بِالعَدْلِ وقَضى بِالحَقِّ ولِمَ يَقْضِي عَلى هَوًى ولا قَرابَةٍ ولا عَلى رَغَبٍ ولا عَلى رَهَبٍ وجَعَلَ كِتابَ اللَّهِ مِرْآةً بَيْنَ عَيْنَيْهِ.
وَقالَ عُثْمانُ بْنُ سَعِيدٍ الدّارِمِيُّ: حَدَّثَنا مُوسى بْنُ إسْماعِيلَ قالَ حَدَّثَنا جَرِيرُ بْنُ حازِمٍ قالَ: سَمِعْتُ أبا يَزِيدَ المُزَنِيَّ قالَ: لَقِيَتِ امْرَأةٌ عُمَرَ بْنَ الخَطّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يُقالُ لَها خَوْلَةُ بِنْتُ ثَعْلَبَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْها - وهو يَسِيرُ مَعَ النّاسِ فاسْتَوْقَفَتْهُ فَوَقَفَ لَها ودَنا مِنها وأصْغى إلَيْها رَأْسَهُ حَتّى قَضَتْ حاجَتَها وانْصَرَفَتْ، فَقالَ لَهُ رَجُلٌ يا أمِيرَ المُؤْمِنِينَ حَبَسْتَ رِجالًا مِن قُرَيْشٍ عَلى هَذِهِ العَجُوزِ قالَ: ويْلُكَ تَدْرِي مِن هَذِهِ؟ (قالَ: لا)، (قالَ: هَذِهِ امْرَأةٌ سَمِعَ اللَّهُ شَكْواها مِن فَوْقِ سَبْعِ سَماواتٍ هَذِهِ خَوْلَةُ بِنْتُ ثَعْلَبَةَ واللَّهِ لَوْ لَمْ تَنْصَرِفْ عَنِّي إلى اللَّيْلِ ما انْصَرَفْتُ حَتّى تَقْضِيَ حاجَتَها إلّا أنْ تَحْضُرَنِي صَلاةٌ فَأُصَلِّيَها ثُمَّ أرْجِعَ إلَيْها حَتّى تَقْضِيَ حاجَتَها).
وَقالَ خُلَيْدُ بْنُ دَعْلَجٍ عَنْ قَتادَةَ قالَ خَرَجَ عُمَرُ بْنُ الخَطّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مِنَ المَسْجِدِ ومَعَهُ جارُودٌ العَبْدِيُّ، فَإذا بِامْرَأةٍ بارِزَةٍ عَلى ظَهْرِ الطَّرِيقِ فَسَلَّمَ عَلَيْها عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَرَدَّتْ عَلَيْهِ السَّلامُ وقالَتْ: هِيها يا عُمَرُ عَهِدْتُكَ يا عُمَرُ وأنْتَ تُسَمّى عُمَيْرًا في سُوقِ عُكاظَ تَزَعُ الصِّبْيانَ بِعَصاكَ فَلَمْ تَذْهَبِ الأيّامُ حَتّى سُمِّيتَ عُمَرَ ولَمْ تَذْهَبِ الأيّامُ حَتّى سُمِّيتَ أمِيرَ المُؤْمِنِينَ فاتَّقِ اللَّهَ في الرَّعِيَّةِ واعْلَمْ أنَّهُ مَن خافَ الوَعِيدَ قُرِّبَ عَلَيْهِ البَعِيدُ ومَن خافَ المَوْتَ خَشِيَ الفَوْتَ، فَقالَ الجارُودُ: فَقَدْ أكْثَرْتِ أيَّتُها المَرْأةُ عَلى أمِيرِ المُؤْمِنِينَ، فَقالَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: دَعْها أما تَعْرِفُها هَذِهِ خَوْلَةُ بِنْتُ حَكِيمٍ الَّتِي سَمِعَ اللَّهُ شَكْواها مِن فَوْقِ سَبْعِ سَماواتٍ فَعُمَرُ واللَّهِ أحَقُّ أنْ يَسْتَمِعَ لَها. قالَ ابْنُ عَبْدِ البَرِّ: ورُوِّينا مِن وُجُوهٍ عَنْ عُمَرَ بْنِ الخَطّابِ أنَّهُ خَرَجَ ومَعَهُ النّاسُ فَمَرَّ بِعَجُوزٍ فاسْتَوْقَفَتْهُ فَوَقَفَ (لَها) وجَعَلَ يُحَدِّثُها وتُحَدِّثُهُ فَقالَ رَجُلٌ: يا أمِيرَ المُؤْمِنِينَ حَبَسْتَ النّاسَ عَلى هَذِهِ العَجُوزِ قالَ: ويْلَكَ أتَدْرِي مَن هَذِهِ؟ هَذِهِ امْرَأةٌ سَمِعَ اللَّهُ شَكْواها مِن فَوْقِ سَبْعِ سَماواتٍ. فَذَكَرَ الحَدِيثَ.
[قَوْلُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ رَواحَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ]
قالَ ابْنُ عَبْدِ البَرِّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعالى في كِتابِ الِاسْتِيعابِ رُوِّينا مِن وُجُوهٍ صِحاحٍ أنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ رَواحَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مَشى إلى أمَةٍ لَهُ فَنالَها فَرَأتْهُ امْرَأتُهُ فَلامَتْهُ، فَجَحَدَها فَقالَتْ لَهُ: إنْ كُنْتَ صادِقًا فاقْرَأِ القُرْآنَ فَإنَّ الجُنُبَ لا يَقْرَأُ (القُرْآنَ) فَقالَ:
شَهِدْتُ بِأنَّ وعْدَ اللَّهِ حَقٌّ ∗∗∗ وأنَّ النّارَ مَثْوى الكافِرِينا
وَأنَّ العَرْشَ فَوْقَ الماءِ طافَ ∗∗∗ وفَوْقَ العَرْشِ رَبُّ العالَمِينا
وَتَحْمِلُهُ مَلائِكَةٌ شِدادٌ ∗∗∗ مَلائِكَةُ الإلَهِ مُسَوِّمِينا
فَقالَتْ: آمَنتُ بِاللَّهِ وكَذَّبْتُ عَيْنِي وكانَتْ لا تَحْفَظُ القُرْآنَ ولا تَقْرَؤُهُ.
[قَوْلُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ]
قالَ الدّارِمَيُّ: حَدَّثَنا مُوسى بْنُ إسْماعِيلَ حَدَّثَنا حَمّادُ بْنُ سَلَمَةَ عَنْ عاصِمٍ عَنْ زِرٍّ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قالَ: ما بَيْنَ السَّماءِ الدُّنْيا والَّتِي تَلِيها خَمْسُمِائَةِ عامٍ وبَيْنَ كُلِّ سَماءَيْنِ مَسِيرَةُ خَمْسِمِائَةِ عامٍ، وبَيْنَ السَّماءِ السّابِعَةِ وبَيْنَ الكُرْسِيِّ مَسِيرَةُ خَمْسِمِائَةِ عامٍ، وبَيْنَ الكُرْسِيِّ إلى الماءِ مَسِيرَةُ خَمْسِمِائَةِ عامٍ، والعَرْشُ عَلى الماءِ، واللَّهُ تَعالى فَوْقَ العَرْشِ وهو يَعْلَمُ ما أنْتُمْ عَلَيْهِ، ورَوى الأعْمَشُ عَنْ خَيْثَمَةَ عَنْهُ: إنَّ العَبْدَ لَيَهُمُّ بِالأمْرِ مِنَ التِّجارَةِ أوِ الإمارَةِ حَتّى إذا تَيَسَّرَ لَهُ نَظَرَ اللَّهُ إلَيْهِ مِن فَوْقِ سَبْعِ سَماواتٍ فَيَقُولُ لِلْمَلَكِ: اصْرِفْهُ عَنْهُ، قالَ: فَيَصْرِفُهُ.
[قَوْلُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما]
: ذَكَرَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ في كِتابِ السُّنَّةِ مِن حَدِيثِ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قالَ:
«تَفَكَّرُوا في كُلِّ شَيْءٍ ولا تَفَكَّرُوا في ذاتِ اللَّهِ فَإنَّ بَيْنَ السَّماواتِ السَّبْعِ إلى الكُرْسِيِّ سَبْعَةَ آلافِ نُورٍ وهو فَوْقُ ذَلِكَ»، وفي مُسْنَدِ الحَسَنِ بْنِ سُفْيانَ وكِتابِ عُثْمانَ بْنِ سَعِيدٍ الدّارِمِيِّ مِن حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أبِي مُلَيْكَةَ أنَّهُ حَدَّثَهُ ذَكْوانُ قالا: اسْتَأْذَنَ ابْنُ عَبّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَلى عائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْها وهي تَمُوتُ فَقالَ لَها: كُنْتِ أحَبَّ نِساءِ النَّبِيِّ ﷺ، ولَمْ يَكُنْ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ يُحِبُّ إلّا طَيِّبًا، وأنْزَلَ اللَّهُ بَراءَتَكِ مِن فَوْقِ سَبْعِ سَماواتٍ جاءَ بِها الرُّوحُ الأمِينُ فَأصْبَحَ لَيْسَ مَسْجِدٌ مِن مَساجِدِ اللَّهِ يُذْكَرُ فِيهِ اللَّهُ
إلّا وهي تُتْلى فِيها آناءَ اللَّيْلِ وآناءَ النَّهارِ. وذَكَرَ الطَّبَرانِيُّ في شَرْحِ السُّنَّةِ مِن حَدِيثِ سُفْيانَ عَنْ أبِي هاشِمٍ عَنْ مُجاهِدٍ قالَ: قِيلَ لِابْنِ عَبّاسٍ: إنَّ ناسًا يُكَذِّبُونَ بِالقَدَرِ، قالَ: يُكَذِّبُونَ بِالكِتابِ لَئِنْ أخَذْتُ شَعْرَ أحَدِهِمْ لَأنْضُوَنَّهُ إنِ اللَّهَ كانَ عَلى عَرْشِهِ قَبْلَ أنْ يَخْلُقَ شَيْئًا فَخَلَقَ الخَلْقَ فَكَتَبَ ما هو كائِنٌ إلى يَوْمِ القِيامَةِ، فَإنَّما يَجْرِي النّاسُ عَلى أمْرٍ قَدْ فُرِغَ مِنهُ.
وَقالَ إسْحاقُ بْنُ راهَوَيْهِ: أخْبَرَنا إبْراهِيمُ بْنُ الحَكَمِ بْنِ أبانَ عَنْ أبِيهِ عَنْ عِكْرِمَةَ في قَوْلِهِ تَعالى:
﴿ثُمَّ لَآتِيَنَّهم مِن بَيْنِ أيْدِيهِمْ ومِن خَلْفِهِمْ وعَنْ أيْمانِهِمْ وعَنْ شَمائِلِهِمْ﴾ [الأعراف: ١٧] الآيَةَ. قالَ: قالَ ابْنُ عَبّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما: لَمْ يَسْتَطِعْ أنْ يَقُولَ مِن فَوْقِهِمْ عَلِمَ أنَّ اللَّهَ مِن فَوْقِهِمْ.
[قَوْلُ عائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْها]
(قَوْلُ عائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْها)، قالَ الدّارِمِيُّ: حَدَّثَنا مُوسى بْنُ إسْماعِيلَ حَدَّثَنا جُوَيْرِيَّةُ بْنُ أسْماءَ قالَ: سَمِعْتُ نافِعًا يَقُولُ: قالَتْ عائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْها: وايْمُ اللَّهِ إنِّي لَأخْشى لَوْ كُنْتُ أُحِبُّ قَتْلَهُ لَقَتَلْتُهُ، (تَعْنِي: عُثْمانَ) ولَكِنْ عَلِمَ اللَّهُ " مِن " فَوْقِ عَرْشِهِ إنِّي لَمْ أُحِبَّ قَتْلَهُ.
[قَوْلُ زَيْنَبَ بِنْتِ جَحْشٍ أُمِّ المُؤْمِنِينَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْها]
ثَبَتَ في الصَّحِيحَيْنِ مِن حَدِيثِ أنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قالَ: كانَتْ زَيْنَبُ تَفْتَخِرُ عَلى أزْواجِ النَّبِيِّ ﷺ وتَقُولُ: زَوَّجَكُنَّ أهالِيكُنَّ وزَوَّجَنِيَ اللَّهُ مِن فَوْقِ سَبْعِ سَماواتٍ، وفي لَفْظٍ لِغَيْرِهِما كانَتْ تَقُولُ: زَوَّجْنِيكَ الرَّحْمَنُ مِن فَوْقِ عَرْشِهِ كانَ جِبْرِيلُ السَّفِيرُ بِذَلِكَ وأنا ابْنَةُ عَمَّتِكَ. رَواهُ العَسّالُ.
[قَوْلُ أبِي أُمامَةَ الباهِلِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ]
قالَ: لَمّا لَعَنَ اللَّهُ إبْلِيسَ وأخْرَجَهُ مِن سَماواتِهِ وأخْزاهُ قالَ: رَبِّ أخْزَيْتَنِي ولَعَنْتَنِي وطَرَدْتَنِي مِن سَماواتِكَ وجِوارِكَ، وعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّ خَلْقَكَ ما دامَتِ الأرْواحُ في أجْسادِها، فَأجابَهُ الرَّبُّ تَبارَكَ وتَعالى " فَقالَ ": وعِزَّتِي وجَلالِي وارْتِفاعِي عَلى عَرْشِي لَوْ أنَّ عَبْدِي أذْنَبَ حَتّى مَلَأ السَّماءَ والأرْضَ خَطاياهُ ثُمَّ لَمْ يَبْقَ مِن عُمُرِهِ إلّا نَفَسٌ واحِدٌ فَنَدِمَ عَلى ذُنُوبِهِ لَغَفَرْتُها وبَدَّلْتُ سَيِّآتِهِ كُلَّها حَسَناتٍ، وقَدْ رُوِيَ هَذا المَتْنَ مَرْفُوعًا ولَفْظُهُ:
«وَعِزَّتِي وجَلالِي وارْتِفاعِي لَوْ أنَّ عَبْدِي». . . فَذَكَرَهُ ورَواهُ ابْنُ لَهِيعَةَ عَنْ أبِي الهَيْثَمِ عَنْ أبِي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قالَ:
«إنَّ الشَّيْطانَ قالَ: وعَزَّتِكَ يا رَبِّ لا أبْرَحُ أُغْوِي عِبادَكَ ما دامَتْ أرْواحُهم في أجْسادِهِمْ، فَقالَ الرَّبُّ: وعِزَّتِي وجَلالِي وارْتِفاعِ مَكانِي لا أزالُ أغْفِرُ لَهم ما اسْتَغْفَرُونِي»[قَوْلُ الصَّحابَةِ كُلِّهِمْ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ]
" قَوْلُ الصَّحابَةِ كُلِّهِمْ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهم " قالَ يَحْيى بْنُ سَعِيدٍ الأُمَوِيُّ في مَغازِيهِ: حَدَّثَنا البَكّائِيُّ عَنِ ابْنِ إسْحاقَ قالَ: حَدَّثَنِي يَزِيدُ بْنُ سِنانٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الأُجَيْرِدِ الكِنْدِيُّ عَنِ العُرْسِ بْنِ قَيْسٍ الكِنْدِيِّ عَنْ عَدِيِّ بْنِ عَمِيرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قالَ:
«خَرَجْتُ مُهاجِرًا إلى النَّبِيِّ ﷺ فَذَكَرَ قِصَّةً طَوِيلَةً، وقالَ فِيها: فَإذا هو ومَن مَعَهُ يَسْجُدُونَ عَلى وُجُوهِهِمْ ويَزْعُمُونَ أنَّ إلَهَهم في السَّماءِ فَأسْلَمْتُ وتَبِعْتُهُ».
[ذِكْرُ أقْوالِ التّابِعِينَ رَحِمَهُمُ اللَّهُ تَعالى]
قَوْلُ مَسْرُوقٌ رَحِمَهُ اللَّهُ: قالَ عَلِيُّ بْنُ الأقْمَرِ: كانَ مَسْرُوقٌ إذا حَدَّثَ عَنْ عائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْها، قالَ: حَدَّثَتْنِي الصِّدِّيقَةُ بِنْتُ الصِّدِّيقِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما حَبِيبَةُ حَبِيبِ اللَّهِ ﷺ المُبَرَّأةُ مِن فَوْقِ سَبْعِ سَماواتٍ.
[قَوْلُ عِكْرِمَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعالى]
قالَ سَلَمَةُ بْنُ شَبِيبٍ حَدَّثَنا إبْراهِيمُ بْنُ الحَكَمِ قالَ حَدَّثَنِي أبِي عَنْ عِكْرِمَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعالى، قالَ: بَيْنَما رَجُلٌ مُسْتَلْقٍ عَلى مَتْنِهِ في الجَنَّةِ، فَقالَ في نَفْسِهِ لَمْ يُحَرِّكْ شَفَتَيْهِ: لَوْ أنَّ اللَّهَ يَأْذَنُ لِي لَزَرَعْتُ في الجَنَّةِ فَلَمْ يَعْلَمْ إلّا والمَلائِكَةُ عَلى أبْوابِ جَنَّتِهِ قابِضِينَ عَلى أكُفِّهِمْ فَيَقُولُونَ: سَلامٌ عَلَيْكَ فاسْتَوى قاعِدًا، فَقالُوا لَهُ: يَقُولُ لَكَ رَبُّكَ تَمَنَّيْتَ شَيْئًا في نَفْسِكَ قَدْ عَلِمْتُهُ وقَدْ بَعَثَ مَعَنا هَذا البَذْرَ، يَقُولُ لَكَ: ابْذُرْ فَألْقى يَمِينًا وشِمالًا وبَيْنَ يَدَيْهِ وخَلْفَهُ فَخَرَجَ أمْثالَ الجِبالِ عَلى ما كانَ تَمَنّى وزادَ، فَقالَ لَهُ الرَّبُّ مِن فَوْقِ عَرْشِهِ: كُلْ يا ابْنَ آدَمَ فَإنَّ ابْنَ آدَمَ لا يَشْبَعُ.
[قَوْلُ قَتادَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعالى]
قالَ الدّارِمِيُّ: حَدَّثَنا مُوسى بْنُ إسْماعِيلَ حَدَّثَنا أبُو هِلالٍ حَدَّثَنا قَتادَةَ قالَ: قالَتْ بَنُو إسْرائِيلَ: يا رَبِّ أنْتَ في السَّماءِ ونَحْنُ في الأرْضِ فَكَيْفَ لَنا أنْ نَعْرِفَ رِضاكَ وغَضَبَكَ قالَ: إذا أُرْضِيتُ عَنْكُمُ اسْتَعْمَلْتُ عَلَيْكم خِيارَكم وإذا غَضِبْتُ عَلَيْكُمُ اسْتَعْمَلْتُ عَلَيْكم شِرارَكم.
[قَوْلُ سُلَيْمانَ التَّيْمِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعالى]
قالَ ابْنُ أبِي خَيْثَمَةَ في تارِيخِهِ حَدَّثَنا هارُونُ بْنُ مَعْرُوفٍ " قالَ " حَدَّثَنا ضَمْرَةُ عَنْ صَدَقَةَ التَّيْمِيِّ عَنْ سُلَيْمانَ التَّيْمِيِّ قالَ: لَوْ سُئِلْتُ أيْنَ اللَّهُ؟ لَقُلْتَ في السَّماءِ.
[قَوْلُ كَعْبِ الأحْبارِ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعالى]
قالَ اللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ حَدَّثَنِي خالِدُ بْنُ يَزِيدَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ أبِي هِلالٍ أنَّ زَيْدَ بْنَ أسْلَمَ حَدَّثَهُ عَنْ عَطاءِ بْنِ يَسارٍ قالَ: أتى رَجُلٌ كَعْبًا وهو في نَفَرٍ فَقالَ: يا أبا إسْحاقَ حَدِّثْنِي عَنِ الجَبّارِ فَأعْظَمَ القَوْمُ قَوْلَهُ، فَقالَ كَعْبٌ: دَعُوا الرَّجُلَ فَإنْ كانَ جاهِلًا تَعَلَّمْ وإنْ كانَ عالِمًا ازْدادَ عِلْمًا، ثُمَّ قالَ كَعْبٌ: أُخْبِرُكَ أنَّ اللَّهَ خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ ومِنَ الأرْضِ مِثْلَهُنَّ ثُمَّ جَعَلَ ما بَيْنَ كُلِّ سَماءَيْنِ كَما بَيْنَ سَماءِ الدُّنْيا والأرْضِ وكَثَّفَهُنَ مِثْلَ ذَلِكَ ثُمَّ رَفَعَ العَرْشَ فاسْتَوى عَلَيْهِ.
وَقالَ نُعَيْمُ بْنُ حَمّادٍ: أخْبَرَنا أبُو صَفْوانَ الأُمَوِيُّ عَنْ يُونُسَ بْنِ يَزِيدَ عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنْ سَعِيدِ بْنِ المُسَيَّبِ عَنْ كَعْبٍ قالَ: قالَ اللَّهُ في التَّوْراةِ: أنا اللَّهُ فَوْقَ عِبادِي وعَرْشِي فَوْقَ جَمِيعِ خَلْقِي وأنا عَلى عَرْشِي أُدَبِّرُ " أُمُورَ " عِبادِي لا يَخْفى عَلَيَّ شَيْءٌ مِن أمْرِ عِبادِي في سَمائِي ولا في أرْضِي، وإلَيَّ مَرْجِعُ خَلْقِي، فَأُنْبِئُهم بِما خَفِيَ عَلَيْهِمْ مِن عِلْمِي، أغْفِرُ لِمَن شِئْتُ مِنهم بِمَغْفِرَتِي، وأُعاقِبُ مَن شِئْتُ بِعِقابِي.
[قَوْلُ مُقاتِلٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعالى]
ذَكَرَ البَيْهَقِيُّ في الأسْماءِ والصِّفاتِ عَنْ بَكْرِ بْنِ مَعْرُوفٍ عَنْ مُقاتِلٍ بَلَغَنا - واللَّهُ أعْلَمُ - في قَوْلِهِ عَزَّ وجَلَّ:
﴿هُوَ الأوَّلُ والآخِرُ والظّاهِرُ والباطِنُ﴾ [الحديد: ٣] الآيَةَ، الأوَّلُ قَبْلَ كُلِّ شَيْءٍ والآخِرُ بَعْدَ كُلِّ شَيْءٍ والظّاهِرُ فَوْقَ كُلِّ شَيْءٍ والباطِنُ أقْرَبُ مِن كُلِّ شَيْءٍ. وإنَّما يَعْنِي القُرْبَ بِعِلْمِهِ وقُدْرَتِهِ وهو فَوْقَ عَرْشِهِ وهو بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ، وبِهَذا الإسْنادِ عَنْهُ في قَوْلِهِ تَعالى:
﴿إلّا هو مَعَهُمْ﴾ [المجادلة: ٧] يَقُولُ بِعِلْمِهِ، وذَلِكَ قَوْلُهُ:
﴿إنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾ [الأنفال: ٧٥] فَيَعْلَمُ نَجْواهُمْ، ويَسْمَعُ كَلامَهم ثُمَّ يُنْبِئُهم يَوْمَ القِيامَةِ بِكُلِّ شَيْءٍ وهو فَوْقَ عَرْشِهِ وعِلْمُهُ مَعَهم.
[قَوْلُ الضَّحّاكِ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعالى]
رَوى بُكَيْرُ بْنُ مَعْرُوفٍ عَنْ مُقاتِلِ بْنِ حَيّانَ عَنْهُ
﴿ما يَكُونُ مِن نَجْوى ثَلاثَةٍ إلّا هو رابِعُهم ولا خَمْسَةٍ إلّا هو سادِسُهم. . .﴾ [المجادلة: ٧] الآيَةَ.
قالَ هو اللَّهُ عَلى العَرْشِ وعِلْمُهُ مَعَهم.
[قَوْلُ التّابِعِينَ جُمْلَةٌ]
رَوى البَيْهَقِيُّ بِإسْنادٍ صَحِيحٍ إلى الأوْزاعِيِّ قالَ: كُنّا والتّابِعُونَ مُتَوافِرُونَ نَقُولُ: إنَّ اللَّهَ تَعالى جَلَّ ذِكْرُهُ فَوْقَ عَرْشِهِ ونُؤْمِنُ بِما ورَدَتِ السُّنَّةُ بِهِ مِن صِفاتِهِ. قالَ شَيْخُ الإسْلامِ وإنَّما قالَ الأوْزاعِيُّ ذَلِكَ بَعْدَ ظُهُورِ جَهْمٍ المُنْكِرِ لِكَوْنِ اللَّهِ عَزَّ وجَلَّ فَوْقَ عَرْشِهِ والنّافِي لِصِفاتِهِ لِيَعْرِفَ النّاسُ أنَّ مَذْهَبَ السَّلَفِ كانَ بِخِلافِ قَوْلِهِ ".
وَقالَ أبُو عُمَرَ بْنُ عَبْدِ البَرِّ في التَّمْهِيدِ " لِأنَّ عُلَماءَ الصَّحابَةِ والتّابِعِينَ الَّذِينَ حُمِلَ عَنْهُمُ التَّأْوِيلُ قالُوا في تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعالى:
﴿ما يَكُونُ مِن نَجْوى ثَلاثَةٍ إلّا هو رابِعُهم ولا خَمْسَةٍ إلّا هو سادِسُهُمْ﴾ [المجادلة: ٧]هُوَ عَلى العَرْشِ وعِلْمُهُ في كُلِّ مَكانٍ وما خالَفَهم أحَدٌ في ذَلِكَ يُحْتَجُّ بِقَوْلِهِ.
[قَوْلُ الحَسَنِ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعالى]
رَوى أبُو بَكْرٍ الهُذَلِيُّ عَنِ الحَسَنِ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعالى قالَ: لَيْسَ شَيْءٌ عِنْدَ رَبِّكَ مِنَ الخَلْقِ أقْرَبُ إلَيْهِ مِن إسْرافِيلَ، وبَيْنَهُ وبَيْنَ رَبِّهِ مَسِيرَةُ سَبْعَةِ حُجُبٍ كُلِّ حِجابٍ مَسِيرَةُ خَمْسِمِائَةِ عامٍ، وإسْرافِيلُ دُونَ هَؤُلاءِ ورَأْسُهُ مِن تَحْتِ العَرْشِ ورِجْلاهُ في تُخُومِ الثَّرى.
[قَوْلُ مالِكِ بْنِ دِينارٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعالى]
ذَكَرَ أبُو العَبّاسِ السَّرّاجِ حَدَّثَنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أبِي زِيادٍ وهارُونُ قالا: حَدَّثَنا سَيّارٌ " قالَ " حَدَّثَنا جَعْفَرٌ قالَ: سَمِعْتُ مالِكَ بْنَ دِينارٍ يَقُولُ: إنَّ الصِّدِّيقِينَ إذا قُرِئَ عَلَيْهِمُ القُرْآنُ طَرِبَتْ قُلُوبُهم إلى الآخِرَةِ ثُمَّ يَقُولُ: خُذُوا فَيُقْرَأُ ويَقُولُ اسْمَعُوا إلى قَوْلِهِ الصّادِقِ مِن فَوْقِ عَرْشِهِ. وكانَ مالِكُ بْنُ دِينارٍ وغَيْرُهُ مِنَ السَّلَفِ يَذْكُرُونَ هَذا الأثَرَ: ابْنَ آدَمَ خَيْرِي إلَيْكَ نازِلٌ وشَرُّكَ يَصْعَدُ إلَيَّ وأتَحَبَّبُ إلَيْكَ بِالنِّعَمِ وتَتَبَغَّضُ إلَيَّ بِالمَعاصِي ولا يَزالُ مَلَكٌ كَرِيمٌ قَدْ عَرَجَ إلَيَّ مِنكَ بِعَمَلٍ قَبِيحٍ.
[قَوْلُ رَبِيعَةَ بْنِ أبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ رَحِمَهُ اللَّهُ شَيْخِ مالِكِ بْنِ أنَسٍ رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِ]
قالَ يَحْيى بْنُ آدَمَ عَنْ أبِيهِ عَنِ ابْنِ عُيَيْنَةَ قالَ: سُئِلَ رَبِيعَةُ عَنْ قَوْلِهِ تَعالى:
﴿الرَّحْمَنُ عَلى العَرْشِ اسْتَوى﴾ [طه: ٥] كَيْفَ اسْتَوى؟ قالَ: الِاسْتِواءُ غَيْرُ مَجْهُولٍ والكَيْفُ غَيْرُ مَعْقُولٍ ومِنَ اللَّهِ تَعالى الرِّسالَةُ وعَلى الرَّسُولِ ﷺ البَلاغُ وعَلَيْنا التَّصْدِيقُ.
[قَوْلُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الكَوّا رَحِمَهُ اللَّهُ تَعالى]
ذَكَرَ الحافِظُ أبُو القاسِمِ بْنُ عَساكِرَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعالى في تارِيخِهِ عَنْ هِشامِ بْنِ سَعْدٍ قالَ: قَدِمَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الكَوّاءِ عَلى مُعاوِيَةَ، فَقالَ لَهُ: أخْبِرْنِي عَنْ أهْلِ البَصْرَةِ؟ قالَ: " يُقاتِلُونَ مَعًا ويُدْبِرُونَ شَتّى. قالَ: فَأخْبِرْنِي عَنْ أهْلِ الكُوفَةِ؟ قالَ: أنْظَرُ النّاسِ في صَغِيرَةٍ وأوْقَعُهم في كَبِيرَةٍ. قالَ فَأخْبِرْنِي عَنْ أهْلِ المَدِينَةِ؟ قالَ: أحْرَصُ النّاسِ عَلى الفِتْنَةِ وأعْجَزُهم عَنْها. قالَ: فَأخْبِرْنِي عَنْ أهْلِ مِصْرَ، قالَ: لُقْمَةُ أكْلٍ، قالَ: فَأخْبِرْنِي عَنْ أهْلِ الجَزِيرَةِ؟ قالَ كُناسَةٌ بَيْنَ مَدِينَتَيْنِ. قالَ فَأخْبَرَنِي عَنْ أهْلِ المَوْصِلِ؟ قالَ: قِلادَةُ ولِيدَةٍ فِيها مِن كُلِّ شَيْءٍ خَرَزَةٌ. قالَ فَأخْبِرْنِي عَنْ أهْلِ الشّامِ؟ قالَ: جُنْدُ أمِيرِ المُؤْمِنِينَ لا أقُولُ فِيهِمْ شَيْئًا، قالَ: لَتَقُولَنَّ. قالَ: أطْوَعُ النّاسِ لِمَخْلُوقٍ وأعْصاهم لِخالِقٍ ولا يَحْسَبُونَ لِلسَّماءِ ساكِنًا.
[قَوْلُ تابِعِ التّابِعِينَ جُمْلَةً رَحِمَهُمُ اللَّهُ تَعالى]
[ذِكْرُ قَوْلِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ المُبارَكِ رَحِمَهُ اللَّهُ]
رَوى الدّارِمِيُّ والحاكِمُ والبَيْهَقِيُّ وغَيْرُهم بِأصَحِّ إسْنادٍ إلى عَلِيِّ بْنِ الحَسَنِ بْنِ شَقِيقٍ قالَ: سَمِعْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ المُبارَكِ يَقُولُ: نَعْرِفُ رَبَّنا بِأنَّهُ فَوْقَ سَبْعِ سَماواتٍ عَلى العَرْشِ اسْتَوى بائِنٌ مِن خَلْقِهِ ولا نَقُولُ كَما قالَتِ الجَهْمِيَّةُ، وفِي
لَفْظٍ آخَرِ قُلْتُ: كَيْفَ نَعْرِفُ رَبَّنا؟ قالَ: في السَّماءِ السّابِعَةِ عَلى عَرْشِهِ، ولا نَقُولُ كَما قالَتِ الجَهْمِيَّةُ.
قالَ الدّارِمِيُّ: حَدَّثَنا الحَسَنُ بْنُ الصَّبّاحِ البَزّارُ حَدَّثَنا عَلِيُّ بْنُ الحَسَنِ بْنِ شَقِيقٍ عَنِ ابْنِ المُبارَكِ قالَ: قِيلَ لَهُ كَيْفَ نَعْرِفُ رَبَّنا؟ قالَ: بِأنَّهُ فَوْقَ السَّماءِ السّابِعَةِ عَلى العَرْشِ بائِنٌ مِن خَلْقِهِ. قالَ الإمامُ عُثْمانُ بْنُ سَعِيدٍ الدّارِمِيُّ: ومِمّا يُحَقِّقُ قَوْلَ ابْنِ المُبارَكِ قَوْلُ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ لِلْجارِيَةِ أيْنَ اللَّهُ؟ يَمْتَحِنُ بِذَلِكَ إيمانَها؟ فَلَمّا قالَتْ:
«فِي السَّماءِ قالَ أعْتِقْها فَإنَّها مُؤْمِنَةٌ» والآثارُ في ذَلِكَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ كَثِيرَةٌ والحُجَجُ مُتَظاهِرَةٌ والحَمْدُ لِلَّهِ عَلى ذَلِكَ ثُمَّ ساقَها الدّارِمِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعالى، وذَكَرَ ابْنُ خُزَيْمَةَ عَنِ ابْنِ المُبارَكِ أنَّهُ قالَ لَهُ رَجُلٌ: يا أبا عَبْدِ الرَّحْمَنِ قَدْ خِفْتُ مِن كَثْرَةِ ما أدْعُو عَلى الجَهْمِيَّةِ، فَقالَ: لا تَخَفْ فَإنَّهم يَزْعُمُونَ أنَّ إلَهَكَ الَّذِي في السَّماءِ لَيْسَ بِشَيْءٍ وصَحَّ عَنِ ابْنِ المُبارَكِ أنَّهُ قالَ: إنّا نَسْتَطِيعُ أنْ نَحْكِيَ كَلامَ اليَهُودِ والنَّصارى ولا نَسْتَطِيعُ أنْ نَحْكِيَ كَلامَ الجَهْمِيَّةِ.
[قَوْلُ الأوْزاعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعالى]
قالَ أبُو عَبْدِ اللَّهِ الحاكِمُ أخْبَرَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ الجَوْهَرِيُّ بِبَغْدادَ، حَدَّثَنا إبْراهِيمُ بْنُ الهَيْثَمِ حَدَّثَنا مُحَمَّدُ بْنُ كَثِيرٍ المِصِّيصِيُّ قالَ: سَمِعْتُ الأوْزاعِيَّ يَقُولُ كُنّا والتّابِعُونَ مُتَوافِرُونَ، نَقُولُ: إنَّ اللَّهَ تَعالى ذِكْرُهُ فَوْقَ عَرْشِهِ ونُؤْمِنُ بِما ورَدَتْ بِهِ السُّنَّةُ وهَذا الأثَرُ يَدْخُلُ في حِكايَةِ مَذْهَبِهِ ومَذاهِبِ التّابِعِينَ فَلِذَلِكَ ذَكَرْناهُ في المَوْضِعَيْنِ.
[قَوْلُ حَمّادِ بْنِ زَيْدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعالى]
قالَ إمامُ الأئِمَّةِ مُحَمَّدُ بْنُ إسْحاقَ بْنِ خُزَيْمَةَ حَدَّثَنا أحْمَدُ بْنُ إبْراهِيمَ قالَ: حَدَّثَنا سُلَيْمانُ بْنُ حَرْبٍ قالَ: سَمِعْتُ حَمّادَ بْنَ زَيْدٍ يَقُولُ: " الجَهْمِيَّةُ إنَّما يُحاوِلُونَ أنْ يَقُولُوا لَيْسَ في السَّماءِ شَيْءٌ قالَ شَيْخُ الإسْلامِ وهَذا الَّذِي كانَتِ الجَهْمِيَّةُ يُحاوِلُونَهُ قَدْ صَرَّحَ بِهِ المُتَأخِّرُونَ مِنهم وكانَ ظُهُورُ السُّنَّةِ وكَثْرَةُ الأئِمَّةِ في عَصْرِ أُولَئِكَ يَحُولُ بَيْنَهم وبَيْنَ التَّصْرِيحِ بِهِ فَلَمّا بَعُدَ العَهْدُ وخَفِيَتِ السُّنَّةُ وانْقَرَضَتِ الأئِمَّةُ صَرَّحَتِ الجَهْمِيَّةُ النُّفاةُ بِما كانَ سَلَفُهم يُحاوِلُونَهُ ولا يَتَمَكَّنُونَ مِن إظْهارِهِ.
[قَوْلُ سُفْيانَ الثَّوْرِيِّ]
قالَ مَعْدانُ: سَألْتُ سُفْيانَ الثَّوْرِيَّ عَنْ قَوْلِهِ تَعالى:
﴿وَهُوَ مَعَكم أيْنَ ما كُنْتُمْ﴾ [الحديد: ٤] قالَ: عَلْمُهُ. ذَكَرَهُ أبُو عُمَرَ.
[قَوْلُ وهْبِ بْنِ جَرِيرٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعالى]
قالَ الأثْرَمُ حَدَّثَنا أبُو عَبْدِ اللَّهِ الأوْسِيُّ قالَ: سَمِعْتُ وهْبَ بْنَ جَرِيرٍ يَقُولُ: إنَّما يُرِيدُ الجَهْمِيَّةُ أنَّهُ لَيْسَ في السَّماءِ شَيْءٌ. قالَ: وقُلْتُ لِسُلَيْمانَ بْنِ حَرْبٍ أيَّ شَيْءٍ كانَ حَمّادُ بْنُ زَيْدٍ يَقُولُ في الجَهْمِيَّةِ؟ فَقالَ: كانَ يَقُولُ إنَّما يُرِيدُونَ أنَّهُ لَيْسَ في السَّماءِ شَيْءٌ.
[ذِكْرُ أقْوالِ الأئِمَّةِ الأرْبَعَةِ رَحِمَهُمُ اللَّهُ تَعالى]
[قَوْلُ الإمامِ أبِي حَنِيفَةَ قَدَّسَ اللَّهُ رُوحَهُ]
قالَ البَيْهَقِيُّ: حَدَّثَنا أبُو بَكْرِ بْنُ الحارِثِ الفَقِيهُ حَدَّثَنا أبُو مُحَمَّدِ بْنُ حَيّانَ أخْبَرَنا أحْمَدُ بْنُ جَعْفَرِ بْنِ نَصْرٍ (قالَ) حَدَّثَنا يَحْيى بْنُ يَعْلى (قالَ: سَمِعْتُ نُعَيْمَ بْنَ حَمّادٍ يَقُولُ: سَمِعْتُ نُوحًا بْنَ أبِي مَرْيَمَ أبا عِصْمَةَ يَقُولُ كُنّا عِنْدَ أبِي حَنِيفَةَ أوَّلَ ما ظَهَرَ إذْ جاءَتْهُ امْرَأةٌ مِن تِرْمِذَ كانَتْ تُجالِسُ جَهْمًا فَدَخَلَتِ الكُوفَةَ، فَقِيلَ
لَها إنَّ هاهُنا رَجُلًا قَدْ نَظَرَ في المَعْقُولِ يُقالُ لَهُ: أبُو حَنِيفَةَ، فَأْتِيهِ فَأتَتْهُ فَقالَتْ: أنْتَ الَّذِي تُعَلِّمَ النّاسَ المَسائِلَ وقَدْ تَرَكْتَ دِينَكَ؟ أيْنَ إلَهُكَ الَّذِي تَعْبُدُهُ؟ فَسَكَتَ عَنْها ثُمَّ مَكَثَ سَبْعَةَ أيّامٍ لا يُجِيبُها ثُمَّ خَرَجَ إلَيْنا وقَدْ وضَعَ كِتابًا إنَّ اللَّهَ سُبْحانَهُ وتَعالى في السَّماءِ دُونَ الأرْضِ فَقالَ لَهُ رَجُلٌ: أرَأيْتَ قَوْلَ اللَّهِ تَعالى:
﴿وَهُوَ مَعَكُمْ﴾ [الحديد: ٤] قالَ هو كَما تَكْتُبُ لِلرَّجُلِ إنِّي مَعَكَ وأنْتَ عَنْهُ غائِبٌ، قالَ البَيْهَقِيُّ: لَقَدْ أصابَ أبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعالى فِيما نَفى عَنِ اللَّهِ تَعالى وتَقَدَّسَ مِنَ الكَوْنِ في الأرْضِ وفِيما ذَكَرَ مِن تَأْوِيلِ الآيَةِ، وتَبِعَ مُطْلَقَ السَّمْعِ في قَوْلِهِ إنَّ اللَّهَ عَزَّ وجَلَّ في السَّماءِ قالَ شَيْخُ الإسْلامِ: وفي كِتابِ الفِقْهِ الأكْبَرِ المَشْهُورِ عِنْدَ أصْحابِ أبِي حَنِيفَةَ الَّذِي رَوَوْهُ بِالإسْنادِ عَنْ أبِي مُطِيعٍ البَلْخِيِّ الحَكَمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قالَ: سَألْتُ أبا حَنِيفَةَ عَنِ الفِقْهِ الأكْبَرِ قالَ: لا تُكَفِّرْ أحَدًا بِذَنْبٍ ولا تَنْفِ أحَدًا مِنَ الإيمانِ وتَأْمُرُ بِالمَعْرُوفِ وتَنْهى عَنِ المُنْكَرِ وتَعْلَمُ أنَّ ما أصابَكَ لَمْ يَكُنْ لِيُخْطِئَكَ وما أخْطَأكَ لَمْ يَكُنْ لِيُصِيبَكَ ولا تَتَبَرَّأْ مِن أحَدٍ مِن أصْحابِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ ولا تُوالِي أحَدًا دُونَ أحَدٍ وأنْ تَرُدَّ أمْرَ عُثْمانَ وعَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما إلى اللَّهِ تَعالى، قالَ أبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ الفِقْهُ الأكْبَرُ في الدِّينِ خَيْرٌ مِنَ الفِقْهِ في العِلْمِ، ولَأنْ يَتَفَقَّهَ الرَّجُلُ كَيْفَ يَعْبُدُ رَبَّهُ عَزَّ وجَلَّ خَيْرٌ مِن أنْ يَجْمَعَ العِلْمَ الكَثِيرَ قالَ أبُو مُطِيعٍ قُلْتُ: فَأخْبِرْنِي عَنْ أفْضَلِ الفِقْهِ؟ قالَ: يَتَعَلَّمُ الرَّجُلُ الإيمانَ والشَّرائِعَ، والسُّنَنَ، والحُدُودَ، واخْتِلافَ الأئِمَّةِ. وذَكَرَ مَسائِلَ في الإيمانِ ثُمَّ ذَكَرَ مَسائِلَ في القَدَرِ. . . ثُمَّ قالَ: فَقُلْتُ: فَما تَقُولُ فِيمَن يَأْمُرُ بِالمَعْرُوفِ ويَنْهى عَنِ المُنْكَرِ فَيَتْبَعُهُ عَلى ذَلِكَ أُناسٌ فَيَخْرُجُ مِنَ الجَماعَةِ، هَلْ تَرى ذَلِكَ؟ قالَ: لا، قُلْتُ: ولِمَ؟ وقَدْ أمَرَ اللَّهُ تَعالى رَسُولَهُ صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسِلْمَ بِالأمْرِ بِالمَعْرُوفِ والنَّهْيِ عَنِ المُنْكَرِ وهو فَرِيضَةٌ واجِبَةٌ. فَقالَ: هو كَذَلِكَ لَكِنْ ما يُفْسِدُونَ أكْثَرَ مِمّا يُصْلِحُونَ مِن سَفْكِ الدِّماءِ واسْتِحْلالِ الحَرامِ وذَكَرَ الكَلامَ في قِتالِ الخَوارِجِ والبُغاةِ إلى أنْ قالَ: قالَ أبُو حَنِيفَةَ ومَن قالَ: لا أعْرِفُ رَبِّي في السَّماءِ أمْ في الأرْضِ فَقَدْ كَفَرَ لِأنَّ اللَّهَ تَعالى يَقُولُ:
﴿الرَّحْمَنُ عَلى العَرْشِ اسْتَوى﴾ [طه: ٥] وعَرْشُهُ فَوْقَ سَبْعِ سَماواتٍ (قُلْتُ): فَإنْ قالَ: إنَّهُ عَلى العَرْشِ ولَكِنَّهُ يَقُولُ: لا أدْرِي العَرْشَ في السَّماءِ أمْ في الأرْضِ قالَ: هو كافِرٌ؛ لِأنَّهُ أنْكَرَ أنْ يَكُونَ في السَّماءِ؛ لِأنَّهُ تَعالى في أعْلى عِلِّيِّينَ وأنَّهُ يُدْعى مِن أعْلى لا مِن أسْفَلَ، وفي لَفْظٍ سَألْتُ أبا حَنِيفَةَ عَمَّنْ يَقُولُ: لا أدْرِي رَبِّي في السَّماءِ أمْ في الأرْضِ قالَ: قَدْ كَفَرَ لِأنَّ اللَّهَ يَقُولُ:
﴿الرَّحْمَنُ عَلى العَرْشِ اسْتَوى﴾ [طه: ٥] وعَرْشُهُ فَوْقَ سَبْعِ سَماواتٍ قالَ: فَإنَّهُ يَقُولُ: عَلى العَرْشِ اسْتَوى ولَكِنَّهُ لا يَدْرِي العَرْشَ في الأرْضِ أوْ في السَّماءِ، قالَ إذا أنْكَرَ أنَّهُ في السَّماءِ فَقَدْ كَفَرَ.
وَرُوِيَ هَذا عَنْ شَيْخِ الإسْلامِ أبِي إسْماعِيلَ الأنْصارِيِّ في كِتابِهِ (الفارُوقِ) بِإسْنادِهِ. قالَ شَيْخُ الإسْلامِ أبُو العَبّاسِ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعالى: فَفي هَذا الكَلامِ المَشْهُورِ عَنْ أبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ عِنْدَ أصْحابِهِ أنَّهُ كَفَّرَ الواقِفَ الَّذِي يَقُولُ: لا أعْرِفُ رَبِّي في السَّماءِ أمْ في الأرْضِ؟ فَكَيْفَ يَكُونُ الجاحِدُ النّافِي الَّذِي يَقُولُ لَيْسَ في السَّماءِ ولا في الأرْضِ؟ واحْتَجَّ عَلى كُفْرِهِ بِقَوْلِهِ تَعالى
﴿الرَّحْمَنُ عَلى العَرْشِ اسْتَوى﴾ [طه: ٥] قالَ: وعَرْشُهُ فَوْقَ سَبْعِ سَماواتٍ وبَيَّنَ بِهَذا أنَّ قَوْلَهُ تَعالى:
﴿الرَّحْمَنُ عَلى العَرْشِ اسْتَوى﴾ [طه: ٥] دَلَّ أنَّ اللَّهَ فَوْقَ السَّماواتِ فَوْقَ العَرْشِ، وأنَّ الِاسْتِواءَ عَلى العَرْشِ دَلَّ عَلى أنَّ اللَّهَ تَعالى بِنَفْسِهِ فَوْقَ العَرْشِ ثُمَّ أرْدَفَ ذَلِكَ بِكُفْرِ مَن قالَ إنَّهُ عَلى العَرْشِ اسْتَوى ولَكِنْ تَوَقَّفَ في كَوْنِ العَرْشِ في السَّماءِ أمْ في الأرْضِ. قالَ: لِأنَّهُ أنْكَرَ أنْ يَكُونَ في السَّماءِ وأنَّ اللَّهَ في أعْلى عِلِّيِّينَ وأنَّهُ يُدْعى مِن أعْلى لا مِن أسْفَلَ واحْتَجَّ بِأنَّ اللَّهَ في أعْلى عِلِّيِّينَ وأنَّهُ يُدْعى مِن أعْلى لا مِن أسْفَلَ. وكُلٌّ مِن هاتَيْنِ الحُجَّتَيْنِ فِطْرِيَّةٌ عَقْلِيَّةٌ فَإنَّ القُلُوبَ مَفْطُورَةٌ عَلى الإقْرارِ بِأنَّ اللَّهَ عَزَّ وجَلَّ في العُلُوِّ وعَلى أنَّهُ يُدْعى مِن أعْلى لا مِن أسْفَلَ وكَذَلِكَ أصْحابُهُ مِن بَعْدِهِ، كَأبِي يُوسُفَ وهِشامِ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ الرّازِيِّ كَما رَوى ابْنُ أبِي حاتِمٍ وشَيْخُ الإسْلامِ بِأسانِيدِهِما أنَّ هِشامَ بْنَ عُبَيْدِ اللَّهِ الرّازِيَّ صاحِبَ مُحَمَّدِ بْنِ الحَسَنِ قاضِي الرَّيِّ حَبَسَ رَجُلًا في التَّجَهُّمِ فَتابَ فَجِيءَ بِهِ إلى هِشامٍ لِيَمْتَحِنَهُ فَقالَ: الحَمْدُ لِلَّهِ عَلى التَّوْبَةِ، فامْتَحَنَهُ هِشامٌ فَقالَ: أتَشْهَدُ أنَّ اللَّهَ عَلى عَرْشِهِ بائِنٌ مِن خَلْقِهِ؟ فَقالَ: أشْهَدُ أنَّ اللَّهَ عَلى عَرْشِهِ ولا أدْرِي ما بائِنٌ مِن خَلْقِهِ. فَقالَ: رُدُّوهُ إلى الحَبْسِ فَإنَّهُ لَمْ يَتُبْ، وسَيَأْتِي قَوْلُ الطَّحاوِيِّ عِنْدَ أقْوالِ أهْلِ الحَدِيثِ.
[قَوْلُ إمامِ دارِ الهِجْرَةِ مالِكِ بْنِ أنَسٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعالى]
ذَكَرَ أبُو عُمَرَ بْنُ عَبْدِ البَرِّ في كِتابِ التَّمْهِيدِ: أخْبَرَنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ المُؤْمِنِ قالَ: حَدَّثَنا أحْمَدُ بْنُ جَعْفَرِ بْنِ حَمْدانَ بْنِ مالِكٍ، قالَ: حَدَّثَنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ (قالَ) حَدَّثَنِي أبِي (قالَ) حَدَّثَنا شُرَيْحُ بْنُ النُّعْمانِ (قالَ) حَدَّثَنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ نافِعٍ قالَ: قالَ مالِكُ بْنُ أنَسٍ: اللَّهُ في السَّماءِ وعِلْمُهُ في كُلِّ مَكانٍ (لا يَخْلُو مِنهُ مَكانٌ) قالَ: وقِيلَ لِمالِكٍ:
﴿الرَّحْمَنُ عَلى العَرْشِ اسْتَوى﴾ [طه: ٥] كَيْفَ اسْتَوى؟ فَقالَ مالِكٌ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعالى (اسْتِواؤُهُ مَعْقُولٌ وكَيْفِيَّتُهُ مَجْهُولَةٌ وسُؤالُكَ عَنْ هَذا بِدْعَةٌ وأراكَ رَجُلَ سُوءٍ). وكَذَلِكَ أئِمَّةُ أصْحابِ مالِكٍ مِن بَعْدِهِ.
[قَوْلُ أئِمَّةِ أصْحابِ مالِكٍ مِن بَعْدِهِ]
قالَ يَحْيى بْنُ إبْراهِيمَ الطُّلَيْطِيُّ في كِتابِ سِيَرِ الفُقَهاءِ وهو كِتابٌ جَلِيلٌ غَزِيرُ العِلْمِ حَدَّثَنِي عَبْدُ المَلِكِ بْنُ حَبِيبٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ المُغِيرَةِ عَنِ الثَّوْرِيِّ عَنِ الأعْمَشِ عَنْ إبْراهِيمَ قالَ: كانُوا يَكْرَهُونَ قَوْلَ الرَّجُلِ: يا خَيْبَةَ الدَّهْرِ وكانُوا يَقُولُونَ: اللَّهُ هو الدَّهْرُ، وكانُوا يَكْرَهُونَ قَوْلَ الرَّجُلِ: رُغْمَ (أنْفِي لِلَّهِ)، وإنَّما يُرْغَمُ أنْفُ الكافِرِ، وكانُوا يَكْرَهُونَ قَوْلَ الرَّجُلِ: لا والَّذِي خاتَمُهُ عَلى فَمِي، وإنَّما يُخْتَمُ عَلى فَمِ الكافِرِ، وكانُوا يَكْرَهُونَ قَوْلَ الرَّجُلِ: واللَّهِ حَيْثُ كانَ أوْ أنَّ اللَّهَ بِكُلِّ مَكانٍ. قالَ أصْبَغُ: وهو مُسْتَوٍ عَلى عَرْشِهِ وبِكُلِّ مَكانِ عِلْمُهُ وإحاطَتُهُ وأصْبَغُ مِن أجَلِّ أصْحابِ مالِكٍ وأفْقَهِهِمْ.
[ذِكْرُ قَوْلِ أبِي عَمْرٍو الطَّلَمَنكِيِّ]
قالَ في كِتابِهِ في الأُصُولِ: أجْمَعَ المُسْلِمُونَ مِن أهْلِ السُّنَّةِ عَلى أنَّ اللَّهَ اسْتَوى عَلى عَرْشِهِ بِذاتِهِ. وقالَ في هَذا الكِتابِ أيْضًا: أجْمَعَ أهْلُ السُّنَّةِ عَلى أنَّ اللَّهَ تَعالى اسْتَوى عَلى العَرْشِ عَلى حَقِيقَتِهِ لا عَلى المَجازِ ثُمَّ ساقَ بِسَنَدِهِ عَنْ مالِكٍ قَوْلَهُ: اللَّهُ في السَّماءِ وعِلْمُهُ في كُلِّ مَكانٍ ثُمَّ قالَ في هَذا الكِتابِ: وأجْمَعَ المُسْلِمُونَ مِن أهْلِ السُّنَّةِ عَلى أنَّ مَعْنى قَوْلِهِ تَعالى:
﴿وَهُوَ مَعَكم أيْنَ ما﴾ [الحديد: ٤] ونَحْوِ ذَلِكَ مِنَ القُرْآنِ: أنَّ ذَلِكَ عِلْمُهُ وأنَّ اللَّهَ فَوْقَ السَّماواتِ بِذاتِهِ مُسْتَوٍ عَلى عَرْشِهِ كَيْفَ شاءَ، وهَذا لَفْظُهُ في كِتابِهِ.
[ذِكْرُ قَوْلِ بُخارِيِّ الغَرْبِ الإمامِ الحافِظِ أبِي عُمَرَ بْنِ عَبْدِ البَرِّ إمامِ السُّنَّةِ في زَمانِهِ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعالى]
" ذِكْرُ قَوْلِ بُخارِيِّ الغَرْبِ الإمامِ الحافِظِ أبِي عُمَرَ بْنِ عَبْدِ البَرِّ إمامِ السُّنَّةِ في زَمانِهِ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعالى ": قالَ في كِتابِ التَّمْهِيدِ في شَرْحِ الحَدِيثِ الثّامِنِ لِابْنِ شِهابٍ عَنِ أبِي سَلَمَةَ عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ قالَ:
«يَنْزِلُ رَبُّنا في كُلِّ لَيْلَةٍ إلى سَماءِ الدُّنْيا حِينَ يَبْقى ثُلْثُ اللَّيْلِ الآخِرِ فَيَقُولُ: مَن يَدْعُونِي فَأسْتَجِيبَ لَهُ؟ مَن يَسْألُنِي فَأُعْطِيَهُ؟ مَن يَسْتَغْفِرُنِي فَأغْفِرَ لَهُ؟» هَذا الحَدِيثُ ثابِتٌ مِن جِهَةِ النَّقْلِ صَحِيحُ الإسْنادِ لا يَخْتَلِفُ أهْلُ الحَدِيثِ في صِحَّتِهِ. وفِيهِ دَلِيلٌ عَلى أنَّ اللَّهَ جَلَّ وعَلا في السَّماءِ عَلى العَرْشِ مِن فَوْقِ سَبْعِ سَماواتٍ كَما قالَتِ الجَماعَةُ، وهو حُجَّتُهم عَلى المُعْتَزِلَةِ والجَهْمِيَّةِ في قَوْلِهِمْ إنَّ اللَّهَ في كُلِّ مَكانٍ ولَيْسَ عَلى العَرْشِ والدَّلِيلُ عَلى صِحَّةِ ما قالَ أهْلُ الحَقِّ في ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعالى:
﴿الرَّحْمَنُ عَلى العَرْشِ اسْتَوى﴾ [طه: ٥] وقَوْلُهُ:
﴿ثُمَّ اسْتَوى عَلى العَرْشِ ما لَكم مِن دُونِهِ مِن ولِيٍّ ولا شَفِيعٍ أفَلا تَتَذَكَّرُونَ﴾ [السجدة: ٤] وقَوْلُهُ تَعالى:
﴿ثُمَّ اسْتَوى إلى السَّماءِ وهي دُخانٌ﴾ [فصلت: ١١] وقَوْلُهُ تَعالى:
﴿إذًا لابْتَغَوْا إلى ذِي العَرْشِ سَبِيلًا﴾ [الإسراء: ٤٢] وقَوْلُهُ تَبارَكَ اسْمُهُ:
﴿إلَيْهِ يَصْعَدُ الكَلِمُ الطَّيِّبُ والعَمَلُ الصّالِحُ يَرْفَعُهُ﴾ [فاطر: ١٠] وقَوْلُهُ تَعالى:
﴿فَلَمّا تَجَلّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا﴾ [الأعراف: ١٤٣] وقَوْلُهُ تَعالى:
﴿أأمِنتُمْ مَن في السَّماءِ أنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الأرْضَ﴾ [الملك: ١٦] وقالَ:
﴿سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأعْلى﴾ [الأعلى: ١] وهَذا مِنَ العُلُوِّ وكَذَلِكَ قَوْلُهُ:
﴿العَلِيُّ العَظِيمُ﴾ [البقرة: ٢٥٥] و
﴿الكَبِيرُ المُتَعالِ﴾ [الرعد: ٩] و
﴿رَفِيعُ الدَّرَجاتِ ذُو العَرْشِ﴾ [غافر: ١٥] و
﴿يَخافُونَ رَبَّهم مِن فَوْقِهِمْ﴾ [النحل: ٥٠] والجَهْمِيُّ يَقُولُ إنَّهُ أسْفَلُ وقالَ جَلَّ ذِكْرُهُ
﴿يُدَبِّرُ الأمْرَ مِنَ السَّماءِ إلى الأرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إلَيْهِ﴾ [السجدة: ٥] وقالَ لِعِيسى:
﴿إنِّي مُتَوَفِّيكَ ورافِعُكَ إلَيَّ﴾ [آل عمران: ٥٥] وقالَ:
﴿بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إلَيْهِ﴾ [النساء: ١٥٨] وقالَ
﴿فالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ﴾ [فصلت: ٣٨] وقالَ:
﴿لَيْسَ لَهُ دافِعٌ مِنَ اللَّهِ ذِي المَعارِجِ تَعْرُجُ المَلائِكَةُ والرُّوحُ إلَيْهِ﴾ [المعارج: ٢] والعُرُوجُ هو الصُّعُودُ وأمّا قَوْلُهُ تَعالى:
﴿أأمِنتُمْ مَن في السَّماءِ﴾ [الملك: ١٦] فَمَعْناهُ مَن عَلى السَّماءِ يَعْنِي عَلى العَرْشِ، وقَدْ تَكُونُ في بِمَعْنى عَلى ألا تَرى إلى قَوْلِهِ تَعالى:
﴿فَسِيحُوا في الأرْضِ﴾ [التوبة: ٢] أيْ: عَلى الأرْضِ وكَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعالى:
﴿وَلَأُصَلِّبَنَّكم في جُذُوعِ النَّخْلِ﴾ [طه: ٧١] وهَذا كُلُّهُ يُعَضِّدُهُ قَوْلُهُ تَعالى:
﴿تَعْرُجُ المَلائِكَةُ والرُّوحُ إلَيْهِ﴾ [المعارج: ٤]. وما كانَ مِثْلَهُ مِمّا تَلَوْنا مِنَ الآياتِ في هَذا البابِ، وهَذِهِ الآياتُ كُلُّها واضِحاتٌ في إبْطالِ قَوْلِ المُعْتَزِلَةِ، وأمّا ادِّعاؤُهُمُ المَجازَ في الِاسْتِواءِ وقَوْلُهم في تَأْوِيلِ اسْتَوى: اسْتَوْلى فَلا مَعْنى لَهُ؛ لِأنَّهُ غَيْرُ ظاهِرٍ في اللُّغَةِ ومَعْنى الِاسْتِيلاءِ في اللُّغَةِ المُغالَبَةُ واللَّهُ تَعالى لا يُغالِبُهُ ولا يَعْلُوهُ أحَدٌ، وهو الواحِدُ الصَّمَدُ.
وَمِن حَقِّ الكَلامِ أنْ يُحْمَلَ عَلى حَقِيقَتِهِ، حَتّى تَتَّفِقَ الأُمَّةُ أنَّهُ أُرِيدَ بِهِ المَجازُ إذْ لا سَبِيلَ إلى اتِّباعِ ما أُنْزِلَ إلَيْنا مِن رَبِّنا تَعالى إلّا عَلى ذَلِكَ وإنَّما يُوَجَّهُ كَلامُ اللَّهِ عَزَّ وجَلَّ عَلى الأشْهَرِ والأظْهَرِ مِن وُجُوهِهِ ما لَمْ يَمْنَعْ مِن ذَلِكَ ما يَجِبُ لَهُ التَّسْلِيمُ، ولَوْ ساغَ ادِّعاءُ المَجازِ لِكُلِّ مُدَّعٍ ما ثَبَتَ شَيْءٌ مِنَ العِباداتِ، وجَلَّ اللَّهُ أنْ يُخاطِبَ إلّا بِما تَفْهَمُهُ العَرَبُ مِن مَعْهُودِ مُخاطِباتِها مِمّا يَصِحُّ مَعْناهُ عِنْدَ السّامِعِينَ، والِاسْتِواءُ مَعْلُومٌ في اللُّغَةِ مَفْهُومٌ، وهُوَ: العُلُوُّ والِارْتِفاعُ عَلى الشَّيْءِ والِاسْتِقْرارُ والتَّمَكُّنُ فِيهِ، قالَ أبُو عُبَيْدَةَ في قَوْلِهِ:
﴿الرَّحْمَنُ عَلى العَرْشِ اسْتَوى﴾ [طه: ٥] قالَ: عَلا، قالَ: وتَقُولُ العَرَبُ: اسْتَوَيْتُ فَوْقَ الدّابَّةِ واسْتَوَيْتُ فَوْقَ البَيْتِ. وقالَ غَيْرُهُ: اسْتَوى أيِ اسْتَقَرَّ، واحْتَجَّ بِقَوْلِهِ تَعالى:
﴿وَلَمّا بَلَغَ أشُدَّهُ واسْتَوى﴾ [القصص: ١٤] أيِ انْتَهى شَبابُهُ واسْتَقَرَّ فَلَمْ يَكُنْ في شَبابِهِ مَزِيدٌ. قالَ ابْنُ عَبْدِ البَرِّ: والِاسْتِواءُ الِاسْتِقْرارُ في العُلُوِّ وبِهَذا خاطَبَنا اللَّهُ تَعالى في كِتابِهِ فَقالَ:
﴿لِتَسْتَوُوا عَلى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكم إذا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ﴾ [الزخرف: ١٣] وقالَ تَعالى:
﴿واسْتَوَتْ عَلى الجُودِيِّ﴾ [هود: ٤٤] وقالَ تَعالى:
﴿فَإذا اسْتَوَيْتَ أنْتَ ومَن مَعَكَ عَلى الفُلْكِ﴾ [المؤمنون: ٢٨].
وَقالَ الشّاعِرُ:
فَأوْرَدْتَهم ماءً بِفَيْفاءَ قَفْرَةٍ ∗∗∗ وقَدْ حَلَّقَ النَّجْمُ اليَمانِيُّ فاسْتَوى
وَهَذا لا يَجُوزُ أنْ يَتَأوَّلَ فِيهِ أحَدٌ اسْتَوْلى. لِأنَّ النَّجْمَ لا يَسْتَوْلِي وقَدْ ذَكَرَ النَّضْرُ بْنُ شُمَيْلٍ وكانَ ثِقَةً مَأْمُونًا جَلِيلًا في عِلْمِ الدِّيانَةِ واللُّغَةِ قالَ: حَدَّثَنِي الخَلِيلُ وحَسْبُكَ بِالخَلِيلِ قالَ: أتَيْتُ أبا رَبِيعَةَ الأعْرابِيَّ وكانَ مِن أعْلَمِ ما رَأيْتُ فَإذا هو عَلى سَطْحٍ فَسَلَّمْنا فَرَدَّ عَلَيْنا السَّلامَ وقالَ لَنا. . اسْتَوُوا. فَبَقِينا مُتَحَيِّرِينَ ولَمْ نَدْرِ ما قالَ. فَقالَ لَنا أعْرابِيٌّ إلى جَنْبِهِ إنَّهُ أمَرَكم أنْ تَرْفَعُوا، فَقالَ الخَلِيلُ: هو مِن قَوْلِ اللَّهِ:
﴿ثُمَّ اسْتَوى إلى السَّماءِ وهي دُخانٌ﴾ [فصلت: ١١] فَصَعِدْنا إلَيْهِ. قالَ: وأمّا نَزْعُ مَن نَزَعَ مِنهم بِحَدِيثٍ يَرْوِيهِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ داوُدَ الواسِطِيُّ عَنْ إبْراهِيمَ بْنِ عَبْدِ الصَّمَدِ عَنْ عَبْدِ الوَهّابِ بْنِ مُجاهِدٍ عَنْ أبِيهِ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما في قَوْلِهِ تَعالى:
﴿الرَّحْمَنُ عَلى العَرْشِ اسْتَوى﴾ [طه: ٥] قالَ: اسْتَوْلى عَلى جَمِيعِ بَرِّيَّتِهِ فَلا يَخْلُو مِنهُ مَكانٌ.
فالجَوابُ: إنَّ هَذا حَدِيثٌ مُنْكَرٌ عَلى ابْنِ عَبّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما ونَقَلَتُهُ مَجْهُولُونَ وضُعَفاءُ، فَأمّا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ داوُدَ الواسِطِيُّ وعَبْدُ الوَهّابِ بْنُ مُجاهِدٍ: فَضَعِيفانِ، وإبْراهِيمُ بْنُ عَبْدِ الصَّمَدِ مَجْهُولٌ لا يُعْرَفُ، وهم لا يَقْبَلُونَ أخْبارَ الآحادِ العُدُولِ فَكَيْفَ يَسُوغُ لَهم الِاحْتِجاجُ بِمِثْلِ هَذا مِنَ الحَدِيثِ لَوْ عَقَلُوا وأنْصَفُوا، أما سَمِعُوا اللَّهَ سُبْحانَهُ حَيْثُ يَقُولُ:
﴿وَقالَ فِرْعَوْنُ ياهامانُ ابْنِ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أبْلُغُ الأسْبابَ أسْبابَ السَّماواتِ فَأطَّلِعَ إلى إلَهِ مُوسى وإنِّي لَأظُنُّهُ كاذِبًا﴾ [غافر: ٣٦] فَدَلَّ عَلى أنَّ مُوسى عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ كانَ يَقُولُ إنَّ إلَهِيَ في السَّماءِ وفِرْعَوْنُ يَظُنُّهُ كاذِبًا.
وَقالَ الشّاعِرُ:
فَسُبْحانَ مَن لا يُقِّدُرُ الخَلْقُ قَدْرَهُ ∗∗∗ ومَن هو فَوْقَ العَرْشِ فَرْدٌ مُوَحَّدُ
مَلِيكٌ عَلى عَرْشِ السَّماءِ مُهَيْمِنٌ ∗∗∗ لِعِزَّتِهِ تَعْنُوا الوُجُوهُ وتَسْجُدُ
وَهَذا الشِّعْرُ لِأُمَيَّةَ بْنِ أبِي الصَّلْتِ وفِيهِ يَقُولُ في وصْفِ المَلائِكَةِ:
وَساجِدُهم لا يَرْفَعُ الدَّهْرَ رَأْسَهُ ∗∗∗ يُعَظِّمُ رَبًّا فَوْقَهُ ويُمَجِّدُ
قالَ: فَإنِ احْتَجُّوا بِقَوْلِهِ تَعالى:
﴿وَهُوَ الَّذِي في السَّماءِ إلَهٌ وفي الأرْضِ إلَهٌ﴾ [الزخرف: ٨٤] وبُقُولِهِ تَعالى:
﴿وَهُوَ اللَّهُ في السَّماواتِ وفي الأرْضِ﴾ [الأنعام: ٣] وبِقَوْلِهِ تَعالى:
﴿ما يَكُونُ مِن نَجْوى ثَلاثَةٍ إلّا هو رابِعُهم ولا خَمْسَةٍ إلّا هو سادِسُهُمْ﴾ [المجادلة: ٧] الآيَةَ، وزَعَمُوا أنَّ اللَّهَ سُبْحانَهُ في كُلِّ مَكانٍ بِنَفْسِهِ وذاتِهِ تَبارَكَ وتَعالى جَدُّهُ. قِيلَ لَهُمْ: لا خِلافَ بَيْنِنا وبَيْنَكم وبَيْنَ سائِرِ الأُمَّةِ أنَّهُ لَيْسَ في الأرْضِ دُونَ السَّماءِ بِذاتِهِ، فَوَجَبَ حَمْلُ هَذِهِ الآياتِ عَلى المَعْنى الصَّحِيحِ المُجْتَمَعِ عَلَيْهِ وذَلِكَ أنَّهُ في السَّماءِ إلَهٌ مَعْبُودٌ مِن أهْلِ السَّماءِ وفي الأرْضِ إلَهٌ مَعْبُودٌ مِن أهْلِ الأرْضِ، وكَذا قالَ أهْلُ العِلْمِ بِالتَّفْسِيرِ وظاهِرُ التَّنْزِيلِ يَشْهَدُ أنَّهُ عَلى العَرْشِ فالِاخْتِلافُ في ذَلِكَ ساقِطٌ وأسْعَدُ النّاسِ بِهِ مَن ساعَدَهُ الظّاهِرُ، وأمّا قَوْلُهُ في الآيَةِ الأُخْرى:
﴿وَفِي الأرْضِ إلَهٌ﴾ [الزخرف: ٨٤] فالإجْماعُ والِاتِّفاقُ قَدْ بَيَّنَ أنَّ المُرادَ أنَّهُ مَعْبُودٌ مِن أهْلِ الأرْضِ فَتَدَبَّرْ هَذا فَإنَّهُ قاطِعٌ.
وَمِنَ الحُجَّةِ أيْضًا في أنَّهُ عَزَّ وجَلَّ عَلى العَرْشِ فَوْقَ السَّماواتِ السَّبْعِ أنَّ المُوَحِّدِينَ أجْمَعِينَ مِنَ العَرَبِ والعَجَمِ إذا كَرَبَهم أمْرٌ، أوْ نَزَلَتْ بِهِمْ شِدَّةٌ رَفَعُوا وُجُوهَهم إلى السَّماءِ ونَصَبُوا أيْدِيَهم رافِعِينَ مُشِيرِينَ بِها إلى السَّماءِ يَسْتَغِيثُونَ اللَّهَ رَبَّهم تَبارَكَ وتَعالى وهَذا أشْهَرُ وأعْرَفُ عِنْدَ الخاصَّةِ والعامَّةِ مِن أنْ يُحْتاجَ فِيهِ إلى " أكْثَرَ مِن " حِكايَتِهِ لِأنَّهُ اضْطِرارٌ لَمْ يُوقِعْهم عَلَيْهِ أحَدٌ ولا أنْكَرَهُ عَلَيْهِمْ مُسْلِمٌ، وقَدْ
«قالَ النَّبِيُّ ﷺ لِلْأمَةِ الَّتِي أرادَ مَوْلاها عِتْقَها إنْ كانَتْ مُؤْمِنَةً فاخْتَبَرَها رَسُولُ اللَّهِ صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ بِأنْ قالَ لَها أيْنَ اللَّهُ؟ فَأشارَتْ إلى السَّماءِ ثُمَّ قالَ لَها مَن أنا؟ قالَتْ: " أنْتَ " رَسُولُ اللَّهِ. قالَ: أعْتِقْها فَإنَّها مُؤْمِنَةٌ» فاكْتَفى رَسُولُ اللَّهِ صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ مِنها بِرَفْعِها رَأسَها إلى السَّماءِ واسْتَغْنى بِذَلِكَ عَمّا سِواهُ قالَ وأمّا احْتِجاجُهم بِقَوْلِهِ تَعالى: (ما
﴿يَكُونُ مِن نَجْوى ثَلاثَةٍ إلّا هو رابِعُهُمْ﴾ [المجادلة: ٧] فَلا حُجَّةَ لَهم في ظاهِرِ هَذِهِ الآيَةِ لِأنَّ عُلَماءَ الصَّحابَةِ والتّابِعِينَ الَّذِينَ حُمِلَ عَنْهُمُ التَّأْوِيلُ في القُرْآنِ قالُوا في تَأْوِيلِ هَذِهِ الآيَةِ: هو عَلى العَرْشِ وعِلْمُهُ في كُلِّ مَكانٍ وما خالَفَهم في ذَلِكَ أحَدٌ يُحْتَجُّ بِقَوْلِهِ، وذَكَرَ سُنَيْدٌ عَنْ مُقاتِلِ بْنِ حَيّانَ عَنِ الضَّحّاكِ بْنِ مُزاحِمٍ في قَوْلِهِ تَعالى:
﴿ما يَكُونُ مِن نَجْوى ثَلاثَةٍ إلّا هو رابِعُهُمْ﴾ [المجادلة: ٧] قالَ هو عَلى عَرْشِهِ، وعِلْمُهُ مَعَهم أيْنَما كانُوا. قالَ: وبَلَغَنِي عَنْ سُفْيانَ الثَّوْرِيِّ مِثْلُهُ
قالَ سُنَيْدٌ وحَدَّثَنا حَمّادُ بْنُ زَيْدٍ عَنْ عاصِمِ ابْنِ بَهْدَلَةَ عَنْ زِرِّ بْنِ حُبَيْشٍ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قالَ: اللَّهُ فَوْقَ العَرْشِ لا يَخْفى عَلَيْهِ شَيْءٌ مِن أعْمالِكم. ثُمَّ ساقَ مِن طَرِيقِ يَزِيدَ بْنِ هارُونَ عَنْ حَمّادِ بْنِ سَلَمَةَ عَنْ عاصِمِ ابْنِ بَهْدَلَةَ عَنْ زِرٍّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قالَ: ما بَيْنَ السَّماءِ إلى الأرْضِ مَسِيرَةُ خَمْسِمِائَةِ عامٍ، وما بَيْنَ كُلِّ سَماءٍ إلى الأُخْرى مَسِيرَةُ خَمْسِمِائَةِ عامٍ، وما بَيْنَ السَّماءِ السّابِعَةِ إلى الكُرْسِيِّ مَسِيرَةُ خَمْسِمِائَةِ عامٍ، وما بَيْنَ الكُرْسِيِّ إلى الماءِ مَسِيرَةُ خَمْسِمِائَةِ عامٍ، والعَرْشُ عَلى الماءِ واللَّهُ عَلى العَرْشِ، ويَعْلَمُ أعْمالَكم وذَكَرَ هَذا الكَلامَ أوْ قَرِيبًا مِنهُ في كِتابِ الِاسْتِذْكارِ.
[قَوْلُ الإمامِ أبِي عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عِيسى المالِكِيِّ المَشْهُورِ بِابْنِ أبِي زَمَنِينَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعالى]
قالَ في كِتابِهِ الَّذِي صَنَّفَهُ في أُصُولِ السُّنَّةِ: بابُ الإيمانِ بِالعَرْشِ قالَ: ومِن قَوْلِ أهْلِ السُّنَّةِ أنَّ اللَّهَ عَزَّ وجَلَّ خَلَقَ العَرْشَ واخْتَصَّهُ بِالعُلُوِّ والِارْتِفاعِ فَوْقَ جَمِيعِ ما خَلَقَ ثُمَّ اسْتَوى عَلَيْهِ كَيْفَ شاءَ كَما أخْبَرَ عَنْ نَفْسِهِ في قَوْلِهِ عَزَّ وجَلَّ:
﴿الرَّحْمَنُ عَلى العَرْشِ اسْتَوى﴾ [طه: ٥] وفي قَوْلِهِ تَعالى:
﴿ثُمَّ اسْتَوى عَلى العَرْشِ يَعْلَمُ ما يَلِجُ في الأرْضِ وما يَخْرُجُ مِنها وما يَنْزِلُ مِنَ السَّماءِ وما يَعْرُجُ فِيها﴾ [الحديد: ٤] وذَكَرَ حَدِيثَ أبِي رَزِينٍ العُقَيْلِيِّ قالَ: قُلْتُ
«يا رَسُولَ اللَّهِ أيْنَ كانَ رَبُّنا قَبْلَ أنْ يَخْلُقَ السَّماواتِ والأرْضَ؟ قالَ كانَ في عَماءٍ ما فَوْقَهُ هَواءٌ وما تَحْتَهُ هَواءٌ ثُمَّ خَلَقَ عَرْشَهُ عَلى الماءِ»: ثُمَّ ذَكَرَ الآثارَ في ذَلِكَ إلى أنْ قالَ: بابُ الإيمانِ بِالحُجُبِ قالَ: ومِن قَوْلِ أهْلِ السُّنَّةِ أنَّ اللَّهَ تَعالى بائِنٌ مِن خَلْقِهِ مُحْتَجِبٌ عَنْهم بِالحُجُبِ تَعالى اللَّهُ عَمّا يَقُولُ الظّالِمُونَ عُلُوًّا كَبِيرًا:
﴿كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِن أفْواهِهِمْ إنْ يَقُولُونَ إلّا كَذِبًا﴾ [الكهف: ٥] إلى أنْ قالَ: بابُ الإيمانِ بِالنُّزُولِ، قالَ: ومِن قَوْلِ أهْلِ السُّنَّةِ أنَّ اللَّهَ يَنْزِلُ إلى السَّماءِ الدُّنْيا وذَكَرَ حَدِيثَ النُّزُولِ، ثُمَّ قالَ: وهَذا الحَدِيثُ يُبَيِّنُ أنَّ اللَّهَ تَعالى عَلى عَرْشِهِ في السَّماءِ دُونَ الأرْضِ وهو أيْضًا بَيِّنٌ في كِتابِ اللَّهِ تَعالى وتَقَدَّسَ وفي غَيْرِ ما حَدِيثٍ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ قالَ اللَّهُ عَزَّ وجَلَّ:
﴿يُدَبِّرُ الأمْرَ مِنَ السَّماءِ إلى الأرْضِ﴾ [السجدة: ٥] ﴿ثُمَّ يَعْرُجُ إلَيْهِ﴾ [السجدة: ٥] وساقَ الآياتِ في العُلُوِّ وذَكَرَ مِن طَرِيقِ أنَسِ بْنِ مالِكٍ قَوْلَ النَّبِيِّ ﷺ لِلْجارِيَةِ أيْنَ اللَّهُ؟ ثُمَّ قالَ: والأحادِيثُ مِثْلُ هَذا كَثِيرَةٌ جِدًّا.
[ذِكْرُ قَوْلِ الإمامِ مُحَمَّدِ بْنِ إدْرِيسَ الشّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعالى وقَدَّسَ رُوحَهُ ونَوَّرَ ضَرِيحَهُ]
قالَ الإمامُ ابْنُ الإمامِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أبِي حاتِمٍ الرّازِيُّ حَدَّثَنا أبُو شُعَيْبٍ وأبُو ثَوْرٍ عَنْ أبِي عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدِ بْنِ إدْرِيسَ الشّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعالى قالَ: القَوْلُ في السُّنَّةِ الَّتِي أنا عَلَيْها ورَأيْتُ أصْحابَنا عَلَيْها أهْلَ الحَدِيثِ الَّذِينَ رَأيْتُهم وأخَذْتُ عَنْهم مِثْلَ سُفْيانَ ومالِكٍ وغَيْرِهِما الإقْرارُ بِشَهادَةِ أنْ لا إلَهَ إلّا اللَّهُ وأنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ وأنَّ اللَّهَ تَعالى عَلى عَرْشِهِ في سَمائِهِ يَقْرُبُ مِن خَلْقِهِ كَيْفَ شاءَ وأنَّ اللَّهَ تَعالى يَنْزِلُ إلى سَماءِ الدُّنْيا كَيْفَ شاءَ. قالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ وحَدَّثَنا يُونُسُ بْنُ عَبْدِ الأعْلى قالَ: سَمِعْتُ أبا عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدَ بْنَ إدْرِيسَ الشّافِعِيَّ يَقُولُ وقَدْ سُئِلَ عَنْ صِفاتِ اللَّهِ وما يُؤْمِنُ بِهِ فَقالَ: لِلَّهِ تَعالى أسْماءٌ وصَفاتٌ جاءَ بِها كِتابُهُ وأخْبَرَ بِها نَبِيُّهُ أُمَّتَهُ لا يَسَعُ أحَدًا مِن خَلْقِ اللَّهِ قامَتْ عَلَيْهِ الحُجَّةُ رَدُّها؛ لِأنَّ القُرْآنَ نَزَلَ بِها وصَحَّ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ القَوْلُ " بِها " فِيما رَوى عَنْهُ العُدُولُ فَإنْ خالَفَ ذَلِكَ بَعْدَ ثُبُوتِ الحُجَّةِ عَلَيْهِ فَهو كافِرٌ أمّا قَبْلَ ثُبُوتِ الحُجَّةِ عَلَيْهِ فَمَعْذُورٌ بِالجَهْلِ لِأنَّ عِلْمَ ذَلِكَ لا يُدْرَكُ بِالعَقْلِ ولا بِالرَّوِيَّةِ والقَلْبِ ولا نُكَفِّرُ بِالجَهْلِ بِها أحَدًا إلّا بَعْدَ انْتِهاءِ الخَبَرِ إلَيْهِ بِها وتَثْبِيتِ هَذِهِ الصِّفاتِ ونَنْفِي عَنْها التَّشْبِيهَ كَما نَفى التَّشْبِيهَ عَنْ نَفْسِهِ فَقالَ:
﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وهو السَّمِيعُ البَصِيرُ﴾ [الشورى: ١١] وصَحَّ عَنِ الشّافِعِيِّ أنَّهُ قالَ: خِلافَةُ أبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ " حَقٌّ " قَضاها اللَّهُ في سَمائِهِ وجَمَعَ عَلَيْها قُلُوبَ أصْحابِ نَبِيِّهِ ومَعْلُومٌ أنَّ المَقْضِيَّ في الأرْضِ والقَضاءَ فِعْلُهُ سُبْحانَهُ وتَعالى المُتَضَمِّنُ لِمَشِيئَتِهِ وقُدْرَتِهِ وقالَ في خُطْبَةِ رِسالَتِهِ: (الحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هو كَما وصَفَ بِهِ نَفْسَهُ وفَوْقَ ما يَصِفُهُ بِهِ خَلْقُهُ) فَجَعَلَ صِفاتِهِ سُبْحانَهُ إنَّما تُتَلَقّى بِالسَّمْعِ. وقالَ يُونُسُ بْنُ عَبْدِ الأعْلى: قالَ لِي مُحَمَّدُ بْنُ إدْرِيسَ الشّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، الأصْلُ قُرْآنٌ وسُنَّةٌ فَإنْ لَمْ يَكُنْ فَقِياسٌ عَلَيْهِما وإذا اتَّصَلَ الحَدِيثُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ وصَحَّ الإسْنادُ مِنهُ فَهو سُنَّةٌ، والإجْماعُ أكْبَرُ مِنَ الخَبَرِ المُفْرَدِ، والحَدِيثُ عَلى ظاهِرِهِ، وإذا احْتَمَلَ المَعانِي فَما أشْبَهَ مِنها ظاهَرَهُ فَهو أوْلى بِهِ، قالَ الخَطِيبُ في الكِفايَةِ: أخْبَرَنا أبُو نُعَيْمٍ الحافِظُ حَدَّثَنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ جَعْفَرِ بْنِ حَيّانَ حَدَّثَنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ يَعْقُوبَ حَدَّثَنا أبُو حاتِمٍ الرّازِيُّ حَدَّثَنِي يُونُسُ بْنُ عَبْدِ الأعْلى فَذَكَرَهُ بِهِ.
[قَوْلُ صاحِبِهِ إمامِ الشّافِعِيَّةِ في وقْتِهِ أبِي إبْراهِيمَ إسْماعِيلَ بْنِ يَحْيى المُزَنِيِّ]
فِي رِسالَتِهِ في السُّنَّةِ الَّتِي رَواها أبُو طاهِرٍ السِّلَفِيُّ عَنْهُ بِإسْنادِهِ ونَحْنُ نَسُوقُها كُلَّها بِلَفْظِها. بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ. عَصَمَنا اللَّهُ وإيّاكم بِالتَّقْوى ووَفَّقَنا وإيّاكم لِمُوافَقَةِ الهُدى، أمّا بَعْدُ فَإنَّكَ سَألْتَنِي أنْ أُوَضِّحَ لَكَ مِنَ السُّنَّةِ أمْرًا تُبَصِّرُ نَفْسَكَ عَلى التَّمَسُّكِ " بِهِ " وتَدْرَأُ بِهِ عَنْكَ شُبَهَ الأقاوِيلِ وزَيْغَ مُحْدَثاتِ الضّالِّينَ فَقَدْ شَرَحْتُ " لَكَ " مِنهاجًا واضِحًا لَمْ آلُ نَفْسِي وإيّاكَ فِيهِ نُصْحًا، بَدَأْتُ فِيهِ بِحَمْدِ اللَّهِ ذِي الرُّشْدِ والتَّسْدِيدِ، الحَمْدُ لِلَّهِ أحَقِّ ما بُدِأ، وأوْلى مَن شُكِرَ، وعَلَيْهِ أُثْنِي، الواحِدِ الصَّمَدِ الَّذِي لَيْسَ لَهُ صاحِبَةٌ ولا ولَدٌ جَلَّ عَنِ المَثَلِ فَلا شَبِيهَ لَهُ ولا عَدِيلَ السَّمِيعِ البَصِيرِ العَلِيمِ الخَبِيرِ المَنِيعِ الرَّفِيعِ، عالٍ عَلى عَرْشِهِ وهو دانٍ بِعِلْمِهِ مِن خَلْقِهِ أحاطَ عِلْمُهُ
بِالأُمُورِ وأنْفَذَ في خَلْقِهِ سابِقَ المَقْدُورِ، و
﴿يَعْلَمُ خائِنَةَ الأعْيُنِ وما تُخْفِي الصُّدُورُ﴾، فالخَلْقُ عامِلُونَ بِسابِقِ عِلْمِهِ ونافِذُونَ لِما خَلَقَهم لَهُ مِن خَيْرٍ وشَرٍّ، لا يَمْلِكُونَ لِأنْفُسِهِمْ مِنَ الطّاعَةِ ولا يَجِدُونَ إلى صَرْفِ المَعْصِيَةِ عَنْها دَفْعًا، خَلَقَ الخَلْقَ بِمَشِيئَتِهِ مِن غَيْرِ حاجَةٍ كانَتْ بِهِ، فَخَلَقَ المَلائِكَةَ جَمِيعًا لِطاعَتِهِ وجَبَلَهم عَلى عِبادَتِهِ، فَمِنهم مَلائِكَةٌ بِقُدْرَتِهِ لِلْعَرْشِ حامِلُونَ، وطائِفَةٌ مِنهم حَوْلَ عَرْشِهِ يَسْبَحُونَ، وآخَرُونَ بِحَمْدِهِ يُقَدِّسُونَ، واصْطَفى مِنهم رُسُلًا إلى رُسُلِهِ، وبَعْضٌ مُدَبِّرُونَ لِأمْرِهِ. ثُمَّ خَلَقَ آدَمَ بِيَدِهِ وأسْكَنَهُ جَنَّتَهُ، وقَبْلَ ذَلِكَ لِلْأرْضِ خَلَقَهُ ونَهاهُ عَنْ شَجَرَةٍ قَدْ نَفَذَ قَضاؤُهُ عَلَيْهِ بِأكْلِها ثُمَّ ابْتَلاهُ بِما نَهاهُ عَنْهُ مِنها ثُمَّ سَلَّطَ عَلَيْهِ عَدُوَّهُ فَأغْواهُ عَلَيْها وجَعَلَ أكْلَهُ " إلى الهُبُوطِ " إلى الأرْضِ سَبَبًا فَما وجَدَ إلى تَرْكِ أكْلِها سَبِيلًا ولا عَنْهُ لَها مَذْهَبًا. ثُمَّ خَلَقَ لِلْجَنَّةِ مِن ذُرِّيَّتِهِ أهْلًا فَهم بِأعْمالِهِمْ؟ بِمَشِيئَتِهِ عامِلُونَ وبِقُدْرَتِهِ وبِإرادَتِهِ يُنَفِّذُونَ. وخَلَقَ مِن ذُرِّيَّتِهِ لِلنّارِ أهْلًا فَخَلَقَ لَهم أعْيُنًا لا يُبْصِرُونَ بِها وآذانًا لا يَسْمَعُونَ بِها وقُلُوبًا لا يَفْقَهُونَ بِها فَهم بِذَلِكَ عَنِ الهُدى مَحْجُوبُونَ وهم بِأعْمالِ أهْلِ النّارِ بِسابِقِ قَدَرِهِ يَعْمَلُونَ، والإيمانُ قَوْلٌ وعَمَلٌ وهُما شَيْئانِ ونِظامانِ وقَرِينانِ لا يُفَرَّقُ بَيْنَهُما؛ لا إيمانَ إلّا بِعَمَلٍ ولا عَمَلَ إلّا بِإيمانٍ.
والمُؤْمِنُونَ في الإيمانِ يَتَفاضَلُونَ وبِصالِحِ الأعْمالِ هم مُتَزايَدُونَ ولا يَخْرُجُونَ مِنَ الإيمانِ بِالذُّنُوبِ ولا يُكَفَّرُونَ بِرُكُوبِ كَبِيرَةٍ ولا عِصْيانٍ ولا يُوجَبُ لِمُحْسِنِهِمْ بِغَيْرِ ما أوْجَبَ لَهُ النَّبِيُّ صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ، ولا يُشْهَدُ عَلى مُسِيئِهِمْ بِالنّارِ.
والقُرْآنُ كَلامُ اللَّهِ عَزَّ وجَلَّ ومِنَ اللَّهِ، ولَيْسَ بِمَخْلُوقٍ فَيَبِيدُ وقُدْرَةُ اللَّهِ ونِعْمَتُهُ وصِفاتُهُ كُلُّها غَيْرُ مَخْلُوقاتٍ دائِماتٌ أزَلِيَّةٌ لَيْسَتْ بِمُحْدَثاتٍ ولا كانَ رَبُّنا ناقِصًا فَيَزِيدُ جَلَّتْ صِفاتُهُ عَنْ شَبَهِ المَخْلُوقِينَ وقَصُرَتْ عَنْ فِطَنِ الواصِفِينَ قَرِيبٌ بِالإجابَةِ عِنْدَ السُّؤالِ بَعِيدٌ بِالتَّعْزِيزِ لا يُنالُ عالٍ عَرْشُهُ بائِنٌ عَنْ خَلْقِهِ مَوْجُودٌ لَيْسَ بِمَعْدُومٍ ولا مَفْقُودٍ، والخَلْقُ مَيِّتُونَ بِآجالِهِمْ عِنْدَ نَفادِ أرْزاقِهِمْ وانْقِطاعِ آثارِهِمْ. ثُمَّ هم بَعْدَ الضَّغْطَةِ في القُبُورِ مَسْئُولُونَ. وبَعْدَ البِلى مَنشُورُونَ ويَوْمَ القِيامَةِ إلى رَبِّهِمْ مَحْشُورُونَ وعِنْدَ العَرْضِ عَلَيْهِ مُحاسَبُونَ بِحَضْرَةِ المَوازِينِ ونَشْرِ صُحُفِ الدَّواوِينِ أحْصاهُ اللَّهُ ونَسُوهُ في يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ خَمْسِينَ ألْفَ سَنَةٍ لَوْ كانَ غَيْرُ اللَّهِ عَزَّ وجَلَّ الحاكِمَ بَيْنَ خَلْقِهِ، فاللَّهُ يَلِي الحُكْمَ بَيْنَهم بِعَدْلِهِ بِمِقْدارِ القائِلَةِ في الدُّنْيا وهو أسْرَعُ الحاسِبِينَ كَما بَدَأهُمْ، مَن لَهُ شَقاوَةٌ وسَعادَةٌ. يَوْمَئِذٍ تَعُودُونَ فَرِيقٌ في الجَنَّةِ وفَرِيقٌ في السَّعِيرِ، وأهْلُ الجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ يَنْعَمُونَ وبِصُنُوفِ اللَّذّاتِ يَتَلَذَّذُونَ وبِأفْضَلِ الكَرامَةِ يُحْبَرُونَ، فَهم حِينَئِذٍ إلى رَبِّهِمْ يَنْظُرُونَ، لا يُمارُونَ في النَّظَرِ ولا يَشْكُونَ فَوُجُوهُهم بِكَرامَتِهِ ناضِرَةٌ وأعْيُنُهم بِفَضْلِهِ إلَيْهِ ناظِرَةٌ في نَعِيمٍ دائِمٍ مُقِيمٍ
﴿لا يَمَسُّهم فِيها نَصَبٌ وما هم مِنها بِمُخْرَجِينَ﴾ [الحجر: ٤٨] ﴿أُكُلُها دائِمٌ وظِلُّها تِلْكَ عُقْبى الَّذِينَ اتَّقَوْا وعُقْبى الكافِرِينَ النّارُ﴾ [الرعد: ٣٥]. وأهَلُ الجَحْدِ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ مَحْجُوبُونَ وفي النّارِ مُسْجَرُونَ
﴿لَبِئْسَ ما قَدَّمَتْ لَهم أنْفُسُهم أنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وفي العَذابِ هم خالِدُونَ﴾ [المائدة: ٨٠] لا يُقْضى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا ولا يُخَفَّفُ عَنْهم مِن عَذابِها إلّا مَن شاءَ اللَّهُ إخْراجَهُ مِنَ المُوَحِّدِينَ مِنها، والطّاعَةُ لِأُولِي الأمْرِ فِيما كانَ عِنْدَ اللَّهِ عَزَّ وجَلَّ مَرْضِيًّا واجْتِنابُ ما كانَ مُسْخَطًا وتَرْكُ الخُرُوجِ عِنْدَ تَعَدِّيهِمْ وجَوْرِهِمْ والتَّوْبَةُ إلى اللَّهِ عَزَّ وجَلَّ كَيْما يَعْطِفْ بِهِمْ عَلى رَعِيَّتِهِمْ والإمْساكُ عَنْ تَكْفِيرِ أهْلِ القِبْلَةِ والبَراءَةُ مِنهم فِيما أحْدَثُوا ما لَمْ يَبْتَدِعُوا ضَلالَةً، فَمَنِ ابْتَدَعَ مِنهم ضَلالَةً كانَ عَنْ أهْلِ القِبْلَةِ خارِجًا ومِنَ الدِّينِ مارِقًا ويُتَقَرَّبُ إلى اللَّهِ بِالبَراءَةِ مِنهُ، ونَهْجُرُ ونَتَجَنَّبُ غُرَّتَهُ فَهي أعْدى مِن غِرَّةِ الحَرْبِ.
وَيُقالُ يُفَضَّلُ خَلِيفَةُ رَسُولِ اللَّهِ صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ ثُمَّ عُمَرُ فَهُما وزِيرا رَسُولِ اللَّهِ ﷺ وضَجِيعاهُ، ثُمَّ عُثْمانُ، ثُمَّ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهم أجْمَعِينَ ثُمَّ الباقِينَ مِنَ العَشَرَةِ الَّذِينَ أوْجَبَ لَهم رَسُولُ اللَّهِ ﷺ الجَنَّةَ ويُخْلَصُ لِكُلِّ رَجُلٍ مِنهم مَنِ المَحَبَّةِ بِقَدْرِ الَّذِي أوْجَبَهُ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ مِنَ التَّفْضِيلِ ثُمَّ لِسائِرِ أصْحابِهِ مِن بَعْدِهِمْ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهم أجْمَعِينَ، ويُقالُ بِفَضْلِهِمْ، ويُذْكَرُونَ بِمَحاسِنِ أفْعالِهِمْ، ويُمْسَكُ عَنِ الخَوْضِ فِيما شَجَرَ بَيْنَهم وهم خِيارُ أهْلِ الأرْضِ بَعْدَ نَبِيِّهِمُ اخْتارَهُمُ اللَّهُ عَزَّ وجَلَّ وجَعَلَهم أنْصارًا لِدِينِهِ فَهم أئِمَّةُ الدِّينِ وأعْلامُ المُسْلِمِينَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهم أجْمَعِينَ، ولا نَتْرُكُ حُضُورَ صَلاةِ الجُمْعَةِ وصَلاتَها مَعَ بَرِّ هَذِهِ الأُمَّةِ وفاجِرِها ما كانَ مِنَ البِدْعَةِ بَرِيًّا، والجِهادُ مَعَ كُلِّ إمامٍ عادِلٍ أوْ جائِرٍ والحَجُّ وإقْصارُ الصَّلاةِ في الأسْفارِ والتَّخْيِيرُ فِيهِ بَيْنَ الصِّيامِ والإفْطارِ، هَذِهِ مَقالاتٌ اجْتَمَعَ عَلَيْها الماضُونَ الأوَّلُونَ مِن أئِمَّةِ الهُدى وبِتَوْفِيقِ اللَّهِ اعْتَصَمَ بِها التّابِعُونَ قُدْوَةً ورِضا وجانَبُوا التَّكَلُّفَ فِيما كَفُّوا فَسَدَّدُوا بِعَوْنِ اللَّهِ ووُفِّقُوا لَمْ يَرْغَبُوا عَنْ الِاتِّباعِ فَيُقَصِّرُوا ولَمْ يُجاوِزُوهُ فَيَعْتَدُوا فَنَحْنُ بِاللَّهِ واثِقُونَ وعَلَيْهِ مُتَوَكِّلُونَ وإلَيْهِ في اتِّباعِ آثارِهِمْ راغِبُونَ. فَهَذا شَرْحُ السُّنَّةِ تَحَرَّيْتُ كَشْفَها وأوْضَحْتُهُ، فَمَن وفَّقَهُ اللَّهُ لِلْقِيامِ بِما أبَنْتُهُ مَعَ مَعُونَتِهِ لَهُ بِالقِيامِ عَلى أداءِ فَرائِضِهِ بِالِاحْتِياطِ في النَّجاساتِ وإسْباغِ الطِّهاراتِ عَلى الطّاعاتِ وأداءِ الصَّلَواتِ عَلى الِاسْتِطاعاتِ وإيتاءِ الزَّكاةِ عَلى أهْلِ الجِداتِ والحَجِّ عَلى أهْلِ الجِدَةِ والِاسْتِطاعاتِ وصِيامِ شَهْرِ رَمَضانَ لِأهْلِ الصِّحّاتِ، وخَمْسِ صَلَواتٍ سَنَّها رَسُولُ اللَّهِ ﷺ وصَلاةِ الوَتْرِ في كُلِّ لَيْلَةٍ ورَكْعَتا الفَجْرِ وصَلاةِ الفِطْرِ والنَّحْرِ وصَلاةِ الكُسُوفِ وصَلاةِ الِاسْتِسْقاءِ واجْتِنابِ المَحارِمِ والِاحْتِرازِ مِنَ النَّمِيمَةِ والكَذِبِ والغَيْبَةِ والبَغْيِ بِغَيْرِ الحَقِّ وأنْ تَقُولَ عَلى اللَّهِ ما لا تَعْلَمُ، كُلُّ هَذِهِ كَبائِرُ مُحَرَّماتٌ والتَّحَرِّي في المَكاسِبِ والمَطاعِمِ والمَحارِمِ والمَشارِبِ والمَلابِسِ واجْتِنابِ الشَّهَواتِ فَإنَّها داعِيَةٌ لِرُكُوبِ المُحَرَّماتِ فَمَن رَعى حَوْلَ الحِمى فَإنَّهُ يُوشِكُ أنْ يُواقِعَ في الحِمى فَمَن يُسِّرَ لِهَذا فَإنَّهُ مِنَ الدِّينِ عَلى هُدى ومِنَ الرَّحْمَنِ عَلى رَجاءٍ. وفَّقَنا اللَّهُ وإيّاكَ إلى سَبِيلِهِ الأقْوَمِ بِمَنِّهِ الجَزِيلِ الأقْدَمِ وجَلالِهِ العَلِيِّ الأكْرَمِ والسَّلامُ عَلَيْكَ ورَحْمَةُ اللَّهِ وبَرَكاتُهُ وعَلى مَن قَرَأ عَلَيْنا السَّلامَ ولا يَنالُ سَلامَ اللَّهِ تَعالى الضّالُّونَ، والحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ العالَمِينَ.
[قَوْلُ إمامِ الشّافِعِيَّةِ في وقْتِهِ أبِي العَبّاسِ ابْنِ سُرَيْجٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعالى]
ذَكَرَ أبُو القاسِمِ سَعْدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ مُحَمَّدٍ الزَّنْجانِيُّ في جَواباتِ المَسائِلِ الَّتِي سُئِلَ عَنْها بِمَكَّةَ فَقالَ: الحَمْدُ لِلَّهِ أوَّلًا وآخِرًا وظاهِرًا وباطِنًا وعَلى كُلِّ حالٍ وصَلّى اللَّهُ عَلى مُحَمَّدٍ المُصْطَفى وعَلى الأخْيارِ الطَّيِّبِينَ مِنَ الأصْحابِ والآلِ، سَألْتَ أيَّدَكَ اللَّهُ تَعالى بِتَوْفِيقِهِ بَيانَ ما صَحَّ لَدَيَّ وتَأدّى حَقِيقَتُهُ إلى مَن مَذْهَبِ السَّلَفِ وصالِحِي الخَلَفِ في الصِّفاتِ الوارِدَةِ في الكِتابِ المُنَزَّلِ والسُّنَّةِ المَنقُولَةِ بِالطُّرُقِ الصَّحِيحَةِ بِرِوايَةِ الثِّقاتِ الأثْباتِ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ بِوَجِيزٍ مِنَ القَوْلِ واخْتِصارٍ في الجَوابِ فاسْتَخَرْتُ اللَّهَ سُبْحانَهُ وتَعالى وأجَبْتُ عَنْهُ بِجَوابِ بَعْضِ الأئِمَّةِ الفُقَهاءِ، وهو أبُو العَبّاسِ أحْمَدُ بْنُ عُمَرَ بْنِ سُرَيْجٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعالى وقَدْ سُئِلَ عَنْ مِثْلِ هَذا السُّؤالِ فَقالَ: أقُولُ وبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ، حَرامٌ عَلى العُقُولِ أنْ تُمَثِّلَ اللَّهَ سُبْحانَهُ وتَعالى، وعَلى الأوْهامِ أنْ تَحُدَّهُ، وعَلى الظُّنُونِ أنْ تَقْطَعَ، وعَلى الضَّمائِرِ أنْ تَعْمُقَ، وعَلى النُّفُوسِ أنَّ تُفَكِّرَ، وعَلى الأفْكارِ أنْ تُحِيطَ وعَلى الألْبابِ أنْ تَصِفَ إلّا ما وصَفَ بِهِ نَفْسَهُ في كِتابِهِ أوْ عَلى لِسانِ رَسُولِهِ ﷺ وقَدْ صَحَّ وتَقَرَّرَ واتَّضَحَ عِنْدَ جَمِيعِ أهْلِ الدِّيانَةِ والسُّنَّةِ والجَماعَةِ مِنَ السَّلَفِ الماضِينَ والصَّحابَةِ والتّابِعِينَ مِنَ الأئِمَّةِ المُهْتَدِينَ الرّاشِدِينَ المَشْهُورِينَ إلى زَمانِنا هَذا: أنَّ جَمِيعَ الآيِ الوارِدَةِ عَنِ اللَّهِ تَعالى في ذاتِهِ وصِفاتِهِ والأخْبارِ الصّادِقَةِ (الصّادِرَةِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ في اللَّهِ وفي صِفاتِهِ) الَّتِي صَحَّحَها أهْلُ النَّقْلِ وقَبِلَها النُّقّادُ الأثْباتُ. يَجِبُ عَلى المَرْءِ المُسْلِمِ المُؤْمِنِ المُوَقِنِ الإيمانَ بِكُلِّ واحِدٍ مِنهُ، كَما ورَدَ وتَسْلِيمُ أمْرِهِ إلى اللَّهِ سُبْحانَهُ وتَعالى كَما أمَرَ وذَلِكَ مِثْلُ قَوْلِهِ تَعالى:
﴿هَلْ يَنْظُرُونَ إلّا أنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ في ظُلَلٍ مِنَ الغَمامِ والمَلائِكَةُ﴾ [البقرة: ٢١٠] وقَوْلِهِ تَعالى:
﴿وَجاءَ رَبُّكَ والمَلَكُ صَفًّا صَفًّا﴾ [الفجر: ٢٢] وقَوْلِهِ تَعالى:
﴿الرَّحْمَنُ عَلى العَرْشِ اسْتَوى﴾ [طه: ٥] وقَوْلِهِ تَعالى
﴿والأرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ القِيامَةِ والسَّماواتُ مَطْوِيّاتٌ بِيَمِينِهِ﴾ [الزمر: ٦٧] ونَظائِرُها مِمّا نَطَقَ بِهِ القُرْآنُ كالفَوْقِيَّةِ والنَّفْسِ واليَدَيْنِ والسَّمْعِ والبَصَرِ والكَلامِ والعَيْنِ والنَّظَرِ والإرادَةِ والرِّضى والغَضَبِ والمَحَبَّةِ والكَراهَةِ والعِنايَةِ والقُرْبِ والبُعْدِ والسُّخْطِ والِاسْتِحْياءِ والدُّنُوِّ كَقابِ قَوْسَيْنِ أوْ أدْنى وصُعُودِ الكَلامِ الطَّيِّبِ " إلَيْهِ " وعُرُوجِ المَلائِكَةِ والرُّوحِ إلَيْهِ ونُزُولِ القُرْآنِ مِنهُ ونِدائِهِ الأنْبِياءَ عَلَيْهِمُ الصَّلاةُ السَّلامُ وقَوْلِهِ لِلْمَلائِكَةِ وقَبْضِهِ وبَسْطِهِ وعِلْمِهِ ووَحْدانِيَّتِهِ وقُدْرَتِهِ ومَشِيئَتِهِ وصَمَدِيَّتِهِ وفَرْدانِيَّتِهِ وأوَّلِيَّتِهِ وآخِرِيَّتِهِ وظاهِرِيَّتِهِ وباطِنِيَّتِهِ وحَياتِهِ وبَقائِهِ وأزَلِيَّتِهِ وأبَدِيَّتِهِ ونُورِهِ وتَجَلِّيهِ والوَجْهِ وخَلْقِ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلامُ بِيَدِهِ، ونَحْوِ قَوْلِهِ تَعالى:
﴿أأمِنتُمْ مَن في السَّماءِ أنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الأرْضَ﴾ [الملك: ١٦] وقَوْلِهِ تَعالى:
﴿وَهُوَ الَّذِي في السَّماءِ إلَهٌ وفي الأرْضِ إلَهٌ﴾ [الزخرف: ٨٤] وسَماعِهِ مِن غَيْرِهِ، وسَماعِ غَيْرِهِ مِنهُ وغَيْرِ ذَلِكَ مِن صِفاتِهِ المُتَعَلِّقَةِ بِهِ المَذْكُورَةِ في كِتابِهِ المُنَزَّلِ عَلى نَبِيِّهِ ﷺ وجَمِيعِ ما لَفَظَ بِهِ المُصْطَفى ﷺ مِن صِفاتِهِ كَغَرْسِهِ جَنَّةَ الفِرْدَوْسِ بِيَدِهِ وشَجَرَةَ طُوبى بِيَدِهِ وخَطِّ التَّوْراةِ بِيَدِهِ والضَّحِكِ والتَّعَجُّبِ ووَضْعِهِ القَدَمَ عَلى النّارِ فَتَقُولُ: قَطْ قَطْ، وذِكْرِ الأصابِعِ، والنُّزُولِ كُلَّ لَيْلَةٍ إلى سَماءِ الدُّنْيا ولَيْلَةَ الجُمْعَةِ ولَيْلَةَ النِّصْفِ مِن شَعْبانَ ولَيْلَةَ القَدْرِ، وكَغَيْرَتِهِ وفَرَحِهِ بِتَوْبَةِ العَبْدِ واحْتِجابِهِ بِالنُّورِ وبِرِداءِ الكِبْرِياءِ وأنَّهُ لَيْسَ بِأعْوَرَ، وأنَّهُ يُعْرِضُ عَمّا يَكْرَهُ ولا يَنْظُرُ إلَيْهِ، وأنَّ كِلْتا يَدَيْهِ يَمِينٌ واخْتِيارِ آدَمَ قَبْضَتَةُ اليُمْنى وحَدِيثِ القَبْضَةِ ولَهُ كُلَّ يَوْمٍ كَذا وكَذا نَظْرَةٌ في اللَّوْحِ المَحْفُوظِ وأنَّهُ يَوْمَ القِيامَةِ يَحْثُو ثَلاثَ حَثَياتٍ. . . فَيُدْخِلُهُمُ الجَنَّةَ ولَمّا خَلَقَ آدَمَ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ مَسَحَ ظَهْرَهُ بِيَمِينِهِ فَقَبَضَ قَبْضَةً فَقالَ: هَذِهِ لِلْجَنَّةِ ولا أُبالِي أصْحابَ اليَمِينِ، وقَبَضَ قَبْضَةً أُخْرى وقالَ: هَذِهِ لِلنّارِ ولا أُبالِي أصْحابَ الشِّمالِ ثُمَّ رَدَّهم في صُلْبِ آدَمَ، وحَدِيثِ القَبْضَةِ الَّتِي يَخْرُجُ بِها مِنَ النّارِ قَوْمًا لَمْ يَعْمَلُوا خَيْرًا قَطُّ عادُوا حُمَمًا فَيُلْقَوْنَ في نَهْرٍ مِنَ الجَنَّةِ يُقالُ لَهُ: (نَهْرُ) الحَياةِ، وحَدِيثُ خَلْقِ آدَمَ عَلى صُورَتِهِ وقَوْلِهِ:
«لا تُقَبِّحُوا الوَجْهَ فَإنَّ اللَّهَ خَلَقَ صُورَةِ الرَّحْمَنِ» وإثْباتِ الكَلامِ بِالحَرْفِ والصَّوْتِ وبِاللُّغاتِ وبِالكَلِماتِ وبِالسُّوَرِ وكَلامِهِ تَعالى لِجِبْرِيلَ والمَلائِكَةَ ولِمَلَكِ الأرْحامِ ولِلرَّحِمِ ولِمَلَكِ المَوْتِ ولِرِضْوانَ ولِمالِكٍ ولِآدَمَ ولِمُوسى ولِمُحَمَّدٍ ﷺ ولِلْمُؤْمِنِ عِنْدَ الحِسابِ، وفي الجَنَّةِ ونُزُولِ القُرْآنِ إلى سَماءِ الدُّنْيا وكُوْنِ القُرْآنِ في المَصاحِفِ وما أذِنَ اللَّهُ لِشَيْءٍ كَإذْنِهِ لِنَبِيٍّ يَتَغَنّى بِالقُرْآنِ وقَوْلِهِ:
«لَلَّهُ أشُدُّ أذَنًا لِقارِيءِ القُرْآنِ مِن صاحِبِ القَيْنَةِ إلى قَيْنَتِهِ وأنَّ اللَّهَ يُحِبُّ العُطاسَ ويَكْرَهُ التَّثاؤُبَ»، وفَرَغَ اللَّهُ مِنَ الرِّزْقِ، والأجْلِ. وحَدِيثِ ذَبْحِ المَوْتِ ومُباهاتِ اللَّهِ تَعالى وصُعُودِ الأقْوالِ والأعْمالِ والأرْواحِ إلَيْهِ. وحَدِيثِ مِعْراجِ الرَّسُولِ ﷺ بِبَدَنِهِ ونَفْسِهِ ونَظَرِهِ إلى الجَنَّةِ والنّارِ، وبُلُوغِهِ إلى العَرْشِ إلى أنْ لَمْ يَكُنْ بَيْنَهُ وبَيْنَ اللَّهِ تَعالى إلّا حِجابُ العِزَّةِ وعَرْضِ الأنْبِياءِ عَلَيْهِ، عَلَيْهِ وعَلَيْهِمْ أفْضَلُ الصَّلاةِ والسَّلامِ، وعَرْضِ أعْمالِ الأُمَّةِ عَلَيْهِ وغَيْرِ هَذا مِمّا صَحَّ عَنْهُ ﷺ مِنَ الأخْبارِ المُتَشابِهَةِ الوارِدَةِ في صِفاتِ اللَّهِ سُبْحانَهُ ما بَلَغَنا وما لَمْ يَبْلُغْنا مِمّا صَحَّ عَنْهُ اعْتِقادُنا فِيهِ، وفي الآياتِ المُتَشابِهَةِ في القُرْآنِ أنْ نَقْبَلَها ولا نَرُدَّها ولا نَتَأوَّلَها بِتَأْوِيلِ المُخالِفِينَ ولا نَحْمِلُها عَلى تَشْبِيهِ المُشَبِّهِينَ ولا نَزِيدُ عَلَيْها ولا نَنْقُصُ مِنها ولا نُفَسِّرُها، ولا نَكْفِيها ولا نُتَرْجِمُ عَنْ صِفاتِهِ بِلُغَةٍ غَيْرِ العَرَبِيَّةِ، ولا نُشِيرُ إلَيْها بِخَواطِرِ القُلُوبِ ولا بِحَرَكاتِ الجَوارِحِ بَلْ نُطْلِقُ ما أطْلَقَهُ اللَّهُ عَزَّ وجَلَّ ونُفَسِّرُ ما فَسَّرَهُ النَّبِيُّ ﷺ وأصْحابُهُ والتّابِعُونَ والأئِمَّةُ المَرْضِيُّونَ مِنَ السَّلَفِ المَعْرُوفِينَ بِالدِّينِ والأمانَةِ ونَجْمَعُ عَلى ما أجْمَعُوا عَلَيْهِ، ونُمْسِكُ عَنْ ما أمْسَكُوا عَنْهُ، ونُسَلِّمُ الخَبَرَ الظّاهِرَ والآيَةَ الظّاهِرِ تَنْزِيلُها لا نَقُولُ بِتَأْوِيلِ المُعْتَزِلَةِ والأشْعَرِيَّةِ والجَهْمِيَّةِ والمُلْحِدَةِ والمُجَسِّمَةِ والمُشَبِّهَةِ والكَرّامِيَّةِ والكَيْفِيَّةِ بَلْ نَقْبَلُها بِلا تَأْوِيلٍ، ونُؤْمِنُ بِها بِلا تَمْثِيلٍ، ونَقُولُ: الإيمانُ بِها واجِبٌ والقَوْلُ بِها سُنَّةٌ وابْتِغاءُ تَأْوِيلِها بِدْعَةٌ.
آخِرُ كَلامِ أبِي العَبّاسِ بْنِ سُرَيْجٍ الَّذِي حَكاهُ أبُو القاسِمِ سَعِيدُ بْنُ عَلِيٍّ الزَّنْجانِيُّ في أجْوِبَتِهِ ثُمَّ ذَكَرَ باقِيَ المَسائِلِ وأجْوِبَتَها.
الصَّحابَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهم وخَيْرُهُمُ العَشَرَةُ الَّذِينَ شَهِدَ لَهم رَسُولُ اللَّهِ صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ بِالجَنَّةِ وخَيْرُ هَؤُلاءِ العَشَرَةِ أبُو بَكْرٍ وعُمَرُ وعُثْمانُ وعَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُمْ، ونَعْتَقِدُ حُبَّ آلِ مُحَمَّدٍ صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ وأزْواجِهِ وسائِرِ أصْحابِهِ رِضْوانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ ونَذْكُرُ مَحاسِنَهم ونَنْشُرُ فَضائِلَهم ونَمْسِكُ ألْسِنَتَنا وقُلُوبَنا عَنِ التَّطَلُّعِ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ، ونَسْتَغْفِرُ اللَّهَ لَهم ونَتَوَسَّلُ إلى اللَّهِ تَعالى بِاتِّباعِهِمْ، ونَرى الجِهادَ والجُمْعَةَ والجَماعَةَ ماضِيانِ إلى يَوْمِ القِيامَةِ والسَّمْعُ والطّاعَةُ لِوُلاةِ الأمْرِ مِنَ المُسْلِمِينَ واجِبٌ في طاعَةِ اللَّهِ تَعالى دُونَ مَعْصِيَتِهِ لا يَجُوزُ الخُرُوجُ عَلَيْهِمْ ولا المُفارَقَةُ لَهم ولا نُكَفِّرُ أحَدًا مِنَ المُسْلِمِينَ بِذَنْبٍ عَمِلَهُ ولَوْ كَبُرَ، ولا نَدَعَ الصَّلاةَ عَلَيْهِمْ بَلْ نَحْكُمُ فِيهِمْ بِحُكْمِ رَسُولِ اللَّهِ صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ ونَتَرَحَّمُ عَلى مُعاوِيَةَ ونَكِلُ سَرِيرَةَ يَزِيدَ إلى اللَّهِ تَعالى، وقَدْ رَوى عَنْهُ أنَّهُ لَمّا رَأى رَأْسَ الحُسَيْنِ رِضْوانُ اللَّهِ عَلَيْهِ قالَ: لَقَدْ قَتَلَكَ مَن كانَتِ الرَّحِمُ بَيْنَكَ وبَيْنَهُ قاطِعَةً، ونَبْرَأُ مِمَّنْ قَتَلَ الحُسَيْنَ رِضْوانُ اللَّهِ عَلَيْهِ وأعانَ عَلَيْهِ وأشارَ بِهِ ظاهِرًا أوْ باطِنًا هَذا اعْتِقادُنا ونَكِلُ سَرِيرَتَهُ إلى اللَّهِ تَعالى، والعِبارَةُ الجامِعَةُ في بابِ التَّوْحِيدِ أنْ يُقالَ: إثْباتٌ مِن غَيْرِ تَشْبِيهٍ ونَفْيٌ مِن غَيْرِ تَعْطِيلٍ قالَ اللَّهُ تَعالى:
﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وهو السَّمِيعُ البَصِيرُ﴾ [الشورى: ١١] والعِبارَةُ الجامِعَةُ في المُتَشابِهِ مِن آياتِ الصِّفاتِ أنْ يُقالَ: آمَنتُ بِما قالَ اللَّهُ تَعالى عَلى ما أرادَهُ وآمَنتُ بِما قالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ عَلى ما أرادَهُ، فَهَذا اعْتِقادُنا الَّذِي نَتَمَسَّكُ بِهِ ونَنْتَهِي إلَيْهِ ونَسْألُ اللَّهَ تَعالى أنْ يُحْيِيَنا (عَلَيْهِ) ويُمِيتَنا عَلَيْهِ ويَجْعَلَهُ وسِيلَتَنا يَوْمَ الوُقُوفِ بَيْنَ يَدَيْهِ إنَّهُ جَوادٌ كَرِيمٌ والحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ العالَمِينَ.
[قَوْلُ الإمامِ إسْماعِيلَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ الفَضْلِ التَّيْمِيِّ]
صاحِبِ كِتابِ التَّرْغِيبِ والتَّرْهِيبِ وكِتابِ الحُجَّةِ في بَيانِ المَحَجَّةِ، ومَذْهَبِ أهْلِ السُّنَّةِ، وكانَ إمامًا لِلشّافِعِيَّةِ في وقْتِهِ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعالى وجَمَعَ لَهُ أبُو مُوسى المَدِينِيُّ مَناقِبَ جَلِيلَةً لِجَلالَتِهِ، قالَ في كِتابِ الحُجَّةِ (بابٌ في بَيانِ اسْتِواءِ اللَّهِ سُبْحانَهُ وتَعالى عَلى العَرْشِ) قالَ اللَّهُ تَعالى:
﴿الرَّحْمَنُ عَلى العَرْشِ اسْتَوى﴾ [طه: ٥]. وقالَ في آيَةٍ أُخْرى:
﴿وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّماواتِ والأرْضَ﴾ [البقرة: ٢٥٥] وقالَ:
﴿لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ﴾ [الزخرف: ٤].
وَقالَ تَعالى:
﴿سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأعْلى﴾ [الأعلى: ١] قالَ أهْلُ السُّنَّةِ: اللَّهُ فَوْقَ السَّماواتِ لا يَعْلُوهُ خَلْقٌ مِن خَلْقِهِ ومِنَ الدَّلِيلِ عَلى ذَلِكَ أنَّ الخَلْقَ يُشِيرُونَ إلى السَّماءِ بِأصابِعِهِمْ ويَدْعُونَهُ ويَرْفَعُونَ إلَيْهِ رُءُوسَهم وأبْصارَهم وقالَ عَزَّ وجَلَّ:
﴿وَهُوَ القاهِرُ فَوْقَ عِبادِهِ﴾ [الأنعام: ١٨] وقالَ تَعالى:
﴿أأمِنتُمْ مَن في السَّماءِ أنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الأرْضَ فَإذا هي تَمُورُ - أمْ أمِنتُمْ مَن في السَّماءِ أنْ يُرْسِلَ عَلَيْكم حاصِبًا فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ﴾ [الملك: ١٦-١٧] والدَّلِيلُ عَلى ذَلِكَ الآياتُ الَّتِي فِيها ذِكْرُ نُزُولِ الوَحْيِ.
* فَصْلٌ في بَيانِ أنَّ العَرْشَ فَوْقَ السَّماواتِ وأنَّ اللَّهَ سُبْحانَهُ وتَعالى فَوْقَ العَرْشِ ثُمَّ ذَكَرَ حَدِيثَ أبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُ الَّذِي في البُخارِيِّ: «لَمّا قَضى اللَّهُ الخَلْقَ كَتَبَ في كِتابٍ فَهو عِنْدُهُ فَوْقَ العَرْشِ " إنَّ رَحْمَتِي غَلَبَتْ غَضَبِي» وبَسَطَ الِاسْتِدْلالَ عَلى ذَلِكَ بِالسُّنَّةِ ثُمَّ قالَ: قالَ عُلَماءُ السُّنَّةِ: إنَّ اللَّهَ عَزَّ وجَلَّ عَلى عَرْشِهِ بائِنٌ مِن خَلْقِهِ، وقالَتِ المُعْتَزِلَةُ: هو بِذاتِهِ في كُلِّ مَكانٍ.قالَ: وقالَتِ الأشْعَرِيَّةُ: الِاسْتِواءُ عائِدٌ إلى العَرْشِ قالَ: ولَوْ كانَ كَما قالُوا لَكانَتِ القِراءَةُ بِرَفْعِ العَرْشِ فَلَمّا كانَتْ بِخَفْضِ العَرْشِ دَلَّ عَلى أنَّهُ عائِدٌ إلى اللَّهِ سُبْحانَهُ وتَعالى قالَ: وقالَ بَعْضُهُمُ: اسْتَوى بِمَعْنى اسْتَوْلى قالَ الشّاعِرُ:
قَدِ اسْتَوى بِشْرٌ عَلى العِراقِ ∗∗∗ مِن غَيْرِ سَيْفٍ أوْ دَمٍ مُهْراقِ
والِاسْتِيلاءُ لا يُوصَفُ بِهِ إلّا مَن قَدَرَ عَلى الشَّيْءِ بَعْدَ العَجْزِ عَنْهُ، واللَّهُ تَعالى لَمْ يَزَلْ قادِرًا عَلى الأشْياءِ ومُسْتَوْلِيًا عَلَيْها، ألا تَرى أنَّهُ لا يُوصَفُ بِشْرٌ بِالِاسْتِيلاءِ عَلى العِراقِ إلّا وهو عاجِزٌ عَنْهُ قَبْلَ ذَلِكَ، ثُمَّ حَكى أبُو القاسِمِ عَنْ ذِي النُّونِ المِصْرِيِّ أنَّهُ قِيلَ لَهُ: ما أرادَ اللَّهُ سُبْحانَهُ بِخَلْقِ العَرْشِ؟ قالَ: أرادَ أنْ لا تَتُوهَ قُلُوبُ العارِفِينَ. قالَ: ورُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما في تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعالى:
﴿ما يَكُونُ مِن نَجْوى ثَلاثَةٍ إلّا هو رابِعُهُمْ﴾ [المجادلة: ٧] قالَ: هو عَلى العَرْشِ وعِلْمُهُ في كُلِّ مَكانٍ، ثُمَّ ساقَ الِاحْتِجاجَ بِالآثارِ إلى أنْ قالَ: وزَعَمَ هَؤُلاءِ أنَّ مَعْنى
﴿الرَّحْمَنُ عَلى العَرْشِ اسْتَوى﴾ [طه: ٥] أيْ مَلَكَهُ وأنَّهُ لا اخْتِصاصَ لَهُ بِالعَرْشِ أكْثَرُ مِمّا لَهُ بِالأمْكِنَةِ وهَذا إلْغاءٌ لِتَخْصِيصِ العَرْشِ وتَشْرِيفِهِ.
(وَقالَ أهْلُ السُّنَّةِ): خَلَقَ اللَّهُ تَعالى السَّماواتِ وكانَ عَرْشُهُ مَخْلُوقًا قَبْلَ خَلْقِ السَّماواتِ والأرْضِ ثُمَّ اسْتَوى عَلى العَرْشِ بَعْدَ خَلْقِ السَّماواتِ والأرْضِ عَلى ما ورَدَ بِهِ النَّصُّ ولَيْسَ مَعْناهُ المُماسَّةُ بَلْ هو مُسْتَوٍ عَلى عَرْشِهِ بِلا كَيْفٍ كَما أخْبَرَ عَنْ نَفْسِهِ.
قالَ: وزَعَمَ هَؤُلاءِ أنَّهُ لا يَجُوزُ الإشارَةُ إلى اللَّهِ سُبْحانَهُ بِالرُّءُوسِ والأصابِعِ إلى فَوْقَ فَإنَّ ذَلِكَ يُوجِبُ التَّحْدِيدَ، وقَدْ أجْمَعَ المُسْلِمُونَ أنَّ اللَّهَ سُبْحانَهُ العَلِيُّ الأعْلى، ونَطَقَ بِذَلِكَ القُرْآنُ فَزَعَمَ هَؤُلاءِ أنَّ ذَلِكَ بِمَعْنى عُلُوِّ الغَلَبَةِ لا عُلُوِّ الذّاتِ، وعِنْدَ المُسْلِمِينَ أنَّ لِلَّهِ عَزَّ وجَلَّ عُلُوَّ الغَلَبَةِ. والعُلُوُّ مِن سائِرِ وُجُوهِ العُلُوِّ؛ لِأنَّ العُلُوَّ صِفَةُ مَدْحٍ فَثَبَتَ أنَّ لِلَّهِ تَعالى عُلُوَّ الذّاتِ وعُلُوَّ الصِّفاتِ وعُلُوَّ القَهْرِ والغَلَبَةِ، وفي مَنعِهِمُ الإشارَةُ إلى اللَّهِ سُبْحانَهُ وتَعالى مِن جِهَةِ الفَوْقِ خِلافٌ مِنهم لِسائِرِ المِلَلِ؛ لِأنَّ جَماهِيرَ المُسْلِمِينَ وسائِرَ المِلَلِ قَدْ وقَعَ مِنهُمُ الإجْماعُ عَلى الإشارَةِ إلى اللَّهِ سُبْحانَهُ وتَعالى مِن جِهَةِ الفَوْقِ في الدُّعاءِ والسُّؤالِ، واتِّفاقُهم بِأجْمَعِهِمْ عَلى ذَلِكَ حُجَّةٌ، ولَمْ يَسْتَجِزْ أحَدٌ الإشارَةَ إلَيْهِ مِن جِهَةِ الأسْفَلِ ولا مِن سائِرِ الجِهاتِ سِوى جِهَةِ الفَوْقِ، وقالَ تَعالى:
﴿يَخافُونَ رَبَّهم مِن فَوْقِهِمْ﴾ [النحل: ٥٠] وقالَ تَعالى:
﴿إلَيْهِ يَصْعَدُ الكَلِمُ الطَّيِّبُ﴾ [فاطر: ١٠]. وقالَ تَعالى:
﴿تَعْرُجُ المَلائِكَةُ والرُّوحُ إلَيْهِ﴾ [المعارج: ٤] وأخْبَرَ تَعالى عَنْ فِرْعَوْنَ أنَّهُ قالَ:
﴿ياهامانُ ابْنِ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أبْلُغُ الأسْبابَ - أسْبابَ السَّماواتِ فَأطَّلِعَ إلى إلَهِ مُوسى﴾ [غافر: ٣٦-٣٧] فَكانَ فِرْعَوْنُ قَدْ فَهِمَ مِن مُوسى عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ أنَّهُ يُثْبِتُ إلَهًا فَوْقَ السَّماءِ، حَتّى رامَ بِصَرْحِهِ أنْ يَطَّلِعَ إلَيْهِ واتَّهَمَ مُوسى عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ بِالكَذِبِ في ذَلِكَ، والجَهْمِيَّةُ لا تَعْلَمُ أنَّ اللَّهَ فَوْقَها بِوُجُودِ ذاتِهِ فَهم أعْجَزُ فَهْمًا مِن فِرْعَوْنَ (بَلْ وأضَلُّ)، وقَدْ صَحَّ
«عَنِ النَّبِيِّ صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ أنَّهُ سَألَ الجارِيَةَ الَّتِي أرادَ مَوْلاها عِتْقَها أيْنَ اللَّهُ؟ قالَتْ: في السَّماءِ وأشارَتْ بِرَأْسِها إلى السَّماءِ وقالَ: مَن أنا؟ فَقالَتْ: أنْتَ رَسُولُ اللَّهِ، فَقالَ: أعْتِقْها فَإنَّها مُؤْمِنَةٌ». فَحَكَمَ النَّبِيُّ صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ بِإيمانِها حِينَ قالَتْ: إنَّ اللَّهَ في السَّماءِ، وحَكَمَ الجَهْمِيُّ بِكُفْرِ مَن يَقُولُ ذَلِكَ. هَذا كُلُّهُ كَلامُ أبِي القاسِمِ التَيْمِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعالى.
* [فَصْلٌ في ذِكْرِ قَوْلِ الإمامِ أحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ وأصْحابِهِ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعالى]
قالَ الخَلّالُ في كِتابِ السُّنَّةِ: حَدَّثَنا يُوسُفُ بْنُ مُوسى (قالَ): أخْبَرَنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أحْمَدَ قالَ: قِيلَ لِأبِي: رَبُّنا تَبارَكَ وتَعالى فَوْقَ السَّماءِ السّابِعَةِ عَلى عَرْشِهِ بائِنٌ مِن خَلْقِهِ، وقُدْرَتُهُ وعَلْمُهُ بِكُلِّ مَكانٍ؟ قالَ: نَعَمْ، لا يَخْلُو شَيْءٌ مِن عِلْمِهِ. قالَ الخَلّالُ: وأخْبَرَنِي عَبْدُ المَلِكِ بْنُ عَبْدِ الحَمِيدِ المَيْمُونِيُّ قالَ: سَألْتُ أبا عَبْدِ اللَّهِ أحْمَدَ عَمَّنْ يَقُولُ: إنَّ اللَّهَ تَعالى لَيْسَ عَلى العَرْشِ فَقالَ: كَلامُهم كُلُّهُ يَدُورُ عَلى الكُفْرِ، ورَوى أبُو القاسِمِ الطَّبَرِيُّ الشّافِعِيُّ في كِتابِ السُّنَّةِ لَهُ بِإسْنادِهِ عَنْ حَنْبَلٍ قالَ: قِيلَ لِأبِي عَبْدِ اللَّهِ: ما مَعْنى قَوْلِهِ تَعالى:
﴿ما يَكُونُ مِن نَجْوى ثَلاثَةٍ إلّا هو رابِعُهُمْ﴾ [المجادلة: ٧] وقَوْلِهِ تَعالى:
﴿وَهُوَ مَعَكُمْ﴾ [الحديد: ٤] قالَ: عِلْمُهُ مُحِيطٌ بِالكُلِّ ورَبُّنا عَلى العَرْشِ بِلا حَدٍّ ولا صِفَةٍ وسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّماواتِ والأرْضَ، وقالَ أبُو طالِبٍ: سَألْتُ أحْمَدَ بْنَ حَنْبَلٍ عَنْ رَجُلٍ قالَ: إنَّ اللَّهَ مَعَنا وتَلا قَوْلَهُ تَعالى:
﴿ما يَكُونُ مِن نَجْوى ثَلاثَةٍ إلّا هو رابِعُهُمْ﴾ [المجادلة: ٧] قالَ: يَأْخُذُونَ بِآخِرِ الآيَةِ ويَدَعُونَ أوَّلَها، هَلّا قَرَأْتَ عَلَيْهِ:
﴿ألَمْ تَرَ أنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما في السَّماواتِ﴾ [المجادلة: ٧] فَعِلْمُهُ مَعَهم وقالَ في (ق)
﴿وَنَعْلَمُ ما تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ ونَحْنُ أقْرَبُ إلَيْهِ مِن حَبْلِ الوَرِيدِ﴾ [ق: ١٦] وقالَ المَرْوَزِيُّ: قُلْتُ لِأبِي عَبْدِ اللَّهِ أنَّ رَجُلًا قالَ: أقُولُ كَما قالَ اللَّهُ تَعالى:
﴿ما يَكُونُ مِن نَجْوى ثَلاثَةٍ إلّا هو رابِعُهم ولا خَمْسَةٍ إلّا هو سادِسُهُمْ﴾ [المجادلة: ٧] أقُولُ: هَذا ولا أُجاوِزُهُ إلى غَيْرِهِ فَقالَ أبُو عَبْدِ اللَّهِ هَذا كَلامٌ الجَهْمِيَّةِ فَقُلْتُ لَهُ: فَكَيْفَ نَقُولُ
﴿ما يَكُونُ مِن نَجْوى ثَلاثَةٍ إلّا هو رابِعُهم ولا خَمْسَةٍ إلّا هو سادِسُهُمْ﴾ [المجادلة: ٧] قالَ: عِلْمُهُ في كُلِّ مَكانٍ وعِلْمُهُ مَعَهُمْ، قالَ: أوَّلُ الآيَةِ يَدُلُّ عَلى أنَّهُ عِلْمُهُ، وقالَ في مَوْضِعٍ آخَرَ: وأنَّ اللَّهَ عَزَّ وجَلَّ عَلى عَرْشِهِ فَوْقَ السَّماءِ السّابِعَةِ يَعْلَمُ ما تَحْتَ الأرْضِ السُّفْلى وأنَّهُ غَيْرُ مُماسٍّ لِشَيْءٍ مِن خَلْقِهِ هو تَبارَكَ وتَعالى بائِنٌ مِن خَلْقِهِ وخَلْقُهُ بائِنُونَ مِنهُ. وقالَ في كِتابِ الرَّدِّ عَلى الجَهْمِيَّةِ الَّذِي رَواهُ عَنْهُ الخَلّالُ مِن طَرِيقِ ابْنِهِ عَبْدِ اللَّهِ قالَ: بابُ بَيانِ ما نَكِرَتِ الجَهْمِيَّةُ أنْ يَكُونَ اللَّهُ تَعالى عَلى العَرْشِ، قُلْنا لَهم ما أنْكَرْتُمْ أنْ يَكُونَ اللَّهُ تَعالى عَلى العَرْشِ، وقَدْ قالَ تَعالى:
﴿الرَّحْمَنُ عَلى العَرْشِ اسْتَوى﴾ [طه: ٥]؟ فَقالُوا: هو تَحْتَ الأرْضِ السّابِعَةِ كَما هو عَلى العَرْشِ وفي السَّماواتِ والأرْضِ وفي كُلِّ مَكانٍ وتَلا:
﴿وَهُوَ اللَّهُ في السَّماواتِ وفي الأرْضِ﴾ [الأنعام: ٣] قالَ أحْمَدُ: فَقُلْنا قَدْ عَرَفَ المُسْلِمُونَ أماكِنَ كَثِيرَةً لَيْسَ فِيها مِن عَظَمَةِ الرَّبِّ شَيْءٌ أجْسامُكم وأجْوافُكم والحُشُوشُ والأماكِنُ القَذِرَةِ لَيْسَتْ فِيها مِن عَظَمَةِ الرَّبِّ تَعالى شَيْءٌ، وقَدْ أخْبَرَنا اللَّهُ عَزَّ وجَلَّ أنَّهُ في السَّماءِ فَقالَ:
﴿أأمِنتُمْ مَن في السَّماءِ أنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الأرْضَ فَإذا هي تَمُورُ أمْ أمِنتُمْ مَن في السَّماءِ﴾ [الملك: ١٦] الآيَةَ. وقالَ:
﴿إلَيْهِ يَصْعَدُ الكَلِمُ الطَّيِّبُ﴾ [فاطر: ١٠] وقالَ:
﴿إنِّي مُتَوَفِّيكَ ورافِعُكَ إلَيَّ﴾ [آل عمران: ٥٥] ﴿بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إلَيْهِ﴾ [النساء: ١٥٨]،
﴿يَخافُونَ رَبَّهم مِن فَوْقِهِمْ﴾ [النحل: ٥٠]. ذَكَرَ هَذا الكِتابَ كُلَّهُ أبُو بَكْرٍ الخَلّالُ في كِتابِ السُّنَّةِ الَّذِي جَمَعَ فِيهِ نُصُوصَ أحْمَدَ وكَلامَهُ، وعَلى مِنوالِهِ جَمَعَ البَيْهَقِيُّ في كِتابِهِ الَّذِي سَمّاهُ جامِعَ النُّصُوصِ مِن كَلامِ الشّافِعِيِّ وهُما كِتابانِ جَلِيلانِ لا يَسْتَغْنِي عَنْهُما عالِمٌ، وخُطْبَةُ كِتابِ أحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ: الحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي جَعَلَ في كُلِّ زَمانٍ فَتْرَةً مِنَ الرُّسُلِ عَلَيْهِمُ الصَّلاةُ والسَّلامُ بَقايا مِن أهْلِ العِلْمِ يَدْعُونَ مَن ضَلَّ إلى الهُدى ويَصْبِرُونَ مِنهم عَلى الأذى، يُحْيُونَ بِكِتابِ اللَّهِ (المَوْتى) ويُبَصِّرُونَ بِنُورِ اللَّهِ تَعالى أهْلَ العَمى، فَكَمْ مِن قَتِيلٍ لِإبْلِيسَ قَدْ أحْيَوْهُ، وكَمْ مِن ضالٍّ تائِهٍ قَدْ هَدَوْهُ فَما أحْسَنَ آثارِهم عَلى النّاسِ وما أقْبَحَ أثَرِ النّاسِ عَلَيْهِمْ، يَنْفُونَ عَنْ كِتابِ اللَّهِ تَعالى تَحْرِيفَ الضّالِّينَ وانْتِحالَ المُبْطِلِينَ وتَأْوِيلَ الجاهِلِينَ الَّذِينَ عَقَدُوا ألْوِيَةَ البِدْعَةِ وأطْلَقُوا عِنانَ الفِتْنَةِ فَهم مُخْتَلِفُونَ في الكِتابِ، مُخالِفُونَ لِلْكِتابِ، مُجْمِعُونَ عَلى مُخالَفَةِ الكِتابِ، يَقُولُونَ عَلى اللَّهِ تَعالى وفي اللَّهِ تَعالى وفي كِتابِ اللَّهِ تَعالى بِغَيْرِ عِلْمٍ، يَتَكَلَّمُونَ بِالمُتَشابِهِ مِنَ الكَلامِ ويَخْدَعُونَ الجُهّالَ بِما يُشَبِّهُونَ عَلَيْهِمْ فَنَعُوذُ بِاللَّهِ مِن فِتَنِ المُضِلِّينَ (ثُمَّ) قالَ: بابُ بَيانِ ما ضَلَّتْ فِيهِ الجَهْمِيَّةُ الزَّنادِقَةُ مِن مُتَشابِهِ القُرْآنِ ثُمَّ تَكَلَّمَ عَلى قَوْلِهِ تَعالى:
﴿كُلَّما نَضِجَتْ جُلُودُهم بَدَّلْناهم جُلُودًا غَيْرَها﴾ [النساء: ٥٦].
قالَ: قالَتِ الزَّنادِقَةُ: فَما بالُ جُلُودِهِمُ الَّتِي قَدْ عَصَتْ قَدِ احْتَرَقَتْ وأبْدَلَهُمُ اللَّهُ جُلُودًا غَيْرَها فَلا نَرى إلّا أنَّ اللَّهَ عَزَّ وجَلَّ يُعَذِّبُ جُلُودًا بِلا ذَنْبٍ حِينَ يَقُولُ: "
﴿جُلُودًا غَيْرَها﴾ [النساء: ٥٦] " فَشَكُّوا في القُرْآنِ وزَعَمُوا أنَّهُ مُتَناقِضٌ فَقُلْنا: إنَّ قَوْلَ اللَّهِ عَزَّ وجَلَّ
﴿بَدَّلْناهم جُلُودًا غَيْرَها﴾ [النساء: ٥٦] لَيْسَ يَعْنِي جُلُودًا أُخْرى غَيْرَ جُلُودِهِمْ وإنَّما يَعْنِي بِتَبْدِيلِها تَجْدِيدِها لِأنَّ جُلُودَهم إذا نَضِجَتْ جَدَّدَها اللَّهُ. ثُمَّ تَكَلَّمَ عَلى آياتٍ مِن مُشْكِلِ القُرْآنِ، ثُمَّ قالَ: وإنَّ مِمّا أنْكَرَتِ الجَهْمِيَّةُ الضُّلّالُ أنَّ اللَّهَ عَزَّ وجَلَّ عَلى العَرْشِ اسْتَوى وقَدْ قالَ تَعالى:
﴿الرَّحْمَنُ عَلى العَرْشِ اسْتَوى﴾ [طه: ٥] وقَدْ قالَ تَعالى:
﴿ثُمَّ اسْتَوى عَلى العَرْشِ الرَّحْمَنُ فاسْألْ بِهِ خَبِيرًا﴾ [الفرقان: ٥٩] ثُمَّ ساقَ أدِلَّةَ القُرْآنِ ثُمَّ قالَ: ووَجَدْنا كُلَّ شَيْءٍ أسْفَلَ مَذْمُومًا، قالَ اللَّهُ تَعالى:
﴿إنَّ المُنافِقِينَ في الدَّرْكِ الأسْفَلِ مِنَ النّارِ﴾ [النساء: ١٤٥] وقالَ تَعالى:
﴿وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا رَبَّنا أرِنا الَّذَيْنِ أضَلّانا مِنَ الجِنِّ والإنْسِ نَجْعَلْهُما تَحْتَ أقْدامِنا لِيَكُونا مِنَ الأسْفَلِينَ﴾ [فصلت: ٢٩] ثُمَّ قالَ: ومَعْنى قَوْلِهِ تَعالى:
﴿وَهُوَ اللَّهُ في السَّماواتِ وفي الأرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكم وجَهْرَكم ويَعْلَمُ ما تَكْسِبُونَ﴾ [الأنعام: ٣] يَقُولُ: هو إلَهُ مَن في السَّماواتِ، وإلَهُ مَن في الأرْضِ، وهو عَلى العَرْشِ، وقَدْ أحاطَ عِلْمُهُ بِما دُونَ العَرْشِ، لا يَخْلُو مِن عِلْمِهِ مَكانٌ ولا يَكُونُ عِلْمُ اللَّهِ تَعالى في مَكانٍ دُونَ مَكانٍ وذَلِكَ مِن قَوْلِهِ:
﴿لِتَعْلَمُوا أنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وأنَّ اللَّهَ قَدْ أحاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا﴾ [الطلاق: ١٢]، قالَ الإمامُ أحْمَدُ: ومِنَ الِاعْتِبارِ في ذَلِكَ لَوْ أنَّ رَجُلًا كانَ في يَدِهِ قَدَحٌ مِن قَوارِيرَ وفِيهِ (شَيْءٌ) كانَ نَظَرُ ابْنِ آدَمَ قَدْ أحاطَ بِالقَدْحِ مِن غَيْرِ أنْ يَكُونَ ابْنُ آدَمَ في القَدَحِ فاللَّهُ سُبْحانَهُ - ولَهُ المَثَلُ الأعْلى - قَدْ أحاطَ بِجَمِيعِ ما خَلَقَ وقَدْ عَلِمَ كَيْفَ هو وما هو مِن غَيْرِ أنْ يَكُونَ في شَيْءٍ مِمّا خَلَقَ، قالَ: وخَصْلَةٌ أُخْرى لَوْ أنَّ رَجُلًا بَنى دارًا بِجَمِيعِ مَرافِقِها ثُمَّ أغْلَقَ بابَها كانَ لا يَخْفى عَلَيْهِ كَمْ بَيْتٌ في دارِهِ وكَمْ سَعَةُ كُلِّ بَيْتٍ مِن غَيْرِ أنْ يَكُونَ صاحِبُ الدّارِ في جَوْفِ الدّارِ فاللَّهُ سُبْحانَهُ قَدْ أحاطَ بِجَمِيعِ ما خَلَقَ، وقَدْ عَلِمَ كَيْفَ هُوَ؟ وما هُوَ؟ ولَهُ المَثَلُ الأعْلى ولَيْسَ هو في شَيْءٍ مِمّا خَلَقَ.
قالَ الإمامُ أحْمَدُ: ومِمّا تَأوَّلَتِ الجَهْمِيَّةُ مِن قَوْلِ اللَّهِ تَعالى:
﴿ما يَكُونُ مِن نَجْوى ثَلاثَةٍ إلّا هو رابِعُهُمْ﴾ [المجادلة: ٧] فَقالُوا: إنَّ اللَّهَ مَعَنا وفِينا فَقُلْنا لَهُمْ: لِمَ قَطَعْتُمُ الخَبَرَ مِن أوَّلِهِ؟ إنَّ اللَّهَ تَعالى يَقُولُ:
﴿ألَمْ تَرَ أنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما في السَّماواتِ وما في الأرْضِ ما يَكُونُ مِن نَجْوى ثَلاثَةٍ إلّا هو رابِعُهم ولا خَمْسَةٍ إلّا هو سادِسُهم ولا أدْنى مِن ذَلِكَ ولا أكْثَرَ إلّا هو مَعَهم أيْنَ ما كانُوا﴾ [المجادلة: ٧] الآيَةَ يَعْنِي: عِلْمَهُ فِيهِمْ أيْنَما كانُوا:
﴿ثُمَّ يُنَبِّئُهم بِما عَمِلُوا يَوْمَ القِيامَةِ إنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾ [المجادلة: ٧] فَفَتَحَ الخَبَرَ بِعِلْمِهِ وخَتْمَهُ بِعِلْمِهِ، قالَ الإمامُ أحْمَدُ: إنْ أرَدْتَ أنْ تَعْلَمَ أنَّ الجَهْمِيَّ كاذِبٌ عَلى اللَّهِ سُبْحانَهُ وتَعالى حِينَ زَعَمَ أنَّهُ في كُلِّ مَكانٍ ولا يَكُونُ في مَكانٍ دُونَ مَكانٍ، فَقُلْ لَهُ: ألَيْسَ كانَ اللَّهُ ولا شَيْءَ؟ فَيَقُولُ: نَعَمْ فَقُلْ لَهُ: فَحِينَ خَلَقَ الشَّيْءَ خَلْقَهُ في نَفْسِهِ أوْ خارِجًا عَنْ نَفْسِهِ فَإنَّهُ يَصِيرُ إلى أحَدِ ثَلاثَةِ أقاوِيلَ: إنْ زَعَمَ أنَّ اللَّهَ تَعالى خَلَقَ الخَلْقَ في نَفْسِهِ كَفَرَ حِينَ زَعَمَ أنَّ الجِنَّ والإنْسَ والشَّياطِينَ وإبْلِيسَ في نَفْسِ اللَّهِ، (وَإنْ قالَ: خَلَقَهم خارِجًا مِن نَفْسِهِ ثُمَّ دَخَلَ فِيهِمْ كَفَرَ أيْضًا حِينَ زَعَمَ أنَّهُ دَخَلَ في كُلِّ مَكانٍ وحِشٍ وقَذِرٍ)، وإنْ قالَ: خَلَقَهم خارِجًا مِن نَفْسِهِ ثُمَّ لَمْ يَدْخُلْ فِيهِمْ رَجَعَ عَنْ قَوْلِهِ كُلِّهِ أجْمَعَ، وهو قَوْلُ أهْلِ السُّنَّةِ، قالَ أحْمَدُ: بابُ بَيانِ ما ذُكِرَ في القُرْآنِ وهو مَعَكم. وهَذا عَلى وُجُوهٍ: قالَ اللَّهُ تَعالى لِمُوسى وهارُونَ عَلَيْهِما السَّلامُ:
﴿إنَّنِي مَعَكُما أسْمَعُ وأرى﴾ [طه: ٤٦] يَقُولُ: في الدَّفْعِ عَنْكُما، وقالَ:
﴿ثانِيَ اثْنَيْنِ إذْ هُما في الغارِ إذْ يَقُولُ لِصاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إنَّ اللَّهَ مَعَنا﴾ [التوبة: ٤٠] يَعْنِي: في الدَّفْعِ عَنّا، وقالَ تَعالى:
﴿واللَّهُ مَعَ الصّابِرِينَ﴾ [البقرة: ٢٤٩] يَعْنِي في النُّصْرَةِ لَهم عَلى عَدُوِّهِمْ، وقَوْلِهِ تَعالى:
﴿وَأنْتُمُ الأعْلَوْنَ واللَّهُ مَعَكُمْ﴾ [محمد: ٣٥] يَعْنِي: في النُّصْرَةِ لَكم عَلى عَدُوِّكُمْ، وقالَ تَعالى:
﴿وَهُوَ مَعَهم إذْ يُبَيِّتُونَ ما لا يَرْضى مِنَ القَوْلِ﴾ [النساء: ١٠٨] (يَعْنِي) يَقُولُ: بِعِلْمِهِ فِيهِمْ، وقَوْلُهُ تَعالى:
﴿كَلّا إنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ﴾ [الشعراء: ٦٢] يَقُولُ بِالعَوْنِ عَلى فِرْعَوْنَ، فَلَمّا ظَهَرَتِ الحُجَّةُ عَلى الجَهْمِيِّ بِما ادَّعى عَلى اللَّهِ سُبْحانَهُ أنَّهُ مَعَ خَلْقِهِ قالَ: هو في كُلِّ شَيْءٍ غَيْرِ مُماسٍّ لِشَيْءٍ، ولا مُبايِنًا لَهُ، فَقُلْنا لَهُ: فَإذا كانَ غَيْرَ مُبايِنٍ لِلْبَشَرِ أهَوَ مُماسٌّ لَهُمْ؟ قالَ: لا، قُلْنا: فَكَيْفَ يَكُونُ في كُلِّ شَيْءٍ غَيْرَ مُماسٍّ لِشَيْءٍ ولا مُبايِنًا لِشَيْءٍ؟ فَلَمْ يُحْسِنِ الجَوابَ. فَقالَ: بِلا كَيْفٍ لِيَخْدَعَ الجُهّالَ بِهَذِهِ الكَلِمَةِ، ويُمَوِّهَ عَلَيْهِمْ. ثُمَّ قُلْنا لَهُ: إذا كانَ يَوْمُ القِيامَةِ، ألَيْسَ إنَّما تَكُونُ الجَنَّةُ والنّارُ والعَرْشُ والهَوى؟ فَقالَ: بَلى، فَقُلْنا: أيْنَ يَكُونُ رَبُّنا؟ قالَ: يَكُونُ في كُلِّ شَيْءٍ كَما كانَ حَيْثُ كانَتِ الدُّنْيا. .)، قُلْنا: فَفي مَذْهَبِكم أنَّ (ما كانَ مِنَ اللَّهِ تَعالى في النّارِ فَهو في النّارِ، وما كانَ مِنهُ في الهَوى فَهو في الهَوى، فَعِنْدَ ذَلِكَ تَبَيَّنَ لِلنّاسِ كَذِبُهم عَلى اللَّهِ.
قالَ الإمامُ أحْمَدُ: وقُلْنا لِلْجَهْمِيَّةِ حِينَ زَعَمُوا أنَّ اللَّهَ تَعالى في كُلِّ مَكانٍ. . قُلْنا: أخْبِرُونا عَنْ قَوْلِ اللَّهِ تَعالى:
﴿فَلَمّا تَجَلّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ﴾ [الأعراف: ١٤٣]، أكانَ في الجَبَلِ بِزَعْمِكُمْ؟ فَلَوْ كانَ فِيهِ كَما تَزْعُمُونَ لَمْ يَكُنْ تَجَلّى لِشَيْءٍ هو فِيهِ بَلْ كانَ سُبْحانَهُ عَلى العَرْشِ فَتَجَلّى لِشَيْءٍ لَمْ يَكُنْ فِيهِ، ورَأى الجَبَلَ شَيْئًا لَمْ يَكُنْ رَآهُ قَطُّ قَبْلَ ذَلِكَ. قالَ الإمامُ أحْمَدُ: وقُلْنا لِلْجَهْمِيَّةِ: اللَّهُ نُورٌ؟ فَقالُوا: هو نُورٌ كُلُّهُ، فَقُلْنا لَهُمْ: قالَ اللَّهُ عَزَّ وجَلَّ: وأشْرَقَتِ الأرْضُ بِنُورِ رَبِّها، فَقَدْ أخْبَرَ جَلَّ ثَناؤُهُ أنَّ لَهُ نُورًا، قُلْنا لَهُمْ: أخْبِرُونا حِينَ زَعَمْتُمْ أنَّ اللَّهَ سُبْحانَهُ في كُلِّ مَكانٍ، وهو نُورٌ، فَلِمَ لا يُضِيءُ البَيْتَ المُظْلِمَ بِلا سِراجٍ؟ وما بالُ السِّراجُ إذا دَخَلَ البَيْتَ المُظْلِمَ يُضِيءُ؟ فَعِنْدَ ذَلِكَ تَبَيَّنَ لِلنّاسِ كَذِبُهم عَلى اللَّهِ تَعالى، قالَ الإمامُ أحْمَدُ رَحِمَهُ اللَّهُ كانَ جَهْمٌ وشِيعَتُهُ كَذَلِكَ دَعَوُا النّاسَ إلى المُتَشابِهِ مِنَ القُرْآنِ والحَدِيثِ، فَضَلُّوا وأضَلُّوا بِكَلامِهِمْ بَشَرًا كَثِيرًا وكانَ فِيما بَلَغَنا أنَّ الجَهْمَ عَدُوُّ اللَّهِ كانَ مِن أهْلِ خُراسانَ وكانَ صاحِبَ خُصُوماتٍ وشَرٍّ وكَلامٍ، وكانَ أكْثَرُ كَلامِهِ في اللَّهِ تَعالى فَلَقِيَ أُناسًا مِنَ الكُفّارِ يُقالُ لَهُمُ: السُّمَنِيَّةُ فَعَرَفُوا الجَهْمَ فَقالُوا لَهُ: نُكَلِّمُكَ فَإنْ ظَهَرَتْ حُجَّتُنا عَلَيْكَ دَخَلْتَ في دِينِنا وإنْ ظَهَرَتْ حُجَّتُكَ عَلَيْنا دَخَلْنا في دِينِكَ وكانَ فِيما كَلَّمُوا جَهْمًا قالُوا: ألَسْتَ تَزْعُمُ أنَّ لَكَ إلَهًا؟ قالَ الجَهْمُ: نَعَمْ قالُوا لَهُ: فَهَلْ رَأتْ عَيْنُكَ إلَهَكَ؟ قالَ: لا. قالُوا: فَهَلْ سَمِعْتَ كَلامَهُ؟ قالَ: لا. قالُوا: فَهَلْ شَمَمْتَ لَهُ رائِحَةً؟ قالَ: لا. قالُوا: فَهَلْ وجَدْتَ لَهُ حِسًّا؟ قالَ: لا. قالُوا: فَهَلْ وجَدْتَ لَهُ مِجَسًّا؟ قالَ: لا. قالُوا: فَما يُدْرِيكَ أنَّهُ إلَهٌ؟ قالَ: فَتَحَيَّرَ الجَهْمُ فَلَمْ يَدْرِ مَن يَعْبُدُ أرْبَعِينَ يَوْمًا ثُمَّ أنَّهُ اسْتَدْرَكَ حُجَّةً مِن جِنْسِ حُجَجِ زَنادِقَةِ النَّصارى (لَعَنَهُمُ اللَّهُ) وذَلِكَ أنَّ زَنادِقَةَ النَّصارى لَعَنَهُمُ اللَّهُ تَعالى يَزْعُمُونَ أنَّ الرُّوحَ الَّذِي في عِيسى بْنِ مَرْيَمَ رُوحُ اللَّهِ مِن ذاتِ اللَّهِ فَإذا أرادَ أنْ يُحْدِثَ أمْرًا دَخَلَ في بَعْضِ خَلْقِهِ فَتَكَلَّمَ عَلى لِسانِهِ فَيَأْمُرُ بِما يَشاءُ ويَنْهى عَمّا يَشاءُ وهو رُوحٌ غائِبٌ عَنِ الأبْصارِ، فاسْتَدْرَكَ الجَهْمُ حَجَّةً مِثْلَ هَذِهِ الحِجَّةِ فَقالَ لِلسُّمَنِيِّ: ألَسْتَ تَزْعُمُ أنَّ فِيكَ رُوحًا؟ قالَ: نَعَمْ. قالَ: فَهَلْ رَأيْتَ رُوحَكَ؟ قالَ: لا. قالَ فَهَلْ سَمِعْتَ كَلامَهُ؟ قالَ: لا. قالَ: فَهَلْ وجَدْتَ لَهُ مِجَسًّا أوْ حِسًّا؟ قالَ: لا. قالَ: فَكَذَلِكَ اللَّهُ لا يُرى لَهُ وجْهٌ ولا يُسْمَعُ لَهُ صَوَّتٌ ولا يُشُمُّ لَهُ رائِحَةٌ وهو غائِبٌ عَنِ الأبْصارِ ولا يَكُونُ في مَكانٍ دُونَ مَكانٍ، ووَجَدَ ثَلاثَ آياتٍ في القُرْآنِ مِنَ المُتَشابِهِ قَوْلَهُ تَعالى:
﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ﴾ [الشورى: ١١] ﴿وَهُوَ اللَّهُ في السَّماواتِ وفي الأرْضِ﴾ [الأنعام: ٣] ﴿لا تُدْرِكُهُ الأبْصارُ﴾ [الأنعام: ١٠٣] فَبَنى أصْلَ كَلامِهِ عَلى هَؤُلاءِ الآياتِ وتَأوَّلَ القُرْآنَ عَلى غَيْرِ تَأْوِيلِهِ، وكَذَّبَ أحادِيثَ النَّبِيِّ صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ فَزَعَمَ أنَّ مَن وصَفَ اللَّهَ تَعالى بِشَيْءٍ مِمّا وصَفَ بِهِ نَفْسَهُ في كِتابٍ أوْ حَدِيثٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ كانَ كافِرًا أوْ كانَ مِنَ المُشَبِّهَةِ. فَأضَلَّ بَشَرًا كَثِيرًا وتَبِعَهُ عَلى قَوْلِهِ رِجالٌ مِن أصْحابِ عَمْرِو بْنِ عُبَيْدٍ وأصْحابِ فُلانٍ ووَضَعَ دِينَ الجَهْمِيَّةِ فَإذا سَألَهُمُ النّاسُ عَنْ قَوْلِهِ تَعالى:
﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ﴾ [الشورى: ١١] ما تَفْسِيرُهُ؟ يَقُولُونَ: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ مِنَ الأشْياءِ وهو تَحْتَ الأرْضِ السّابِعَةِ كَما هو عَلى العَرْشِ لا يَخْلُو مِنهُ مَكانٌ ولا هو في مَكانٍ دُونَ مَكانٍ ولا يَتَكَلَّمُ ولا يُكَلِّمُ ولا يَنْظُرُ إلَيْهِ أحَدٌ لا في الدُّنْيا ولا في الآخِرَةِ ولا يُوَصَفُ، ولا يُعْرَفُ بِصِفَةٍ، ولا يُعْقَلُ ولا لَهُ غايَةٌ ولا مُنْتَهًى ولا يُدْرَكُ بِعَقْلٍ وهو وجْهٌ كُلُّهُ وهو عِلْمٌ كُلُّهُ وهو سَمْعٌ كُلُّهُ وهو بَصَرٌ كُلُّهُ وهو نُورٌ كُلُّهُ وهو قُدْرَةٌ كُلُّهُ لا يُوصَفُ بِوَصْفَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ ولَيْسَ بِمَعْلُومٍ ولا مَعْقُولٍ وكُلُّ ما يَخْطُرُ بِقَلْبِكَ أنَّهُ شَيْءٌ تَعْرِفُهُ فَهو عَلى خِلافِهِ فَقُلْنا لَهم فَمَن تَعْبُدُونَ؟ قالُوا: نَعْبُدُ مَن يُدَبِّرُ أمْرَ هَذا الخَلْقِ. قُلْنا: فالَّذِي يُدَبِّرُ أمْرَ هَذا الخَلْقِ مَجْهُولٌ لا يُعْرَفُ بِصَفِّهٍ؟ قالُوا: نَعَمْ. قُلْنا: قَدْ عَرَفَ المُسْلِمُونَ أنَّكم لا تُثْبِتُونَ شَيْئًا إنَّما تَدْفَعُونَ عَنْ أنْفُسِكُمُ الشُّنْعَةَ بِما تُظْهِرُونَ، ثُمَّ قُلْنا لَهُمْ: هَذا الَّذِي يُدَبِّرُ هو الَّذِي كَلَّمَ مُوسى؟ قالُوا: لَمْ يُكَلِّمْ ولا يَتَكَلَّمُ لِأنَّ الكَلامَ لا يَكُونُ إلّا بِجارِحَةٍ والجَوارِحُ مَنفِيَّةٌ عَنِ اللَّهِ سُبْحانَهُ وتَعالى، فَإذا سَمِعَ الجاهِلُ قَوْلَهم ظَنَّ أنَّهم مِن أشَدِّ النّاسِ تَعْظِيمًا لِلَّهِ سُبْحانَهُ ولَمْ يَعْلَمْ أنَّ كَلامَهم إنَّما يَعُودُ إلى ضَلالَةٍ وكُفْرٍ فَلَعَنَهُمُ اللَّهُ، قالَ الخَلّالُ: كَتَبْتُ هَذا الكِتابَ مِن خَطِّ عَبْدِ اللَّهِ وكَتَبَهُ عَبْدُ اللَّهِ مِن خَطِّ أبِيهِ. واحْتَجَّ القاضِي أبُو يَعْلى في كِتابِهِ (إبْطالُ التَّأْوِيلِ) بِما نَقَلَهُ مِنهُ عَنْ أحْمَدَ، وذَكَرَ ابْنُ عَقِيلٍ في كِتابِهِ بَعْضَ ما فِيهِ عَنْ أحْمَدَ، ونَقَلَ مِنهُ أصْحابُهُ قَدِيمًا وحَدِيثًا، ونَقَلَ مِنهُ البَيْهَقِيُّ وعَزاهُ إلى أحْمَدَ وصَحَّحَهُ شَيْخُ الإسْلامِ ابْنُ تَيْمِيَّةَ عَنْ أحْمَدَ ولَمْ يُسْمَعْ مِن أحَدٍ مِن مُتَقَدِّمِي أصْحابِهِ ولا مُتَأخِّرِيهِمْ طَعْنٌ فِيهِ، فَإنْ قِيلَ: هَذا الكِتابُ يَرْوِيهِ أبُو بَكْرٍ عَبْدُ العَزِيزِ غُلامُ الخَلّالِ عَنِ الخَلّالِ عَنِ الخَضِرِ بْنِ المُثَنّى عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أحْمَدَ عَنْ أبِيهِ وهَؤُلاءِ كُلُّهم أئِمَّةٌ مَعْرُوفُونَ إلّا الخَضِرَ بْنَ المُثَنّى فَإنَّهُ مَجْهُولٌ. فَكَيْفَ تُثْبِتُونَ هَذا الكِتابَ عَنْ أحْمَدَ بِرِوايَةٍ مَجْهُولَةٍ، فالجَوابُ مِن وُجُوهٍ:
أحَدُها: أنَّ الخَضِرَ هَذا قَدْ عَرَفَهُ الخَلّالُ ورَوى عَنْهُ كَما رَوى كَلامَ أبِي عَبْدِ اللَّهِ عَنْ أصْحابِهِ وأصْحابِ أصْحابِهِ ولا يَضُرُّ جَهالَةُ غَيْرِهِ لَهُ.
الثّانِي: أنَّ الخَلّالَ قَدْ قالَ كَتَبْتُهُ مِن خَطِّ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أحْمَدَ وكَتَبَهُ عَبْدُ اللَّهِ مِن خَطِّ أبِيهِ، والظّاهِرُ أنَّ الخَلّالَ إنَّما رَواهُ عَنِ الخَضِرِ لِأنَّهُ أحَبَّ أنْ يَكُونَ مُتَّصِلَ السَّنَدِ عَلى طَرِيقِ أهْلِ النَّقْلِ وضَمَّ ذَلِكَ إلى الوِجادَةِ، والخَضِرُ كانَ صَغِيرًا حِينَ سَمِعَهُ مِن عَبْدِ اللَّهِ ولَمْ يَكُنْ مِنَ المُعَمَّرِينَ المَشْهُورِينَ بِالعِلْمِ ولا هو مِنَ الشُّيُوخِ وقَدْ رَوى الخَلّالُ عَنْهُ غَيْرَ هَذا في جامِعِهِ؛ فَقالَ في كِتابِ الأدَبِ مِنَ الجامِعِ: دَفَعَ إلَيَّ الخَضِرُ بْنُ المُثَنّى بِخَطِّ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أحْمَدَ أجازَ لِي أنْ أرْوِيَ عَنْهُ، قالَ الخَضِرُ: حَدَّثَنا مُهَنّا، قالَ: سَألْتُ أحْمَدَ بْنَ حَنْبَلٍ عَنِ الرَّجُلِ يَبْزُقُ عَنْ يَمِينِهِ في الصَّلاةِ (وَفِي غَيْرِ الصَّلاةِ) فَقالَ يُكْرَهُ أنْ يَبْزُقَ الرَّجُلُ عَنْ يَمِينِهِ (فِي الصَّلاةِ وفي غَيْرِ الصَّلاةِ، فَقُلْتُ لَهُ: لِمَ يُكْرَهُ أنْ يَبْزُقَ الرَّجُلُ عَنْ يَمِينِهِ) في غَيْرِ الصَّلاةِ؟ قالَ: ألَيْسَ عَنْ يَمِينِهِ المَلَكُ؟ فَقُلْتُ: وعَنْ يَسارِهِ أيْضًا مَلَكٌ، فَقالَ: الَّذِي عَنْ يَمِينِهِ يَكْتُبُ الحَسَناتِ، والَّذِي عَنْ يَسارِهِ يَكْتُبُ السَّيِّئاتِ.
(قالَ الخَلّالُ): وأخْبَرَنا الخَضِرُ بْنُ المُثَنّى الكِنْدِيُّ قالَ حَدَّثَنا عَبْدُ اللَّهُ بْنُ أحْمَدَ قالَ: قالَ أبِي لا بَأْسَ بِأكْلِ ذَبِيحَةِ المُرْتَدِّ إذا كانَ ارْتِدادُهُ إلى يَهُودِيَّةٍ أوْ نَصْرانِيَّةٍ ولَمْ يَكُنْ إلى مَجُوسِيَّةٍ، قُلْتُ: والمَشْهُورُ في مَذْهَبِهِ خِلافُ هَذِهِ الرِّوايَةِ وأنَّ ذَبِيحَةَ المُرْتَدِّ حَرامٌ، رَواها عَنْهُ جُمْهُورُ أصْحابِهِ، ولَمْ يَذْكُرْ أكْثَرُ أصْحابِهِ غَيْرَها.
وَمِمّا يَدُلُّ عَلى صِحَّةِ هَذا الكِتابِ ما ذَكَرَهُ القاضِي أبُو الحُسَيْنِ بْنُ القاضِي أبِي يَعْلى، فَقالَ: قَرَأْتُ في كِتابِ أبِي جَعْفَرٍ مُحَمَّدِ بْنِ أحْمَدَ بْنِ صالِحِ بْنِ أحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ قالَ: قَرَأْتُ عَلى أبِي صالِحِ بْنِ أحْمَدَ هَذا الكِتابَ، وقالَ: هَذا كِتابٌ عَمِلَهُ أبِي في مَجْلِسِهِ رَدًّا عَلى مَنِ احْتَجَّ بِظاهِرِ القُرْآنِ وتَرَكَ ما فَسَّرَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ وما يَلْزَمُ اتِّباعُهُ.
(وَقالَ الخَلّالُ) في كِتابِ السُّنَّةِ: أخْبَرَنِي عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ حَنْبَلٍ أخْبَرَنِي أبِي حَنْبَلُ بْنُ إسْحاقَ قالَ: قالَ عَمِّي: يَعْنِي: أحْمَدَ بْنَ حَنْبَلٍ نَحْنُ نُؤْمِنُ أنَّ اللَّهَ تَعالى عَلى العَرْشِ اسْتَوى كَيْفَ شاءَ وكَما يَشاءُ بِلا حَدٍّ ولا صِفَةٍ يَبْلُغُها واصِفٌ أوْ يَحُدُّهُ أحَدٌ فَصِفاتُ اللَّهِ لَهُ ومِنهُ وهو كَما وصَفَ نَفْسَهُ لا تُدْرِكُهُ الأبْصارُ بِحَدٍّ ولا غايَةٍ، وهو يُدْرِكُ الأبْصارَ وهو عالِمُ الغَيْبِ والشَّهادَةِ وعَلّامُ الغُيُوبِ.
(قالَ الخَلّالُ): وأخْبَرَنِي عَلِيُّ بْنُ عِيسى أنَّ حَنْبَلًا حَدَّثَهم قالَ: سَألْتُ أبا عَبْدِ اللَّهِ عَنِ الأحادِيثِ الَّتِي تُرْوى أنَّ اللَّهَ سُبْحانَهُ يَنْزِلُ إلى سَماءِ الدُّنْيا، وأنَّ اللَّهَ يُرى، وأنَّ اللَّهَ يَضَعُ قَدَمَهُ وما أشْبَهَ هَذِهِ الأحادِيثَ، فَقالَ أبُو عَبْدِ اللَّهِ: نُؤْمِنُ بِها، ونُصَدِّقُ بِها. . .، ولا نَرُدُّ مِنها شَيْئًا، ونَعْلَمُ أنَّ ما جاءَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ حَقٌّ إذا كانَتْ بِأسانِيدَ صِحاحٍ ولا نَرُدُّ عَلى اللَّهِ قَوْلَهُ ولا يُوصَفُ بِأكْثَرَ مِمّا وصَفَ بِهِ نَفْسَهُ بِلا حَدٍّ ولا غايَةٍ:
﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وهو السَّمِيعُ البَصِيرُ﴾ [الشورى: ١١](وَقالَ حَنْبَلٌ) في مَوْضِعٍ آخَرَ عَنْ أحْمَدَ: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ في ذاتِهِ كَما وصَفَ بِهِ نَفْسَهُ، قَدْ أجْمَلَ اللَّهُ تَبارَكَ وتَعالى الصِّفَةَ لِنَفْسِهِ فَحَدَّ لِنَفْسِهِ صِفَةً لَيْسَ يُشَبِهُهُ شَيْءٌ، وصِفاتُهُ غَيْرُ مَحْدُودَةٍ ولا مَعْلُومَةٍ إلّا بِما وصَفَ بِهِ نَفْسَهُ. قالَ تَعالى:
﴿وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ﴾ [الشورى: ١١] فَهو سُمَيْعٌ بَصِيرٌ بِلا حَدٍّ ولا تَقْدِيرٍ، ولا يَبْلُغُ الواصِفُونَ صِفَتَهُ، ولا نَتَعَدّى القُرْآنَ والحَدِيثَ فَنَقُولُ كَما قالَ، ونَصِفُهُ بِما وصَفَ (بِهِ) نَفْسَهُ ولا نَتَعَدّى ذَلِكَ ولا يَبْلُغُ صِفَتَهُ الواصِفُونَ. نُؤْمِنُ بِالقُرْآنِ كُلِّهِ مُحْكَمِهِ ومُتَشابِهِهِ ولا نُزِيلُ عَنْهُ صِفَةً مِن صِفاتِهِ لِشَناعَةٍ شُنِّعَتْ، وما وصَفَ بِهِ نَفْسَهُ مِن كَلامٍ ونُزُولٍ وخَلْوَةٍ بِعَبْدِهِ يَوْمَ القِيامَةِ ووَضْعِهِ كَنَفَهُ عَلَيْهِ، فَهَذا كُلُّهُ يَدُلُّ عَلى أنَّ اللَّهَ سُبْحانَهُ وتَعالى يُرى في الآخِرَةِ، والتَّحْدِيدُ في هَذا كُلِّهِ بِدَعَةٌ والتَّسْلِيمُ فِيهِ لِلَّهِ بِغَيْرِ صِفَةٍ ولا حَدٍّ إلّا ما وصَفَ بِهِ نَفْسَهُ سَمِيعٌ بَصِيرٌ، لَمْ يَزَلْ مُتَكَلِّمًا عالِمًا غَفُورًا عالِمَ الغَيْبِ والشَّهادَةِ عَلّامَ الغُيُوبِ فَهَذِهِ صِفاتٌ وصَفَ بِها نَفْسَهُ لا تُدْفَعُ ولا تُرَدُّ وهو عَلى العَرْشِ بِلا حَدٍّ كَما قالَ تَعالى:
﴿ثُمَّ اسْتَوى عَلى العَرْشِ﴾ [الأعراف: ٥٤] كَيْفَ شاءَ، المَشِيئَةُ إلَيْهِ والِاسْتِطاعَةُ إلَيْهِ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وهو خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وهو كَما (وَصَفَ نَفْسَهُ) سَمِيعٌ بَصِيرٌ بِلا حَدٍّ ولا تَقْدِيرٍ لا نَتَعَدّى القُرْآنَ والحَدِيثَ. . . تَعالى عَمّا يَقُولُ الجَهْمِيَّةُ، والمُشَبِّهَةُ، قُلْتُ (لَهُ): والمُشَبِّهُ ما تَقُولُ؟ قالَ: مَن قالَ: بَصَرٌ كَبَصَرِي ويَدٌ كَيَدِي وقَدَمٌ كَقَدَمِي فَقَدْ شَبَّهَ اللَّهَ سُبْحانَهُ بِخَلْقِهِ. وكَلامُ أحْمَدَ في هَذا كَثِيرٌ فَإنَّهُ امْتُحِنَ بِالجَهْمِيَّةِ، وجَمِيعُ المُتَقَدِّمِينَ مِن أصْحابِهِ عَلى مِثْلِ مِنهاجِهِ في ذَلِكَ، وإنْ كانَ بَعْضُ المُتَأخِّرِينَ مِنهم دَخَلَ في نَوْعٍ مِنَ البِدْعَةِ الَّتِي أنْكَرَها الإمامُ أحْمَدُ ولَكِنَّ الرَّعِيلَ الأوَّلَ مِن أصْحابِهِ كُلِّهِمْ وجَمِيعَ أئِمَّةِ الحَدِيثِ قَوْلُهم قَوْلُهُ.
[أقْوالُ أئِمَّةِ أهْلِ الحَدِيثِ الَّذِينَ رَفَعَ اللَّهُ مَنازِلَهم في العالَمِينَ وجَعَلَ لَهم لِسانَ صِدْقٍ في الآخِرِينَ]
[ذِكْرُ قَوْلِ إمامِهِمْ وشَيْخِهِمْ): الَّذِي رَوى لَهُ كُلُّ مُحَدِّثٍ: أبُو هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ]
رَوى الدّارِمِيُّ عَنْهُ في كِتابِ النَّقْضِ بِإسْنادٍ جَيِّدٍ قالَ: لَمّا أُلْقِيَ إبْراهِيمُ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ في النّارِ قالَ: اللَّهُمَّ إنَّكَ في السَّماءِ واحِدٌ وأنا في الأرْضِ واحِدٌ أعْبُدُكَ.
[أحَدِ أئِمَّةِ الدُّنْيا الأرْبَعَةِ: أبِي عُمَرَ الأوْزاعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعالى]
رَوى البَيْهَقِيُّ عَنْهُ في الصِّفاتِ أنَّهُ قالَ: كُنّا والتّابِعُونَ مُتَوافِرِينَ نَقُولُ: إنَّ اللَّهَ عَزَّ وجَلَّ فَوْقَ عَرْشِهِ ونُؤْمِنُ بِما ورَدَتْ بِهِ السُّنَّةُ مِن صِفاتِهِ. وقَدْ تَقَدَّمَ حِكايَةُ ذَلِكَ عَنْهُ.
[ذِكْرُ قَوْلِ إمامِ أهْلِ الدُّنْيا في وقْتِهِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ المُبارَكِ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعالى]
وَقَدْ صَحَّ عَنْهُ صِحَّةً قَرِيبَةً مِنَ التَّواتُرِ أنَّهُ قِيلَ لَهُ بِماذا نَعْرِفُ رَبَّنا؟ قالَ: بِأنَّهُ فَوْقَ سَماواتِهِ عَلى عَرْشِهِ بائِنٌ مِن خَلْقِهِ؛ ذَكَرَهُ البَيْهَقِيُّ وقَبْلَهُ الحاكِمُ وقَبْلَهُ عُثْمانُ الدّارِمِيُّ (وَقَدْ تَقَدَّمَ).
[قَوْلُ يَزِيدَ بْنِ هارُونَ]
قالَ عَبْدُ اللَّهِ ابْنُ الإمامِ أحْمَدَ في كِتابِ السُّنَّةِ: حَدَّثَنا عَبّاسٌ حَدَّثَنا شَدّادُ بْنُ يَحْيى قالَ: سَمِعْتُ يَزِيدَ بْنَ هارُونَ يَقُولُ: مَن زَعَمَ أنَّ الرَّحْمَنَ عَلى العَرْشِ اسْتَوى عَلى خِلافِ ما تَقَرَّرَ في قُلُوبِ العامَّةِ فَهو جَهْمِيٌّ.
قالَ شَيْخُ الإسْلامِ: والَّذِي تَقَرَّرَ في قُلُوبِ العامَّةِ هو ما فَطَرَ اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ الخَلِيقَةَ مِن تَوَجُّهِها إلى رَبِّها تَعالى عِنْدَ النَّوازِلِ والشَّدائِدِ والدُّعاءِ والرَّغَباتِ إلَيْهِ تَعالى: نَحْوُ العُلُوِّ، لا يُلْتَفَتُ يَمْنَةً ولا يَسْرَةً مِن غَيْرِ مَوْقِفٍ وقَفَهم عَلَيْهِ (وَ) لَكِنْ "
﴿فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النّاسَ عَلَيْها﴾ [الروم: ٣٠] "، وما مِن مَوْلُودٍ إلّا وهو يُولَدُ عَلى هَذِهِ الفِطْرَةِ حَتّى يُجَهِّمَهُ ويَنْقُلَهُ إلى التَّعْطِيلِ مَن يُقَيَّضُ لَهُ.
[قَوْلُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ مَهْدِيٍّ]
رَوى عَنْهُ غَيْرُ واحِدٍ بِإسْنادٍ صَحِيحٍ أنَّهُ قالَ: إنَّ الجَهْمِيَّةَ أرادُوا أنْ يَنْفُوا أنَّ اللَّهَ كَلَّمَ مُوسى وأنْ يَكُونَ عَلى العَرْشِ أرى أنْ يُسْتَتابُوا فَإنْ تابُوا وإلّا ضُرِبَتْ أعْناقُهُمْ، قالَ عَلِيُّ بْنُ المَدِينِيِّ: لَوْ حُلِّفْتُ لَحَلَفْتُ بَيْنَ الرُّكْنِ والمَقامِ أنِّي ما رَأيْتُ أعْلَمَ مِن عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ مَهْدِيٍّ.
[قَوْلُ سَعِيدِ بْنِ عامِرِ الضُّبَعِيِّ]
(قَوْلُ سَعِيدِ بْنِ عامِرِ الضُّبَعِيِّ): إمامِ أهْلِ البَصْرَةِ عَلى رَأْسِ المِائَتَيْنِ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعالى رَوى ابْنُ أبِي حاتِمٍ عَنْهُ في كِتابِ السُّنَّةِ أنَّهُ ذُكِرَ عِنْدَهُ الجَهْمِيَّةُ فَقالَ: هم شَرٌّ قَوْلًا مِنَ اليَهُودِ والنَّصارى، وقَدْ أجْمَعَ أهْلُ الأدْيانِ مَعَ المُسْلِمِينَ عَلى أنَّ اللَّهَ عَلى العَرْشِ وقالُوا هُمْ: لَيْسَ عَلى العَرْشِ شَيْءٌ.
[قَوْلُ عَبّادِ بْنِ العَوّامِ]
(قَوْلُ عَبّادِ بْنِ العَوّامِ): أحَدِ أئِمَّةِ الحَدِيثِ بِواسِطَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعالى قالَ: كَلَّمْتُ بِشْرًا المَرِيسِيَّ
وَأصْحابَهُ فَرَأيْتُ آخِرَ كَلامِهِمْ. . . يَقُولُونَ: لَيْسَ في السَّماءِ شَيْءٌ، أرى واللَّهِ أنْ لا يُناكَحُوا ولا يُوارَثُوا.
[قَوْلُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْلَمَةَ القَعْنَبِيِّ]
شَيْخِ البُخارِيِّ ومُسْلِمٍ رَحِمَهُما اللَّهُ تَعالى قالَ بَيانُ بْنُ أحْمَدَ: كُنّا عِنْدَ القَعْنَبِيِّ فَسَمِعَ رَجُلًا مِنَ الجَهْمِيَّةِ يَقُولُ:
﴿الرَّحْمَنُ عَلى العَرْشِ اسْتَوى﴾ [طه: ٥] اسْتَوْلى. فَقالَ القَعْنَبِيُّ: مَن لا يُوقِنُ أنَّ الرَّحْمَنَ عَلى العَرْشِ اسْتَوى كَما تَقَرَّرَ في قُلُوبِ العامَّةِ فَهو جَهْمِيٌّ؟ قالَ البُخارِيُّ: مُحَمَّدُ بْنُ إسْماعِيلَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعالى في كِتابِ خَلْقِ أفْعالِ العِبادِ عَنْ يَزِيدَ بْنِ هارُونَ مِثْلَهُ سَواءً، وقَدْ تَقَدَّمَ.
[قَوْلُ عَلِيِّ بْنِ عاصِمٍ شَيْخِ الإمامِ أحْمَدَ رَحِمَهُما اللَّهُ تَعالى]
صَحَّ عَنْهُ أنَّهُ قالَ: ما الَّذِينَ قالُوا إنَّ لِلَّهِ سُبْحانَهُ ولَدًا أكْفَرَ مِنَ الَّذِينَ قالُوا إنَّ اللَّهَ سُبْحانَهُ لَمْ يَتَكَلَّمْ، وقالَ احْذَرُوا مِنَ المَرِيسِيِّ وأصْحابِهِ فَإنَّ كَلامَهُمُ الزَّنْدَقَةُ، وأنا كَلَّمْتُ أُسْتاذَهم فَلَمْ يُثْبِتْ أنَّ في السَّماءِ إلَهًا، حَكاهُ عَنْهُ غَيْرُ واحِدٍ مِمَّنْ صَنَّفَ في السُّنَّةِ، وقالَ يَحْيى بْنُ عَلِيِّ بْنِ عاصِمِ كُنْتُ عِنْدَ أبِي فاسْتَأْذَنَ عَلَيْهِ المَرَيْسِيُّ فَقُلْتُ لَهُ: يا أبَتِ مِثْلُ هَذا يَدْخُلُ عَلَيْكَ! فَقالَ ومالَهُ: فَقُلْتُ: إنَّهُ يَقُولُ: " إنَّ القُرْآنَ مَخْلُوقٌ، ويَزْعُمُ أنَّ اللَّهَ مَعَهُ في الأرْضِ، ذَكَرْتُهُ فَما رَأيْتُهُ اشْتَدَّ عَلَيْهِ مِثْلَ ما اشْتَدَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: إنَّ القُرْآنَ مَخْلُوقٌ، وقَوْلُهُ: إنَّ اللَّهَ مَعَهُ في الأرْضِ، ذَكَرَ هَذَيْنِ الأثَرَيْنِ عَنْهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أبِي حاتِمٍ في كِتابِ الرَّدِّ عَلى الجَهْمِيَّةِ.
[قَوْلُ الإمامِ عَبْدِ العَزِيزِ بْنِ يَحْيى الكِنانِيِّ]
صاحِبِ الشّافِعِيِّ رَحِمَهُما اللَّهُ تَعالى لَهُ كِتابٌ في الرَّدِّ عَلى الجَهْمِيَّةِ قالَ فِيهِ: بابُ قَوْلِ الجَهْمِيِّ في قَوْلِهِ:
﴿الرَّحْمَنُ عَلى العَرْشِ اسْتَوى﴾ [طه: ٥] زَعَمَتِ الجَهْمِيَّةُ أنَّ مَعْنى اسْتَوى: اسْتَوْلى مِن قَوْلِ العَرَبِ اسْتَوى فُلانٌ عَلى مِصْرَ يُرِيدُونَ اسْتَوْلى عَلَيْها، قالَ: فَيُقالُ لَهُ: هَلْ يَكُونُ خَلْقٌ مِن خَلْقِ اللَّهِ أتَتْ عَلَيْهِ مُدَّةٌ لَيْسَ بِمُسْتَوْلٍ عَلَيْهِ؟ فَإذا قالَ: لا. قِيلَ لَهُ: فَمَن زَعَمَ ذَلِكَ فَهو كافِرٌ. فَيُقالُ لَهُ: يَلْزَمُكَ أنْ تَقُولَ أنَّ العَرْشَ أتَتْ عَلَيْهِ مُدَّةٌ لَيْسَ اللَّهُ بِمُسْتَوْلٍ عَلَيْهِ، وذَلِكَ لِأنَّهُ أخْبَرَ أنَّهُ سُبْحانَهُ خَلَقَ العَرْشَ قَبْلَ السَّماواتِ والأرْضِ ثُمَّ اسْتَوى عَلَيْهِ بَعْدَ خَلْقِهِنَّ. . . فَيَلْزَمُكَ أنْ تَقُولَ: المُدَّةُ الَّتِي كانَ " عَلى " العَرْشِ " فِيها " قَبْلَ خَلْقِ السَّماواتِ والأرْضَ لَيْسَ اللَّهُ تَعالى بِمُسْتَوْلٍ عَلَيْهِ فِيها ثُمَّ ذَكَرَ، كَلامًا طَوِيلًا في تَقْرِيرِ العُلُوِّ والِاحْتِجاجِ عَلَيْهِ.
[ذِكْرُ قَوْلِ جَرِيرِ بْنِ عَبْدِ الحَمِيدِ]
شَيْخِ إسْحاقَ بْنِ راهَوَيْهِ وغَيْرِهِ مِنَ الأئِمَّةِ رَحِمَهُمُ اللَّهُ تَعالى قالَ: كَلامُ الجَهْمِيَّةِ أوَّلُهُ عَسَلٌ وآخِرُهُ سُمٌّ وإنَّما يُحاوِلُونَ أنْ يَقُولُوا لَيْسَ في السَّماءِ إلَهٌ، رَواهُ ابْنُ أبِي حاتِمٍ في كِتابِ الرَّدِّ عَلى الجَهْمِيَّةِ.
[قَوْلُ أئِمَّةِ التَّفْسِيرِ]
[قَوْلُ إمامِهِمْ تُرْجُمانِ القُرْآنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما]
وَهَذا بابٌ لا يُمْكِنُ اسْتِيعابُهُ لِكَثْرَةِ ما يُوجَدُ مِن كَلامِ أهْلِ السُّنَّةِ في التَّفْسِيرِ وهو بَحْرٌ لا ساحِلَ لَهُ وإنَّما نَذْكُرُ طَرَفًا مِنهُ يَسِيرًا يَكُونُ مُنَبِّهًا عَلى ما وراءَهُ ومَن أرادَ الوُقُوفَ عَلَيْهِ فَهَذِهِ تَفاسِيرُ السَّلَفِ وأهْلِ السُّنَّةِ مَوْجُودَةٌ فَمَن طَلَبَها وجَدَها.
(قَوْلُ إمامِهِمْ تُرْجُمانِ القُرْآنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما): ذَكَرَ البَيْهَقِيُّ عَنْهُ في قَوْلِهِ تَعالى:
﴿الرَّحْمَنُ عَلى العَرْشِ اسْتَوى﴾ [طه: ٥] قالَ: اسْتَقَرَّ، وقَدْ تَقَدَّمَ قَوْلُهُ في تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعالى عَنْ إبْلِيسَ: (ثُمَّ
﴿لَآتِيَنَّهم مِن بَيْنِ أيْدِيهِمْ ومِن خَلْفِهِمْ وعَنْ أيْمانِهِمْ وعَنْ شَمائِلِهِمْ﴾ [الأعراف: ١٧] قالَ: لَمْ يَسْتَطِعْ أنْ يَقُولَ مِن فَوْقِهِمْ؛ عَلِمَ أنَّ اللَّهَ مِن فَوْقِهِمْ. وتَقَدَّمَ حِكايَةُ قَوْلِهِ أنَّ اللَّهَ كانَ عَلى عَرْشِهِ. . . وكَتَبَ ما هو كائِنٌ. . . (وَإنَّما) يَجْرِي النّاسُ عَلى أمْرٍ قَدْ فُرِغَ مِنهُ. رَواهُ سُفْيانُ الثَّوْرِيُّ عَنْ أبِي هاشِمٍ عَنْ مُجاهِدٍ عَنْهُ، وذَكَرَ البُخارِيُّ عَنْهُ في صَحِيحِهِ أنَّ سائِلًا سَألَهُ فَقالَ: إنِّي أجِدُ أشْياءَ تَخْتَلِفُ عَلَيَّ؛ أسْمَعُ اللَّهَ يَقُولُ. . .:
﴿أمِ السَّماءُ بَناها﴾ [النازعات: ٢٧] إلى قَوْلِهِ:
﴿والأرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحاها﴾ [النازعات: ٣٠] فَذَكَرَ. . . خَلْقَ السَّماءِ قَبْلَ خَلْقِ الأرْضِ ثُمَّ قالَ في آيَةٍ أُخْرى:
﴿قُلْ أئِنَّكم لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الأرْضَ في يَوْمَيْنِ﴾ [فصلت: ٩] إلى أنْ قالَ:
﴿ثُمَّ اسْتَوى إلى السَّماءِ﴾ [فصلت: ١١] فَذَكَرَ هُنا خَلْقَ الأرْضِ قَبْلَ السَّماءِ. . . فَقالَ ابْنُ عَبّاسٍ: أمّا قَوْلُهُ:
﴿أمِ السَّماءُ بَناها﴾ [النازعات: ٢٧] فَإنَّهُ خَلَقَ الأرْضَ قَبْلَ السَّماءِ ثُمَّ اسْتَوى إلى السَّماءِ فَسَوّاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ ثُمَّ نَزَلَ إلى الأرْضِ فَدَحاها. . . وهَذِهِ الزِّيادَةُ وهي قَوْلُهُ: (ثُمَّ نَزَلَ إلى الأرْضِ) لَيْسَتْ عِنْدَ البُخارِيِّ وهي صَحِيحَةٌ، قالَ مُحَمَّدُ بْنُ (أحْمَدَ) بْنِ عُثْمانَ في رِسالَتِهِ في العُلُوِّ عَنْ جُوَيْبِرٍ عَنِ الضَّحّاكِ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ قالَ: قالَتِ امْرَأةُ العَزِيزِ لِيُوسُفَ إنِّي كَثِيرَةُ الدُّرِّ والياقُوتِ فَأُعْطِيكَ ذَلِكَ حَتّى تُنْفِقَ في مَرْضاةِ سَيِّدِكِ الَّذِي في السَّماءِ. . وعَنْ ذَكْوانَ حاجِبِ عائِشَةَ أنَّ ابْنَ عَبّاسٍ دَخَلَ عَلى عائِشَةَ وهي تَمُوتُ فَقالَ لَها: كُنْتِ أحَبَّ نِساءِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ إلَيْهِ ولَمْ يَكُنْ رَسُولُ اللَّهِ صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ يُحِبُّ إلّا طَيِّبًا، وأنْزَلَ اللَّهُ بَراءَتَكِ مِن فَوْقِ سَبْعِ سَماواتٍ جاءَ بِها جِبْرائِيلُ فَأصْبَحَ لَيْسَ مَسْجِدٌ مِن مَساجِدِ اللَّهِ يُذْكَرُ فِيهِ اللَّهُ إلّا وهي تُتْلى آناءَ اللَّيْلِ وآناءَ النَّهارِ، وأصْلُ القِصَّةِ في صَحِيحِ البُخارِيِّ، وقالَ ابْنُ جَرِيرٍ في تَفْسِيرِهِ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَعِيدٍ حَدَّثَنِي عَمِّي حَدَّثَنِي أبِي عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ في قَوْلِهِ تَعالى:
﴿تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِن فَوْقِهِنَّ﴾ [الشورى: ٥] قالَ: يَعْنِي مِن ثِقَلِ الرَّحْمَنِ وعَظَمَتِهِ جَلَّ جَلالُهُ، وهَذا التَّفْسِيرُ تَلَقّاهُ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ الضَّحّاكُ والسُّدِّيُّ وقَتادَةُ، فَقالَ سَعِيدُ عَنْ قَتادَةَ: يَتَفَطَّرْنَ مِن فَوْقِهِنَّ (قالَ): مِن عَظَمَةِ اللَّهِ وجَلالِهِ، وقالَ السُّدِّيُّ: تَشَقَّقُ بِاللَّهِ. وذَكَرَ شَيْخُ الإسْلامِ مِن رِوايَةِ الضَّحّاكِ بْنِ مُزاحِمٍ عَنْهُ قالَ: إنَّ اللَّهَ خَلَقَ العَرْشَ أوَّلَ ما خَلَقَ فاسْتَوى عَلَيْهِ قُلْتُ: وهَذا في تَفْسِيرِ الضَّحّاكِ، وفي تَفْسِيرِ السُّدِّيِّ عَنْ أبِي مالِكٍ وأبِي صالِحٍ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ:
﴿الرَّحْمَنُ عَلى العَرْشِ اسْتَوى﴾ [طه: ٥] قالَ: قَعَدَ.
[قَوْلُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ]
رَوى أبُو الشَّيْخِ في كِتابِ العَظَمَةِ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قالَ:
«قالَ رَجُلٌ: يا رَسُولَ اللَّهِ ما الحاقَّةُ؟ قالَ: يَوْمَ يَنْزِلُ الرَّبُّ تَبارَكَ وتَعالى عَلى عَرْشِهِ»وَقالَ البُخارِيُّ في (كِتابِ) خَلْقِ أفْعالِ العِبادِ: قالَ ابْنُ مَسْعُودٍ في قَوْلِهِ تَعالى:
﴿ثُمَّ اسْتَوى إلى السَّماءِ﴾ [فصلت: ١١] وقَوْلِهِ تَعالى:
﴿ثُمَّ اسْتَوى عَلى العَرْشِ﴾ [الأعراف: ٥٤] قالَ: العَرْشُ عَلى الماءِ واللَّهُ فَوْقَ العَرْشِ وهو يَعْلَمُ ما أنْتُمْ عَلَيْهِ. وقالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: مَن قالَ: سُبْحانَ اللَّهِ والحَمْدُ لِلَّهِ ولا إلَهَ إلّا اللَّهُ واللَّهُ أكْبَرُ تَلَقّاهُنَّ مَلَكٌ فَعَرَجَ بِهِنَّ إلى اللَّهِ فَلا يَمُرُّ بِمَلَأٍ مِنَ المَلائِكَةِ إلّا اسْتَغْفَرُوا لِقائِلِهِنَّ حَتّى يَجِيءَ بِهِنَّ وجْهَ الرَّحْمَنِ. أخْرَجَهُ العَسّالُ في كِتابِ المَعْرِفَةِ بِإسْنادٍ كُلُّهم ثِقاتٌ، وقالَ الدّارِمِيُّ: حَدَّثَنا مُوسى بْنُ إسْماعِيلَ حَدَّثَنا حَمّادُ بْنُ سَلَمَةَ عَنِ الزُّبَيْرِ بْنِ عَبْدِ السَّلامِ عَنْ أيُّوبَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الفِهْرِيِّ أنَّ ابْنَ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قالَ: إنَّ رَبَّكم لَيْسَ عِنْدَهُ لَيْلٌ ولا نَهارٌ، نُورُ السَّماواتِ والأرْضِ مِن نُورِ وجْهِهِ، وإنَّ مِقْدارَ كُلِّ يَوْمٍ مِن أيّامِكم عِنْدَهُ اثْنَتا عَشْرَةَ ساعَةً فَتُعْرَضُ عَلَيْهِ أعْمالُكم بِالأمْسِ أوَّلَ النَّهارِ اليَوْمَ فَيَنْظُرُ فِيها ثَلاثَ ساعاتٍ فَيَطَّلِعُ فِيها عَلى ما يَكْرَهُ فَيُغْضِبُهُ ذَلِكَ فَأوَّلُ مَن يَعْلَمُ بِغَضَبِهِ الَّذِينَ يَحْمِلُونَ العَرْشَ يَجِدُونَهُ يَثْقُلُ عَلَيْهِمْ فَيُسَبِّحُهُ الَّذِينَ يَحْمِلُونَ العَرْشَ وسُرادِقاتُ العَرْشِ والمَلائِكَةُ المُقَرَّبُونَ وسائِرُ المَلائِكَةِ وهو في مُعْجَمِ الطَّبَرانِيِّ أطْوَلُ مِن هَذا. وصَحَّ عَنِ السُّدِّيِّ عَنْ مُرَّةَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، وعَنْ أبِي مالِكٍ وأبِي صالِحٍ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ، وعَنْ مُرَّةَ عَنْ ناسٍ مِن أصْحابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ في قَوْلِهِ:
﴿ثُمَّ اسْتَوى إلى السَّماءِ﴾ [فصلت: ١١] وأنَّ اللَّهَ عَزَّ وجَلَّ كانَ عَلى عَرْشِهِ عَلى الماءِ ولَمْ يَخْلُقْ شَيْئًا قَبْلَ الماءِ. . . الحَدِيثَ. وفِيهِ فَلَمّا فَرَغَ مِن خَلْقِ ما أحَبَّ اسْتَوى عَلى العَرْشِ، ولا يُناقِضُ هَذا حَدِيثَ "
«أوَّلُ ما خَلَقَ اللَّهُ القَلَمُ» " لِوَجْهَيْنِ، أحَدُهُما: أنَّ الأوَّلِيَّةَ راجِعَةٌ إلى كِتابَتِهِ لا إلى خَلْقِهِ فَإنَّ الحَدِيثَ: (
«أوَّلُ ما خَلَقَ اللَّهُ القَلَمُ) قالَ لَهُ: اكْتُبْ. قالَ: ما أكْتُبُ؟ قالَ: اكْتُبْ ما هو كائِنٌ إلى يَوْمِ القِيامَةِ». والثّانِي: أنَّ المُرادَ أوَّلُ ما خَلَقَهُ اللَّهُ مِن هَذا العالَمِ بَعْدَ خَلْقِ العَرْشِ، فَإنَّ العَرْشَ مَخْلُوقٌ قَبْلَهُ في أصَحِّ قَوْلَيِ السَّلَفِ حَكاهُما الحافِظُ عَبْدُ القادِرِ الرُّهاوِيُّ، ويَدُلُّ عَلى سَبْقِ خَلْقِ العَرْشِ قَوْلُهُ في الحَدِيثِ الثّابِتِ:
«قَدَّرَ اللَّهُ مَقادِيرَ الخَلائِقِ قَبْلَ أنْ يَخْلُقَ السَّماواتِ والأرْضَ بِخَمْسِينَ ألْفَ سَنَةٍ وكانَ عَرْشُهُ عَلى الماءِ».
وَقَدْ أخْبَرَ أنَّهُ حِينَ خَلْقَ القَلَمَ قَدَّرَ بِهِ المَقادِيرَ كَما في اللَّفْظِ الآخَرِ،
«قالَ: اكْتُبْ. قالَ: ما أكْتُبُ؟ قالَ: اكْتُبِ القَدَرَ». فَهَذا هو التَّقْدِيرُ المُؤَقَّتُ قَبْلَ خَلْقِ العالَمِ بِخَمْسِينَ ألْفَ سَنَةٍ، فَثَبَتَ أنَّ العَرْشَ سابِقٌ عَلى القَلَمِ، والعَرْشُ كانَ عَلى الماءِ قَبْلَ خَلْقِ السَّماواتِ والأرْضِ، فَأقْوالُ الصَّحابَةِ لا تُناقِضُ ما أخْبَرَ بِهِ الرَّسُولُ ﷺ، ورَوى أبُو القاسِمِ اللّالَكائِيُّ بِإسْنادٍ صَحِيحٍ عَنْ خَيْثَمَةَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قالَ:
«إنَّ العَبْدَ لَيَهُمُّ بِالأمْرِ مِنَ التِّجارَةِ أوِ الإمارَةِ حَتّى إذا تَيَسَّرَ لَهُ نَظَرَ اللَّهُ إلَيْهِ مِن فَوْقِ سَبْعِ سَماواتٍ فَيَقُولُ لِلْمَلائِكَةِ: اصْرِفُوهُ عَنْهُ فَإنَّهُ إنْ يَسَّرْتُهُ لَهُ أدْخَلْتُهُ النّارَ». وقَدْ سَبَقَ نَحْوُهُ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ مَرْفُوعًا ومَوْقُوفًا. وذَكَرَ سُنَيْدُ بْنُ داوُدَ بِإسْنادٍ صَحِيحٍ عَنْهُ أنَّهُ قالَ:
«(ما) بَيْنَ السَّماءِ والأرْضِ مَسِيرَةُ خَمْسِمِائَةِ عامٍ وما بَيْنَ كُلِّ سَماءٍ إلى سَماءٍ مَسِيرَةُ خَمْسِمِائَةِ عامٍ وما بَيْنَ السَّماءِ السّابِعَةِ إلى الكُرْسِيِّ مَسِيرَةُ خَمْسِمِائَةِ عامٍ، والعَرْشُ عَلى الماءِ واللَّهُ تَعالى عَلى العَرْشِ ويَعْلَمُ أعْمالَكُمْ». وقالَ الإمامُ أحْمَدُ: حَدَّثَنا أبُو مُعاوِيَةَ حَدَّثَنا الأعْمَشُ عَنْ أبِي إسْحاقَ عَنْ أبِي عُبَيْدَةَ قالَ: قالَ عَبْدُ اللَّهِ: ارْحَمْ مَن في الأرْضِ يَرْحَمْكَ مَن في السَّماءِ. وقالَ حَمّادُ بْنُ سَلَمَةَ عَنْ عَطاءِ بْنِ السّائِبِ عَنِ الشَّعْبِيِّ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قالَ: إنَّ اللَّهَ مَلَأ العَرْشَ حَتّى إنَّ لَهُ أطِيطًا كَأطِيطِ الرَّحْلِ. . . رَواهُ حَرْبٌ عَنْ إسْحاقَ عَنْ رُوحٍ عَنْ آدَمَ بْنِ أبِي إياسٍ عَنْ حَمّادٍ.
[قَوْلُ مُجاهِدٍ وأبِي العالِيَةِ]
رَوى البَيْهَقِيُّ مِن طَرِيقِ شِبْلٍ عَنِ ابْنِ أبِي نَجِيحٍ عَنْ مُجاهِدٍ في قَوْلِهِ عَزَّ وجَلَّ:
﴿وَقَرَّبْناهُ نَجِيًّا﴾ [مريم: ٥٢] قالَ: بَيْنَ السَّماءِ السّابِعَةِ وبَيْنَ العَرْشِ سَبْعُونَ ألْفَ
حِجابٍ فَما زالَ يُقَرِّبُ مُوسى حَتّى كانَ بَيْنَهُ وبَيْنَهُ حِجابٌ واحِدٌ فَلَمّا رَأى مَكانَهُ وسَمِعَ صَرِيفَ القَلَمِ قالَ: رَبِّ أرِنِي أنْظُرْ إلَيْكَ. وقالَ البُخارِيُّ في صَحِيحِهِ قالَ أبُو العالِيَةِ: اسْتَوى إلى السَّماءِ ارْتَفَعَ، وقالَ مُجاهِدٌ: اسْتَوى عَلا عَلى العَرْشِ، وقالَ مُجاهِدٌ في قَوْلِهِ تَعالى:
﴿فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أضاعُوا الصَّلاةَ واتَّبَعُوا الشَّهَواتِ﴾ [مريم: ٥٩] قالَ: هم في هَذِهِ الأُمَّةِ يَتَراكَبُونَ كَما تَتَراكَبُ الحُمُرُ والأنْعامُ في الطُّرُقِ ولا يَسْتَحْيُونَ النّاسَ في الأرْضِ ولا يَخافُونَ اللَّهَ في السَّماءِ. رَواهُ الهَيْثَمُ بْنُ خَلَفٍ الدُّورِيُّ في كِتابِ تَحْرِيمِ اللِّواطِ.
[قَوْلُ قَتادَةَ]
قَدْ تَقَدَّمَ ما رَواهُ عُثْمانُ الدّارِمِيُّ عَنْهُ في كِتابِ النَّقْضِ قالَ: قالَتْ بَنُو إسْرائِيلَ: يا رَبِّ أنْتَ في السَّماءِ ونَحْنُ في الأرْضِ فَكَيْفَ لَنا أنْ نَعْرِفَ رِضاكَ وغَضَبَكَ؟ قالَ: إذا رَضِيَتُ عَلَيْكُمُ اسْتَعْمَلْتُ عَلَيْكم خِيارَكم وإذا غَضِبْتُ عَلَيْكُمُ اسْتَعْمَلْتُ عَلَيْكم شِرارَكم.
وَفِي تَفْسِيرِ ابْنِ أبِي حاتِمٍ عَنْ قَتادَةَ قالَ: ثُمَّ اسْتَوى عَلى العَرْشِ في يَوْمِ الجُمُعَةِ.
[قَوْلُ عِكْرِمَةَ]
صَحَّ عَنْ إبْراهِيمَ بْنِ الحَكَمِ عَنْ أبِيهِ عَنْ عِكْرِمَةَ قالَ: بَيْنَما رَجُلٌ في الجَنَّةِ فَقالَ في نَفْسِهِ: لَوْ أنَّ اللَّهَ يَأْذَنُ لِي لَزَرَعْتُ فَلا يَعْلَمُ إلّا والمَلائِكَةُ عَلى أبْوابِ جَنَّتِهِ فَيَقُولُونَ: سَلامٌ عَلَيْكَ يَقُولُ لَكَ رَبُّكَ: تَمَنَّيْتَ شَيْئًا فَقَدْ عَلِمْتُهُ، وقَدْ بَعَثَ مَعَنا البَذْرَ يَقُولُ (لَكَ): ابْذُرْ فَيَخْرُجُ أمْثالُ الجِبالِ فَيَقُولُ لَهُ الرَّبُّ مِن فَوْقِ عَرْشِهِ: كُلْ يا ابْنَ آدَمَ فَإنَّ ابْنَ آدَمَ لا يَشْبَعُ. ولَهُ شاهِدٌ مَرْفُوعٌ في صَحِيحِ البُخارِيِّ.
[قَوْلُ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ]
رَوى عَنْهُ مِن طُرُقٍ قالَ: قَحِطَ النّاسُ في زَمَنِ مَلِكٍ مِن مُلُوكِ بَنِي إسْرائِيلَ فَقالَ المَلِكُ لَيُرْسِلَنَّ اللَّهُ عَلَيْنا السَّماءَ أوْ لَنُؤْذِيَنَّهُ، فَقالَ جُلَساؤُهُ: فَكَيْفَ تَقْدِرُ وهو في السَّماءِ؟ فَقالَ: أقْتُلُ أوْلِياءَهُ، فَأرْسَلَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ السَّماءَ.
[قَوْلُ الضَّحّاكِ]
قَدْ تَقَدَّمَ " عَنْهُ " في قَوْلِهِ تَعالى:
﴿ما يَكُونُ مِن نَجْوى ثَلاثَةٍ إلّا هو رابِعُهُمْ﴾ [المجادلة: ٧] قالَ: هو عَلى عَرْشِهِ وعِلْمُهُ مَعَهُمْ، ذَكَرَهُ ابْنُ بَطَّةَ وابْنُ عَبْدِ البَرِّ والعَسّالُ في كِتابِ المَعْرِفَةِ، ولَفْظُهُ قالَ: هو فَوْقَ عَرْشِهِ وعِلْمُهُ مَعَهم أيْنَما كانُوا، ورَواهُ أحْمَدُ عَنْ نُوحِ بْنِ مَيْمُونٍ عَنْ بَكْرِ بْنِ مَعْرُوفٍ عَنْ مُقاتِلٍ عَنْهُ ولَفْظُهُ: هو عَلى العَرْشِ وعِلْمُهُ مَعَهم. ونَقَلَ ابْنُ عَبْدِ البَرِّ إجْماعَ الصَّحابَةِ والتّابِعِينَ عَلى ذَلِكَ.
[أقْوالُ الزُّهّادِ والصُّوفِيَّةِ أهْلِ الإتْباعِ وسَلَفِهِمْ]
[قَوْلُ ثابِتٍ البُنانِيِّ شَيْخِ الزُّهّادِ]
قالَ مُحَمَّدُ بْنُ عُثْمانَ في رِسالَتِهِ: صَحَّ عَنْهُ أنَّهُ قالَ: كانَ داوُدُ عَلَيْهِ السَّلامُ يُطِيلُ الصَّلاةَ ثُمَّ يَرْكَعُ ثُمَّ يَرْفَعُ رَأْسَهُ إلى السَّماءِ ثُمَّ يَقُولُ: إلَيْكَ رَفَعْتُ رَأْسِي نَظَرَ العَبِيدِ إلى أرْبابِها يا ساكِنَ السَّماءِ. ورَواهُ اللّالَكائِيُّ بِإسْنادٍ صَحِيحٍ عَنْهُ، ورَواهُ الإمامُ أحْمَدُ أيْضًا في كِتابِ الزُّهْدِ، وهَذا الرَّفْعُ إنْ كانَ في الصَّلاةِ فَهو مَنسُوخٌ في شَرْعِنا وإنْ كانَ بَعْدَ الصَّلاةِ فَهو جائِزٌ كَرَفْعِ اليَدَيْنِ في الدُّعاءِ إلى اللَّهِ عَزَّ وجَلَّ.
[قَوْلُ مالِكِ بْنِ دِينارٍ]
قَدْ أسْلَفْنا عَنْهُ أنَّهُ كانَ يَقُولُ: خُذُوا فَيَقْرَأُ ثُمَّ يَقُولُ: اسْمَعُوا إلى قَوْلِ الصّادِقِ مِن فَوْقِ عَرْشِهِ، رَواهُ أبُو نُعَيْمٍ في الحِلْيَةِ بِإسْنادٍ صَحِيحٍ عَنْهُ، ورَوى ابْنُ أبِي الدُّنْيا عَنْهُ قالَ: قَرَأْتُ في بَعْضِ الكُتُبِ أنَّ اللَّهَ تَعالى يَقُولُ: يا ابْنَ آدَمَ خَيْرِي إلَيْكَ يَنْزِلُ وشَرُّكَ يَصْعَدُ إلَيَّ، وأتَحَبَّبُ إلَيْكَ بِالنِّعَمِ، وتَتَبَغَّضُ إلَيَّ بِالمَعاصِي، ولا يَزالُ مَلَكٌ كَرِيمٌ يَعْرُجُ إلَيَّ مِنكَ بِعَمَلٍ قَبِيحٍ.
[قَوْلُ سُلَيْمانَ التَّيْمِيِّ]
قالَ البُخارِيُّ في كِتابِ خَلْقِ أفْعالِ العِبادِ قالَ: - ضَمْرَةُ بْنُ رَبِيعَةَ عَنْ صَدَقَةَ عَنْ سُلَيْمانَ سَمِعْتُهُ يَقُولُ -: لَوْ سُئِلْتُ أيْنَ اللَّهُ؟ لَقُلْتُ: في السَّماءِ، ولَوْ سُئِلْتُ: أيْنَ كانَ العَرْشُ قَبْلَ أنْ يَخْلُقَ السَّماءَ؟ لَقُلْتُ: عَلى الماءِ، ولَوْ سُئِلْتُ: أيْنَ كانَ عَرْشُهُ قَبْلَ أنْ يَخْلُقَ الماءَ؟ لَقُلْتُ: لا أدْرِي.
[قَوْلُ شُرَيْحِ بْنِ عُبَيْدٍ]
رَوى عَنْهُ أبُو الشَّيْخِ بِإسْنادٍ صَحِيحٍ أنَّهُ كانَ يَقُولُ: ارْتَفَعَ إلَيْكَ ثَناءُ التَّسْبِيحِ وصَعِدَ إلَيْكَ وقارُ التَّقَدُّسِ، سُبْحانَكَ ذا الجَبَرُوتِ، بِيَدِكَ المَلِكُ والمَلَكُوتُ والمَفاتِيحُ والمَقادِيرُ.
[قَوْلُ عُبَيْدِ بْنِ عُمَيْرٍ]
رَوى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أحْمَدَ في كِتابِ السُّنَّةِ لَهُ مِن حَدِيثِ حَجّاجٍ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ عَنْ عَطاءٍ عَنْ عُبَيْدِ بْنِ عُمَيْرٍ أنَّهُ قالَ: يَنْزِلُ الرَّبُّ عَزَّ وجَلَّ شَطْرَ اللَّيْلِ إلى السَّماءِ الدُّنْيا فَيَقُولُ: مَن يَسْألُنِي فَأُعْطِيَهُ؟ مَن يَسْتَغْفِرُنِي فَأغْفِرَ لَهُ؟ حَتّى إذا كانَ الفَجْرُ صَعِدَ الرَّبُّ عَزَّ وجَلَّ.
[قَوْلُ الفُضَيْلِ بْنِ عِياضٍ]
قالَ الأثْرَمُ في كِتابِ السُّنَّةِ: حَدَّثَنا إبْراهِيمُ بْنُ الحارِثِ يَعْنِي العُبادِيَّ. حَدَّثَنا اللَّيْثُ بْنُ يَحْيى قالَ: سَمِعْتُ إبْراهِيمَ بْنَ الأشْعَثِ قالَ: أبُو بَكْرٍ صاحِبُ الفُضَيْلِ سَمِعْتُ الفُضَيْلَ بْنَ عِياضٍ يَقُولُ: لَيْسَ لَنا أنْ نَتَوَهَّمَ في اللَّهِ كَيْفَ وكَيْفَ؛ لِأنَّ اللَّهَ وصَفَ نَفْسَهُ فَأبْلَغَ فَقالَ:
﴿قُلْ هو اللَّهُ أحَدٌ - اللَّهُ الصَّمَدُ - لَمْ يَلِدْ ولَمْ يُولَدْ - ولَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أحَدٌ﴾ [الإخلاص: ١-٤] فَلا صِفَةَ أبْلَغُ مِمّا وصَفَ اللَّهُ بِهِ نَفْسَهُ، وكَذا النُّزُولُ والضَّحِكُ والمُباهاتُ والِاطِّلاعُ كَما شاءَ أنْ يَنْزِلَ وكَما شاءَ أنْ يُباهِيَ (وَكَما شاءَ أنْ يَطَّلِعَ) وكَما شاءَ أنْ يَضْحَكَ فَلَيْسَ لَنا أنْ نَتَوَهَّمَ كَيْفَ وكَيْفَ، وإذا قالَ لَكَ الجَهْمِيُّ: أنا كَفَرْتُ بِرَبٍّ يَزُولُ عَنْ مَكانِهِ فَقُلْ أنْتَ: أنا أُؤْمِنُ بِرَبٍّ يَفْعَلُ ما يَشاءُ. وقَدْ ذَكَرَ هَذا الكَلامَ الأخِيرَ عَنِ الفُضَيْلِ البُخارِيُّ في كِتابِ خَلْقِ الأفْعالِ فَقالَ: وقالَ الفُضَيْلُ بْنُ عِياضٍ إذا قالَ لَكَ الجَهْمِيُّ. . . فَذَكَرَهُ.
[قَوْلُ يَحْيى بْنِ مُعاذٍ الرّازِيِّ]
قالَ: اللَّهُ تَعالى عَلى العَرْشِ بائِنٌ مِنَ الخَلْقِ قَدْ أحاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِما وأحْصى كُلَّ شَيْءٍ عَدَدًا ولا يَشُكُّ في هَذِهِ المَقالَةِ إلّا جَهْمِيٌّ رَدِيءٌ ضَلِيلٌ وهالِكٌ مُرْتابٌ يَقُولُ: يُمْزَجُ اللَّهَ بِخَلْقِهِ، ويَخْلِطُ الذّاتَ بِالأقْذارِ والأنْتانِ.
[قَوْلُ عَطاءٍ السَّلِيمِيِّ]
ثَبَتَ أنَّهُ كانَ لا يَرْفَعُ رَأْسَهُ إلى السَّماءِ حَياءً مِنَ اللَّهِ عَزَّ وجَلَّ، ومِن هَذا نَهْيُ النَّبِيِّ صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ المُصَلِّيَ عَنْ رَفْعِ بَصَرِهِ إلى السَّماءِ تَأدُّبًا مَعَ اللَّهِ عَزَّ وجَلَّ وإطْراقًا بَيْنَ يَدَيْهِ وإجْلالًا لَهُ كَما يَقِفُ العَبِيدُ بَيْنَ يَدَيِ المُلُوكِ ولا يَرْفَعُونَ رُءُوسَهم إلَيْهِمْ إجْلالًا لَهُمْ، فَإذا ضُمَّ هَذا إلى رَفْعِ الأيْدِي في الرَّغَباتِ والرَّهَباتِ وتَوَجُّهِ القُلُوبِ إلى العُلُوِّ دُونَ اليَمْنَةِ واليَسْرَةِ والخَلْفِ والأمامِ أفادَ العِلْمُ بِأنَّ هَذا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النّاسَ عَلَيْها.
[قَوْلُ أبِي عُبَيْدَةَ الخَوّاصِّ]
ذَكَرَ أبُو نُعَيْمٍ وابْنُ الجَوْزِيِّ عَنْهُ أنَّهُ مَكَثَ كَذا وكَذا سَنَةً لَمْ يَرْفَعْ رَأْسَهُ إلى السَّماءِ حَياءً مِنَ اللَّهِ.
[قَوْلُ بِشْرٍ الحافِيِّ]
صَحَّ عَنْهُ أنَّهُ قالَ: إنِّي لَأرْفَعُ يَدَيَّ إلى اللَّهِ ثُمَّ أرُدُّهُما وأقُولُ: إنَّما يَفْعَلُ هَذا مَن لَهُ جاهٌ (عِنْدَ اللَّهِ).
[قَوْلُ ذِي النُّونِ المِصْرِيِّ]
رَوى أبُو الشَّيْخِ في كِتابِ العَظَمَةِ بِإسْنادِهِ عَنْهُ قالَ: أشْرَقَتْ لِنُورِهِ السَّماواتُ وأنارَ بِوَجْهِهِ الظُّلُماتُ وحُجِبَ جَلالُهُ عَنِ العُيُونِ وناجاهُ عَلى عَرْشِهِ ألْسِنَةُ الصُّدُورِ. (فَإنْ قِيلَ) قَدْ نَقَلَ القُشَيْرِيُّ عَنْ ذِي النُّونِ أنَّهُ سُئِلَ عَنْ قَوْلِهِ تَعالى:
﴿الرَّحْمَنُ عَلى العَرْشِ اسْتَوى﴾ [طه: ٥] فَقالَ: أثْبَتَ ذاتَهُ ونَفى مَكانَهُ فَهو مَوْجُودٌ بِذاتِهِ والأشْياءُ مَوْجُودَةٌ بِحِكْمَتِهِ كَما شاءَ، قِيلَ: القُشَيْرِيُّ لَمْ يَذْكُرْ لِهَذِهِ الحِكايَةِ إسْنادًا وما ذَكَرْناهُ مُسْنَدٌ عَنْهُ، وفي كُتُبِ التَّصَوُّفِ مِنَ الحِكاياتِ المَكْذُوبَةِ ما اللَّهُ بِهِ عَلِيمٌ. قالَ شَيْخُ الإسْلامِ: وهَذا النَّقْلُ باطِلٌ فَإنَّ هَذا الكَلامَ لَيْسَ فِيهِ مُناسَبَةٌ لِلْآيَةِ بَلْ هو مُناقِضٌ لَها فَإنَّ هَذِهِ الآيَةَ لَمْ تَتَضَمَّنْ إثْباتَ ذاتِهِ ونَفْيَ مَكانِهِ بِوَجْهٍ مِنَ الوُجُوهِ، فَكَيْفَ يُفَسَّرُ بِذَلِكَ؟ قالَ: وأمّا قَوْلُهُ هو مَوْجُودٌ بِذاتِهِ والأشْياءُ مَوْجُودَةٌ بِحُكْمِهِ فَحَقٌّ ولَكِنْ لَيْسَ هو مَعْنى الآيَةِ.
[قَوْلُ الحارِثِ بْنِ أسَدٍ المُحاسِبِيِّ]
قالَ: وأمّا قَوْلُهُ تَعالى:
﴿الرَّحْمَنُ عَلى العَرْشِ اسْتَوى﴾ [طه: ٥] ﴿وَهُوَ القاهِرُ فَوْقَ عِبادِهِ﴾ [الأنعام: ١٨] ﴿أأمِنتُمْ مَن في السَّماءِ﴾ [الملك: ١٦] ﴿إذًا لابْتَغَوْا إلى ذِي العَرْشِ سَبِيلًا﴾ [الإسراء: ٤٢] فَهَذِهِ وغَيْرُها مِثْلُ قَوْلِهِ:
﴿تَعْرُجُ المَلائِكَةُ والرُّوحُ إلَيْهِ﴾ [المعارج: ٤] ﴿إلَيْهِ يَصْعَدُ الكَلِمُ الطَّيِّبُ﴾ [فاطر: ١٠] هَذا يُوجِبُ أنَّهُ فَوْقَ العَرْشِ فَوْقَ الأشْياءِ كُلِّها مُتَنَزِّهٌ عَنِ الدُّخُولِ في خَلْقِهِ لا يَخْفى عَلَيْهِ مِنهم خافِيَةٌ لِأنَّهُ أبانَ في هَذِهِ الآياتِ أنَّهُ أرادَ أنَّهُ بِنَفْسِهِ فَوْقَ عِبادِهِ؛ لِأنَّهُ قالَ:
﴿أأمِنتُمْ مَن في السَّماءِ أنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الأرْضَ﴾ [الملك: ١٦] يَعْنِي فَوْقَ العَرْشِ والعَرْشُ عَلى السَّماءِ لِأنَّ مَن (قَدْ) كانَ فَوْقَ كُلِّ شَيْءٍ عَلى السَّماءِ، في السَّماءِ وقَدْ قالَ:
﴿فَسِيحُوا في الأرْضِ أرْبَعَةَ أشْهُرٍ﴾ [التوبة: ٢] أيْ عَلى الأرْضِ لا يُرِيدُ الدُّخُولَ في جَوْفِها وكَذَلِكَ قَوْلُهُ:
﴿يَتِيهُونَ في الأرْضِ﴾ [المائدة: ٢٦] يَعْنِي: عَلى الأرْضِ، وكَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعالى:
﴿وَلَأُصَلِّبَنَّكم في جُذُوعِ النَّخْلِ﴾ [طه: ٧١] يَعْنِي: فَوْقَها عَلَيْها، وقالَ في مَوْضِعٍ آخَرَ: " فَبَيَّنَ " عُرُوجَ الأمْرِ وعُرُوجَ المَلائِكَةِ ثُمَّ وصَفَ وقْتَ عُرُوجِها بِالِارْتِفاعِ صاعِدَةً إلَيْهِ فَقالَ:
﴿فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ خَمْسِينَ ألْفَ سَنَةٍ﴾ [المعارج: ٤] فَذَكَرَ صُعُودَها إلَيْهِ ووُصُولَها (بِقَوْلِهِ) إلَيْهِ كَقَوْلِ القائِلِ: اصْعَدْ إلى فُلانٍ في لَيْلَةٍ أوْ يَوْمٍ وذَلِكَ أنَّهُ في العُلُوِّ وأنْ صُعُودَكَ إلَيْهِ في يَوْمٍ فَإذا صَعِدُوا إلى العَرْشِ فَقَدْ صَعِدُوا إلى اللَّهِ عَزَّ وجَلَّ، وإنْ كانُوا لَمْ يَرَوْهُ ولَمْ يُساوُوهُ في الِارْتِفاعِ في عُلُوِّهِ فَإنَّهم صَعِدُوا مِنَ الأرْضِ وعَرَجُوا بِالأمْرِ إلى العُلُوِّ الَّذِي اللَّهُ تَعالى فَوْقَهُ، وقالَ تَعالى:
﴿بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إلَيْهِ﴾ [النساء: ١٥٨] ولَمْ يَقُلْ: عِنْدَهُ، وقالَ فِرْعَوْنُ:
﴿ياهامانُ ابْنِ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أبْلُغُ الأسْبابَ - أسْبابَ السَّماواتِ فَأطَّلِعَ إلى إلَهِ مُوسى﴾ [غافر: ٣٦-٣٧] ثُمَّ اسْتَأْنَفَ وقالَ:
﴿وَإنِّي لَأظُنُّهُ كاذِبًا﴾ [غافر: ٣٧] يَعْنِي: فِيما قالَ أنَّ إلَهَهُ فَوْقَ السَّماواتِ فَبَيَّنَ اللَّهُ عَزَّ وجَلَّ أنَّ فِرْعَوْنَ ظَنَّ بِمُوسى أنَّهُ كاذِبٌ فِيما قالَ لَهُ، وعَمَدَ إلى طَلَبِهِ، حَيْثُ قالَ لَهُ مَعَ الظَّنِّ بِمُوسى أنَّهُ كاذِبٌ ولَوْ أنَّ مُوسى قالَ إنَّهُ في كُلِّ مَكانٍ بِذاتِهِ لَطَلَبَهُ في بَيْتِهِ أوْ حُشِّهِ، تَعالى اللَّهُ عَنْ ذَلِكَ عُلُوًّا كَبِيرًا " ولَمْ يُجْهِدُ نَفْسَهُ بِبِناءِ الصَّرْحِ ".
[قَوْلُ إمامِ الصُّوفِيَّةِ في وقْتِهِ الإمامُ العارِفُ أبُو عَبْدِ اللَّهِ عَمْرُو بْنُ عُثْمانَ المَكِّيُّ]
(قَوْلُ إمامِ الصُّوفِيَّةِ في وقْتِهِ): الإمامُ العارِفُ أبُو عَبْدِ اللَّهِ عَمْرُو بْنُ عُثْمانَ المَكِّيُّ قالَ في كِتابِهِ آدابِ المُرِيدِينَ والتَّعَرُّفِ بِأحْوالِ العِبادِ. . . في بابِ ما يَجِيءُ بِهِ الشَّيْطانُ " لِلتّائِبِينَ " مِنَ الوَسْوَسَةِ. وأمّا الوَجْهُ الثّالِثُ الَّذِي يَأْتِي بِهِ النّاسُ إذا هُمُ امْتَنَعُوا عَلَيْهِ واعْتَصَمُوا بِاللَّهِ فَإنَّهُ يُوَسْوِسُ لَهم في أمْرِ الخالِقِ لِيُفْسِدَ عَلَيْهِمْ أُصُولَ التَّوْحِيدِ، وذَكَرَ كَلامًا طَوِيلًا إلى أنْ قالَ: فَهَذا مِن أعْظَمِ ما يُوَسْوِسُ بِهِ في التَّوْحِيدِ بِالتَّشْكِيكِ، وفي صِفاتِ الرَّبِّ بِالتَّشْبِيهِ والتَّمْثِيلِ أوْ بِالجَحْدِ لَها والتَّعْطِيلِ، وأنْ يُدْخِلَ عَلَيْهِمْ مَقايِيسَ عَظَمَةِ الرَّبِّ بِقَدْرِ عُقُولِهِمْ فَيَهْلِكُوا (إنْ قَبِلُوا) أوْ يُضَعْضِعَ أرْكانَهم إلّا أنْ يَلْجَئُوا في ذَلِكَ إلى العِلْمِ وتَحْقِيقِ المَعْرِفَةِ بِاللَّهِ عَزَّ وجَلَّ مِن حَيْثُ أخْبَرَ عَنْ نَفْسِهِ ووَصَفَ بِهِ نَفْسَهُ ووَصَفَهُ بِهِ رَسُولُهُ فَهو تَعالى القائِلُ: أنا اللَّهُ، لا الشَّجَرَةُ الجائِي هو لا أمْرُهُ المُسْتَوِي عَلى عَرْشِهِ بِعَظَمَةِ جَلالِهِ دُونَ كُلِّ مَكانٍ، الَّذِي كَلَّمَ مُوسى تَكْلِيمًا وأراهُ مِن آياتِهِ عَظِيمًا فَسَمِعَ مُوسى كَلامَ اللَّهِ الوارِثِ لِخَلْقِهِ السَّمِيعِ لِأصْواتِهِمُ النّاظِرِ بِعَيْنِهِ إلى أجْسامِهِمْ يَداهُ، مَبْسُوطَتانِ وهُما غَيْرُ نِعْمَتِهِ وقُدْرَتِهُ، وخَلَقَ آدَمَ بِيَدِهِ ثُمَّ ساقَ كَلامًا طَوِيلًا في السُّنَّةِ وهو رَحِمَهُ اللَّهُ مِن نُظَراءِ الجُنَيْدِ وأعْيانِ مَشايِخِ القَوْمِ تُوُفِّيَ سَنَةَ إحْدى وتِسْعِينَ ومِائَتَيْنِ بِبَغْدادَ.
[قَوْلُ أبِي جَعْفَرٍ الهَمْدانِيِّ الصُّوفِيِّ]
ذَكَرَ مُحَمَّدُ بْنُ طاهِرِ المَقْدِسِيُّ مُحَدِّثُ الصُّوفِيَّةِ في كِتابِهِ عَنْهُ أنَّهُ حَضَرَ مَجْلِسَ أبِي المَعالِي الجُوَيْنِيِّ وهو يَقُولُ: كانَ اللَّهُ ولا عَرْشَ وهو الآنَ عَلى ما كانَ عَلَيْهِ. . . وكَلامًا مِن هَذا المَعْنى. فَقالَ: يا شَيْخُ دَعْنا مِن ذِكْرِ العَرْشِ وأخْبِرْنا عَنْ هَذِهِ الضَّرُورَةِ الَّتِي نَجِدُها في قُلُوبِنا؛ فَإنَّهُ ما قالَ عارِفٌ قَطُّ يا اللَّهُ إلّا وجَدَ مِن قَلْبِهِ ضَرُورَةً تَطْلُبُ العُلُوَّ ولا يَلْتَفِتُ يَمْنَةً ولا يَسْرَةً فَكَيْفَ نَدْفَعُ هَذِهِ الضَّرُورَةَ عَنْ قُلُوبِنا؟ قالَ: فَصَرَخَ أبُو المَعالِي ولَطَمَ عَلى رَأْسِهِ وقالَ: حَيَّرَنِي الهَمْدانِيُّ حَيَّرَنِي الهَمْدانِيُّ.
[قَوْلُ الإمامِ العارِفِ مَعْمَرِ بْنِ أحْمَدَ الأصْبَهانِيِّ]
شَيْخِ الصُّوفِيَّةِ في أواخِرِ المِائَةِ الرّابِعَةِ قالَ في رِسالَةٍ: أحْبَبْتُ أنْ أُوصِيَ أصْحابِي بِوَصِيَّةٍ مِنَ السُّنَّةِ ومَوْعِظَةٍ مِنَ الحِكْمَةِ وأجْمَعَ ما كانَ عَلَيْهِ أهْلُ الحَدِيثِ والأثَرِ وأهْلُ المَعْرِفَةِ والتَّصَوُّفِ مِنَ المُتَقَدِّمِينَ والمُتَأخِّرِينَ قالَ فِيها: وإنَّ اللَّهَ اسْتَوى عَلى عَرْشِهِ بِلا كَيْفٍ ولا تَشْبِيهٍ ولا تَأْوِيلٍ، والِاسْتِواءُ مَعْقُولٌ والكَيْفُ مَجْهُولٌ، وأنَّهُ عَزَّ وجَلَّ بائِنٌ مِن خَلْقِهِ والخَلْقُ بائِنُونَ مِنهُ بِلا حُلُولٍ ولا مُمازَجَةٍ ولا اخْتِلاطٍ ولا مُلاصَقَةٍ؛ لِأنَّهُ الفَرْدُ البائِنُ مِنَ الخَلْقِ الواحِدُ الغَنِيُّ عَنِ الخَلْقِ وأنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ عَلِيمٌ خَبِيرٌ يَتَكَلَّمُ ويَرْضى ويَسْخَطُ ويَضْحَكُ ويَعْجَبُ ويَتَجَلّى لِعِبادِهِ يَوْمَ القِيامَةِ ضاحِكًا ويَنْزِلُ كُلَّ لَيْلَةٍ إلى سَماءِ الدُّنْيا كَيْفَ شاءَ فَيَقُولُ: هَلْ مِن داعٍ فَأسْتَجِيبَ لَهُ؟ هَلْ مِن تائِبٍ فَأتُوبَ عَلَيْهِ؟ حَتّى يَطْلُعَ الفَجْرُ. ونُزُولُ الرَّبِّ إلى السَّماءِ بِلا كَيْفٍ ولا تَشْبِيهٍ ولا تَأْوِيلٍ، فَمَن أنْكَرَ النُّزُولَ أوْ تَأوَّلَ فَهو مُبْتَدِعٌ ضالٌّ.
[قَوْلُ الشَّيْخِ الإمامِ العارِفِ قُدْوَةِ العارِفِينَ الشَّيْخِ عَبْدِ القادِرِ الجِيلانِيِّ]
قَدَّسَ اللَّهُ رُوحَهُ قالَ في كِتابِهِ " تُحْفَةُ المُتَّقِينَ وسَبِيلِ العارِفِينَ " في بابِ اخْتِلافِ المَذاهِبِ في صِفاتِ اللَّهِ عَزَّ وجَلَّ وفي ذِكْرِ اخْتِلافِ النّاسِ في الوَقْفِ عِنْدَ قَوْلِهِ:
﴿وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إلّا اللَّهُ والرّاسِخُونَ في العِلْمِ﴾ [آل عمران: ٧] إلى أنْ قالَ واللَّهُ تَعالى بِذاتِهِ عَلى العَرْشِ وعِلْمُهُ مُحِيطٌ بِكُلِّ مَكانٍ والوَقْفُ عِنْدَ أهْلِ الحَقِّ عَلى قَوْلِهِ:
﴿إلّا اللَّهُ﴾ [آل عمران: ٧] وقَدْ رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ فاطِمَةَ بِنْتِ رَسُولِ اللَّهِ صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ، وهَذا الوَقْفُ حَسَنٌ لِمَنِ اعْتَقَدَ أنَّ اللَّهَ بِذاتِهِ فَوْقِ العَرْشِ ويَعْلَمُ ما في السَّماواتِ والأرْضِ إلى أنْ قالَ: ووَقَفَ جَماعَةٌ مِن مُنْكِرِي اسْتِواءِ الرَّبِّ عَزَّ وجَلَّ عَلى قَوْلِهِ:
﴿الرَّحْمَنُ عَلى العَرْشِ اسْتَوى﴾ [طه: ٥] وابْتَدَءُوا بِقَوْلِهِ:
﴿اسْتَوى لَهُ ما في السَّماواتِ وما في الأرْضِ﴾ [طه: ٥] يُرِيدُونَ بِذَلِكَ نَفِيَ الِاسْتِواءِ الَّذِي وصَفَ بِهِ نَفْسَهُ وهَذا خَطَأٌ مِنهُمْ؛ لِأنَّ اللَّهَ تَعالى اسْتَوى عَلى العَرْشِ بِذاتِهِ. وقالَ في كِتابِهِ " الغُنْيَةُ ": أمّا مَعْرِفَةُ الصّانِعِ بِالآياتِ والدَّلالاتِ عَلى وجْهِ الِاخْتِصارِ فَهُوَ: أنْ تَعْرِفَ وتَتَيَقَّنَ أنَّ اللَّهَ واحِدٌ أحَدٌ إلى أنْ قالَ وهو بِجِهَةِ العُلُوِّ مُسْتَوٍ عَلى العَرْشِ مُحْتَوٍ عَلى المُلْكِ مُحِيطٌ عِلْمُهُ بِالأشْياءِ:
﴿إلَيْهِ يَصْعَدُ الكَلِمُ الطَّيِّبُ والعَمَلُ الصّالِحُ يَرْفَعُهُ﴾ [فاطر: ١٠]، (يُدَبِّرُ الأمْرَ مِنَ السَّماءِ إلى الأرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إلَيْهِ في يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ ألْفَ سَنَةٍ مِمّا تَعُدُّونَ).
فَلا يَجُوزُ وصْفُهُ بِأنَّهُ في كُلِّ مَكانٍ بَلْ يُقالُ: إنَّهُ في السَّماءِ عَلى العَرْشِ اسْتَوى كَما قالَ اللَّهُ تَعالى:
﴿الرَّحْمَنُ عَلى العَرْشِ اسْتَوى﴾ [طه: ٥] وساقَ آياتٍ وأحادِيثَ ثُمَّ قالَ: ويَنْبَغِي إطْلاقُ صِفَةِ الِاسْتِواءِ مِن غَيْرِ تَأْوِيلٍ وأنَّهُ اسْتِواءُ الذّاتِ عَلى العَرْشِ ثُمَّ قالَ: وكَوْنُهُ عَلى العَرْشِ مَذْكُورٌ في كُلِّ كِتابٍ أُنْزِلَ عَلى كُلِّ نَبِيٍّ أُرْسِلَ بِلا كَيْفٍ. هَذا نَصُّ كَلامِهِ في الغُنْيَةِ.