الباحث القرآني
(p-١٧)﴿ويَسْألُونَكَ عَنْ ذِي القَرْنَيْنِ قُلْ سَأتْلُو عَلَيْكم مِنهُ ذِكْرًا﴾ ﴿إنّا مَكَّنّا لَهُ في الأرْضِ وآتَيْناهُ مِن كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا﴾ افْتِتاحُ هَذِهِ القِصَّةِ بِـ ”يَسْألُونَكَ“ يَدُلُّ عَلى أنَّها مِمّا نَزَلَتِ السُّورَةُ لِلْجَوابِ عَنْهُ كَما كانَ الِابْتِداءُ بِقِصَّةِ أصْحابِ الكَهْفِ اقْتِضابًا تَنْبِيهًا عَلى مِثْلِ ذَلِكَ.
وقَدْ ذَكَرْنا عِنْدَ تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعالى ﴿ويَسْألُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِن أمْرِ رَبِّي﴾ [الإسراء: ٨٥] في سُورَةِ الإسْراءِ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ «أنَّ المُشْرِكِينَ بِمَكَّةَ سَألُوا النَّبِيءَ ﷺ ثَلاثَةَ أسْئِلَةٍ بِإغْراءٍ مِن أحْبارِ اليَهُودِ في يَثْرِبَ. فَقالُوا: سَلُوهُ عَنْ أهْلِ الكَهْفِ وعَنْ ذِي القَرْنَيْنِ وعَنِ الرُّوحِ فَإنْ أجابَ عَنْها كُلِّها فَلَيْسَ بِنَبِيءٍ وإنْ أجابَ عَنْ بَعْضِها وأمْسَكَ عَنْ بَعْضٍ فَهو نَبِيءٌ» ؟ . وبَيَّنّا هُنالِكَ وجْهَ التَّعْجِيلِ في سُورَةِ الإسْراءِ النّازِلَةِ قَبْلَ سُورَةِ الكَهْفِ بِالجَوابِ عَنْ سُؤالِهِمْ عَنِ الرُّوحِ وتَأْخِيرِ الجَوابِ عَنْ أهْلِ الكَهْفِ وعَنْ ذِي القَرْنَيْنِ إلى سُورَةِ الكَهْفِ. وأعْقَبْنا ذَلِكَ بِما رَأيْناهُ في تَحْقِيقِ الحَقِّ مِن سَوْقِ هَذِهِ الأسْئِلَةِ الثَّلاثَةِ في مَواقِعَ مُخْتَلِفَةٍ.
فالسّائِلُونَ: قُرَيْشٌ لا مَحالَةَ. والمَسْئُولُ عَنْهُ: خَبَرُ رَجُلٌ مِن عُظَماءِ العالَمِ عُرِفَ بِلَقَبِ ذِي القَرْنَيْنِ، كانَتْ أخْبارُ سِيرَتِهِ خَفِيَّةً مُجْمَلَةً مُغْلَقَةً، فَسَألُوا النَّبِيءَ عَنْ تَحْقِيقِها وتَفْصِيلِها. وأذِنَ لَهُ اللَّهُ أنْ يُبَيِّنَ مِنها ما هو مَوْضِعُ العِبْرَةِ لِلنّاسِ في شُئُونِ الصَّلاحِ والعَدْلِ، وفي عَجِيبِ صُنْعِ اللَّهِ تَعالى في اخْتِلافِ أحْوالِ الخَلْقِ، فَكانَ أحْبارُ اليَهُودِ مُنْفَرِدِينَ بِمَعْرِفَةٍ إجْمالِيَّةٍ عَنْ هَذِهِ المَسائِلِ الثَّلاثِ وكانَتْ مِن أسْرارِهِمْ فَلِذَلِكَ جَرَّبُوا بِها نُبُوَّةَ مُحَمَّدٍ ﷺ .
(p-١٨)ولَمْ يَتَجاوَزِ القُرْآنُ ذِكْرَ هَذا الرَّجُلِ بِأكْثَرِ مِن لَقَبِهِ المُشْتَهِرِ بِهِ إلى تَعْيِينِ اسْمِهِ وبِلادِهِ وقَوْمِهِ، لِأنَّ ذَلِكَ مِن شُئُونِ أهْلِ التّارِيخِ والقَصَصِ ولَيْسَ مِن أغْراضِ القُرْآنِ، فَكانَ مِنهُ الِاقْتِصارُ عَلى ما يُفِيدُ الأُمَّةَ مِن هَذِهِ القِصَّةِ عِبْرَةً حِكَمِيَّةً أوْ خُلُقِيَّةً فَلِذَلِكَ قالَ اللَّهُ: ﴿قُلْ سَأتْلُو عَلَيْكم مِنهُ ذِكْرًا﴾ . والمُرادُ بِالسُّؤالِ عَنْ ذِي القَرْنَيْنِ السُّؤالُ عَنْ خَبَرِهِ فَحُذِفَ المُضافُ إيجازًا لِدَلالَةِ المَقامِ، وكَذَلِكَ حُذِفَ المُضافُ في قَوْلِهِ مِنهُ أيْ مِن خَبَرِهِ و”مِن“ تَبْعِيضِيَّةٌ.
والذِّكْرُ: التَّذَكُّرُ والتَّفَكُّرُ، أيْ سَأتْلُو عَلَيْكم ما بِهِ التَّذَكُّرُ، فَجَعَلَ المَتْلُوَّ نَفْسَهُ ذِكْرًا مُبالَغَةً بِالوَصْفِ بِالمَصْدَرِ، ولَكِنَّ القُرْآنَ جاءَ بِالحَقِّ الَّذِي لا تَخْلِيطَ فِيهِ مِن حالِ الرَّجُلِ الَّذِي يُوصَفُ بِذِي القَرْنَيْنِ بِما فِيهِ إبْطالٌ لِما خَلَطَ بِهِ النّاسُ بَيْنَ أحْوالِ رِجالٍ عُظَماءَ كانُوا في عُصُورٍ مُتَقارِبَةٍ أوْ كانَتْ قَصَصُهم تُساقُ مَساقَ مَن جاسُوا خِلالَ بِلادٍ مُتَقارِبَةٍ مُتَماثِلَةٍ وشَوَّهُوا تَخْلِيطَهم بِالأكاذِيبِ، وأكْثَرُهم في ذَلِكَ صاحِبُ الشّاهْنامَةِ الفِرْدَوْسِيُّ وهو مَعْرُوفٌ بِالأكاذِيبِ والأوْهامِ الخُرافِيَّةِ.
اخْتَلَفَ المُفَسِّرُونَ في تَعْيِينِ المُسَمّى بِذِي القَرْنَيْنِ اخْتِلافًا كَثِيرًا تَفَرَّقَتْ بِهِمْ فِيهِ أخْبارٌ قَصَصِيَّةٌ وأخْبارٌ تارِيخِيَّةٌ واسْتِرْواحٌ مِنَ الِاشْتِقاقاتِ اللَّفْظِيَّةِ، ولَعَلَّ اخْتِلافَهم لَهُ مَزِيدُ اتِّصالٍ بِاخْتِلافِ القَصّاصِينَ الَّذِينَ عُنُوا بِأحْوالِ الفاتِحِينَ عِنايَةَ تَخْلِيطٍ لا عِنايَةَ تَحْقِيقٍ فَرامُوا تَطْبِيقَ هَذِهِ القِصَّةِ عَلَيْها. والَّذِي يَجِبُ الِانْفِصالُ فِيهِ بادِئَ ذِي بَدْءٍ أنَّ وصْفَهُ بِذِي القَرْنَيْنِ يَتَعَيَّنُ أنْ يَكُونَ وصْفًا ذاتِيًّا لَهُ وهو وصْفٌ عَرَبِيٌّ يَظْهَرُ أنْ يَكُونَ عُرِفَ بِمَدْلُولِهِ بَيْنَ المُثِيرِينَ لِلسُّؤالِ عَنْهُ فَتَرْجَمُوهُ بِهَذا اللَّفْظِ.
(p-١٩)ويَتَعَيَّنُ أنْ لا يُحْمَلَ القَرْنانِ عَلى الحَقِيقَةِ بَلْ هُما عَلى التَّشْبِيهِ أوْ عَلى الصُّورَةِ. فالأظْهَرُ أنْ يَكُونا ذُؤابَتَيْنِ مِن شَعْرِ الرَّأْسِ مُتَدَلِّيَتَيْنِ، وإطْلاقُ القَرْنِ عَلى الضَّفِيرَةِ مِنَ الشَّعْرِ شائِعٌ في العَرَبِيَّةِ، قالَ عُمَرُ بْنُ أبِي رَبِيعَةَ:
؎فَلَثَمْتُ فاها آخِذًا بِقُرُونِها شُرْبَ النَّزِيفِ بِبَرْدِ ماءِ الحَشْرَجِ
وفِي حَدِيثِ أُمِّ عَطِيَّةَ «فِي صِفَةِ غُسْلِ ابْنَةِ النَّبِيءِ ﷺ قالَتْ أُمُّ عَطِيَّةَ: فَجَعَلْنا رَأْسَها ثَلاثَةَ قُرُونٍ»، فَيَكُونُ هَذا المَلِكُ قَدْ أطالَ شَعْرَ رَأْسِهِ وضَفَّرَهُ ضَفِيرَتَيْنِ فَسُمِّيَ ذا القَرْنَيْنِ، كَما سُمِّيَ خِرْباقُ ذا اليَدَيْنِ.
وقِيلَ: هُما شِبْهُ قَرْنَيِ الكَبْشِ مِن نُحاسٍ كانا في خُوذَةِ هَذا المَلِكِ فَنُعِتَ بِهِما. وقِيلَ: هُما ضَرْبَتانِ عَلى مَوْضِعَيْنِ مِن رَأْسِ الإنْسانِ يُشْبِهانِ مَنبَتَيِ القَرْنَيْنِ مِن ذَواتِ القُرُونِ.
ومِن هُنا تَأْتِي الأقْوالُ في تَعْيِينِ ذِي القَرْنَيْنِ،
فَأحَدُ الأقْوالِ: أنَّهُ الإسْكَنْدَرُ بْنُ فِيلِيبُوسَ المَقْدُونِيُّ. وذَكَرُوا في وجْهِ تَلْقِيبِهِ بِذِي القَرْنَيْنِ أنَّهُ ضَفَّرَ شَعْرَهُ قَرْنَيْنِ، وقِيلَ: كانَ يَلْبَسُ خُوذَةً في الحَرْبِ بِها قَرْنانِ، وقِيلَ: رَسَمَ ذاتَهُ عَلى بَعْضِ نُقُودِهِ بِقَرْنَيْنِ في رَأْسِهِ تَمْثِيلًا لِنَفْسِهِ بِالمَعْبُودِ آمَوُنَ مَعْبُودِ المِصْرِيِّينَ وذَلِكَ حِينَ مَلَكَ مِصْرَ.
والقَوْلُ الثّانِي: أنَّهُ مَلِكٌ مِن مُلُوكِ حِمْيَرَ هو تُبَّعٌ أبُو كَرِبٍ.
والقَوْلُ الثّالِثُ: أنَّهُ مَلِكٌ مِن مُلُوكِ الفُرْسِ وأنَّهُ (أفْرِيدُونُ بْنُ أثْفِيانَ بْنِ جَمْشِيدَ) . هَذِهِ أوْضَحُ الأقْوالِ، وما دُونَها لا يَنْبَغِي التَّعْوِيلُ عَلَيْهِ ولا تَصْحِيحُ رِوايَتِهِ.
ونَحْنُ تُجاهَ هَذا الِاخْتِلافِ يَحِقُّ عَلَيْنا أنْ نَسْتَخْلِصَ مِن قِصَّتِهِ في هَذِهِ الآيَةِ أحْوالًا تُقَرِّبُ تَعْيِينَهُ وتَزْيِيفَ ما عَداهُ مِنَ الأقْوالِ، ولَيْسَ يَجِبُ الِاقْتِصارُ عَلى تَعْيِينِهِ مِن بَيْنِ أصْحابِ هَذِهِ الأقْوالِ بَلِ الأمْرُ في ذَلِكَ أوْسَعُ (p-٢٠)وهَذِهِ القِصَّةُ القُرْآنِيَّةُ تُعْطِي صِفاتٍ لا مَحِيدَ عَنْها: إحْداها: أنَّهُ كانَ مَلِكًا صالِحًا عادِلًا.
الثّانِيَةُ: أنَّهُ كانَ مُلْهَمًا مِنَ اللَّهِ.
الثّالِثَةُ: أنَّ مُلْكَهُ شَمِلَ أقْطارًا شاسِعَةً.
الرّابِعَةُ: أنَّهُ بَلَغَ في فُتُوحِهِ مِن جِهَةِ المَغْرِبِ مَكانًا كانَ مَجْهُولًا وهو عَيْنٌ حَمِئَةٌ.
الخامِسَةُ: أنَّهُ بَلَغَ بِلادَ يَأْجُوجَ ومَأْجُوجَ، وأنَّها كانَتْ في جِهَةٍ مِمّا شَمِلَهُ مُلْكُهُ غَيْرِ الجِهَتَيْنِ الشَّرْقِيَّةِ والغَرْبِيَّةِ فَكانَتْ وسَطًا بَيْنَهُما كَما يَقْتَضِيهِ اسْتِقْراءُ مَبْلَغِ أسْبابِهِ.
السّادِسَةُ: أنَّهُ أقامَ سَدًّا يَحُولُ بَيْنَ يَأْجُوجَ ومَأْجُوجَ وبَيْنَ قَوْمٍ آخَرِينَ.
السّابِعَةُ: أنَّ ياجُوجَ وماجُوجَ هَؤُلاءِ كانُوا عائِثِينَ في الأرْضِ فَسادًا وأنَّهم كانُوا يُفْسِدُونَ بِلادَ قَوْمٍ مُوالِينَ لِهَذا المَلِكِ.
الثّامِنَةُ: أنَّهُ كانَ مَعَهُ قَوْمٌ أهْلُ صِناعَةٍ مُتْقَنَةٍ في الحَدِيدِ والبِناءِ.
التّاسِعَةُ: أنَّ خَبَرَهُ خَفِيٌّ دَقِيقٌ لا يَعْلَمُهُ إلّا الأحْبارُ عِلْمًا إجْمالِيًّا كَما دَلَّ عَلَيْهِ سَبَبُ النُّزُولِ.
وأنْتَ إذا تَدَبَّرْتَ جَمِيعَ هَذِهِ الأحْوالِ نَفَيْتَ أنْ يَكُونَ ذُو القَرْنَيْنِ إسْكَنْدَرَ المَقْدُونِيَّ لِأنَّهُ لَمْ يَكُنْ مَلِكًا صالِحًا بَلْ كانَ وثَنِيًّا فَلَمْ يَكُنْ أهْلًا لِتَلَقِّي الوَحْيِ مِنَ اللَّهِ وإنْ كانَتْ لَهُ كَمالاتٌ عَلى الجُمْلَةِ، وأيْضًا فَلا يُعْرَفُ في تارِيخِهِ أنَّهُ أقامَ سَدًّا بَيْنَ بَلَدَيْنِ.
وأمّا نِسْبَةُ السَّدِّ الفاصِلِ بَيْنَ الصِّينِ وبَيْنَ بِلادِ ياجُوجَ وماجُوجَ إلَيْهِ في كَلامِ بَعْضِ المُؤَرِّخِينَ فَهو ناشِئٌ عَنْ شُهْرَةِ الإسْكَنْدَرِ فَتَوَهَّمَ (p-٢١)القَصّاصُونَ أنَّ ذَلِكَ السَّدَّ لا يَكُونُ إلّا مِن بِنائِهِ، كَما تَوَهَّمَ العَرَبُ أنَّ مَدِينَةَ تَدْمُرَ بَناها سُلَيْمانُ - عَلَيْهِ السَّلامُ - . وأيْضًا فَإنَّ هِيرُودُوتِسَ اليُونانِيَّ المُؤَرِّخَ ذَكَرَ أنَّ الإسْكَنْدَرَ حارَبَ أُمَّهُ (سِكْيُثُوسَ) . وهَذا الِاسْمُ هو اسْمُ ماجُوجَ كَما سَيَأْتِي قَرِيبًا.
وأحْسَبُ أنَّ لِتَرْكِيبِ القِصَّةِ المَذْكُورَةِ في هَذِهِ السُّورَةِ عَلى اسْمِ إسْكَنْدَرَ المَقْدُونِيِّ أثَرًا في اشْتِهارِ نِسْبَةِ السَّدِّ إلَيْهِ. وذَلِكَ مِن أوْهامِ المُؤَرِّخِينَ في الإسْلامِ.
ولا يُعْرَفُ أنَّ مَمْلَكَةَ إسْكَنْدَرَ كانَتْ تَبْلُغُ في الغَرْبِ إلى عَيْنٍ حَمِئَةٍ، وفي الشَّرْقِ إلى قَوْمٍ مَجْهُولِينَ عُراةٍ أوْ عَدِيمِي المَساكِنِ، ولا أنَّ أُمَّتَهُ كانَتْ تُلَقِّبُهُ بِذِي القَرْنَيْنِ. وإنَّما انْتُحِلَ هَذا اللَّقَبُ لَهُ لَمّا تَوَهَّمُوا أنَّهُ المَعْنِيُّ بِذِي القَرْنَيْنِ في هَذِهِ الآيَةِ. فَمَنحُهُ هَذا اللَّقَبَ مِن مُخْتَرَعاتِ مُؤَرِّخِي المُسْلِمِينَ، ولَيْسَ رَسْمُ وجْهِهِ عَلى النُّقُودِ بِقَرْنَيْنِ مِمّا شَأْنُهُ أنْ يُلَقَّبَ بِهِ. وأيْضًا فالإسْكَنْدَرُ كانَتْ أخْبارُهُ مَشْهُورَةً لِأنَّهُ حارَبَ الفُرْسَ والقِبْطَ وهُما أُمَّتانِ مُجاوِرَتانِ لِلْأُمَّةِ العَرَبِيَّةِ.
ومِثْلُ هَذِهِ المُبْطِلاتِ الَّتِي ذَكَرْناها تَتَأتّى لِإبْطالِ أنْ يَكُونَ المَلِكُ المُتَحَدَّثُ عَنْهُ هو أفْرِيدُونُ، فَإمّا أنْ يَكُونَ مِن تَبابِعَةِ حِمْيَرَ فَقَدْ يَجُوزُ أنْ يَكُونَ في عَصْرٍ مُتَوَغِّلٍ في القِدَمِ. وقَدْ تَوَهَّمَ بَعْضُ المُفَسِّرِينَ أنَّهُ كانَ مُعاصِرًا إبْراهِيمَ - عَلَيْهِ السَّلامُ - وكانَتْ بِلادُهُ الَّتِي فَتَحَها مَجْهُولَةَ المَواقِعِ. ولَكِنْ يَبْعُدُ أنْ يَكُونَ هو المُرادَ لِأنَّ العَرَبَ لا يَعْرِفُونَ مِن خَبَرِهِ مِثْلَ هَذا. وقَدْ ظَهَرَ مِن أقْوالِهِمْ أنَّ سَبَبَ هَذا التَّوَهُّمِ هو وُجُودُ كَلِمَةِ (ذُو) الَّتِي اشْتُهِرَ وُجُودُ مِثْلِها في ألْقابِ مُلُوكِ اليَمَنِ وتَبابِعَتِهِ.
(p-٢٢)فالَّذِي يَظْهَرُ لِي أنَّ ذا القَرْنَيْنِ كانَ مَلِكًا مِن مُلُوكِ الصِّينِ لِوُجُودِ أسْبابٍ: أحَدُها: أنَّ بِلادَ الصِّينِ اشْتَهَرَ أهْلُها مُنْذُ القِدَمِ بِأنَّهم أهْلُ تَدْبِيرٍ وصَنائِعَ.
الثّانِي: أنَّ مُعْظَمَ مُلُوكِهِمْ كانُوا أهْلَ عَدْلٍ وتَدْبِيرٍ لِلْمَمْلَكَةِ.
الثّالِثُ: أنَّ مِن سِماتِهِمْ تَطْوِيلُ شَعْرِ رُءُوسِهِمْ وجَعْلُها في ضَفِيرَتَيْنِ فَيَظْهَرُ وجْهُ تَعْرِيفِهِ بِذِي القَرْنَيْنِ.
الرّابِعُ: أنَّ سَدًّا ورَدْمًا عَظِيمًا لا يُعْرَفُ لَهُ نَظِيرٌ في العالَمِ هو مَوْجُودٌ بَيْنَ بِلادِ الصِّينِ وبِلادِ المَغُولِ. وهو المَشْهُورُ في كُتُبِ الجُغْرافِيا والتّارِيخِ بِالسُّورِ الأعْظَمِ، وسَيَرِدُ وصْفُهُ.
الخامِسُ: ما رَوَتْ أُمُّ حَبِيبَةَ عَنْ زَيْنَبَ بِنْتِ جَحْشٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما - أنَّ النَّبِيءَ ﷺ «خَرَجَ لَيْلَةً فَقالَ: ويْلٌ لِلْعَرَبِ مِن شَرٍّ قَدِ اقْتَرَبَ فُتِحَ اليَوْمَ مِن رَدْمِ ياجُوجَ وماجُوجَ هَكَذا» . وأشارَ بِعَقْدِ تِسْعِينَ أعْنِي بِوَضْعِ طَرَفِ السَّبّابَةِ عَلى طَرَفِ الإبْهامِ وقَدْ كانَ زَوالُ عَظَمَةِ سُلْطانِ العَرَبِ عَلى يَدِ المَغُولِ في بَغْدادَ فَتَعَيَّنَ أنَّ ياجُوجَ وماجُوجَ هُمُ المَغُولُ وأنَّ الرَّدْمَ المَذْكُورَ في القُرْآنِ هو الرَّدْمُ الفاصِلُ بَيْنَ بِلادِ المَغُولِ وبِلادِ الصِّينِ وبانِيهِ مَلِكٌ مِن مُلُوكِهِمْ.
وأنَّ وصْفَهُ في القُرْآنِ بِذِي القَرْنَيْنِ تَوْصِيفٌ لا تَلْقِيبٌ فَهو مِثْلُ التَّعْبِيرِ عَنْ شاوَلَ مَلِكِ إسْرائِيلَ باسِمِ طالُوتَ. وهَذا المَلِكُ هو الَّذِي بَنى السَّدَّ الفاصِلَ بَيْنَ الصِّينِ ومَنغُولْيا. واسْمُ هَذا المَلِكِ (تِسِينْشِي هُوانْقَتِي) أوْ (تِسِينْ شِي هو انْقْ تِي) . وكانَ مَوْجُودًا في حُدُودِ سَنَةِ سَبْعٍ وأرْبَعِينَ ومِائَتَيْنِ قَبْلَ مِيلادِ المَسِيحِ فَهو مُتَأخِّرٌ عَنْ إسْكَنْدَرَ المَقْدُونِيِّ بِنَحْوِ قَرْنٍ. وبِلادُ الصِّينِ في ذَلِكَ العَصْرِ كانَتْ مُتَدَيِّنَةً بِدِينِ (كِنْفِيشْيُوسَ) المُشَرِّعِ المُصْلِحِ. فَلا جَرَمَ أنْ يَكُونَ أهْلُ شَرِيعَتِهِ صالِحِينَ.
(p-٢٣)وهَذا المَلِكُ يُؤْخَذُ مِن كُتُبِ التّارِيخِ أنَّهُ ساءَتْ حالَتُهُ في آخِرِ عُمُرِهِ وأفْسَدَ كَثِيرًا وقَتَلَ عُلَماءَ وأحْرَقَ كُتُبًا، واللَّهُ أعْلَمُ بِالحَقِيقَةِ وبِأسْبابِها.
ولَمّا ظَنَّ كَثِيرٌ مِنَ النّاسِ أنَّ ذا القَرْنَيْنِ المَذْكُورَ في القُرْآنِ هو إسْكَنْدَرُ بْنُ فِيلِيبُوسَ نَحَلُوهُ بِناءَ السَّدِّ. وزَعَمُوهُ مِن صُنْعِهُ كَما نَحَلُوهُ لَقَبَ ذِي القَرْنَيْنِ. وكُلُّ ذَلِكَ بِناءَ أوْهامٍ عَلى أوْهامٍ ولا أساسَ لِواحِدٍ مِنها ولا عَلاقَةَ لِإسْكَنْدَرَ المَقْدُونِيِّ بِقِصَّةِ ذِي القَرْنَيْنِ المَذْكُورَةِ في هَذِهِ السُّورَةِ. .
والأمْرُ في قَوْلِهِ ﴿قُلْ سَأتْلُو عَلَيْكُمْ﴾ إذْنٌ مِنَ اللَّهِ لِرَسُولِهِ بِأنْ يَعِدَ بِالجَوابِ عَنْ سُؤالِهِمْ عَمَلًا بِقَوْلِهِ ﴿ولا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إنِّي فاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا إلّا أنْ يَشاءَ اللَّهُ﴾ [الكهف: ٢٣] عَلى أحَدِ تَأْوِيلَيْنِ في مَعْناهُ.
والسِّينُ في قَوْلِ ﴿سَأتْلُو عَلَيْكُمْ﴾ لِتَحْقِيقِ الوَعْدِ كَما في قَوْلِهِ تَعالى ﴿قالَ سَوْفَ أسْتَغْفِرُ لَكم رَبِّي﴾ [يوسف: ٩٨] في سُورَةِ يُوسُفَ.
وجُعِلَ خَبَرُ ذِي القَرْنَيْنِ تِلاوَةً وذِكْرًا لِلْإشارَةِ إلى أنَّ المُهِمَّ مِن أخْبارِهِ ما فِيهِ تَذْكِيرٌ وما يَصْلُحُ لِأنْ يَكُونَ تِلاوَةً حَسَبَ شَأْنِ القُرْآنِ فَإنَّهُ يُتْلى لِأجْلِ الذِّكْرِ ولا يُساقُ مَساقَ القَصَصِ.
وقَوْلُهُ مِنهُ ذِكْرًا تَنْبِيهٌ عَلى أنَّ أحْوالَهُ وأخْبارَهُ كَثِيرَةٌ وأنَّهم إنَّما يُهِمُّهم بَعْضُ أحْوالِهِ المُفِيدَةِ ذِكْرًا وعِظَةً. ولِذَلِكَ لَمْ يَقُلْ في قِصَّةِ أهْلِ الكَهْفِ: نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِن نَبَئِهِمْ. لِأنَّ قِصَّتَهم مُنْحَصِرَةٌ فِيما ذَكَرَ. وأحْوالُ ذِي القَرْنَيْنِ غَيْرُ مُنْحَصِرَةٍ فِيما ذَكَرَ هُنا.
وحَرْفُ مِن في قَوْلِهِ مِنهُ ذِكْرًا لِلتَّبْعِيضِ بِاعْتِبارِ مُضافٍ مَحْذُوفٍ، أيْ مِن خَبَرِهِ.
والتَّمْكِينُ: جَعْلُ الشَّيْءِ مُتَمَكِّنًا، أيْ راسِخًا. وهو تَمْثِيلٌ لِقُوَّةِ التَّصَرُّفِ بِحَيْثُ لا يُزَعْزِعُ قُوَّتَهُ أحَدٌ. وحَقُّ فِعْلِ مَكَّنا التَّعْدِيَةُ (p-٢٤)بِنَفْسِهِ، فَيُقالُ: مَكَّناهُ في الأرْضِ كَقَوْلِهِ ﴿مَكَّنّاهم في الأرْضِ ما لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ﴾ [الأنعام: ٦] . فاللّامُ في قَوْلِهِ ﴿مَكَّنّا لَهُ في الأرْضِ﴾ لِلتَّوْكِيدِ كاللّامِ في قَوْلِهِمْ: شَكَرْتُ لَهُ، ونَصَحْتُ لَهُ، والجَمْعُ بَيْنَهُما تَفَنُّنٌ. وعَلى ذَلِكَ جاءَ قَوْلُهُ تَعالى ﴿مَكَّنّاهم في الأرْضِ ما لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ﴾ [الأنعام: ٦] . فَمَعْنى التَّمْكِينِ في الأرْضِ إعْطاءُ المَقْدِرَةِ عَلى التَّصَرُّفِ.
والمُرادُ بِالأرْضِ أهْلُ الأرْضِ، والمُرادُ بِالأرْضِ أرْضٌ مُعَيَّنَةٌ وهي أرْضُ مُلْكِهِ. وتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعالى ﴿وكَذَلِكَ مَكَّنّا لِيُوسُفَ في الأرْضِ﴾ [يوسف: ٢١] . والسَّبَبُ حَقِيقَتُهُ: الحَبْلُ، وأُطْلِقَ هُنا عَلى ما يُتَوَسَّلُ بِهِ إلى الشَّيْءِ مِن عِلْمٍ أوْ مَقْدِرَةٍ أوْ آلاتِ التَّسْخِيرِ عَلى وجْهِ الِاسْتِعارَةِ كَقَوْلِهِ تَعالى ﴿وتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الأسْبابُ﴾ [البقرة: ١٦٦] في سُورَةِ البَقَرَةِ.
وكُلُّ شَيْءٍ مُسْتَعْمَلٌ هُنا في الأشْياءِ الكَثِيرَةِ كَما تَقَدَّمَ في نَظائِرِهِ غَيْرَ مَرَّةٍ مِنها قَوْلُهُ تَعالى ﴿ولَوْ جاءَتْهم كُلُّ آيَةٍ﴾ [يونس: ٩٧] أيْ آتَيْناهُ وسائِلَ أشْياءَ عَظِيمَةٍ كَثِيرَةٍ.
{"ayahs_start":83,"ayahs":["وَیَسۡـَٔلُونَكَ عَن ذِی ٱلۡقَرۡنَیۡنِۖ قُلۡ سَأَتۡلُوا۟ عَلَیۡكُم مِّنۡهُ ذِكۡرًا","إِنَّا مَكَّنَّا لَهُۥ فِی ٱلۡأَرۡضِ وَءَاتَیۡنَـٰهُ مِن كُلِّ شَیۡءࣲ سَبَبࣰا","فَأَتۡبَعَ سَبَبًا"],"ayah":"وَیَسۡـَٔلُونَكَ عَن ذِی ٱلۡقَرۡنَیۡنِۖ قُلۡ سَأَتۡلُوا۟ عَلَیۡكُم مِّنۡهُ ذِكۡرًا"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق