الباحث القرآني

. أفْرَدَ سُبْحانَهُ المُهاجِرِينَ بِالذِّكْرِ تَخْصِيصًا لَهم بِمَزِيدِ الشَّرَفِ، فَقالَ: ﴿والَّذِينَ هاجَرُوا في سَبِيلِ اللَّهِ﴾ قالَ بَعْضُ المُفَسِّرِينَ: هُمُ الَّذِينَ هاجَرُوا مِن مَكَّةَ إلى المَدِينَةِ. وقالَ بَعْضُهم: الَّذِينَ هاجَرُوا مِنَ الأوْطانِ في سَرِيَّةٍ أوْ عَسْكَرٍ، ولا يَبْعُدُ حَمْلُ ذَلِكَ عَلى الأمْرَيْنِ، والكُلُّ مِن سَبِيلِ اللَّهِ ﴿ثُمَّ قُتِلُوا أوْ ماتُوا﴾ أيْ في حالِ المُهاجَرَةِ، واللّامُ في ﴿لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللَّهُ رِزْقًا حَسَنًا﴾ جَوابُ قَسَمٍ مَحْذُوفٍ، والجُمْلَةُ خَبَرُ المَوْصُولِ بِتَقْدِيرِ القَوْلِ، وانْتِصابُ رِزْقًا عَلى أنَّهُ مَفْعُولٌ ثانٍ أيْ: مَرْزُوقًا حَسَنًا، أوْ عَلى أنَّهُ مَصْدَرٌ مُؤَكِّدَةٌ، والرِّزْقُ الحَسَنُ هو نَعِيمُ الجَنَّةِ الَّذِي لا يَنْقَطِعُ، وقِيلَ: هو الغَنِيمَةُ لِأنَّهُ حَلالٌ، وقِيلَ: هو العِلْمُ والفَهْمُ كَقَوْلِ شُعَيْبٍ ﴿ورَزَقَنِي مِنهُ رِزْقًا حَسَنًا﴾ [هود: ٨٨] قَرَأ ابْنُ عامِرٍ وأهْلُ الشّامِ ( ثُمَّ قُتِّلُوا ) بِالتَّشْدِيدِ عَلى التَّكْثِيرِ، وقَرَأ الباقُونَ بِالتَّخْفِيفِ ﴿وإنَّ اللَّهَ لَهو خَيْرُ الرّازِقِينَ﴾ فَإنَّهُ سُبْحانَهُ يَرْزُقُ بِغَيْرِ حِسابٍ، وكُلُّ رِزْقٍ يَجْرِي عَلى يَدِ العِبادِ لِبَعْضِهِمُ البَعْضِ، فَهو مِنهُ سُبْحانَهُ، لا رازِقَ سِواهُ ولا مُعْطِيَ غَيْرُهُ، والجُمْلَةُ تَذْيِيلٌ مُقَرِّرَةٌ لِما قَبْلَها. وجُمْلَةُ ﴿لَيُدْخِلَنَّهم مُدْخَلًا يَرْضَوْنَهُ﴾ مُسْتَأْنَفَةٌ، أوْ بَدَلٌ مِن جُمْلَةِ لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللَّهُ. قَرَأ أهْلُ المَدِينَةِ ( مَدْخَلًا ) بِفَتْحِ المِيمِ، وقَرَأ الباقُونَ بِضَمِّها، وهو اسْمُ مَكانٍ أُرِيدَ بِهِ الجَنَّةُ، وانْتِصابُهُ عَلى أنَّهُ مَفْعُولٌ ثانٍ أوْ مَصْدَرٌ مِيمِيٌّ مُؤَكِّدٌ لِلْفِعْلِ المَذْكُورِ، وقَدْ مَضى الكَلامُ عَلى مِثْلِ هَذا في سُورَةِ سُبْحانَ. وفِي هَذا مِنَ الِامْتِنانِ عَلَيْهِمْ والتَّبْشِيرِ لَهم ما لا يُقادَرُ قَدْرُهُ، فَإنَّ المُدْخَلَ الَّذِي يَرْضَوْنَهُ هو الأوْفَقُ لِنُفُوسِهِمْ والأقْرَبُ إلى مَطْلَبِهِمْ، عَلى أنَّهم يَرَوْنَ في الجَنَّةِ ما لا عَيْنٌ رَأتْ ولا أُذُنٌ سَمِعَتْ ولا خَطَرَ عَلى قَلْبِ بِشَرٍ، وذَلِكَ هو الَّذِي يَرْضَوْنَهُ وفَوْقَ الرِّضا ﴿وإنَّ اللَّهَ لَعَلِيمٌ﴾ بِدَرَجاتِ العامِلِينَ ومَراتِبِ اسْتِحْقاقِهِمْ حَلِيمٌ عَنْ تَفْرِيطِ المُفَرِّطِينَ مِنهم لا يُعاجِلُهم بِالعُقُوبَةِ. والإشارَةُ بِقَوْلِهِ: ذَلِكَ إلى ما تَقَدَّمَ. قالَ الزَّجّاجُ أيْ: الأمْرُ ما قَصَصْنا عَلَيْكم مِن إنْجازِ الوَعْدِ لِلْمُهاجِرِينَ خاصَّةً إذا قُتِلُوا أوْ ماتُوا، فَهو عَلى هَذا خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، ومَعْنى ﴿ومَن عاقَبَ بِمِثْلِ ما عُوقِبَ بِهِ﴾ مَن جازى الظّالِمَ بِمِثْلِ ما ظَلَمَهُ، وسُمِّيَ الِابْتِداءُ بِاسْمِ الجَزاءِ مُشاكَلَةً كَقَوْلِهِ تَعالى: ﴿وجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها﴾ [الشورى: ٤٠] وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكم فاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ ما اعْتَدى عَلَيْكم﴾ (p-٩٧٢)والعُقُوبَةُ في الأصْلِ إنَّما تَكُونُ بَعْدَ فِعْلٍ تَكُونُ جَزاءً عَنْهُ، والمُرادُ بِالمِثْلِيَّةِ أنَّهُ اقْتَصَرَ عَلى المِقْدارِ الَّذِي ظُلِمَ بِهِ ولَمْ يَزِدْ عَلَيْهِ، ومَعْنى ﴿ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ﴾ أنَّ الظّالِمَ لَهُ في الِابْتِداءِ عاوَدَهُ بِالمَظْلَمَةِ بَعْدَ تِلْكَ المَظْلَمَةِ الأُولى، قِيلَ المُرادُ بِهَذا البَغْيِ: هو ما وقَعَ مِنَ المُشْرِكِينَ مِن إزْعاجِ المُسْلِمِينَ مِن أوْطانِهِمْ بَعْدَ أنْ كَذَّبُوا نَبِيَّهم وآذَوْا مَن آمَنَ بِهِ، واللّامُ في ﴿لَيَنْصُرَنَّهُ اللَّهُ﴾ جَوابُ قَسَمٍ مَحْذُوفٍ أيْ: لَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ المَبْغِيَّ عَلَيْهِ عَلى الباغِي ﴿إنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ﴾ أيْ كَثِيرُ العَفْوِ والغُفْرانِ لِلْمُؤْمِنِينَ فِيما وقَعَ مِنهم مَنِ الذُّنُوبِ. وقِيلَ: العَفْوُ والغُفْرانُ لِما وقَعَ مِنَ المُؤْمِنِينَ مِن تَرْجِيحِ الِانْتِقامِ عَلى العَفْوِ، وقِيلَ: إنَّ مَعْنى ﴿ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ﴾ أيْ ثُمَّ كانَ المُجازِي مَبْغِيًّا عَلَيْهِ أيْ: مَظْلُومًا، ومَعْنى ثُمَّ تَفاوُتُ الرُّتْبَةِ؛ لِأنَّ الِابْتِداءَ بِالقِتالِ مَعَهُ نَوْعُ ظُلْمٍ كَما قِيلَ في أمْثالِ العَرَبِ: البادِي أظْلِمُ. وقِيلَ: إنَّ هَذِهِ الآيَةَ مَدَنِيَّةٌ، وهي في القِصاصِ والجِراحاتِ. والإشارَةُ بِقَوْلِهِ: ﴿ذَلِكَ بِأنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ في النَّهارِ﴾ إلى ما تَقَدَّمَ مِن نَصْرِ اللَّهِ سُبْحانَهُ لِلْمَبْغِيِّ عَلَيْهِ، وهو مُبْتَدَأٌ وخَبَرُهُ جُمْلَةُ بِأنَّ اللَّهَ يُولِجُ، والباءُ لِلسَّبَبِيَّةِ أيْ: ذَلِكَ بِسَبَبِ أنَّهُ سُبْحانَهُ قادِرٌ، ومِن كَمالِ قُدْرَتِهِ إيلاجُ اللَّيْلِ في النَّهارِ والنَّهارِ في اللَّيْلِ، وعَبَّرَ عَنِ الزِّيادَةِ بِالإيلاجِ؛ لِأنَّ زِيادَةَ أحَدِهِما تَسْتَلْزِمُ نُقْصانَ الآخَرِ، والمُرادُ تَحْصِيلُ أحَدِ العَرَضَيْنِ في مَحَلِّ الآخَرِ. وقَدْ مَضى في آلِ عِمْرانَ مَعْنى هَذا الإيلاجِ ﴿وأنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ﴾ يَسْمَعُ كُلَّ مَسْمُوعٍ بَصِيرٌ يُبْصِرُ كُلَّ مُبْصَرٍ، أوْ سَمِيعٌ لِلْأقْوالِ مُبْصِرٌ لِلْأفْعالِ، فَلا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقالُ ذَرَّةٍ. والإشارَةُ بِقَوْلِهِ: ﴿ذَلِكَ بِأنَّ اللَّهَ هو الحَقُّ﴾ إلى ما تَقَدَّمَ مِنَ اتِّصافِهِ سُبْحانَهُ بِكَمالِ القُدْرَةِ القاهِرَةِ والعِلْمِ التّامِّ أيْ: هو سُبْحانَهُ ذُو الحَقِّ، فَدِينُهُ حَقٌّ، وعِبادَتُهُ حَقٌّ ونَصْرُهُ لِأوْلِيائِهِ عَلى أعْدائِهِ حَقٌّ، ووَعْدُهُ حَقٌّ، فَهو - عَزَّ وجَلَّ - في نَفْسِهِ وأفْعالِهِ وصِفاتِهِ حَقٌّ ﴿وأنَّ ما يَدْعُونَ مِن دُونِهِ هو الباطِلُ﴾ قَرَأ نافِعٌ وابْنُ كَثِيرٍ وابْنُ عامِرٍ وشُعْبَةُ ( تَدْعُونَ ) بِالفَوْقِيَّةِ عَلى الخِطابِ لِلْمُشْرِكِينَ، واخْتارَ هَذِهِ القِراءَةَ أبُو حاتِمٍ. وقَرَأ الباقُونَ بِالتَّحْتِيَّةِ عَلى الخَبَرِ، واخْتارَ هَذِهِ القِراءَةَ أبُو عُبَيْدَةَ. والمَعْنى: إنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَهم آلِهَةً، وهي الأصْنامُ هو الباطِلُ الَّذِي لا ثُبُوتَ لَهُ ولا لِكَوْنِهِ إلَهًا ﴿وأنَّ اللَّهَ هو العَلِيُّ﴾ أيِ العالِي عَلى كُلِّ شَيْءٍ بِقُدْرَتِهِ المُتَقَدِّسُ عَلى الأشْباهِ والأنْدادِ المُتَنَزِّهُ عَمّا يَقُولُ الظّالِمُونَ مِنَ الصِّفاتِ الكَبِيرُ أيْ ذُو الكِبْرِياءِ، وهو عِبارَةٌ عَنْ كَمالِ ذاتِهِ وتَفَرُّدِهِ بِالإلَهِيَّةِ. ثُمَّ ذَكَرَ سُبْحانَهُ دَلِيلًا بَيِّنًا عَلى كَمالِ قُدْرَتِهِ، فَقالَ: ﴿ألَمْ تَرَ أنَّ اللَّهَ أنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَتُصْبِحُ الأرْضُ مُخْضَرَّةً﴾ الِاسْتِفْهامُ لِلتَّقْرِيرِ، والفاءُ لِلْعَطْفِ عَلى أنْزَلَ، وارْتَفَعَ الفِعْلُ بَعْدَ الفاءِ لِكَوْنِهِ اسْتِفْهامَ التَّقْرِيرِ بِمَنزِلَةِ الخَبَرِ كَما قالَهُ الخَلِيلُ وسِيبَوَيْهِ. قالَ الخَلِيلُ: المَعْنى أنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَكانَ كَذا وكَذا، كَما قالَ الشّاعِرُ: ؎ألَمْ تَسْألِ الرَّبْعَ القِواءَ فَيَنْطِقُ وهَلْ يُخْبِرَنْكَ اليَوْمَ بَيْداءُ سَمْلَقُ مَعْناهُ: قَدْ سَألَتْهُ فَنَطَقَ. قالَ الفَرّاءُ: ألَمْ تَرَ: خَبَرٌ كَما تَقُولُ في الكَلامِ: إنِ اللَّهَ يُنَزِّلُ مِنَ السَّماءِ ماءً فَتُصْبِحُ الأرْضُ مُخْضَرَّةً أيْ: ذاتِ خُضْرَةٍ كَما تَقُولُ مُبْقِلَةٌ ومُسْبِعَةٌ أيْ: ذَواتِ بَقْلٍ وسِباعٍ، وهو عِبارَةٌ عَنِ اسْتِعْجالِها أثَرَ نُزُولِ الماءِ بِالنَّباتِ واسْتِمْرارِها كَذَلِكَ عادَةً، وصِيغَةُ الِاسْتِقْبالِ لِاسْتِحْضارِ صُورَةِ الِاخْضِرارِ مَعَ الإشْعارِ بِتَجَدُّدِ الإنْزالِ واسْتِمْرارِهِ، وهَذا المَعْنى لا يَحْصُلُ إلّا بِالمُسْتَقْبَلِ، والرَّفْعُ هُنا مُتَعَيِّنٌ؛ لِأنَّهُ لَوْ نُصِبَ لانْعَكَسَ المَعْنى المَقْصُودُ مِنَ الآيَةِ فَيَنْقَلِبُ إلى نَفْيِ الِاخْضِرارِ، والمَقْصُودُ إثْباتُهُ. قالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: هَذا لا يَكُونُ: يَعْنِي الِاخْضِرارُ في صَباحِ لَيْلَةِ المَطَرِ إلّا بِمَكَّةَ وتِهامَةَ. والظّاهِرُ أنَّ المُرادَ بِالِاخْضِرارِ اخْضِرارُ الأرْضِ في نَفْسِها لا بِاعْتِبارِ النَّباتِ فِيها كَما في قَوْلِهِ: ﴿فَإذا أنْزَلْنا عَلَيْها الماءَ اهْتَزَّتْ ورَبَتْ﴾ [فصلت: ٣٩] والمُرادُ بِقَوْلِهِ: ﴿إنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ﴾ أنَّهُ يَصِلُ عِلْمُهُ إلى كُلِّ دَقِيقٍ وجَلِيلٍ، وقِيلَ: لَطِيفٌ بِأرْزاقِ عِبادِهِ، وقِيلَ: لَطِيفٌ بِاسْتِخْراجِ النَّباتِ، ومَعْنى خَبِيرٌ أنَّهُ ذُو خِبْرَةٍ بِتَدْبِيرِ عِبادِهِ وما يَصْلُحُ لَهم، وقِيلَ: خَبِيرٌ بِما يَنْطَوُونَ عَلَيْهِ مِنَ القُنُوطِ عِنْدَ تَأْخِيرِ المَطَرِ، وقِيلَ: خَبِيرٌ بِحاجَتِهِمْ وفاقَتِهِمْ. ﴿لَهُ ما في السَّماواتِ وما في الأرْضِ﴾ خَلْقًا ومُلْكًا وتَصَرُّفًا وكُلُّهم مُحْتاجُونَ إلى رِزْقِهِ ﴿وإنَّ اللَّهَ لَهو الغَنِيُّ﴾ فَلا يَحْتاجُ إلى شَيْءٍ، الحَمِيدُ: المُسْتَوْجِبُ الحَمْدَ في كُلِّ حالٍ. ﴿ألَمْ تَرَ أنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكم ما في الأرْضِ﴾ هَذِهِ نِعْمَةٌ أُخْرى ذَكَرَها اللَّهُ سُبْحانَهُ، فَأخْبَرَ عِبادَهُ بِأنَّهُ سَخَّرَ لَهم ما يَحْتاجُونَ إلَيْهِ مِنَ الدَّوابِّ والشَّجَرِ والأنْهارِ وجَعَلَهُ لِمَنافِعِهِمْ، والفُلْكَ: عَطْفٌ عَلى ما، أوْ عَلى اسْمِ أنَّ أيْ: وسَخَّرَ لَكُمُ الفُلْكَ في حالِ جَرْيِها في البَحْرِ، وقَرَأ عَبْدُ الرَّحْمَنِ الأعْرَجُ ( والفُلْكُ ) بِالرَّفْعِ عَلى الِابْتِداءِ وما بَعْدَهُ خَبَرُهُ، وقَرَأ الباقُونَ بِالنَّصْبِ. ومَعْنى ﴿تَجْرِي في البَحْرِ بِأمْرِهِ﴾ أيْ بِتَقْدِيرِهِ، والجُمْلَةُ في مَحَلِّ نَصْبٍ عَلى الحالِ عَلى قِراءَةِ الجُمْهُورِ ﴿ويُمْسِكُ السَّماءَ أنْ تَقَعَ عَلى الأرْضِ﴾ أيْ كَراهَةَ أنْ تَقَعَ، وذَلِكَ بِأنَّهُ خَلَقَها عَلى صِفَةٍ مُسْتَلْزِمَةٍ لِلْإمْساكِ، والجُمْلَةُ مَعْطُوفَةٌ عَلى تَجْرِي ﴿إلّا بِإذْنِهِ﴾ أيْ بِإرادَتِهِ ومَشِيئَتِهِ، وذَلِكَ يَوْمَ القِيامَةِ ﴿إنَّ اللَّهَ بِالنّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ﴾ أيْ كَثِيرُ الرَّأْفَةِ والرَّحْمَةِ حَيْثُ سَخَّرَ هَذِهِ الأُمُورَ لِعِبادِهِ وهَيَّأ لَهم أسْبابَ المَعاشِ، وأمْسَكَ السَّماءَ أنْ تَقَعَ عَلى الأرْضِ فَتُهْلِكُهم تَفَضُّلًا مِنهُ عَلى عِبادِهِ وإنْعامًا عَلَيْهِمْ. ثُمَّ ذَكَرَ سُبْحانَهُ نِعْمَةً أُخْرى فَقالَ: ﴿وهُوَ الَّذِي أحْياكُمْ﴾ بَعْدَ أنْ كُنْتُمْ جَمادًا ﴿ثُمَّ يُمِيتُكُمْ﴾ عِنْدَ انْقِضاءِ أعْمارِكم ﴿ثُمَّ يُحْيِيكُمْ﴾ عِنْدَ البَعْثِ لِلْحِسابِ والعِقابِ ﴿إنَّ الإنْسانَ لَكَفُورٌ﴾ أيْ كَثِيرُ الجُحُودِ لِنِعَمِ اللَّهِ عَلَيْهِ مَعَ كَوْنِها ظاهِرَةً غَيْرَ مُسْتَتِرَةٍ، ولا يُنافِي هَذا خُرُوجُ بَعْضِ الأفْرادِ عَنْ هَذا الجَحْدِ؛ لِأنَّ المُرادَ وصْفُ جَمِيعِ الجِنْسِ بِوَصْفِ مَن يُوجَدُ فِيهِ ذَلِكَ مِن أفْرادِهِ مُبالَغَةً. وقَدْ أخْرَجَ ابْنُ أبِي حاتِمٍ وابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ سَلْمانَ الفارِسِيِّ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ - يَقُولُ: «مَن ماتَ مُرابِطًا أجْرى اللَّهُ عَلَيْهِ مِثْلَ ذَلِكَ الأجْرِ، وأجْرى عَلَيْهِ الرِّزْقَ وأمِنَ مِنَ الفَتّانِينَ، واقْرَءُوا إنْ شِئْتُمْ ﴿والَّذِينَ هاجَرُوا في سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ قُتِلُوا أوْ ماتُوا﴾ (p-٩٧٣)إلى قَوْلِهِ: حَلِيمٌ» وإسْنادُ ابْنِ أبِي حاتِمٍ هَكَذا: حَدَّثَنا المُسَيِّبُ بْنُ واضِحٍ، حَدَّثَنا ابْنُ المُبارَكِ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ شُرَيْحٍ عَنْ عَبْدِ الكَرِيمِ بْنِ الحارِثِ عَنِ ابْنِ عُقْبَةَ، يَعْنِي أبا عُبَيْدَةَ بْنَ عُقْبَةَ قالَ: قالَ شُرَحْبِيلُ بْنُ السِّمْطِ: طالَ رِباطُنا وإقامَتُنا عَلى حِصْنٍ بِأرْضِ الرُّومِ، فَمَرَّ بِي سَلْمانُ: يَعْنِي الفارِسِيَّ قالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ - فَذَكَرَهُ. وأخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وابْنُ المُنْذِرِ وابْنُ أبِي حاتِمٍ عَنْ فَضالَةَ بْنِ عُبَيْدٍ الأنْصارِيِّ الصَّحابِيِّ أنَّهُ كانَ بِرُودِسَ، فَمَرُّوا بِجِنازَتَيْنِ أحَدُهُما قَتِيلٌ والآخَرُ مُتَوَفًّى، فَمالَ النّاسُ عَنِ القَتِيلِ، فَقالَ فَضالَةُ: ما لِي أرى النّاسَ مالُوا مَعَ هَذا وتَرَكُوا هَذا ؟ فَقالُوا: هَذا القَتِيلُ في سَبِيلِ اللَّهِ، فَقالَ: واللَّهِ ما أُبالِي مِن أيْ حُفْرَتَيْهِما بُعِثْتُ اسْمَعُوا كِتابَ اللَّهِ ﴿والَّذِينَ هاجَرُوا في سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ قُتِلُوا أوْ ماتُوا﴾ الآيَةَ. وإسْنادُهُ عِنْدَ ابْنِ أبِي حاتِمٍ هَكَذا: حَدَّثَنا أبُو زُرْعَةَ عَنْ زَيْدِ بْنِ بِشْرٍ أخْبَرَنِي ضِمامٌ أنَّهُ سَمِعَ أبا قُبَيْلٍ ورَبِيعَةَ بْنَ سَيْفٍ المُغافِرِيَّ يَقُولانِ: كُنّا بِرُودُسَ ومَعَنا فَضالَةُ بْنُ عُبَيْدٍ الأنْصارِيُّ صاحِبُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ - فَذَكَرَهُ. قُلْتُ: ويُؤَيِّدُ هَذا قَوْلُ اللَّهِ سُبْحانَهُ: ﴿ومَن يَخْرُجْ مِن بَيْتِهِ مُهاجِرًا إلى اللَّهِ ورَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ المَوْتُ فَقَدْ وقَعَ أجْرُهُ عَلى اللَّهِ﴾ . وأخْرَجَ ابْنُ أبِي حاتِمٍ عَنْ مُقاتِلٍ في قَوْلِهِ: ﴿ومَن عاقَبَ بِمِثْلِ ما عُوقِبَ بِهِ﴾ قالَ: «إنَّ النَّبِيَّ - صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ - بَعَثَ سَرِيَّةً في لَيْلَتَيْنِ بَقِيَتا مِنَ المُحَرَّمِ فَلَقَوُا المُشْرِكِينَ، فَقالَ المُشْرِكُونَ بَعْضُهم لِبَعْضٍ: قاتِلُوا أصْحابَ مُحَمَّدٍ فَإنَّهم يُحَرِّمُونَ القِتالَ في الشَّهْرِ الحَرامِ، وإنَّ أصْحابَ مُحَمَّدٍ ناشَدُوهم وذَكَّرُوهم بِاللَّهِ أنْ يَعْرِضُوا لِقِتالِهِمْ فَإنَّهم لا يَسْتَحِلُّونَ القِتالَ في الشَّهْرِ الحَرامِ إلّا مَن بادَأهم، وإنَّ المُشْرِكِينَ بَدَأُوا فَقاتَلُوهم، فاسْتَحَلَّ الصَّحابَةُ قِتالُهم عِنْدَ ذَلِكَ فَقاتَلُوهم ونَصَرَهُمُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ،» وهو مُرْسَلٌ. وأخْرَجَ ابْنُ المُنْذِرِ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ في قَوْلِهِ: ﴿ومَن عاقَبَ﴾ الآيَةَ قالَ: تَعاوَنَ المُشْرِكُونَ عَلى النَّبِيِّ - صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ - وأصْحابِهِ فَأخْرَجُوهُ، فَوَعَدَهُ اللَّهُ أنْ يَنْصُرَهُ، وهو في القِصاصِ أيْضًا. وأخْرَجَ ابْنُ أبِي حاتِمٍ عَنْ مُجاهِدٍ ﴿وأنَّ ما يَدْعُونَ مِن دُونِهِ هو الباطِلُ﴾ قالَ: الشَّيْطانُ. وأخْرَجَ ابْنُ أبِي حاتِمٍ عَنِ الحَسَنِ في قَوْلِهِ: ﴿إنَّ الإنْسانَ لَكَفُورٌ﴾ قالَ: يَعُدُّ المُصِيباتِ ويَنْسى النِّعَمَ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب