الباحث القرآني

﴿واذْكُرْ في الكِتابِ إبْراهِيمَ إنَّهُ كانَ صِدِّيقًا نَبِيئًا﴾ ﴿إذْ قالَ لِأبِيهِ يا أبَتِ لِمَ تَعْبُدُ ما لا يَسْمَعُ ولا يُبْصِرُ ولا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا﴾ قَدْ تَقَدَّمَ أنَّ مِن أهَمِّ ما اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ هَذِهِ السُّورَةُ التَّنْوِيهَ بِالأنْبِياءِ والرُّسُلِ السّالِفِينَ. وإذا كانَ إبْراهِيمُ - عَلَيْهِ السَّلامُ - أبا الأنْبِياءِ وأوَّلَ مَن أعْلَنَ التَّوْحِيدَ إعْلانًا باقِيًا، لِبِنائِهِ لَهُ هَيْكَلَ التَّوْحِيدِ وهو الكَعْبَةُ، كانَ ذِكْرُ إبْراهِيمَ مِن أغْراضِ السُّورَةِ. وذُكِرَ عَقِبَ قِصَّةِ عِيسى لِمُناسَبَةِ وُقُوعِ الرَّدِّ عَلى المُشْرِكِينَ في آخِرِ القِصَّةِ ابْتِداءً مِن قَوْلِهِ تَعالى ﴿فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِن مَشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ﴾ [مريم: ٣٧] إلى قَوْلِهِ ﴿إنّا نَحْنُ نَرِثُ الأرْضَ ومَن عَلَيْها﴾ [مريم: ٤٠] . ولَمّا كانَ إبْراهِيمُ قَدْ جاءَ بِالحَنِيفِيَّةِ وخالَفَها العَرَبُ بِالإشْراكِ وهم ورَثَةُ إبْراهِيمَ كانَ لِتَقْدِيمِ ذِكْرِهِ عَلى البَقِيَّةِ المَوْقِعُ الجَلِيلُ مِنَ البَلاغَةِ. وفِي ذَلِكَ تَسْلِيَةٌ لِلنَّبِيءِ ﷺ عَلى ما لَقِيَ مِن مُشْرِكِي قَوْمِهِ لِمُشابَهَةِ حالِهِمْ بِحالِ قَوْمِ إبْراهِيمَ. وقَدْ جَرى سَرْدُ خَبَرِ إبْراهِيمَ - عَلَيْهِ السَّلامُ - عَلى أُسْلُوبِ سَرْدِ قِصَّةِ مَرْيَمَ - عَلَيْها السَّلامُ - لِما في كُلٍّ مِنَ الأهَمِّيَّةِ كَما تَقَدَّمَ. (p-١١٢)وتَقَدَّمَ تَفْسِيرُ ﴿واذْكُرْ في الكِتابِ﴾ [مريم: ١٦] في أوَّلِ قِصَّةِ مَرْيَمَ. والصِّدِّيقُ بِتَشْدِيدِ الدّالِ صِيغَةُ مُبالَغَةٍ في الِاتِّصافِ، مِثْلُ المَلِكِ الضِّلِّيلِ لَقَبِ امْرِئِ القَيْسِ، وقَوْلِهِمْ: رَجُلٌ مِسِّيكٌ، أيْ شَحِيحٌ، ومِنهُ طَعامٌ حِرِّيفٌ، ويُقالُ: دَلِيلٌ خِرِّيتٌ، إذْ كانَ ذا حِذْقٍ بِالطُّرُقِ الخَفِيَّةِ في المَفاوِزِ، مُشْتَقًّا مِنَ الخَرْتِ وهو ثَقْبُ الشَّيْءِ كَأنَّهُ يَثْقُبُ المَسْدُوداتِ بِبَصَرِهِ. وتَقَدَّمَ في قَوْلِهِ تَعالى ﴿يُوسُفُ أيُّها الصِّدِّيقُ﴾ [يوسف: ٤٦] . وُصِفَ إبْراهِيمُ بِالصِّدِّيقِ لِفَرْطِ صِدْقِهِ في امْتِثالِ ما يُكَلِّفُهُ اللَّهُ تَعالى لا يَصُدُّهُ عَنْ ذَلِكَ ما قَدْ يَكُونُ عُذْرًا لِلْمُكَلَّفِ مِثْلَ مُبادَرَتِهِ إلى مُحاوَلَةِ ذَبْحِ ولَدِهِ حِينَ أمَرَهُ اللَّهُ بِذَلِكَ في وحْيِ الرُّؤْيا، فالصِّدْقُ هُنا بِمَعْنى بُلُوغِ نِهايَةِ الصِّفَةِ في المَوْصُوفِ بِها، كَما في قَوْلِ تَأبَّطَ شَرًّا. ؎إنِّي لَمُهْدٍ مِن ثَنائِي فَقاصِدٌ بِهِ لِابْنِ عَمِّ الصِّدْقِ شَمْسِ بْنِ مالِكِ وتَأْكِيدُ هَذا الخَبَرِ بِحَرْفِ التَّوْكِيدِ وبِإقْحامِ فِعْلِ الكَوْنِ لِلِاهْتِمامِ بِتَحْقِيقِهِ زِيادَةً في الثَّناءِ عَلَيْهِ. وجُمْلَةُ (إنَّهُ كانَ صِدِّيقًا نَبِيئًا) واقِعَةٌ مَوْقِعَ التَّعْلِيلِ لِلِاهْتِمامِ بِذِكْرِهِ في التِّلاوَةِ، وهَذِهِ الجُمْلَةُ مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَ المُبْدَلِ مِنهُ والبَدَلِ فَإنَّ إذا اسْمُ زَمانٍ وقَعَ بَدَلًا مِن إبْراهِيمَ، أيِ اذْكُرْ ذَلِكَ خُصُوصًا مِن أحْوالِ إبْراهِيمَ فَإنَّهُ أهَمُّ ما يُذْكَرُ فِيهِ لِأنَّهُ مَظْهَرُ صِدِّيقِيَّتِهِ إذْ خاطَبَ أباهُ بِذَلِكَ الإنْكارِ. والنَّبِيءُ: فَعِيلٌ بِمَعْنى مَفْعُولٍ، مِن أنْبَأهُ بِالخَبَرِ. والمُرادُ هُنا أنَّهُ مُنَبَّأٌ مِن جانِبِ اللَّهِ تَعالى بِالوَحْيِ. والأكْثَرُ أنْ يَكُونَ النَّبِيءُ مُرْسَلًا لِلتَّبْلِيغِ، وهو مَعْنًى شَرْعِيٌّ، فالنَّبِيءُ فِيهِ حَقِيقَةٌ عُرْفِيَّةٌ. وتَقَدَّمَ (p-١١٣)فِي سُورَةِ البَقَرَةِ عِنْدَ قَوْلِهِ (﴿إذْ قالُوا لِنَبِيءٍ لَهُمُ ابْعَثْ لَنا مَلِكًا﴾ [البقرة: ٢٤٦])، فَدَلَّ ذَلِكَ عَلى أنَّ قَوْلَهُ لِأبِيهِ ﴿يا أبَتِ لِمَ تَعْبُدُ ما لا يَسْمَعُ ولا يُبْصِرُ﴾ إنَّما كانَ عَنْ وحْيٍ مِنَ اللَّهِ لِيُبَلِّغَ قَوْمَهُ إبْطالَ عِبادَةِ الأصْنامِ. وقَرَأ الجُمْهُورُ (نَبِيئًا) بِياءٍ مُشَدَّدَةٍ بِتَخْفِيفِ الهَمْزَةِ ياءً لِثِقَلِها ولِمُناسَبَةِ الكَسْرَةِ. وقَرَأهُ نافِعٌ وحْدَهُ (نَبِيئًا) بِهَمْزَةٍ آخِرَهُ. وبِذَلِكَ تَصِيرُ الفاصِلَةُ القُرْآنِيَّةُ عَلى حَرْفِ الألِفِ، ومِثْلُ تِلْكَ الفاصِلَةِ كَثِيرٌ في فَواصِلِ القُرْآنِ. وقَوْلُهُ ﴿إذْ قالَ لِأبِيهِ﴾ إلَخْ. . . بَدَلُ اشْتِمالٍ مِن إبْراهِيمَ. وإذِ اسْمُ زَمانٍ مُجَرَّدٌ عَنِ الظَّرْفِيَّةِ لِأنَّ إذْ ظَرْفٌ مُتَصَرِّفٌ عَلى التَّحْقِيقِ. والمَعْنى: اذْكُرْ إبْراهِيمَ زَمانَ قَوْلِهِ لِأبِيهِ فَإنَّ ذَلِكَ الوَقْتَ أجْدَرُ أوْقاتِ إبْراهِيمَ بِأنْ يُذْكَرَ. وأبُو إبْراهِيمَ هو (آزارُ) تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ في سُورَةِ الأنْعامِ. وافْتَتَحَ إبْراهِيمُ خِطابَهُ أباهُ بِنِدائِهِ مَعَ أنَّ الحَضْرَةَ مُغْنِيَةٌ عَنِ النِّداءِ قَصْدًا لِإحْضارِ سَمْعِهِ وذِهْنِهِ لِتَلَقِّي ما سَيُلْقِيهِ إلَيْهِ. قالَ الجَدُّ الوَزِيرُ رَحِمَهُ اللَّهُ فِيما أمْلاهُ عَلَيَّ ذاتَ لَيْلَةٍ مِن عامِ ١٣١٨ هـ فَقالَ: عَلِمَ إبْراهِيمُ أنَّ في طَبْعِ أهْلِ الجَهالَةِ تَحْقِيرَهم لِلصَّغِيرِ كَيْفَما بَلَغَ حالُهُ في الحِذْقِ وبِخاصَّةٍ الآباءُ مَعَ أبْنائِهِمْ، فَتَوَجَّهَ إلى أبِيهِ بِخِطابِهِ بِوَصْفِ الأُبُوَّةِ إيماءً إلى أنَّهُ مُخْلِصٌ لَهُ النَّصِيحَةَ، وألْقى إلَيْهِ حُجَّةَ فَسادِ عِبادَتِهِ فَيُصَوِّرُهُ الِاسْتِفْهامُ عَنْ سَبَبِ عِبادَتِهِ وعَمَلِهِ المُخْطِئِ، مُنَبِّهًا عَلى خَطَئِهِ عِنْدَما يَتَأمَّلُ في عَمَلِهِ، فَإنَّهُ إنْ سَمِعَ ذَلِكَ وحاوَلَ بَيانَ سَبَبِ عِبادَةِ أصْنامِهِ لَمْ يَجِدْ لِنَفْسِهِ مَقالًا فَفَطِنَ بِخَطَلِ رَأْيِهِ (p-١١٤)وسَفاهَةِ حِلْمِهِ، فَإنَّهُ لَوْ عَبَدَ حَيًّا مُمَيِّزًا لَكانَتْ لَهُ شُبْهَةٌ ما. وابْتَدَأ بِالحُجَّةِ الرّاجِعَةِ إلى الحِسِّ إذْ قالَ لَهُ ﴿لِمَ تَعْبُدُ ما لا يَسْمَعُ ولا يُبْصِرُ﴾ فَذَلِكَ حُجَّةٌ مَحْسُوسَةٌ، ثُمَّ أتْبَعَها بِقَوْلِهِ ﴿ولا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا﴾، ثُمَّ انْتَقَلَ إلى دَفْعِ ما يُخالِجُ عَقْلَ أبِيهِ مِنَ النُّفُورِ عَنْ تَلَقِّي الإرْشادِ مِنِ ابْنِهِ بِقَوْلِهِ ﴿يا أبَتِ إنِّي قَدْ جاءَنِي مِنَ العِلْمِ ما لَمْ يَأْتِكَ فاتَّبِعْنِي أهْدِكَ صِراطًا سَوِيًّا﴾ [مريم: ٤٣]، فَلَمّا قَضى حَقَّ ذَلِكَ انْتَقَلَ إلى تَنْبِيهِهِ عَلى أنَّ ما هو فِيهِ أثَرٌ مِن وساوِسِ الشَّيْطانِ، ثُمَّ ألْقى إلَيْهِ حُجَّةً لائِقَةً بِالمُتَصِلِّبِينَ في الضَّلالِ بِقَوْلِهِ ﴿يا أبَتِ إنِّيَ أخافُ أنْ يَمَسَّكَ عَذابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطانِ ولِيًّا﴾ [مريم: ٤٥]، أيْ إنَّ اللَّهَ أبْلَغَ إلَيْكَ الوَعِيدَ عَلى لِسانِي، فَإنْ كُنْتَ لا تَجْزِمُ بِذَلِكَ فافْرِضْ وُقُوعَهُ فَإنَّ أصْنامَكَ لَمْ تَتَوَعَّدْكَ عَلى أنْ تُفارِقَ عِبادَتَها. وهَذا كَما في الشِّعْرِ المَنسُوبِ إلى عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: ؎زَعَمَ المُنَجِّمُ والطَّبِيبُ كِلاهُما ∗∗∗ لا تُحْشَرُ الأجْسامُ قُلْتُ: إلَيْكُما ؎إنْ صَحَّ قَوْلُكُما فَلَسْتُ بِخاسِرٍ ∗∗∗ أوْ صَحَّ قَوْلِي فالخَسارُ عَلَيْكُما قالَ: وفي النِّداءِ بِقَوْلِهِ يا أبَتِ أرْبَعَ مَرّاتٍ تَكْرِيرٌ اقْتَضاهُ مَقامُ اسْتِنْزالِهِ إلى قَبُولِ المَوْعِظَةِ لِأنَّها مَقامُ إطْنابٍ. ونُظِّرَ ذَلِكَ بِتَكْرِيرِ لُقْمانَ قَوْلَهُ يا بُنَيَّ ثَلاثَ مَرّاتٍ، قالَ: بِخِلافِ قَوْلِ نُوحٍ لِابْنِهِ ﴿يا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنا﴾ [هود: ٤٢] مَرَّةً واحِدَةً دُونَ تَكْرِيرٍ لِأنَّ ضِيقَ المَقامِ يَقْتَضِي الإيجازَ وهَذا مِن طُرُقُ الإعْجازِ. انْتَهى كَلامُهُ بِما يُقارِبُ لَفْظَهُ. وأقُولُ: الوَجْهُ ما بُنِيَ عَلَيْهِ مِن أنَّ الِاسْتِفْهامَ مُسْتَعْمَلٌ في حَقِيقَتِهِ، كَما أشارَ إلَيْهِ صاحِبُ الكَشّافِ، ومُكَنًّى بِهِ عَنْ نَفْيِ العِلَّةِ المَسْئُولِ عَنْها بِقَوْلِهِ لِمَ تَعْبُدُ، فَهو كِنايَةٌ عَنِ التَّعْجِيزِ عَنْ إبْداءِ المَسْئُولِ عَنْهُ، فَهو مِنَ التَّوْرِيَةِ في مَعْنَيَيْنِ يَحْتَمِلُهُما الِاسْتِفْهامُ. (p-١١٥)وأبَتِ: أصْلُهُ أبِي، حَذَفُوا ياءَ المُتَكَلِّمِ وعَوَّضُوا عَنْها تاءً تَعْوِيضًا عَلى غَيْرِ قِياسٍ، وهو خاصٌّ بِلَفْظِ الأبِ والأُمِّ في النِّداءِ خاصَّةً، ولَعَلَّهُ صِيغَةٌ باقِيَةٌ مِنَ العَرَبِيَّةِ القَدِيمَةِ. ورَأى سِيبَوَيْهِ أنَّ التّاءَ تَصِيرُ في الوَقْفِ هاءً، وخالَفَهُ الفَرّاءُ فَقالَ: بِبَقائِها في الوَقْفِ. والتّاءُ مَكْسُورَةٌ في الغالِبِ لِأنَّها عِوَضٌ عَنِ الياءِ والياءُ بِنْتُ الكَسْرَةِ ولَمّا كَسَرُوها فَتَحُوا الياءَ وبِذَلِكَ قَرَأ الجُمْهُورُ. وقَرَأ ابْنُ عامِرٍ، وأبُو جَعْفَرٍ (يا أبَتَ) بِفَتْحِ التّاءِ دُونَ ألِفٍ بَعْدَها، بِناءً عَلى أنَّهم يَقُولُونَ (يا أبَتا) بِألِفٍ بَعْدِ التّاءِ لِأنْ ياءَ المُتَكَلِّمِ إذا نُودِيَ يَجُوزُ فَتْحُها وإشْباعُ فَتَحْتِها فَقَرَأهُ عَلى اعْتِبارِ حَذْفِ الألِفِ تَخْفِيفًا وبَقاءِ الفَتْحَةِ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب