الباحث القرآني

﴿كَما أرْسَلْنا فِيكُمْ﴾: الكافُ هُنا لِلتَّشْبِيهِ، وهي في مَوْضِعِ نَصْبٍ عَلى أنَّها نَعْتٌ لِمَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ. واخْتُلِفَ في تَقْدِيرِهِ، فَقِيلَ التَّقْدِيرُ: ولِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكم إتْمامًا مِثْلَ إتْمامِ إرْسالِ الرَّسُولِ فِيكم. ومُتَعَلِّقُ الإتْمامَيْنِ مُخْتَلِفٌ، فالإتْمامُ الأوَّلُ بِالثَّوابِ في الآخِرَةِ، والإتْمامُ الثّانِي بِإرْسالِ الرَّسُولِ إلَيْنا في الدُّنْيا. أوِ الإتْمامُ الأوَّلُ بِإجابَةِ الدَّعْوَةِ الأُولى لِإبْراهِيمَ في قَوْلِهِ: ﴿ومِن ذُرِّيَّتِنا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ﴾ [البقرة: ١٢٨]، والإتْمامُ الثّانِي بِإجابَةِ الدَّعْوَةِ الثّانِيَةِ في قَوْلِهِ: ﴿رَبَّنا وابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنهُمْ﴾ [البقرة: ١٢٩]، وقِيلَ: التَّقْدِيرُ: ولَعَلَّكم تَهْتَدُونَ اهْتِداءً مِثْلَ إرْسالِنا فِيكم رَسُولًا، ويَكُونُ تَشْبِيهُ الهِدايَةِ بِالإرْسالِ في التَّحَقُّقِ والثُّبُوتِ، أيِ اهْتِداءً ثابِتًا مُتَحَقِّقًا، كَتَحَقُّقِ إرْسالِنا وثُبُوتِهِ. وقِيلَ: مُتَعَلِّقٌ بِقَوْلِهِ: ﴿وكَذَلِكَ جَعَلْناكم أُمَّةً وسَطًا﴾ [البقرة: ١٤٣]، أيْ جَعْلًا مِثْلَ ما أرْسَلْنا، وهو قَوْلُ أبِي مُسْلِمٍ، وهَذا بَعِيدٌ جِدًّا؛ لِكَثْرَةِ الفَصْلِ المُؤْذِنِ بِالِانْقِطاعِ. وقِيلَ: الكافُ في مَوْضِعِ نَصْبٍ عَلى الحالِ مِن نِعْمَتِي، أيْ: ﴿ولِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ﴾ [البقرة: ١٥٠] مُشَبِّهَةً إرْسالَنا فِيكم رَسُولًا، أيْ مُشَبِّهَةً نِعْمَةَ الإرْسالِ، فَيَكُونُ عَلى حَذْفِ مُضافٍ. وقِيلَ: الكافُ مُنْقَطِعَةٌ مِنَ الكَلامِ قَبْلَها، ومُتَعَلِّقَةٌ بِالكَلامِ بَعْدَها، والتَّقْدِيرُ: قالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: كَما (p-٤٤٤)ذَكَرْتُكم بِإرْسالِ الرَّسُولِ، فاذْكُرُونِي بِالطّاعَةِ أذْكُرْكم بِالثَّوابِ. انْتَهى. فَيَكُونُ عَلى تَقْدِيرِ مَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ، وعَلى تَقْدِيرِ مُضافٍ، أيِ اذْكُرُونِي ذِكْرًا مِثْلَ ذِكْرِنا لَكم بِالإرْسالِ، ثُمَّ صارَ مِثْلَ ذِكْرِ إرْسالِنا، ثُمَّ حُذِفَ المُضافُ وأُقِيمَ المُضافُ إلَيْهِ مَقامَهُ. وهَذا كَما تَقُولُ: كَما أتاكَ فُلانٌ فائْتِهِ بِكَرَمِكَ، وهَذا قَوْلُ مُجاهِدٍ وعَطاءٍ والكَلْبِيِّ ومُقاتِلٍ، وهو اخْتِيارُ الأخْفَشِ والزَّجّاجِ وابْنِ كَيْسانَ والأصَمِّ، والمَعْنى: أنَّكم كُنْتُمْ عَلى حالَةٍ لا تَقْرَءُونَ كِتابًا، ولا تَعْرِفُونَ رَسُولًا، ومُحَمَّدٌ ﷺ رَجُلٌ مِنكم، أتاكم بِأعْجَبِ الآياتِ الدّالَّةِ عَلى صِدْقِهِ فَقالَ: ”كَما أوْلَيْتُكم هَذِهِ النِّعْمَةَ وجَعَلْتُها لَكم دَلِيلًا، فاذْكُرُونِي بِالشُّكْرِ، أذْكُرْكم بِرَحْمَتِي“، ويُؤَكِّدُهُ: ﴿لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلى المُؤْمِنِينَ إذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِن أنْفُسِهِمْ﴾ [آل عمران: ١٦٤] . ويُحْتَمَلُ عَلى هَذا الوَجْهِ، بَلْ يَظْهَرُ، وهو إذا عَلِقَتْ بِما بَعْدَها أنْ، لا تَكُونُ الكافُ لِلتَّشْبِيهِ بَلْ لِلتَّعْلِيلِ، وهو مَعْنًى مَقُولٌ فِيها إنَّها تُرَدُّ لَهُ، وحُمِلَ عَلى ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿واذْكُرُوهُ كَما هَداكُمْ﴾ [البقرة: ١٩٨]، وقَوْلُ الشّاعِرِ: ؎لا تَشْتُمُ النّاسَ كَما لا تُشْتَمُ أيْ: واذْكُرُوهُ لِهِدايَتِهِ إيّاكم، ولا تَشْتُمِ النّاسَ لِكَوْنِكَ لا تُشْتَمُ، أيِ امْتَنِعْ مِن شَتْمِ النّاسِ لِامْتِناعِ النّاسِ مِن شَتْمِكَ. وما: في كَما، مَصْدَرِيَّةٌ، وأبْعَدَ مَن زَعَمَ أنَّها مَوْصُولَةٌ بِمَعْنى الَّذِي، والعائِدُ مَحْذُوفٌ، ورَسُولًا بَدَلٌ مِنهُ، والتَّقْدِيرُ: كالَّذِي أرْسَلْناهُ رَسُولًا، إذْ يَبْعُدُ تَقْرِيرُ هَذا التَّقْدِيرِ مَعَ الكَلامِ الَّذِي قَبْلَهُ، ومَعَ الكَلامِ الَّذِي بَعْدَهُ، وفِيهِ وُقُوعُ ما عَلى آحادِ مَن يَعْقِلُ. وكَذَلِكَ جَعَلَ ما كافَّةً؛ لِأنَّهُ لا يَذْهَبُ إلى ذَلِكَ إلّا حَيْثُ لا يُمْكِنُ أنْ يَنْسَبِكَ مِنها مَعَ ما بَعْدَها مَصْدَرٌ؛ لِوِلايَتِها الجُمَلَ الِاسْمِيَّةَ، نَحْوَ قَوْلِ الشّاعِرِ: ؎لَعَمْرُكَ إنَّنِي وأبا حُمَيْدٍ ∗∗∗ كَما النَّشْوانُ والرَّجُلُ الحَلِيمُ وقَوْلُ مَن قالَ إنَّ: ”كَما أرْسَلْنا“، مُتَعَلِّقٌ بِما بَعْدَهُ، قَدْ رَدَّهُ أبُو مُحَمَّدٍ مَكِّيُّ بْنُ أبِي طالِبٍ، قالَ: لِأنَّ الأمْرَ إذا كانَ لَهُ جَوابٌ لَمْ يَتَعَلَّقْ بِهِ ما قَبْلَهُ لِاشْتِغالِهِ بِجَوابِهِ، قالَ: لَوْ قُلْتُ كَما أحْسَنْتُ إلَيْكَ فَأكْرِمْنِي أُكْرِمْكَ، لَمْ تَتَعَلَّقِ الكافُ مِن كَما بِأكْرِمْنِي، لِأنَّ لَهُ جَوابًا، ولَكِنْ تَتَعَلَّقُ بِشَيْءٍ آخَرَ أوْ بِمُضْمَرٍ، وكَذَلِكَ: ”فاذْكُرُونِي أذْكُرْكم“، هو أمْرٌ لَهُ جَوابٌ، فَلا تَتَعَلَّقُ كَما بِهِ، ولا يَجُوزُ ذَلِكَ إلّا عَلى التَّشْبِيهِ بِالشَّرْطِ الَّذِي يُجاوَبُ بِجَوابَيْنِ، وهو قَوْلُكَ: إذا أتاكَ فُلانٌ فائْتِهِ تُرْضِهِ، فَتَكُونُ كَما وفاذْكُرُونِي جَوابَيْنِ لِلْأمْرِ، والأوَّلُ أفْصَحُ وأشْهَرُ. وتَقُولُ: كَما أحْسَنْتُ إلَيْكَ فَأكْرِمْنِي، يَصِحُّ أنْ يَجْعَلَ الكافَ مُتَعَلِّقَةً بِأكْرِمْنِي؛ إذْ لا جَوابَ لَهُ. انْتَهى كَلامُهُ. ورَجَّحَ مَكِّيٌّ قَوْلَ مَن قالَ إنَّها مُتَعَلِّقَةٌ بِما قَبْلَها، وهو: ﴿ولِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ﴾ [البقرة: ١٥٠]، لِأنَّ سِياقَ اللَّفْظِ يَدُلُّ عَلى أنَّ المَعْنى: ولِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكم بِبَيانِ مِلَّةِ أبِيكم إبْراهِيمَ، كَما أجَبْنا دَعْوَتَهُ فِيكم، فَأرْسَلْنا إلَيْكم رَسُولًا مِنكم يَتْلُو. وما ذَهَبَ إلَيْهِ مَكِّيٌّ مِن إبْطالِ أنْ تَكُونَ كَما مُتَعَلِّقَةً بِما بَعْدَها مِنَ الوَجْهِ الَّذِي ذُكِرَ لَيْسَ بِشَيْءٍ؛ لِأنَّ الكافَ إمّا أنْ تَكُونَ لِلتَّشْبِيهِ أوْ لِلتَّعْلِيلِ. فَإنْ كانَتْ لِلتَّشْبِيهِ، فَتَكُونُ نَعْتًا لِمَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ، ويَجُوزُ تَقَدُّمُ ذَلِكَ المَصْدَرِ عَلى الفِعْلِ، مِثالُ ذَلِكَ: أكْرِمْنِي إكْرامًا مِثْلَ إكْرامِي السّابِقِ لَكَ أُكْرِمُكَ، فَيَجُوزُ تَقْدِيمُ هَذا المَصْدَرِ. وإنْ كانَتْ لِلتَّعْلِيلِ، فَيَجُوزُ أيْضًا تَقَدُّمُ ذَلِكَ عَلى الفِعْلِ، مِثالُ ذَلِكَ: أكْرِمْنِي لِإكْرامِي لَكَ أُكْرِمْكَ، لا نَعْلَمُ خِلافًا في جَوازِ تَقْدِيمِ هَذا المَصْدَرِ وهَذِهِ العِلَّةِ عَلى الفِعْلِ العامِلِ فِيهِما، وتَجْوِيزُ مَكِّيٍّ ذَلِكَ عَلى التَّشْبِيهِ بِالشَّرْطِ الَّذِي يُجاوِبُ بِجَوابَيْنِ وتَسْمِيَتُهُ، كَما وفاذْكُرُونِي جَوابَيْنِ لِلْأمْرِ، لَيْسَ بِصَحِيحٍ لِأنَّ كَما لَيْسَ بِجَوابٍ، ولِأنَّ ذَلِكَ التَّشْبِيهَ فاسِدٌ؛ لِأنَّ المَصْدَرَ لا يُشْبِهُ الجَوابَ، وكَذَلِكَ التَّعْلِيلُ. أمّا المَصْدَرُ التَّشْبِيهِيُّ، فَهو وصْفٌ في الفِعْلِ المَأْمُورِ بِهِ، (p-٤٤٥)فَلَيْسَ مُتَرَتَّبًا عَلى وُقُوعِ مُطْلَقِ الفِعْلِ، بَلْ لا يَقَعُ الفِعْلُ إلّا بِذَلِكَ الوَصْفِ. وعَلى هَذا لا يُشْبِهُ الجَوابَ؛ لِأنَّ الجَوابَ مُتَرَتِّبٌ عَلى نَفْسِ وُقُوعِ الفِعْلِ. وأمّا التَّعْلِيلُ فَكَذَلِكَ أيْضًا لَيْسَ مُتَرَتِّبًا عَلى وُقُوعِ الفِعْلِ، بَلِ الفِعْلُ مُتَرَتِّبٌ عَلى وُجُودِ العِلَّةِ، فَهو نَقِيضُ الجَوابِ؛ لِأنَّ الجَوابَ مُتَرَتِّبٌ عَلى وُقُوعِ الفِعْلِ، والعِلَّةُ مُتَرَتِّبٌ عَلَيْها وُجُودُ الفِعْلِ، فَلا تَشْبِيهَ بَيْنِهِما، وإنَّما يُخْدَشُ عِنْدِي في تَعَلُّقِ كَما بِقَوْلِهِ: ”فاذْكُرُونِي“، هو الفاءُ؛ لِأنَّ ما بَعْدَ الفاءِ لا يَعْمَلُ فِيما قَبْلَها، ولَوْلا الفاءُ لَكانَ التَّعَلُّقُ واضِحًا، وتَبْعُدُ زِيادَةُ الفاءِ. فَبِهَذا يَظْهَرُ تَعَلُّقُ كَما بِما قَبْلَها، ويَكُونُ في ذَلِكَ تَشْبِيهُ إتْمامِ هَذِهِ النِّعْمَةِ الحادِثَةِ مِنَ الهِدايَةِ لِاسْتِقْبالِ قِبْلَةِ الصَّلاةِ الَّتِي هي عَمُودُ الإسْلامِ. وأفْضَلُ الأعْمالِ وأدَلُّ الدَّلائِلِ عَلى الِاسْتِمْساكِ بِشَرِيعَةِ الإسْلامِ، بِإتْمامِ النِّعْمَةِ السّابِقَةِ، بِإرْسالِ الرَّسُولِ المُتَّصِفِ بِكَوْنِهِ مِنهم إلى سائِرِ الأوْصافِ الَّتِي وصَفَهُ تَعالى بِها، وجَعَلَ ذَلِكَ إتْمامًا لِلنِّعْمَةِ في الحالَيْنِ؛ لِأنَّ اسْتِقْبالَ الكَعْبَةِ ثانِيًا أمْرٌ لا يُزادُ عَلَيْهِ شَيْءٌ يَنْسَخُهُ، فَهي آخِرُ القِبْلاتِ المُتَوَجَّهِ إلَيْها في الصَّلاةِ. كَما أنَّ إرْسالَ مُحَمَّدٍ ﷺ هو آخِرُ إرْسالاتِ الأنْبِياءِ - عَلَيْهِمُ الصَّلاةُ والسَّلامُ - إذْ لا نَبِيَّ بَعْدَهُ، وهو خاتَمُ النَّبِيِّينَ. فَشَبَّهَ إتْمامَ تِلْكَ النِّعْمَةِ الَّتِي هي كَمالُ نِعْمَةِ اسْتِقْبالِ القِبَلِ، بِهَذا الإتْمامِ الَّذِي هو كَمالُ إرْسالِ الرُّسُلِ. وفي إتْمامِ هاتَيْنِ النِّعْمَتَيْنِ عِزُّ لِلْعَرَبِ، وشَرَفٌ واسْتِمالَةٌ لِقُلُوبِهِمْ، إذْ كانَ الرَّسُولُ مِنهم، والقِبْلَةُ الَّتِي يَسْتَقْبِلُونَها في الصَّلاةِ بَيْنَهُمُ الَّذِي يَحُجُّونَهُ قَدِيمًا وحَدِيثًا ويُعَظِّمُونَهُ. ﴿رَسُولًا مِنكُمْ﴾: فِيهِ اعْتِناءٌ بِالعَرَبِ، إذْ كانَ الإرْسالُ فِيهِمْ، والرَّسُولُ مِنهم، وإنْ كانَتْ رِسالَتُهُ عامَّةً. وكَذَلِكَ جاءَ ﴿هُوَ الَّذِي بَعَثَ في الأُمِّيِّينَ﴾ [الجمعة: ٢]، ويُشْعِرُ هَذا الِامْتِنانُ بِأنَّهُ لَمْ يَسْبِقْ أنْ يُرْسَلَ ولا يُبْعَثَ في العَرَبِ رَسُولٌ غَيْرُ نَبِيِّنا مُحَمَّدٍ ﷺ ولِذَلِكَ أفْرَدَهُ فَقالَ: (رَسُولًا مِنهم)، ووَصَفَهُ بِأوْصافٍ كُلُّها مُعْجِزٌ لَهم، وهي كَوْنُهُ مِنهم، وتالِيًا عَلَيْهِمْ آياتِ اللَّهِ، ومُزَكِّيًا لَهم، ومُعَلِّمًا لَهُمُ الكِتابَ والحِكْمَةَ وما لَمْ يَكُونُوا يَعْلَمُونَ. وقَدَّمَ كَوْنَهُ مِنهم، أيْ يَعْرِفُونَهُ شَخْصًا ونَسَبًا ومَوْلِدًا ومَنشَأً؛ لِأنَّ مَعْرِفَةَ ذاتِ الشَّخْصِ مُتَقَدِّمَةٌ عَلى مَعْرِفَةِ ما يَصْدُرُ مِن أفْعالِهِ. وأتى ثانِيًا بِصِفَةِ تِلاوَةِ الآياتِ إلَيْهِ تَعالى؛ لِأنَّها هي المُعْجِزَةُ الدّالَّةُ عَلى صِدْقِهِ، الباقِيَةُ إلى الأبَدِ. وأضافَ الآياتِ إلَيْهِ تَعالى؛ لِأنَّها كَلامُهُ - سُبْحانَهُ وتَعالى - ومِن تِلاوَتِهِ تُسْتَفادُ العِباداتُ ومَجامِعُ الأخْلاقِ الشَّرِيفَةِ، وتَنْبُعُ العُلُومُ. وأتى ثالِثًا بِصِفَةِ التَّزْكِيَةِ، وهي التَّطْهِيرُ مِن أنْجاسِ الضَّلالِ؛ لِأنَّ ذَلِكَ ناشِئٌ عَنْ إظْهارِ المُعْجِزِ لِمَن أرادَ اللَّهُ تَعالى تَوْفِيقَهُ وقَبُولَهُ لِلْحَقِّ. وأتى رابِعًا بِصِفَةِ تَعْلِيمِ الكِتابِ والحِكْمَةِ؛ لِأنَّ ذَلِكَ ناشِئٌ عَنْ تَطْهِيرِ الإنْسانِ، بِاتِّباعِ النَّبِيِّ ﷺ، فَيُعَلِّمُهُ إذْ ذاكَ ويُفْهِمُهُ ما انْطَوى عَلَيْهِ كِتابُ اللَّهِ تَعالى، وما اقْتَضَتْهُ الحِكْمَةُ الإلَهِيَّةُ. وأتى بِهَذِهِ الصِّفاتِ فِعْلًا مُضارِعًا لِيَدُلَّ بِذَلِكَ عَلى التَّجَدُّدِ؛ لِأنَّ التِّلاوَةَ والتَّزْكِيَةَ والتَّعْلِيمَ تَتَجَدَّدُ دائِمًا. وأمّا الصِّفَةُ الأوْلى - وهي كَوْنُهُ مِنهم - فَلَيْسَتْ بِمُتَجَدِّدَةٍ، بَلْ هو وصْفٌ ثابِتٌ لَهُ. وقَدْ تَقَدَّمَ الكَلامُ عَلى هَذِهِ الأوْصافِ في قَوْلِهِ: ﴿رَبَّنا وابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنهُمْ﴾ [البقرة: ١٢٩] بِأشْبَعَ مِن هَذا، فَلْيُنْظَرْ هُناكَ. وخَتَمَ هَذا بِقَوْلِهِ: ﴿ويُعَلِّمُكم ما لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ﴾، وهو ذِكْرُ عامٍّ بَعْدَ خاصٍّ؛ لِأنَّهم لَمْ يَكُونُوا يَعْلَمُونَ الكِتابَ ولا الحِكْمَةَ. وفَسَّرَ بَعْضُهم ذَلِكَ بِأنَّ الَّذِي لَمْ يَكُونُوا يَعْلَمُونَ: قَصَصُ مَن سَلَفَ، وقَصَصُ ما يَأْتِي مِنَ الغُيُوبِ. وفي هَذِهِ الآيَةِ قَدَّمَ التَّزْكِيَةَ عَلى التَّعْلِيمِ، وفي دُعاءِ إبْراهِيمَ قَدَّمَ التَّعْلِيمَ عَلى التَّزْكِيَةِ؛ وذَلِكَ لِاخْتِلافِ المُرادِ بِالتَّزْكِيَةِ. فالظّاهِرُ أنَّ المُرادَ هُنا هو التَّطْهِيرُ مِنَ الكُفْرِ، كَما شَرَحْناهُ، وهُناكَ هو الشَّهادَةُ بِأنَّهم خِيارٌ أزْكِياءُ، وذَلِكَ مُتَأخِّرٌ عَنْ تَعْلِيمِ الشَّرائِعِ والعَمَلِ بِها. ﴿فاذْكُرُونِي أذْكُرْكُمْ﴾: أيِ اذْكُرُونِي بِالطّاعَةِ، أذْكُرْكم بِالثَّوابِ والمَغْفِرَةِ، قالَهُ ابْنُ جُبَيْرٍ، أوْ بِالدُّعاءِ والتَّسْبِيحِ ونَحْوِهِ، قالَهُ الرَّبِيعُ والسُّدِّيُّ. وقالَ عِكْرِمَةُ: يَقُولُ اللَّهُ: ”يا ابْنَ آدَمَ، اذْكُرْنِي بَعْدَ صَلاةِ الصُّبْحِ ساعَةً، وبَعْدَ صَلاةِ العَصْرِ ساعَةً؛ وأنا أكْفِيكَ ما بَيْنَهُما، أوِ اثْنُوا عَلَيَّ، أُثْنِ (p-٤٤٦)عَلَيْكم“ . وقَدْ جاءَ هَذا المَعْنى في الحَدِيثِ الطَّوِيلِ في قَوْلِهِ ﷺ: «إنَّ لِلَّهِ مَلائِكَةً يَطُوفُونَ في الطُّرُقِ يَلْتَمِسُونَ أهْلَ الذِّكْرِ» . وفِيهِ: «ما يَقُولُ عِبادِي ؟ قالُوا: ”يُسَبِّحُونَكَ ويَحْمَدُونَكَ ويُمَجِّدُونَكَ“» . وقِيلَ: هو عَلى حَذْفِ مُضافٍ، أيِ اذْكُرُوا نِعْمَتِي أذْكُرْكم بِالزِّيادَةِ. وقَدْ جاءَ التَّصْرِيحُ بِالنِّعْمَةِ في قَوْلِهِ: ﴿اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ﴾ [البقرة: ١٢٢] . وقِيلَ: الذِّكْرُ بِاللِّسانِ وبِالقَلْبِ عِنْدَ الأوامِرِ والنَّواهِي. وقِيلَ: اذْكُرُونِي بِتَوْحِيدِي وتَصْدِيقِ نَبِيِّي. وقِيلَ: بِما فَرَضْتُ عَلَيْكم، أوْ نَدَبْتُكم إلَيْهِ؛ أذْكُرْكم، أيْ أُجازِكم عَلى ذَلِكَ. وقَدْ تَقَدَّمَ مَعْنى هَذا، وهو قَوْلُ سَعِيدٍ، فاذْكُرُونِي بِالطّاعَةِ أذْكُرْكم بِالثَّوابِ. وقِيلَ: فاذْكُرُونِي في الرَّخاءِ بِالطّاعَةِ والدُّعاءِ، أذْكُرْكم في البَلاءِ بِالعَطِيَّةِ والنَّعْماءِ، قالَهُ ابْنُ حَجَرٍ. وقِيلَ: اذْكُرُونِي بِالسُّؤالِ أذْكُرْكم بِالنَّوالِ، أوِ اذْكُرُونِي بِالتَّوْبَةِ أذْكُرْكم بِالعَفْوِ عَنِ الحَوْبَةِ، أوِ اذْكُرُونِي في الدُّنْيا أذْكُرْكم في الآخِرَةِ، أوِ اذْكُرُونِي في الخَلَواتِ أذْكُرْكم في الفَلَواتِ، أوِ اذْكُرُونِي بِمَحامِدِي أذْكُرْكم بِهِدايَتِي، أوِ اذْكُرُونِي بِالصِّدْقِ والإخْلاصِ أذْكُرْكم بِالخَلاصِ ومَزِيدِ الِاخْتِصاصِ، أوِ اذْكُرُونِي بِالمُوافَقاتِ أذْكُرْكم بِالكَراماتِ، أوِ اذْكُرُونِي بِتَرْكِ كُلِّ حَظٍّ أذْكُرْكم بِأنْ أُقِيمَكم بِحَقِّي بَعْدَ فَنائِكم عَنْكم، أوِ اذْكُرُونِي بِقَطْعِ العَلائِقِ أذْكُرْكم بِنَعْتِ الحَقائِقِ، أوِ اذْكُرُونِي لِمَن لَقِيتُمُوهُ أذْكُرْكم لِكُلِّ مَن خاطَبْتُهُ، قالَ: ومَن ذَكَرَنِي في مَلَأٍ ذَكَرْتُهُ في مَلَأٍ خَيْرٍ مِنهُ، أوِ اذْكُرُونِي أذْكُرْكم، أحِبُّونِي أُحِبُّكم، أوِ اذْكُرُونِي بِالتَّذَلُّلِ أذْكُرْكم بِالتَّفَضُّلِ، أوِ اذْكُرُونِي بِقُلُوبِكم أذْكُرْكم بِتَحْقِيقِ مَطْلُوبِكم، أوِ اذْكُرُونِي عَلى البابِ مِن حَيْثُ الخِدْمَةِ أذْكُرْكم عَلى بِساطِ القُرْبِ بِإكْمالِ النِّعْمَةِ، أوِ اذْكُرُونِي بِتَصْفِيَةِ السَّرْدِ أذْكُرْكم بِتَوْفِيَةِ البِرِّ، أوِ اذْكُرُونِي في حالِ سُرُورِكم أذْكُرْكم في قُبُورِكم، أوِ اذْكُرُونِي وأنْتُمْ بِوَصْفِ السَّلامَةِ أذْكُرْكم يَوْمَ القِيامَةِ يَوْمَ لا تَنْفَعُ النَّدامَةُ، أوِ اذْكُرُونِي بِالرَّهْبَةِ بِالرَّغْبَةِ. وقالَ القُشَيْرِيُّ: فاذْكُرُونِي أذْكُرْكم، الذِّكْرُ اسْتِغْراقُ الذّاكِرِ في شُهُودِ المَذْكُورِ، ثُمَّ اسْتِهْلاكُهُ في وُجُودِ المَذْكُورِ حَتّى لا يَبْقى مِنهُ إلّا أثَرٌ يُذْكَرُ، فَيُقالُ: قَدْ كانَ فُلانٌ. قالَ تَعالى: ﴿إنَّهم كانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ﴾ [الذاريات: ١٦] . وإنَّما الدُّنْيا حَدِيثٌ حَسَنٌ فَكُنْ حَدِيثًا حَسَنًا لِمَن وعى، قالَ الشّاعِرُ: ؎إنَّما الدُّنْيا مَحاسِنُها ∗∗∗ طَيِّبُ ما يَبْقى مِنَ الخَبَرِ وفِي المُنْتَخَبِ ما مُلَخَّصُهُ: الذِّكْرُ يَكُونُ بِاللِّسانِ، وهو: الحَمْدُ، والتَّسْبِيحُ، والتَّمْجِيدُ، وقِراءَةُ كُتُبِ اللَّهِ؛ وبِالقَلْبِ، وهو: الفِكْرُ في الدَّلائِلِ الدّالَّةِ عَلى التَّكالِيفِ، والأحْكامِ، والأمْرِ، والنَّهْيِ، والوَعْدِ، والوَعِيدِ، والفِكْرِ في الصِّفاتِ الإلَهِيَّةِ، والفِكْرِ في أسْرارِ مَخْلُوقاتِ اللَّهِ تَعالى حَتّى تَصِيرَ كُلُّ ذَرَّةٍ كالمِرْآةِ المَجْلُوَّةِ المُحاذِيَةِ لِعالَمِ التَّقْدِيسِ، فَإذا نَظَرَ العَبْدُ إلَيْها انْعَكَسَ شُعاعُ بَصَرِهِ مِنها إلى عالَمِ الجَلالِ، وبِالجَوارِحِ، بِأنْ تَكُونَ مُسْتَغْرِقَةً في الأعْمالِ المَأْمُورِ بِها، خالِيَةً عَنِ الأعْمالِ المَنهِيِّ عَنْها. وعَلى هَذا الوَجْهِ، سَمّى اللَّهُ الصَّلاةَ ذِكْرًا بِقَوْلِهِ: ﴿فاسْعَوْا إلى ذِكْرِ اللَّهِ﴾ [الجمعة: ٩] . انْتَهى. وقالُوا: الذِّكْرُ هو تَنْبِيهُ القَلْبِ لِلْمَذْكُورِ والتَّيَقُّظُ لَهُ، وأُطْلِقَ عَلى اللِّسانِ لِدَلالَتِهِ عَلى ذَلِكَ. ولَمّا كَثُرَ إطْلاقُهُ عَلَيْهِ، صارَ هو السّابِقَ إلى الفَهْمِ. فالذِّكْرُ بِاللِّسانِ سِرِّيٌّ وجَهْرِيٌّ، والذِّكْرِ بِالقَلْبِ دائِمٌ ومُتَحَلِّلٌ، وبِهِما أيْضًا دائِمٌ ومُتَحَلِّلٌ. فَبِاللِّسانِ ذِكْرُ عامَّةِ المُؤْمِنِينَ، وهو أدْنى مَراتِبِ الذِّكْرِ، وقَدْ سَمّاهُ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ ”ذِكْرًا“ . خَرَّجَ ابْنُ ماجَهْ «أنَّ أعْرابِيًّا قالَ: يا رَسُولَ اللَّهِ، إنْ شَرائِعَ الإسْلامِ قَدْ كَثُرَتْ عَلَيَّ، فَأنْبِئْنِي مِنها بِشَيْءٍ أتَشَبَّثُ بِهِ، قالَ: ”لا يَزالُ لِسانُكَ رَطْبًا مِن ذِكْرِ اللَّهِ“»، وخَرَّجَ أيْضًا قالَ: «يَقُولُ اللَّهُ تَعالى أنا مَعَ عَبْدِي إذا هو ذَكَرَنِي وتَحَرَّكَتْ بِي شَفَتاهُ» . وسُئِلَ أبُو عُثْمانَ، فَقِيلَ لَهُ: نَذْكُرُ اللَّهَ ولا نَجِدُ في قُلُوبِنا حَلاوَةً، فَقالَ: احْمَدُوا اللَّهَ عَلى أنْ زَيَّنَ جارِحَةً مِن جَوارِحِكم بِطاعَتِهِ، وبِالقَلْبِ هو ذِكْرُ العارِفِينَ وخَواصِّ المُؤْمِنِينَ، وقَدْ سَمّاهُ النَّبِيُّ ﷺ (p-٤٤٧)ذِكْرًا، ومَعْناهُ اسْتِقْرارُ الذِّكْرِ فِيهِ حَتّى لا يَخْطُرَ فِيهِ غَيْرُ المَذْكُورِ: قالَ الشّاعِرُ: ؎سِواكَ بِبالِي لا يَخْطُرُ ∗∗∗ إذا ما نَسِيتُكَ مَن أذْكُرُ وبِهِما: هو ذِكْرُ خَواصِّ المُؤْمِنِينَ، وهَذِهِ ثَلاثُ المَقاماتِ، أدْوَمُها أفْضَلُها. انْتَهى. وقَدْ طالَ بِنا الكَلامُ في هَذِهِ الجُمْلَةِ، وتَرَكْنا أشْياءَ مِمّا ذَكَرَهُ النّاسُ، وهَذِهِ التَّقْيِيداتُ والتَّفْسِيراتُ الَّتِي فُسِّرَ بِها الذِّكْرُ، لا يَدُلُّ اللَّفْظُ عَلى شَيْءٍ مِنها، ويَنْبَغِي أنْ يُحْمَلَ ذَلِكَ مِنَ المُفَسِّرِينَ لَهُ عَلى سَبِيلِ التَّمْثِيلِ وجَوازِ أنْ يَكُونَ المُرادَ. وأمّا دَلالَةُ اللَّفْظِ فَهي طَلَبُ مُطْلَقِ الذِّكْرِ، والَّذِي يَتَبادَرُ إلَيْهِ الذِّهْنُ هو الذِّكْرُ اللِّسانِيُّ. والذِّكْرُ اللِّسانِيُّ لا يَكُونُ ذِكْرَ لَفْظِ الجَلالَةِ مُفْرَدًا مِن غَيْرِ إسْنادٍ، بَلْ لا بُدَّ مِن إسْنادٍ، وأوْلاها الأذْكارُ المَرْوِيَّةُ في الآثارِ، والمُشارُ إلَيْها في القُرْآنِ. وقَدْ جاءَ التَّرْغِيبُ في ذِكْرِ جُمْلَةٍ مِنها، والوَعْدُ عَلى ذِكْرِها بِالثَّوابِ الجَزِيلِ. وتِلْكَ الأذْكارُ تَتَضَمَّنُ: الثَّناءَ عَلى اللَّهِ، والحَمْدَ لَهُ، والمَدْحَ لِجَلالِهِ، والتِماسَ الخَيْرِ مِن عِنْدِهِ. فَعَبَّرَ عَنْ ذَلِكَ بِالذِّكْرِ، وأمَرَ العَبْدَ بِهِ، فَكَأنَّهُ قِيلَ: عَظِّمُوا اللَّهَ، وأثْنُوا عَلَيْهِ بِالألْفاظِ الدّالَّةِ عَلى ذَلِكَ. وسُمِّيَ الثَّوابُ المُتَرَتِّبُ عَلى ذَلِكَ ذِكْرًا، فَقالَ: ”﴿فاذْكُرُونِي أذْكُرْكُمْ﴾“ عَلى سَبِيلِ المُقابَلَةِ، لَمّا كانَ نَتِيجَةَ الذِّكْرِ وناشِئًا عَنْهُ سَمّاهُ ذِكْرًا. ﴿واشْكُرُوا لِي﴾ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ الشُّكْرِ، وعَدّاهُ هُنا بِاللّامِ، وكَذَلِكَ ﴿أنِ اشْكُرْ لِي ولِوالِدَيْكَ﴾ [لقمان: ١٤]، وهو مِنَ الأفْعالِ الَّتِي ذُكِرَ أنَّها تارَةً تَتَعَدّى بِحَرْفِ جَرٍّ، وتارَةً تَتَعَدّى بِنَفْسِها، كَما قالَ عَمْرُو بْنُ لَجاءٍ التَّمِيمِيُّ: ؎هم جَمَعُوا بُؤْسِي ونُعْمِي عَلَيْكم ∗∗∗ فَهَلّا شَكَرْتَ القَوْمَ إذْ لَمْ تُقابِلْ وفِي إثْباتِ هَذا النَّوْعِ مِنِ الفِعْلِ، وهو أنْ يَكُونَ يَتَعَدّى تارَةً بِنَفْسِهِ، وتارَةً بِحَرْفِ جَرٍّ، بِحَقِّ الوَضْعِ، فِيهِما خِلافٌ. وقالُوا: إذا قُلْتَ: شَكَرْتُ لِزَيْدٍ، فالتَّقْدِيرُ: شَكَرْتُ لِزَيْدٍ صَنِيعَهُ، فَجَعَلُوهُ مِمّا يَتَعَدّى لِواحِدٍ بِحَرْفِ جَرٍّ ولِآخَرَ بِنَفْسِهِ. ولِذَلِكَ فَسَّرَ الزَّمَخْشَرِيُّ هَذا المَوْضِعَ بِقَوْلِهِ: واشْكُرُوا لِي ما أنْعَمْتُ بِهِ عَلَيْكم. وقالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: واشْكُرُوا لِي، واشْكُرُونِي بِمَعْنى واحِدٍ، ولِي أفْصَحُ وأشْهَرُ مَعَ الشُّكْرِ ومَعْناهُ: نِعْمَتِي وأيادِيَّ، وكَذَلِكَ إذا قُلْتَ: شَكَرْتُكَ، فالمَعْنى: شَكَرْتُ لَكَ صَنِيعَكَ وذَكَرْتُهُ، فَحَذَفَ المُضافَ، إذْ مَعْنى الشُّكْرِ: ذِكْرُ اليَدِ وذِكْرُ مُسْدِيها مَعًا، فَما حُذِفَ مِن ذَلِكَ فَهو اخْتِصارٌ لِدَلالَةِ ما بَقِيَ عَلى ما حُذِفَ، انْتَهى كَلامُهُ، ويَحْتاجُ، كَوْنُهُ يَتَعَدّى لِواحِدٍ بِنَفْسِهِ، ولِلْآخَرِ بِحَرْفِ جَرٍّ، فَتَقُولُ: شَكَرْتُ لِزَيْدٍ صَنِيعَهُ، لِسَماعٍ مِنَ العَرَبِ، وحِينَئِذٍ يُصارُ إلَيْهِ. ﴿ولا تَكْفُرُونِ﴾: وهو مِن كُفْرِ النِّعْمَةِ، وهو عَلى حَذْفِ مُضافٍ، أيْ ولا تَكْفُرُوا نِعْمَتِي. ولَوْ كانَ مِنَ الكُفْرِ ضِدِّ الإيمانِ، لَكانَ: ولا تَكْفُرُوا، أوْ ولا تَكْفُرُوا بِي. وهَذِهِ النُّونُ نُونُ الوِقايَةِ، حُذِفَتْ ياءُ المُتَكَلِّمِ بَعْدَها تَخْفِيفًا لِتَناسُبَ الفَواصِلِ. قِيلَ: المَعْنى واشْكُرُوا لِي بِالطّاعَةِ، ولا تَكْفُرُونِ بِالمَعْصِيَةِ. وقِيلَ: مَعْنى الشُّكْرِ هُنا: الِاعْتِرافُ بِحَقِّ المُنْعِمِ، والثَّناءِ عَلَيْهِ، ولِذَلِكَ قابَلَهُ بِقَوْلِهِ: ﴿ولا تَكْفُرُونِ﴾ . وهُنا ثَلاثُ جُمَلٍ: جُمْلَةُ الأمْرِ بِالذِّكْرِ، وجُمْلَةُ الأمْرِ بِالشُّكْرِ، وجُمْلَةُ النَّهْيِ عَنِ الكُفْرانِ. فَبُدِئَ أوَّلًا بِجُمْلَةِ الذِّكْرِ؛ لِأنَّهُ أُرِيدَ بِهِ الثَّناءُ والمَدْحُ العامُّ والحَمْدُ لَهُ تَعالى، وذُكِرَ لَهُ جَوابٌ مُتَرَتِّبٌ عَلَيْهِ. وثَنّى بِجُمْلَةِ الشُّكْرِ؛ لِأنَّهُ ثَناءٌ عَلى شَيْءٍ خاصٍّ، وقَدِ انْدَرَجَ تَحْتَ الأوَّلِ، فَهو بِمَنزِلَةِ التَّوْكِيدِ، فَلَمْ يَحْتَجْ إلى جَوابٍ. وخَتَمَ بِجُمْلَةِ النَّهْيِ؛ لِأنَّهُ لَمّا أُمِرَ بِالشُّكْرِ، لَمْ يَكُنِ اللَّفْظُ لِيَدُلَّ عَلى عُمُومِ الأزْمانِ، ولا يُمْكِنُ التَّكْلِيفُ بِاسْتِحْضارِ الشُّكْرِ في كُلِّ زَمانٍ، فَقَدْ يُذْهَلُ الإنْسانُ عَنْ ذَلِكَ في كَثِيرٍ مِنَ الأوْقاتِ. ونَهى عَنِ الكُفْرانِ؛ لِأنَّ النَّهْيَ يَقْتَضِي الِامْتِناعَ مِنَ المَنهِيِّ عَنْهُ في كُلِّ الأزْمانِ، وذَلِكَ مُمْكِنٌ؛ لِأنَّهُ مِن بابِ التُّرُوكِ. وقَدْ تَقَدَّمَ لَنا الكَلامُ عَلى أنَّهُ إذا كانَ أمْرٌ ونَهْيٌ، بُدِئَ بِالأمْرِ. وذَكَرْنا الحِكْمَةَ في ذَلِكَ في قَوْلِهِ: ﴿وآمِنُوا بِما أنْزَلْتُ مُصَدِّقًا لِما مَعَكم ولا تَكُونُوا أوَّلَ كافِرٍ بِهِ﴾ [البقرة: ٤١]، فَأغْنى عَنْ إعادَتِهِ هُنا.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب