الباحث القرآني

﴿ألَمْ تَرَ أنَّ اللَّهَ أنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَتُصْبِحُ الأرْضُ مُخْضَرَّةً إنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ﴾ انْتِقالٌ إلى التَّذْكِيرِ بِنِعَمِ اللَّهِ تَعالى عَلى النّاسِ بِمُناسَبَةِ ما جَرى مِن قَوْلِهِ ﴿ذَلِكَ بِأنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ في النَّهارِ﴾ [الحج: ٦١] الآيَةَ. والمَقْصُودُ: التَّعْرِيضُ بِشُكْرِ اللَّهِ عَلى نِعَمِهِ وأنْ لا يَعْبُدُوا غَيْرَهُ كَما دَلَّ عَلَيْهِ التَّذْيِيلُ عَقِبَ تَعْدادِ هَذِهِ النِّعَمِ بِقَوْلِهِ ﴿إنَّ الإنْسانَ لَكَفُورٌ﴾ [الحج: ٦٦]، أيِ الإنْسانُ المُشْرِكُ. وفي ذَلِكَ كُلِّهِ إدْماجُ الِاسْتِدْلالِ عَلى انْفِرادِهِ بِالخَلْقِ والتَّدْبِيرِ فَهو الرَّبُّ الحَقُّ المُسْتَحِقُّ لِلْعِبادَةِ. والمُناسَبَةُ هي ما جَرى مِن أنَّ اللَّهَ هو الحَقُّ وأنَّ ما يَدْعُونَهُ الباطِلُ، فالجُمْلَةُ مُسْتَأْنَفَةٌ اسْتِئْنافًا ابْتِدائِيًّا. والخِطابُ لِكُلِّ مَن تَصْلُحُ مِنهُ الرُّؤْيَةُ لِأنَّ المَرْئِيَّ مَشْهُورٌ. (p-٣١٨)والِاسْتِفْهامُ: إنْكارِيٌّ، نَزَلَتْ غَفْلَةُ كَثِيرٍ مِنَ النّاسِ عَنِ الِاعْتِبارِ بِهَذِهِ النِّعْمَةِ والِاعْتِدادِ بِها مَنزِلَةَ عَدَمِ العِلْمِ بِها. فَأُنْكِرَ ذَلِكَ العَدَمُ عَلى النّاسِ الَّذِينَ أهْمَلُوا الشُّكْرَ والِاعْتِبارَ. وإنَّما حُكِيَ الفِعْلُ المُسْتَفْهَمُ عَنْهُ الإنْكارِيُّ مُقْتَرِنًا بِحَرْفِ (لَمْ) الَّذِي يُخَلِّصُهُ إلى المُضِيِّ، وحُكِيَ مُتَعَلِّقُهُ بِصِيغَةِ الماضِي في قَوْلِهِ ﴿أنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً﴾ وهو الإنْزالُ بِصِيغَةِ الماضِي كَذَلِكَ ولَمْ يُراعَ فِيهِما مَعْنى تَجَدُّدِ ذَلِكَ؛ لِأنَّ مَوْقِعَ إنْكارِ عَدَمِ العِلْمِ بِذَلِكَ هو كَوْنُهُ أمْرًا مُتَقَرِّرًا ماضِيًا لا يُدَّعى جَهْلُهُ. و(تُصْبِحُ) بِمَعْنى تَصِيرُ فَإنَّ خَمْسًا مِن أخَواتِ (كانَ) تُسْتَعْمَلُ بِمَعْنى: صارَ. واخْتِيرَ في التَّعْبِيرِ عَنِ النَّباتِ الَّذِي هو مُقْتَضى الشُّكْرِ لِما فِيهِ مِن إقامَةِ أقْواتِ النّاسِ والبَهائِمِ بِذِكْرِ لَوْنِهِ الأخْضَرِ لِأنَّ ذَلِكَ اللَّوْنَ مُمْتِعٌ لِلْأبْصارِ فَهو أيْضًا مُوجِبُ شُكْرٍ عَلى ما خَلَقَ اللَّهُ مِن جَمالِ المَصْنُوعاتِ في المَرْأى كَما قالَ تَعالى ﴿ولَكم فِيها جَمالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وحِينَ تَسْرَحُونَ﴾ [النحل: ٦] . وإنَّما عَبَّرَ عَنْ مَصِيرِ الأرْضِ خَضْراءَ بِصِيغَةِ (تُصْبِحُ مُخْضَرَّةً) مَعَ أنَّ ذَلِكَ مُفَرَّعٌ عَلى فِعْلِ ﴿أنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً﴾ الَّذِي هو بِصِيغَةِ الماضِي لِأنَّهُ قَصَدَ مِنَ المُضارِعِ اسْتِحْضارَ تِلْكَ الصُّورَةِ العَجِيبَةِ الحَسَنَةِ، ولِإفادَةِ بَقاءِ أثَرِ إنْزالِ المَطَرِ زَمانًا بَعْدَ زَمانٍ كَما تَقُولُ: أنْعَمَ فَلانٌ عَلَيَّ فَأرُوحُ وأغْدُو شاكِرًا لَهُ. وفِعْلُ (تُصْبِحُ) مُفَرَّعٌ عَلى فِعْلِ (أنْزَلَ) فَهو مُثْبَتٌ في المَعْنى. ولَيْسَ مُفَرَّعًا عَلى النَّفْيِ ولا عَلى الِاسْتِفْهامِ، فَلِذَلِكَ لَمْ يُنْصَبْ بَعْدَ الفاءِ لِأنَّهُ لَمْ يُقْصَدْ بِالفاءِ جَوابٌ لِلنَّفْيِ إذْ لَيْسَ المَعْنى: ألَمْ تَرَ فَتُصْبِحَ الأرْضُ. (p-٣١٩)قالَ سِيبَوَيْهِ وسَألْتُهُ يَعْنِي الخَلِيلَ عَنْ ﴿ألَمْ تَرَ أنَّ اللَّهَ أنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَتُصْبِحُ الأرْضُ مُخْضَرَّةً﴾ فَقالَ: هَذا واجِبٌ أيِ الرَّفْعُ واجِبٌ وهو تَنْبِيهٌ كَأنَّكَ قُلْتَ: أتَسْمَعُ: أنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّماءِ ماءً فَكانَ كَذا وكَذا اهـ. قالَ في الكَشّافِ: لَوْ نُصِبَ لَأعْطى ما هو عَكْسُ الغَرَضِ لِأنَّ مَعْناهُ ”أيِ الكَلامَ“ إثْباتُ الِاخْضِرارِ فَيَنْقَلِبُ بِالنَّصْبِ إلى نَفْيِ الِاخْضِرارِ. مِثالُهُ أنْ تَقُولَ لِصاحِبِكَ: ألَمْ تَرَ أنِّي أنْعَمْتُ عَلَيْكَ فَتَشْكُرُ، إنْ نَصَبْتَهُ فَأنْتَ نافٍ لِشُكْرِهِ شاكٍّ تَفْرِيطَهُ فِيهِ، وإنْ رَفَعْتَهُ فَأنْتَ مُثْبِتٌ لِلشُّكْرِ. وهَذا وأمْثالُهُ مِمّا يَجِبُ أنْ يَرْغَبَ لَهُ مَنِ اتَّسَمَ بِالعِلْمِ في عِلْمِ الإعْرابِ اهـ. والمُخْضَرَّةُ: الَّتِي صارَ لَوْنُها الخُضْرَةَ. يُقالُ: اخْضَرَّ الشَّيْءُ، كَما يُقالُ: اصْفَرَّ الثَّمَرُ واحْمَرَّ، واسْوَدَّ الأُفُقُ. وصِيغَةُ ”افْعَلَّ“ مِمّا يُصاغُ لِلِاتِّصافِ بِالألْوانِ. وجُمْلَةُ ﴿إنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ﴾ في مَوْقِعِ التَّعْلِيلِ لِلْإنْزالِ، أيْ أنْزَلَ الماءَ المُتَفَرِّعَ عَلَيْهِ الِاخْضِرارُ لِأنَّهُ لَطِيفٌ، أيْ رَفِيقٌ بِمَخْلُوقاتِهِ، ولِأنَّهُ عَلِيمٌ بِتَرْتِيبِ المُسَبَّباتِ عَلى أسْبابِها.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب