الباحث القرآني

﴿كَما أرْسَلْنا فِيكم رَسُولا مِنكُمْ﴾ مُتَّصِلٌ بِما قَبْلَهُ، فالكافُ لِلتَّشْبِيهِ، وهي في مَوْضِعِ نَصْبٍ عَلى أنَّهُ نَعْتٌ لِمَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ، والتَّقْدِيرُ: لِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكم في أمْرِ القِبْلَةِ أوْ في الآخِرَةِ، إتْمامًا مِثْلَ إرْسالِ الرَّسُولِ، وذِكْرُ الإرْسالِ وإرادَةُ الإتْمامِ مِن إقامَةِ السَّبَبِ مَقامَ المُسَبِّبِ، وفِيكم مُتَعَلِّقٌ بِـ أرْسُلِنا وقُدِّمَ عَلى المَفْعُولِ الصَّرِيحِ تَعْجِيلًا بِإدْخالِ السُّرُورِ، ولِما في صِفاتِهِ مِنَ الطَّوْلِ، وقِيلَ: مُتَّصِلٌ بِما بَعْدَهُ؛ أيِ: اذْكُرُونِي ذِكْرًا مِثْلَ ذِكْرِي لَكم بِالإرْسالِ، أوِ اذْكُرُونِي بَدَلُ إرْسالِنا فِيكم رَسُولًا، فالكافُ لِلْمُقابَلَةِ مُتَعَلِّقٌ بِاذْكُرُونِي، ومِنها يُسْتَفادُ التَّشْبِيهُ؛ لِأنَّ المُتَقابِلَيْنِ مُتَشابِهانِ ومُتَبادِلانِ، وإيثارُ صِيغَةِ المُتَكَلِّمِ مَعَ الغَيْرِ بَعْدَ التَّوْحِيدِ افْتِنانٌ وجَرَيانٌ عَلى سُنَنِ الكِبْرِياءِ، وإشارَةٌ إلى عَظَمَةِ نِعْمَةِ هَذا الإرْسالِ، وهَذا الرَّسُولِ - صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ - ﴿يَتْلُو عَلَيْكم آياتِنا﴾ صِفَةُ (رَسُولًا)، وفِيهِ إشارَةٌ إلى طَرِيقِ إثْباتِ نُبُوَّتِهِ - عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ؛ لِأنَّ تِلاوَةَ الأُمِّيِّ الآياتِ الخارِجَةَ عَنْ طَوْقِ البَشَرِ بِاعْتِبارِ بَلاغَتِها واشْتِمالِها عَلى الإخْبارِ بِالمُغَيَّباتِ والمَصالِحِ الَّتِي يَنْتَظِمُ بِها أمْرُ المَعادِ والمَعاشِ أقْوى دَلِيلٍ عَلى نُبُوَّتِهِ. ﴿ويُزَكِّيكُمْ﴾ أيْ: يُطَهِّرُكم مِنَ الشِّرْكِ، وهي صِفَةٌ أُخْرى لِلرَّسُولِ، وأتى بِها عَقِبَ التِّلاوَةِ؛ لِأنَّ التَّطْهِيرَ عَنْ ذَلِكَ ناشِئٌ عَنْ إظْهارِ المُعْجِزَةِ لِمَن أرادَ اللَّهُ - تَعالى - تَوْفِيقَهُ. ﴿ويُعَلِّمُكُمُ الكِتابَ والحِكْمَةَ﴾ صِفَةٌ إثْرَ صِفَةٍ، وأُخِّرَتْ؛ لِأنَّ تَعْلِيمَ الكِتابِ وتَفْهِيمَ ما انْطَوى عَلَيْهِ مِنَ الحِكْمَةِ الإلَهِيَّةِ والأسْرارِ الرَّبّانِيَّةِ إنَّما يَكُونُ بَعْدَ التَّخَلِّي عَنْ دَنَسِ الشِّرْكِ ونَجَسِ الشَّكِّ بِالاتْباعِ، وأمّا قَبْلَ ذَلِكَ فالكُفْرُ حِجابٌ، وقَدَّمَ التَّزْكِيَةَ عَلى التَّعْلِيمِ في هَذِهِ الآيَةِ وأخَّرَها عَنْهُ في دَعْوَةِ إبْراهِيمَ (p-19)لِاخْتِلافِ المُرادِ بِها في المَوْضِعَيْنِ، ولِكُلِّ مَقامٍ مَقالٌ، وقِيلَ: التَّزْكِيَةُ عِبارَةٌ عَنْ تَكْمِيلِ النَّفْسِ بِحَسَبِ القُوَّةِ العَمَلِيَّةِ، وتَهْذِيبُها المُتَفَرِّعُ عَلى تَكْمِيلِها بِحَسَبِ القُوَّةِ النَّظَرِيَّةِ الحاصِلُ بِالتَّعْلِيمِ المُتَرَتِّبِ عَلى التِّلاوَةِ، إلّا أنَّها وُسِّطَتْ بَيْنَ التِّلاوَةِ والتَّعْلِيمِ المُتَرَتِّبِ عَلَيْها لِلْإيذانِ بِأنَّ كُلًّا مِنَ الأُمُورِ المُتَرَتِّبَةِ نِعْمَةٌ جَلِيلَةٌ عَلى حِيالِها مُسْتَوْجِبَةٌ لِلشُّكْرِ، ولَوْ رُوعِيَ تَرْتِيبُ الوُجُودِ كَما في دَعْوَةِ إبْراهِيمَ - عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ - لَتَبادَرَ إلى الفَهْمِ كَوْنَ الكُلِّ نِعْمَةً واحِدَةً، وقِيلَ: قُدِّمَتِ التَّزْكِيَةُ تارَةً وأُخِّرَتْ أُخْرى؛ لِأنَّها عِلَّةٌ غائِيَّةٌ لِتَعْلِيمِ ( الكِتابِ والحِكْمَةِ )، وهي مُقَدَّمَةٌ في القَصْدِ والتَّصَوُّرِ مُؤَخَّرَةٌ في الوُجُودِ والعَمَلِ، فَقُدِّمَتْ وأُخِّرَتْ رِعايَةً لِكُلٍّ مِنهُما، واعْتُرِضَ بِأنَّ غايَةَ التَّعْلِيمِ صَيْرُورَتُهم أزْكِياءَ عَنِ الجَهْلِ لا تَزْكِيَةُ الرَّسُولِ - عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ - إيّاها المُفَسَّرَةَ بِالحَمْلِ عَلى ما يَصِيرُونَ بِهِ أزْكِياءَ؛ لِأنَّ ذَلِكَ إمّا بِتَعْلِيمِهِ إيّاهم أوْ بِأمْرِهِمْ بِالعَمَلِ بِهِ، فَهي إمّا نَفْسُ التَّعْلِيمِ أوْ أمْرٌ لا تَعْلُّقَ لَهُ بِهِ، وغايَةُ ما يُمْكِنُ أنْ يُقالَ: إنَّ التَّعْلِيمَ بِاعْتِبارِ أنَّهُ يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ زَوالُ الشَّكِّ وسائِرُ الرَّذائِلِ تَزْكِيَتُهُ إيّاهُمْ، فَهو بِاعْتِبارٍ غايَةٌ وبِاعْتِبارٍ مُغَيًّا – كالرَّمْيِ والقَتْلِ - في قَوْلِهِمْ: رَماهُ فَقَتَلَهُ فافْهَمُ ﴿ويُعَلِّمُكم ما لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ﴾ 151 مِمّا لا طَرِيقَ إلى مَعْرِفَتِهِ سِوى الوَحْيِ وكانَ الظّاهِرُ وما لَمْ تَكُونُوا لِيَكُونَ مِن عَطْفِ المُفْرَدِ عَلى المُفْرَدِ، إلّا أنَّهُ تَعالى كَرَّرَ الفِعْلَ لِلدَّلالَةِ عَلى أنَّهُ جِنْسٌ آخَرُ غَيْرُ مُشارِكٍ لِما قَبْلَهُ أصْلًا، فَهو تَخْصِيصٌ بَعْدَ التَّعْمِيمِ مُبَيِّنٌ لِكَوْنِ إرْسالِهِ - صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ - نِعْمَةٌ عَظِيمَةٌ، ولَوْلاهُ لَكانَ الخَلْقُ مُتَحَيِّرِينَ في أمْرِ دِينِهِمْ لا يَدْرُونَ ماذا يَصْنَعُونَ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب