الباحث القرآني

﴿قالَتْ إنِّي أعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنكَ﴾ فَإنَّهُ شاهِدُ عَدْلٍ بِأنَّهُ لَمْ يَخْطُرْ بِبالِها شائِبَةُ مَيْلٍ ما إلَيْهِ فَضْلًا عَنِ الحالَةِ المُتَرَتِّبَةِ عَلى أقْصى مَراتِبِ المَيْلِ والشَّهْوَةِ، نَعَمْ كانَ تَمَثُّلُهُ عَلى ذَلِكَ الحُسْنِ الفائِقِ والجَمالِ الرّائِقِ لِأنَّ عادَةَ المَلَكِ إذا تَمَثَّلَ أنْ يَتَمَثَّلَ بِصُورَةِ بَشَرٍ جَمِيلٍ كَما كانَ يَأْتِي النَّبِيَّ ﷺ في صُورَةِ دِحْيَةَ رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُ أوْ لِابْتِلائِها وسَبْرِ عِفَّتِها ولَقَدْ ظَهَرَ مِنها مِنَ الوَرَعِ والعَفافِ ما لا غايَةَ وراءَهُ، وإرادَةُ القائِلِ أنَّهُ وقَعَ كَذَلِكَ لِيَكُونَ مَظِنَّةً لِما ذُكِرَ فَيَظْهَرُ خِلافُهُ فَيَكُونُ أقْوى في نَزاهَتِها بَعِيدٌ جِدًّا عَنْ كَلامِهِ. وقالَ بَعْضُ المُتَأخِّرِينَ: إنَّ اسْتِعاذَتَها بِاللَّهِ تَعالى تُنْبِئُ عَنْ تَهْيِيجِ شَهْوَتِها ومَيَلانِها إلَيْهِ مَيْلًا طَبِيعِيًّا عَلى ما قالَ تَعالى حِكايَةً عَنْ يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلامُ ﴿وإلا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أصْبُ إلَيْهِنَّ﴾ فَقَدْ قِيلَ: المُرادُ بِالصَّبْوَةِ (p-76)فِيهِ المَيْلُ بِمُقْتَضى الطَّبِيعَةِ وحُكْمِ القُوَّةِ الشَّهَوِيَّةِ، ثُمَّ إنَّهُ لا يُنافِي عِفَّتَها بَلْ يُحَقِّقُها لِكَوْنِهِ طَبِيعِيًّا اضْطِرارِيًّا غَيْرَ داخِلٍ تَحْتَ التَّكْلِيفِ كَما قِيلَ في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿وهَمَّ بِها﴾ ومَعَ هَذا قَدِ اسْتَعاذَ يُوسُفُ عَلَيْهِ السَّلامُ بِما حَكى اللَّهُ تَعالى عَنْهُ مِن قَوْلِهِ تَعالى ﴿قالَ مَعاذَ اللَّهِ إنَّهُ رَبِّي أحْسَنَ مَثْوايَ﴾ فَدَعْوى أنَّ الِاسْتِعاذَةَ تُكَذِّبُ التَّهْيِيجَ والمَيْلَ الطَّبِيعِيَّ كَذِبٌ، والقَوْلُ بِأنَّهُ يَأْبى ذَلِكَ مَقامُ بَيانِ آثارِ القُدْرَةِ الخارِقَةِ لِلْعادَةِ لَيْسَ بِشَيْءٍ لِأنَّ خَلْقَ الإنْسانِ مِن ماءٍ واحِدٍ أثَرٌ مِن آثارِ القُدْرَةِ الخارِقَةِ لِلْعادَةِ أيْضًا. والأسْبابُ في هَذا المَقامِ لَيْسَتْ بِمَرْفُوضَةٍ بِالكُلِّيَّةِ كَما يُرْشِدُ إلى ذَلِكَ قِصَّةُ يَحْيى عَلَيْهِ السَّلامُ. عَلى أنَّهُ قَدْ يَدَّعِي أنَّ خَلْقَ شَيْءٍ لا مِن شَيْءٍ أصْلًا مُحالٌ فَلا يَكُونُ مِن مَراتِبِ القُدْرَةِ ومادَّةِ الجَعْلِ الإبْداعِيِّ الأعْيانُ الثّابِتَةُ وهي قَدِيمَةٌ ا هـ، ولا يَخْلُو عَنْ بَحْثٍ، وما ذَكَرْناهُ في التَّعْلِيلِ أسْلَمُ مِنَ القالِ والقِيلِ فَتَدَبَّرْ، ونُصِبَ ( بَشَرًا ) عَلى الحالِيَّةِ المُقَدَّرَةِ أوِ التَّمْيِيزِ، وقِيلَ عَلى المَفْعُولِيَّةِ بِتَضْمِينِ تَمَثَّلَ مَعْنى اتَّخَذَ، واسْتَشْكَلَ أمْرُ هَذا التَّمَثُّلِ بِأنَّ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلامُ شَخْصٌ عَظِيمُ الجُثَّةِ حَسْبَما نَطَقَتْ بِهِ الأخْبارُ فَمَتى صارَ في مِقْدارِ جُثَّةِ الإنْسانِ يَلْزَمُ أنْ لا يَبْقى جِبْرِيلُ إنْ تَساقَطَتِ الأجْزاءُ الزّائِدَةُ عَلى جُثَّةِ الإنْسانِ، وأنْ تَتَداخَلَ الأجْزاءُ إنْ لَمْ يَذْهَبْ شَيْءٌ وهو مُحالٌ. وأيْضًا لَوْ جازَ التَّمَثُّلُ ارْتَفَعَ الوُثُوقُ وامْتَنَعَ القَطْعُ بِأنَّ هَذا الشَّخْصَ الَّذِي يُرى الآنَ هو زَيْدٌ الَّذِي رُئِيَ أمْسِ لِاحْتِمالِ التَّمَثُّلِ، وأيْضًا لَوْ جازَ التَّمَثُّلُ بِصُورَةِ الإنْسانِ فَلِمَ لا يَجُوزُ تَمَثُّلُهُ بِصُورَةٍ أُخْرى غَيْرَ صُورَةِ الإنْسانِ ومِن ذَلِكَ البَعُوضِ ونَحْوِهِ ؟ ومَعْلُومٌ أنَّ كُلَّ مَذْهَبٍ يَجُرُّ إلى ذَلِكَ فَهو باطِلٌ، وأيْضًا لَوْ جازَ ذَلِكَ ارْتَفَعَ الوُثُوقُ بِالخَبَرِ المُتَواتِرِ كَخَبَرِ مُقاتَلَةِ النَّبِيِّ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ يَوْمَ بَدْرٍ لِجَوازِ أنْ يَكُونَ المُقاتِلُ المُتَمَثَّلَ بِهِ. وأُجِيبُ عَنِ الأوَّلِ بِأنَّهُ لا يَمْتَنِعُ أنْ يَكُونَ لِجِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلامُ أجْزاءٌ أصْلِيَّةٌ قَلِيلَةٌ وأجْزاءٌ فاضِلَةٌ، فَبِالأجْزاءِ الأصْلِيَّةِ يَكُونُ مُتَمَكِّنًا مِنَ التَّمَثُّلِ بَشَرًا هَذا عِنْدَ القائِلِينَ بِأنَّهُ جِسْمٌ، وأمّا عِنْدَ القائِلِينَ بِأنَّهُ رُوحانِيٌّ فَلا اسْتِبْعادَ في أنْ يَتَدَرَّعَ تارَةً بِالهَيْكَلِ العَظِيمِ وأُخْرى بِالهَيْكَلِ الصَّغِيرِ. وعَنِ الثّانِي بِأنَّهُ مُشْتَرِكُ الإلْزامِ بَيْنَ الكُلِّ، فَإنَّ مَنِ اعْتَرَفَ بِالصّانِعِ القادِرِ يَلْزَمُهُ ذَلِكَ أيْضًا إذْ يَجُوزُ أنْ يَخْلُقَ سُبْحانَهُ مِثْلَ زَيْدٍ مَثَلًا ومَعَ هَذا الجَوازِ يَرْتَفِعُ الوُثُوقُ ويَمْتَنِعُ القَطْعُ عَلى طَرْزِ ما تَقَدَّمَ. وكَذا مَن لَمْ يَعْتَرِفْ، وأسْنَدَ الحَوادِثَ إلى الِاتِّصالاتِ والتَّشَكُّلاتِ الفَلَكِيَّةِ يَلْزَمُهُ ذَلِكَ لِجَوازِ حُدُوثِ اتِّصالٍ يَقْتَضِي حُدُوثَ مِثْلِ ذَلِكَ وحِينَئِذٍ يَمْتَنِعُ القَطْعُ أيْضًا، ولَعَلَّهُ لَمّا كانَ مِثْلُ ذَلِكَ نادِرًا لَمْ يَلْزَمْ مِنهُ قَدْحٌ في العُلُومِ العادِيَّةِ المُسْتَنِدَةِ إلى الإحْساسِ، فَلا يَلْزَمُ الشَّكُّ أنَّ زَيْدًا الَّذِي نُشاهِدُهُ الآنَ هو الَّذِي شاهَدْناهُ بِالأمْسِ. وأُجِيبُ عَنِ الثّالِثِ بِأنَّ أصْلَ التَّجْوِيزِ قائِمٌ في العَقْلِ وإنَّما عُرِفَ فَسادُهُ بِدَلائِلِ السَّمْعِ، وهو الجَوابُ عَنِ الرّابِعِ كَذا قالَ الإمامُ الرّازِيُّ، وعِنْدِي أنَّ مَسْألَةَ التَّمَثُّلِ عَلى القَوْلِ بِالجِسْمِيَّةِ مِمّا يَنْبَغِي تَفْوِيضُ الأمْرِ فِيها إلى عَلّامِ الغُيُوبِ ولا سَبِيلَ لِلْعَقْلِ إلى الجَزْمِ فِيها بِشَيْءٍ تَنْشَرِحُ لَهُ القُلُوبُ. وإنَّما ذَكَرَتْهُ تَعالى بِعُنْوانِ الرَّحْمانِيَّةِ تَذْكِيرًا لِمَن رَأتْهُ بِالرَّحْمَةِ لِيَرْحَمَ ضَعْفَها وعَجْزَها عَنْ دَفْعِهِ أوْ مُبالَغَةً لِلْعِياذَةِ بِهِ تَعالى واسْتِجْلابًا لِآثارِ الرَّحْمَةِ الخاصَّةِ الَّتِي هي العِصْمَةُ مِمّا دَهَمَها. وما قِيلَ مِن أنَّ ذَلِكَ تَذْكِيرٌ لِمَن رَأتْ بِالجَزاءِ لِيَنْزَجِرَ فَإنَّهُ يُقالُ يا رَحْمَنَ الآخِرَةِ لَيْسَ بِشَيْءٍ لِأنَّهُ ورَدَ رَحْمَنُ الدُّنْيا والآخِرَةِ ورَحِيمُهُما ﴿إنْ كُنْتَ تَقِيًّا﴾ شَرْطٌ جَوابُهُ مَحْذُوفٌ ثِقَةٌ بِدَلالَةِ السِّياقِ عَلَيْهِ أيْ إنْ كانَ يُرْجى مِنكَ أنْ تَتَّقِيَ اللَّهَ تَعالى وتَخْشاهُ وتَحْتَفِلَ بِالِاسْتِعاذَةِ بِهِ فَإنِّي عائِذَةٌ بِهِ مِنكَ كَذا قَدَّرَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ. (p-77)وفِي الكَشْفِ أنَّهُ أشارَ إلى أنَّ وجْهَ هَذا الشَّرْطِ مَعَ أنَّ الِاسْتِعاذَةَ بِالرَّحْمَنِ إنْ لَمْ يَكُنْ تَقِيًّا أوْلى إنْ آثَرَ الِاسْتِجارَةَ بِاللَّهِ تَعالى أعَنِي مُكافَتَهُ وأمْنَها مِنهُ إنَّما يَتِمُّ ويَظْهَرُ بِالنِّسْبَةِ إلى المُتَّقِي، وفِيهِ دَلالَةٌ عَلى أنَّ التَّقْوى مِمّا تَقْتَضِي لِلْمُسْتَعِيذِ بِاللَّهِ تَعالى حَقَّ الذِّمامِ والمُحافَظَةَ وعَلى عِظَمِ مَكانِ التَّقْوى حَيْثُ جُعِلَتْ شَرْطًا لِلِاسْتِعاذَةِ لا تَتِمُّ دُونَها وقالَ: إنْ كانَ يُرْجى إظْهارًا لِمَعْنى أنْ وأنَّها إنَّما أُوثِرَتْ دَلالَةً عَلى أنَّ رَجاءَ التَّقْوى كانَ فَضْلًا عَنِ العِلْمِ بِها. والحاصِلُ أنَّ التَّقْوى لَمْ تُجْعَلْ شَرْطَ الِاسْتِعاذَةِ بَلْ شَرْطَ مَكافَتِهِ وأمْنَها مِنهُ، وكُنْتُ عَنْ ذَلِكَ بِالِاسْتِعاذَةِ بِاللَّهِ تَعالى حَثًّا لَهُ عَلى المَكافَةِ بِألْطَفِ وجْهٍ وأبْلَغِهِ وإنَّ مَن تَعَرَّضَ لِلْمُسْتَعِيذِ بِهِ فَقَدْ تَعَرَّضَ لِعَظِيمِ سُخْطِهِ انْتَهى. وقَدَّرَ الزَّجّاجُ إنْ كُنْتَ تَقِيًّا فَتَتَّعِظُ بِتَعْوِيذِي، والأوْلى عَلَيْهِ تَتَّعِظُ بِإسْقاطِ الفاءِ لِأنَّ المُضارِعَ الواقِعَ جَوابًا لا يَقْتَرِنُ بِالفاءِ فَيَحْتاجُ إلى جَعْلِهِ مَرْفُوعًا بِتَقْدِيرِ مُبْتَدَأٍ، وقَدَّرَ بَعْضُهم فاذْهَبْ عَنِّي وبَعْضُهم فَلا تَتَعَرَّضْ بِي، وقِيلَ: إنَّها أرادَتْ إنْ كُنْتَ تَقِيًّا مُتَوَرِّعًا فَإنِّي أعُوذُ مِنكَ، فَكَيْفَ إذا لَمْ تَكُنْ كَذَلِكَ وكَأنَّهُ أرادَ أنَّها اسْتَعاذَتْ بِهَذا الشَّرْطِ لِيَعْلَمَ اسْتِعاذَتَها بِما يُقابِلُهُ مِن بابٍ أوْلى، وقالَ الشِّهابُ: الظّاهِرُ أنَّ إنْ عَلى هَذا القَوْلِ وصْلِيَّةٌ وفي مَجِيئِها بِدُونِ الواوِ كَلامٌ، وذُكِرَ أنَّ الجُمْلَةَ عَلى هَذا حالِيَّةٌ والمَقْصُودُ بِها الِالتِجاءُ إلى اللَّهِ تَعالى مِن شَرِّهِ لا حَثُّهُ عَلى الِانْزِجارِ وقِيلَ نافِيَةٌ، والجُمْلَةُ اسْتِئْنافٌ في مَوْضِعِ التَّعْلِيلِ أيْ ما كُنْتَ تَقِيًّا مُتَوَرِّعًا بِحُضُورِكَ عِنْدِي وانْفِرادِكَ بِي، وهو خِلافُ الظّاهِرِ، وأيًّا ما كانَ فالتَّقِيُّ وصْفٌ مِنَ التَّقْوى، وقَوْلُ مَن قالَ: إنَّهُ اسْمُ رَجُلٍ صالِحٍ أوْ طالِحٍ لَيْسَ بِسَدِيدٍ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب