الباحث القرآني

﴿واذْكُرْ في الكِتابِ مَرْيَمَ إذِ انْتَبَذَتْ مِن أهْلِها مَكانًا شَرْقِيًّا﴾ ﴿فاتَّخَذَتْ مِن دُونِهِمْ حِجابًا فَأرْسَلْنا إلَيْها رُوحَنا فَتَمَثَّلَ لَها بَشَرًا سَوِيًّا﴾ ﴿قالَتْ إنِّيَ أعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنكَ إنْ كُنْتَ تَقِيًّا﴾ ﴿قالَ إنَّما أنا رَسُولُ رَبِّكَ لِأهَبَ لَكَ غُلامًا زَكِيًّا﴾ ﴿قالَتْ أنّى يَكُونُ لِي غُلامٌ ولَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ ولَمْ أكُ بَغِيًّا﴾ ﴿قالَ كَذَلِكِ قالَ رَبُّكَ هو عَلَيَّ هَيِّنٌ ولِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنّاسِ ورَحْمَةً مِنّا وكانَ أمْرًا مَقْضِيًّا﴾ جُمْلَةُ ﴿واذْكُرْ في الكِتابِ مَرْيَمَ﴾ عَطْفٌ عَلى جُمْلَةِ ﴿ذِكْرُ رَحْمَةِ رَبِّكَ﴾ [مريم: ٢] عَطْفَ القِصَّةِ عَلى القِصَّةِ فَلا يُراعى حُسْنُ اتِّحادِ الجُمْلَتَيْنِ في الخَبَرِيَّةِ والإنْشائِيَّةِ، عَلى أنَّ ذَلِكَ الِاتِّحادَ لَيْسَ بِمُلْتَزِمٍ. عَلى أنَّكَ عَلِمْتَ أنَّ الأحْسَنَ أنْ يَكُونَ قَوْلُهُ (﴿ذِكْرُ رَحْمَةِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيّاءَ﴾ [مريم: ٢]) مَصْدَرًا وقَعَ بَدَلًا مِن فِعْلِهِ. (p-٧٩)والمُرادُ بِالذِّكْرِ: التِّلاوَةُ، أيِ اتْلُ خَبَرَ مَرْيَمَ الَّذِي نَقُصُّهُ عَلَيْكَ. وفِي افْتِتاحِ القِصَّةِ بِهَذا زِيادَةُ اهْتِمامٍ بِها وتَشْوِيقٍ لِلسّامِعِ أنْ يَتَعَرَّفَها ويَتَدَبَّرَها. والكِتابُ: القُرْآنُ، لِأنَّ هَذِهِ القِصَّةَ مِن جُمْلَةِ القُرْآنِ. وقَدِ اخْتَصَّتْ هَذِهِ السُّورَةُ بِزِيادَةِ كَلِمَةِ ﴿فِي الكِتابِ﴾ بَعْدَ كَلِمَةِ واذْكُرْ. وفائِدَةُ ذَلِكَ التَّنْبِيهُ إلى أنَّ ذِكْرَ مَن أمَرَ بِذِكْرِهِمْ كائِنٌ بِآياتِ القُرْآنِ ولَيْسَ مُجَرَّدَ ذِكْرِ فَضْلِهِ في كَلامٍ آخَرَ مِن قَوْلِ النَّبِيءِ ﷺ كَقَوْلِهِ «لَوْ لَبِثْتُ ما لَبِثَ يُوسُفُ في السِّجْنِ لَأجَبْتُ الدّاعِيَ» . ولَمْ يَأْتِ مِثْلُ هَذِهِ الجُمْلَةِ في سُورَةٍ أُخْرى لِأنَّهُ قَدْ حَصَلَ عِلْمُ المُرادِ في هَذِهِ السُّورَةِ فَعُلِمَ أنَّهُ المُرادُ في بَقِيَّةِ الآياتِ الَّتِي جاءَ فِيها لَفْظُ اذْكُرْ. ولَعَلَّ سُورَةَ مَرْيَمَ هي أوَّلُ سُورَةٍ أتى فِيها لَفْظُ واذْكُرْ في قَصَصِ الأنْبِياءِ فَإنَّها السُّورَةُ الرّابِعَةُ والأرْبَعُونَ في عَدَدِ نُزُولِ السُّوَرِ.و (إذْ) ظَرْفٌ مُتَعَلِّقٌ بِـ (اذْكُرْ) بِاعْتِبارِ تَضَمُّنِهِ مَعْنى القِصَّةِ والخَبَرِ، ولَيْسَ مُتَعَلِّقًا بِهِ في ظاهِرِ مَعْناهُ لِعَدَمِ صِحَّةِ المَعْنى. ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ (إذْ) مُجَرَّدَ اسْمِ زَمانٍ غَيْرَ ظَرْفٍ ويُجْعَلَ بَدَلًا مِن مَرْيَمَ، أيِ اذْكُرْ زَمَنَ انْتِباذِها مَكانًا شَرْقِيًّا. وقَدْ تَقَدَّمَ مِثْلُهُ في قَوْلِهِ (﴿ذِكْرُ رَحْمَةِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيّاءَ إذْ نادى رَبَّهُ﴾ [مريم: ٢]) . والِانْتِباذُ: الِانْفِرادُ والِاعْتِزالُ، لِأنَّ النَّبْذَ: الإبْعادُ والطَّرْحُ، فالِانْتِباذُ في الأصْلِ افْتِعالٌ مُطاوِعُ نَبَذَهُ، ثُمَّ أُطْلِقَ عَلى الفِعْلِ الحاصِلِ بِدُونِ سَبْقِ فاعِلٍ لَهُ. وانْتَصَبَ مَكانًا عَلى أنَّهُ مَفْعُولُ انْتَبَذَتْ لِتَضَمُّنِهِ مَعْنى حَلَّتْ. ويَجُوزُ نَصْبُهُ عَلى الظَّرْفِيَّةِ لِما فِيهِ مِنَ الإبْهامِ. والمَعْنى: ابْتَعَدَتْ عَنْ أهْلِها في مَكانٍ شَرْقِيٍّ. (p-٨٠)ونُكِّرَ المَكانُ إبْهامًا لَهُ لِعَدَمِ تَعَلُّقِ الغَرَضِ بِتَعْيِينِ نَوْعِهِ إذْ لا يُفِيدُ كَمالًا في المَقْصُودِ مِنَ القِصَّةِ. وأمّا التَّصَدِّي لِوَصْفِهِ بِأنَّهُ شَرْقِيٌّ فَلِلتَّنْبِيهِ عَلى أصْلِ اتِّخاذِ النَّصارى الشَّرْقَ قِبْلَةً لِصَلَواتِهِمْ إذْ كانَ حَمْلُ مَرْيَمَ بِعِيسى في مَكانٍ مِن جِهَةِ مَشْرِقِ الشَّمْسِ. كَما قالَ ابْنُ عَبّاسٍ: إنِّي لَأعْلَمُ خَلْقِ اللَّهِ لِأيِّ شَيْءٍ اتَّخَذَتِ النَّصارى الشَّرْقَ قِبْلَةً لِقَوْلِهِ تَعالى ﴿مَكانًا شَرْقِيًّا﴾ أيْ أنَّ ذَلِكَ الِاسْتِقْبالَ لَيْسَ بِأمْرٍ مِنَ اللَّهِ تَعالى. فَذِكْرُ كَوْنِ المَكانِ شَرْقِيًّا نُكْتَةٌ بَدِيعَةٌ مِن تارِيخِ الشَّرائِعِ مَعَ ما فِيهِ مِن مُؤاخاةِ الفَواصِلِ. واتِّخاذُ الحِجابِ: جَعْلُ شَيْءٍ يُحْجَبُ عَنِ النّاسِ. قِيلَ: إنَّها احْتَجَبَتْ لِتَغْتَسِلَ وقِيلَ لِتَمْتَشِطَ. والرُّوحُ: المَلَكُ، لِأنَّ تَعْلِيقَ الإرْسالِ بِهِ وإضافَتَهُ إلى ضَمِيرِ الجَلالَةِ دَلّا عَلى أنَّهُ مِنَ المَلائِكَةِ وقَدْ تَمَثَّلَ لَها بَشَرًا. والتَّمَثُّلُ: تَكَلُّفُ المُماثَلَةِ، أيْ أنَّ ذَلِكَ الشَّكْلَ لَيْسَ شَكْلَ المَلَكَ بِالأصالَةِ. و(بَشَرًا) حالٌ مِن ضَمِيرِ (تَمَثَّلَ)، وهو حالٌ عَلى مَعْنى التَّشْبِيهِ البَلِيغِ. والبَشَرُ: الإنْسانُ. قالَ تَعالى ﴿إنِّي خالِقٌ بَشَرًا مِن طِينٍ﴾ [ص: ٧١] أيْ خالِقٌ آدَمَ - عَلَيْهِ السَّلامُ - . والسَّوِيُّ: المُسَوّى، أيِ التّامُّ الخَلْقِ. وإنَّما تَمَثَّلَ لَها كَذَلِكَ لِلتَّناسُبِ بَيْنَ كَمالِ الحَقِيقَةِ وكَمالِ الصُّورَةِ، ولِلْإشارَةِ إلى كَمالِ عِصْمَتِها إذْ قالَتْ ﴿إنِّي أعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنكَ إنْ كُنْتَ تَقِيًّا﴾، إذْ لَمْ يَكُنْ في صُورَتِهِ ما يُكْرَهُ لِأمْثالِها، لِأنَّها حَسِبَتْ أنَّهُ بَشَرٌ اخْتَبَأ لَها لِيُراوِدَها (p-٨١)عَنْ نَفْسِها، فَبادَرَتْهُ بِالتَّعَوُّذِ مِنهُ قَبْلَ أنْ يُكَلِّمَها مُبادَرَةً بِالإنْكارِ عَلى ما تَوَهَّمَتْهُ مِن قَصْدِهِ الَّذِي هو المُتَبادِرُ مِن أمْثالِهِ في مِثْلِ تِلْكَ الحالَةِ. وجُمْلَةُ ﴿إنِّي أعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنكَ﴾ خَبَرِيَّةٌ، ولِذَلِكَ أُكِّدَتْ بِحَرْفِ التَّأْكِيدِ. والمَعْنى: أنَّها أخْبَرَتْهُ بِأنَّها جَعَلَتِ اللَّهَ مَعاذًا لَها مِنهُ، أيْ جَعَلَتْ جانِبَ اللَّهِ مَلْجَأً لَها مِمّا هَمَّ بِهِ. وهَذِهِ مَوْعِظَةٌ لَهُ. وذِكْرُها صِفَةَ الرَّحْمَنِ دُونَ غَيْرِها مِن صِفاتِ اللَّهِ لِأنَّها أرادَتْ أنْ يَرْحَمَها اللَّهُ بِدَفْعِ مَن حَسِبَتْهُ داعِرًا عَلَيْها. وقَوْلُها ﴿إنْ كُنْتَ تَقِيًّا﴾ تَذْكِيرٌ لَهُ بِالمَوْعِظَةِ بِأنَّ عَلَيْهِ أنْ يَتَّقِيَ رَبَّهُ. ومَجِيءُ هَذا التَّذْكِيرِ بِصِيغَةِ الشَّرْطِ المُؤْذِنِ بِالشَّكِّ في تَقْواهُ قَصْدٌ لِتَهْيِيجِ خَشْيَتِهِ. وكَذَلِكَ اجْتِلابُ فِعْلِ الكَوْنِ الدّالِّ عَلى كَوْنِ التَّقْوى مُسْتَقِرَّةً فِيهِ. وهَذا أبْلَغُ وعْظٍ وتَذْكِيرٍ وحَثٍّ عَلى العَمَلِ بِتَقْواهُ. والقَصْرُ في قَوْلِهِ ﴿إنَّما أنا رَسُولُ رَبِّكِ﴾ قَصْرٌ إضافِيٌّ، أيْ لَسْتُ بَشَرًا، رَدًّا عَلى قَوْلِها ﴿إنْ كُنْتَ تَقِيًّا﴾ المُقْتَضِي اعْتِقادَها أنَّهُ بَشَرٌ. وقَرَأ الجُمْهُورُ لِأهَبَ بِهَمْزَةِ المُتَكَلِّمِ بَعْدَ لامِ العِلَّةِ. ومَعْنى إسْنادِ الهِبَةِ إلى نَفْسِهِ مَجازٌ عَقْلِيٌّ لِأنَّهُ سَبَبُ هَذِهِ الهِبَةِ. وقَرَأهُ أبُو عَمْرٍو، ووَرْشٌ عَنْ نافِعٍ (لِيَهَبَ) بِياءِ الغائِبِ، أيْ لِيَهَبَ رَبُّكِ لَكِ، مَعَ أنَّها مَكْتُوبَةٌ في المُصْحَفِ بِألِفٍ. وعِنْدِي أنَّ قِراءَةَ هَؤُلاءِ بِالياءِ بَعْدَ اللّامِ إنَّما هي نُطْقُ الهَمْزَةِ المُخَفَّفَةِ بَعْدَ كَسْرِ اللّامِ بِصُورَةِ نُطْقِ الياءِ. ومُحاوَرَتُها المَلَكَ مُحاوَلَةٌ قَصَدَتْ بِها صَرْفَهُ عَمّا جاءَ لِأجْلِهِ، لِأنَّها عَلِمَتْ أنَّهُ مُرْسَلٌ مِنَ اللَّهِ فَأرادَتْ مُراجَعَةَ رَبِّها في أمْرٍ لَمْ تُطِقْهُ (p-٨٢)كَما راجَعَهُ إبْراهِيمُ - عَلَيْهِ السَّلامُ - في قَوْمِ لُوطٍ. وكَما راجَعَهُ مُحَمَّدٌ ﷺ في فَرْضِ خَمْسِينَ صَلاةً. ومَعْنى المُحاوَرَةِ أنَّ ذَلِكَ يَجُرُّ لَها ضُرًّا عَظِيمًا إذْ هي مَخْطُوبَةٌ لِرَجُلٍ ولَمْ يَبْنِ بِها فَكَيْفَ يَتَلَقّى النّاسُ مِنها الإتْيانَ بِوَلَدٍ مِن غَيْرِ أبٍ مَعْرُوفٍ. وقَوْلُها ﴿ولَمْ أكُ بَغِيًّا﴾ تَبْرِئَةٌ لِنَفْسِها مِنَ البِغاءِ بِما يَقْتَضِيهِ فِعْلُ الكَوْنِ مِن تَمَكُّنِ الوَصْفِ الَّذِي هو خَبَرُ الكَوْنِ، والمَقْصُودُ مِنهُ تَأْكِيدُ النَّفْيِ. فَمُفادُ قَوْلِها ﴿ولَمْ أكُ بَغِيًّا﴾ غَيْرُ مُفادِ قَوْلِها ﴿ولَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ﴾، وهو مِمّا زادَتْ بِهِ هَذِهِ القِصَّةُ عَلى ما في قِصَّتِها في سُورَةِ آلِ عِمْرانَ، لِأنَّ قِصَّتَها في سُورَةِ آلِ عِمْرانَ نَزَلَتْ بَعْدَ هَذِهِ فَصَحَّ الِاجْتِزاءُ في القِصَّةِ بِقَوْلِها ﴿ولَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ﴾ . وقَوْلُها ﴿ولَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ﴾ أيْ لَمْ يَبْنِ بِي زَوْجٌ، لِأنَّها كانَتْ مَخْطُوبَةً ومُراكِنَةً لِيُوسُفَ النَّجّارِ ولَكِنَّهُ لَمْ يَبْنِ بِها فَإذا حَمَلَتْ بِوَلَدٍ اتَّهَمَها خَطِيبُها وأهْلُها بِالزِّنى. وأمّا قَوْلُها ﴿ولَمْ أكُ بَغِيًّا﴾ فَهو نَفْيٌ لِأنْ تَكُونَ بَغِيًّا مِن قَبْلِ تِلْكَ السّاعَةِ، فَلا تَرْضى بِأنْ تُرْمى بِالبِغاءِ بَعْدَ ذَلِكَ. فالكَلامُ كِنايَةٌ عَنِ التَّنَزُّهِ عَنِ الوَصْمِ بِالبِغاءِ بِقاعِدَةِ الِاسْتِصْحابِ. والمَعْنى: ما كُنْتُ بَغِيًّا فِيما مَضى أفَأعِدُ بَغِيًّا فِيما يُسْتَقْبَلُ. ولِلْمُفَسِّرِينَ في هَذا المَقامِ حَيْرَةٌ ذَكَرَها الفَخْرُ والطِّيبِيُّ، وفِيما ذَكَرْنا مَخْرَجٌ مِن مَأْزِقِها. ولَيْسَ كَلامُ مَرْيَمَ مَسُوقًا مَساقَ الِاسْتِبْعادِ مِثْلَ قَوْلِ زَكَرِيّاءَ ﴿أنّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وكانَتِ امْرَأتِي عاقِرًا﴾ [مريم: ٨] لِاخْتِلافِ الحالَيْنِ لِأنَّ حالَ زَكَرِيّاءَ حالُ راغِبٍ في حُصُولِ الوَلَدِ، وحالُ مَرْيَمَ حالُ مُتَشائِمٍ مِنهُ مُتَبَرِّئٍ مِن حُصُولِهِ. والبَغِيُّ: اسْمٌ لِلْمَرْأةِ الزّانِيَةِ، ولِذَلِكَ لَمْ تَتَّصِلْ بِهِ هاءُ التَّأْنِيثِ، ووَزْنُهُ فَعِيلٌ أوْ فَعَوْلٌ بِمَعْنى فاعِلٍ فَيَكُونُ أصْلُهُ بَغُوي. لِأنَّهُ مِنَ (p-٨٣)البَغْيِ فَلَمّا اجْتَمَعَ الواوُ والياءُ وسَكَنَ السّابِقُ مِنهُما قُلِبَتِ الواوُ ياءً وأُدْغِمَتْ في الياءِ الأصْلِيَّةِ وعُوِّضَ عَنْ ضَمَّةِ الغَيْنِ كَسْرَةً لِمُناسَبَةِ الياءِ فَصارَ بَغِيٌّ. وجَوابُ المَلَكِ مَعْناهُ: أنَّ الأمْرَ كَما قُلْتُ، نَظِيرَ قَوْلِهِ في قِصَّةِ زَكَرِيّاءَ ﴿كَذَلِكِ قالَ رَبُّكِ هو عَلَيَّ هَيِّنٌ﴾، وهو عُدُولٌ عَنْ إبْطالِ مُرادِها مِنَ المُراجَعَةِ إلى بَيانِ هَوْنِ هَذا الخَلْقِ في جانِبِ القُدْرَةِ عَلى طَرِيقَةِ الأُسْلُوبِ الحَكِيمِ. وفِي قَوْلِهِ ﴿هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ﴾ تَوْجِيهٌ بِأنَّ ما اشْتَكَتْهُ مِن تَوَقُّعِ ضِدِّ قَوْلِها وطَعْنِهِمْ في عِرْضِها لَيْسَ بِأمْرٍ عَظِيمٍ في جانِبِ ما أرادَ اللَّهُ مِن هُدى النّاسِ لِرِسالَةِ عِيسى - عَلَيْهِ السَّلامُ - بِأنَّ اللَّهَ تَعالى لا يَصْرِفُهُ عَنْ إنْفاذِ مُرادِهِ ما عَسى أنْ يَعْرِضَ مِن ضُرٍّ في ذَلِكَ لِبَعْضِ عَبِيدِهِ، لِأنَّ مُراعاةَ المَصالِحِ العامَّةِ تُقَدَّمُ عَلى مُراعاةِ المَصالِحِ الخاصَّةِ. فَضَمِيرُ ﴿هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ﴾ عائِدٌ إلى ما تَضَمَّنَهُ حِوارُها مِن لِحاقِ الضُّرِّ بِها كَما فَسَّرْنا بِهِ قَوْلَها ﴿ولَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ ولَمْ أكُ بَغِيًّا﴾ . فَبَيْنَ جَوابِ المَلَكِ إيّاها وبَيْنَ جَوابِ اللَّهِ زَكَرِيّاءَ اخْتِلافٌ في المَعْنى. والكَلامُ في المَوْضُوعَيْنِ عَلى لِسانِ المَلَكِ مِن عِنْدِ اللَّهِ، ولَكِنَّهُ أُسْنِدَ في قِصَّةِ زَكَرِيّاءَ إلى اللَّهِ لِأنَّ كَلامَ المَلَكِ كانَ تَبْلِيغَ وحْيٍ عَنِ اللَّهِ جَوابًا مِنَ اللَّهِ عَنْ مُناجاةِ زَكَرِيّاءَ، وأُسْنِدَ في هَذِهِ القِصَّةِ إلى المَلَكِ لِأنَّهُ جَوابٌ عَنْ خِطابِها إيّاهُ. وقَوْلُهُ ولِنَجْعَلَهُ عَطْفٌ عَلى ﴿فَأرْسَلْنا إلَيْها رُوحَنا﴾ بِاعْتِبارِ ما في ذَلِكَ مِن قَوْلِ الرُّوحِ لَها ﴿لِأهَبَ لَكِ غُلامًا زَكِيًّا﴾، أيْ لِأنَّ هِبَةَ الغُلامِ الزَّكِيِّ كَرامَةٌ مِنَ اللَّهِ لَها، وجَعْلَهُ آيَةً لِلنّاسِ ورَحْمَةً كَرامَةٌ لِلْغُلامِ، فَوَقَعَ التِفاتٌ مِن طَرِيقَةِ الغَيْبَةِ إلى طَرِيقَةِ التَّكَلُّمِ. (p-٨٤)وجُمْلَةُ ﴿وكانَ أمْرًا مَقْضِيًّا﴾ يَجُوزُ أنْ تَكُونَ في قَوْلِ المَلَكِ، ويَجُوزُ أنْ تَكُونَ مُسْتَأْنَفَةً. وضَمِيرُ كانَ عائِدٌ إلى الوَهْبِ المَأْخُوذِ مِن قَوْلِهِ ﴿لِأهَبَ لَكِ غُلامًا﴾ . وهَذا قَطْعٌ لِلْمُراجَعَةِ وإنْباءٌ بِأنَّ التَّخْلِيقَ قَدْ حَصَلَ في رَحِمِها.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب