الباحث القرآني
﴿كَما أرْسَلْنا فِيكم رَسُولًا مِنكم يَتْلُو عَلَيْكُمُ آياتِنا ويُزَكِّيكم ويُعَلِّمُكُمُ الكِتابَ والحِكْمَةَ ويُعَلِّمُكم ما لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ﴾
تَشْبِيهٌ لِلْعِلَّتَيْنِ مِن قَوْلِهِ ولِأُتِمَّ وقَوْلِهِ ولَعَلَّكم تَهْتَدُونَ أيْ ذَلِكَ مِن نِعْمَتِي عَلَيْكم كَنِعْمَةِ إرْسالِ مُحَمَّدٍ ﷺ، وجُعِلَ الإرْسالُ مُشَبَّهًا بِهِ لِأنَّهُ أسْبَقُ وأظْهَرُ تَحْقِيقًا لِلْمُشَبَّهِ؛أيْ أنَّ المَبادِئَ دَلَّتْ عَلى الغاياتِ وهَذا كَقَوْلِهِ في الحَدِيثِ «كَما صَلَّيْتَ عَلى إبْراهِيمَ» ونُكِّرَ ”رَسُولٌ“ لِلتَّعْظِيمِ ولِتَجْرِيَ عَلَيْهِ الصِّفاتُ الَّتِي كُلُّ واحِدَةٍ مِنها نِعْمَةٌ خاصَّةٌ، فالخِطابُ في قَوْلِهِ فِيكم وما بَعْدَهُ لِلْمُؤْمِنِينَ مِنَ المُهاجِرِينَ والأنْصارِ تَذْكِيرًا لَهم بِنِعْمَةِ اللَّهِ عَلَيْهِمْ بِأنْ بَعَثَ إلَيْهِمْ رَسُولًا بَيْنَ ظَهْرانَيْهِمْ ومِن قَوْمِهِمْ لِأنَّ ذَلِكَ أقْوى تَيْسِيرًا لِهِدايَتِهِمْ؛ وهَذا عَلى نَحْوِ دَعْوَةِ إبْراهِيمَ ﴿رَبَّنا وابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنهُمْ﴾ [البقرة: ١٢٩] وقَدِ امْتَنَّ اللَّهُ عَلى عُمُومِ المُؤْمِنِينَ مِنَ العَرَبِ وغَيْرِهِمْ بِقَوْلِهِ ﴿لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلى المُؤْمِنِينَ إذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِن أنْفُسِهِمْ﴾ [آل عمران: ١٦٤] أيْ جِنْسِهِمُ الإنْسانِيِّ لِأنَّ ذَلِكَ آنَسُ لَهم مِمّا لَوْ كانَ رَسُولُهم مِنَ المَلائِكَةِ قالَ تَعالى ﴿ولَوْ جَعَلْناهُ مَلَكًا لَجَعَلْناهُ رَجُلًا﴾ [الأنعام: ٩] .
ولِذَلِكَ عُلِّقَ بِفِعْلِ أرْسَلْنا حَرْفُ ”في“ ولَمْ يُعَلَّقْ بِهِ حَرْفُ ”إلى“ كَما في قَوْلِهِ ﴿إنّا أرْسَلْنا إلَيْكم رَسُولًا شاهِدًا عَلَيْكُمْ﴾ [المزمل: ١٥]، لِأنَّ ذَلِكَ مَقامُ احْتِجاجٍ وهَذا مَقامُ امْتِنانٍ فَناسَبَ أنْ يَذْكُرَ ما بِهِ تَمامُ المِنَّةِ وهي أنْ جَعَلَ رَسُولَهم فِيهِمْ ومِنهم، أيْ هو مَوْجُودٌ في قَوْمِهِمْ وهو عَرَبِيٌّ مِثْلُهم، والمُسْلِمُونَ يَوْمَئِذٍ هُمُ العَرَبُ أيِ الَّذِينَ يَتَكَلَّمُونَ بِاللُّغَةِ العَرَبِيَّةِ، فالأُمَّةُ العَرَبِيَّةُ يَوْمَئِذٍ تَتَكَلَّمُ بِلِسانٍ واحِدٍ سَواءٌ في ذَلِكَ العَدْنانِيُّونَ والقَحْطانِيُّونَ ومَن تَبِعَهم مِنَ الأحْلافِ والمَوالِي مِثْلِ سَلْمانَ الفارِسِيِّ وبِلالٍ الحَبَشِيِّ وعَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلامٍ الإسْرائِيلِيِّ، إذْ نِعْمَةُ الرِّسالَةِ في الإبْلاغِ والإفْهامِ، فالرَّسُولُ يُكَلِّمُهم بِلِسانِهِمْ فَيَفْهَمُونَ جَمِيعَ مَقاصِدِهِ، ويُدْرِكُونَ إعْجازَ القُرْآنِ، ويَفُوزُونَ بِمَزِيَّةِ (p-٤٩)نَقْلِ هَذا الدِّينِ إلى الأُمَمِ، وهَذِهِ المَزِيَّةُ يَنالُها كُلُّ مَن يَعْلَمُ اللِّسانَ العَرَبِيَّ كَغالِبِ الأُمَمِ الإسْلامِيَّةِ، وبِذَلِكَ كانَ تَبْلِيغُ الإسْلامِ بِواسِطَةِ أُمَّةٍ كامِلَةٍ فَيَكُونُ نَقْلُهُ مُتَواتِرًا، ويَسْهُلُ انْتِشارُهُ سَرِيعًا.
والرَّسُولُ: المُرْسَلُ فَهو فَعُولٌ بِمَعْنى المَفْعُولِ مِثْلُ ذَلُولٍ، وسَيَأْتِي الكَلامُ عَلَيْهِ مِن جِهَةِ مُطابَقَةِ مَوْصُوفِهِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعالى ﴿فَقُولا إنّا رَسُولُ رَبِّ العالَمِينَ﴾ [الشعراء: ١٦] في سُورَةِ الشُّعَراءِ.
وقَوْلُهُ ﴿يَتْلُو عَلَيْكُمُ آياتِنا﴾ أيْ يَقْرَأُ عَلَيْكُمُ القُرْآنَ وسَمّاهُ أوَّلًا آياتٍ بِاعْتِبارِ كَوْنِ كُلِّ كَلامٍ مِنهُ مُعْجِزَةً، وسَمّاهُ ثانِيًا كِتابًا بِاعْتِبارِ كَوْنِهِ كِتابَ شَرِيعَةٍ، وقَدْ تَقَدَّمَ نَظِيرُهُ آنِفًا عِنْدَ قَوْلِهِ تَعالى ﴿رَبَّنا وابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنهم يَتْلُو عَلَيْهِمُ آياتِكَ ويُعَلِّمُهُمُ الكِتابَ والحِكْمَةَ﴾ [البقرة: ١٢٩] .
وعَبَّرَ بِـ يَتْلُو لِأنَّ نُزُولَ القُرْآنِ مُسْتَمِرٌّ، وقِراءَةُ النَّبِيءِ لَهُ مُتَوالِيَةٌ وفي كُلِّ قِراءَةٍ يَحْصُلُ عِلْمٌ بِالمُعْجِزَةِ لِلسّامِعِينَ.
وقَوْلُهُ ويُزَكِّيكم إلَخْ: التَّزْكِيَةُ تَطْهِيرُ النَّفْسِ مُشْتَقَّةٌ مِنَ الزَّكاةِ وهي النَّماءُ، وذَلِكَ لِأنَّ في أصْلِ خِلْقَةِ النُّفُوسِ كَمالاتٍ وطَهاراتٍ تَعْتَرِضُها أرْجاسٌ ناشِئَةٌ عَنْ ضَلالٍ أوْ تَضْلِيلٍ، فَتَهْذِيبُ النُّفُوسِ وتَقْوِيمُها يَزِيدُها مِن ذَلِكَ الخَيْرِ المُودَعِ فِيها، قالَ تَعالى ﴿لَقَدْ خَلَقْنا الإنْسانَ في أحْسَنِ تَقْوِيمٍ﴾ [التين: ٤] ﴿ثُمَّ رَدَدْناهُ أسْفَلَ سافِلِينَ﴾ [التين: ٥] ﴿إلّا الَّذِينَ آمَنُوا وعَمِلُوا الصّالِحاتِ﴾ [التين: ٦]، وفي الحَدِيثِ «بُعِثْتُ لِأُتَمِّمَ حُسْنَ الأخْلاقِ»، فَفي الإرْشادِ إلى الصَّلاحِ والكَمالِ نَماءٌ لِما أوْدَعَ اللَّهُ في النُّفُوسِ مِنَ الخَيْرِ في الفِطْرَةِ.
وقَوْلُهُ ﴿ويُعَلِّمُكُمُ الكِتابَ والحِكْمَةَ﴾ أيْ يُعَلِّمُكُمُ الشَّرِيعَةَ فالكِتابُ هُنا هو القُرْآنُ بِاعْتِبارِ كَوْنِهِ كِتابَ تَشْرِيعٍ لا بِاعْتِبارِ كَوْنِهِ مُعْجِزًا ويُعَلِّمُكم أُصُولَ الفَضائِلِ، فالحِكْمَةُ هي التَّعالِيمُ المانِعَةُ مِنَ الوُقُوعِ في الخَطَأِ والفَسادِ، وتَقَدَّمَ نَظِيرُهُ في دَعْوَةِ إبْراهِيمَ وسَيَأْتِي أيْضًا عِنْدَ قَوْلِهِ تَعالى ﴿يُؤْتِي الحِكْمَةَ مَن يَشاءُ﴾ [البقرة: ٢٦٩] في هَذِهِ السُّورَةِ.
وقُدِّمَتْ جُمْلَةُ ويُزَكِّيكم عَلى جُمْلَةِ ﴿ويُعَلِّمُكُمُ الكِتابَ والحِكْمَةَ﴾ هُنا عَكْسُ ما في الآيَةِ السّابِقَةِ في حِكايَةِ قَوْلِ إبْراهِيمَ ﴿يَتْلُو عَلَيْهِمُ آياتِكَ ويُعَلِّمُهُمُ الكِتابَ والحِكْمَةَ ويُزَكِّيهِمْ﴾ [البقرة: ١٢٩]، لِأنَّ المَقامَ هُنا لِلِامْتِنانِ عَلى المُسْلِمِينَ فَقَدَّمَ فِيها ما يُفِيدُ مَعْنى المَنفَعَةِ الحاصِلَةِ مِن تِلاوَةِ الآياتِ عَلَيْهِمْ وهي مَنفَعَةُ تَزْكِيَةِ نُفُوسِهِمُ اهْتِمامًا بِها وبَعْثًا لَها بِالحِرْصِ عَلى تَحْصِيلِ (p-٥٠)وسائِلِها وتَعْجِيلًا لِلْبِشارَةِ بِها. فَأمّا في دَعْوَةِ إبْراهِيمَ فَقَدْ رُتِّبَتِ الجُمَلُ عَلى حَسَبِ تَرْتِيبِ حُصُولِ ما تَضَمَّنَتْهُ في الخارِجِ، مَعَ ما في ذَلِكَ التَّخالُفِ مِنَ التَّفَنُّنِ.
وقَوْلُهُ ﴿ويُعَلِّمُكم ما لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ﴾ تَعْمِيمٌ لِكُلِّ ما كانَ غَيْرَ شَرِيعَةٍ ولا حِكْمَةٍ مِن مَعْرِفَةِ أحْوالِ الأُمَمِ وأحْوالِ سِياسَةِ الدُّوَلِ وأحْوالِ الآخِرَةِ وغَيْرِ ذَلِكَ.
وإنَّما أعادَ قَوْلَهُ ويُعَلِّمُكم مَعَ صِحَّةِ الِاسْتِغْناءِ عَنْهُ بِالعَطْفِ تَنْصِيصًا عَلى المُغايَرَةِ لِئَلّا يُظَنَّ أنَّ ﴿ما لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ﴾ هو الكِتابُ والحِكْمَةُ، وتَنْصِيصًا عَلى أنَّ (ما لَمْ تَكُونُوا) مَفْعُولٌ لا مُبْتَدَأٌ حَتّى لا يَتَرَقَّبَ السّامِعُ خَبَرًا لَهُ فَيَضِلُّ فَهْمُهُ في ذَلِكَ التَّرَقُّبِ، واعْلَمْ أنَّ حَرْفَ العَطْفِ إذا جِيءَ مَعَهُ بِإعادَةِ عامِلِهِ كانَ عاطِفُهُ عامِلًا عَلى مِثْلِهِ، فَصارَ مِن عَطْفِ الجُمَلِ لَكِنَّ العاطِفَ حِينَئِذٍ أشْبَهُ بِالمُؤَكِّدِ لِمَدْلُولِ العامِلِ.
{"ayah":"كَمَاۤ أَرۡسَلۡنَا فِیكُمۡ رَسُولࣰا مِّنكُمۡ یَتۡلُوا۟ عَلَیۡكُمۡ ءَایَـٰتِنَا وَیُزَكِّیكُمۡ وَیُعَلِّمُكُمُ ٱلۡكِتَـٰبَ وَٱلۡحِكۡمَةَ وَیُعَلِّمُكُم مَّا لَمۡ تَكُونُوا۟ تَعۡلَمُونَ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق