الباحث القرآني
﴿ويَسْألُونَكَ عَنْ ذِي القَرْنَيْنِ قُلْ سَأتْلُو عَلَيْكم مِنهُ ذِكْرًا﴾ ﴿إنّا مَكَّنّا لَهُ في الأرْضِ وآتَيْناهُ مِن كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا﴾ ﴿فَأتْبَعَ سَبَبًا﴾ ﴿حَتّى إذا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ وجَدَها تَغْرُبُ في عَيْنٍ حَمِئَةٍ ووَجَدَ عِنْدَها قَوْمًا قُلْنا ياذا القَرْنَيْنِ إمّا أنْ تُعَذِّبَ وإمّا أنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْنًا﴾ ﴿قالَ أمّا مَن ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إلى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذابًا نُكْرًا﴾ ﴿وأمّا مَن آمَنَ وعَمِلَ صالِحًا فَلَهُ جَزاءً الحُسْنى وسَنَقُولُ لَهُ مِن أمْرِنا يُسْرًا﴾ ﴿ثُمَّ أتْبَعَ سَبَبًا﴾ [الكهف: ٨٩] ﴿حَتّى إذا بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ وجَدَها تَطْلُعُ عَلى قَوْمٍ لَمْ نَجْعَلْ لَهم مِن دُونِها سِتْرًا﴾ [الكهف: ٩٠] ﴿كَذَلِكَ وقَدْ أحَطْنا بِما لَدَيْهِ خُبْرًا﴾ [الكهف: ٩١] ﴿ثُمَّ أتْبَعَ سَبَبًا﴾ [الكهف: ٩٢] ﴿حَتّى إذا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ وجَدَ مِن دُونِهِما قَوْمًا لا يَكادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلًا﴾ [الكهف: ٩٣] ﴿قالُوا ياذا القَرْنَيْنِ إنَّ يَأْجُوجَ ومَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ في الأرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجًا عَلى أنْ تَجْعَلَ بَيْنَنا وبَيْنَهم سَدًّا﴾ [الكهف: ٩٤] ﴿قالَ ما مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَأعِينُونِي بِقُوَّةٍ أجْعَلْ بَيْنَكم وبَيْنَهم رَدْمًا﴾ [الكهف: ٩٥] ﴿آتُونِي زُبَرَ الحَدِيدِ حَتّى إذا ساوى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ قالَ انْفُخُوا حَتّى إذا جَعَلَهُ نارًا قالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْرًا﴾ [الكهف: ٩٦] ﴿فَما اسْطاعُوا أنْ يَظْهَرُوهُ وما اسْتَطاعُوا لَهُ نَقْبًا﴾ [الكهف: ٩٧] ﴿قالَ هَذا رَحْمَةٌ مِن رَبِّي فَإذا جاءَ وعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكّاءَ وكانَ وعْدُ رَبِّي حَقًّا﴾ [الكهف: ٩٨] ﴿وتَرَكْنا بَعْضَهم يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ في بَعْضٍ ونُفِخَ في الصُّورِ فَجَمَعْناهم جَمْعًا﴾ [الكهف: ٩٩] ﴿وعَرَضْنا جَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ لِلْكافِرِينَ عَرْضًا﴾ [الكهف: ١٠٠] ﴿الَّذِينَ كانَتْ أعْيُنُهم في غِطاءٍ عَنْ ذِكْرِي وكانُوا لا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعًا﴾ [الكهف: ١٠١] ﴿أفَحَسِبَ الَّذِينَ كَفَرُوا أنْ يَتَّخِذُوا عِبادِي مِن دُونِي أوْلِياءَ إنّا أعْتَدْنا جَهَنَّمَ لِلْكافِرِينَ نُزُلًا﴾ [الكهف: ١٠٢] ﴿قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكم بِالأخْسَرِينَ أعْمالًا﴾ [الكهف: ١٠٣] ﴿الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهم في الحَياةِ الدُّنْيا وهم يَحْسَبُونَ أنَّهم يُحْسِنُونَ صُنْعًا﴾ [الكهف: ١٠٤] ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ ولِقائِهِ فَحَبِطَتْ أعْمالُهم فَلا نُقِيمُ لَهم يَوْمَ القِيامَةِ وزْنًا﴾ [الكهف: ١٠٥] ﴿ذَلِكَ جَزاؤُهم جَهَنَّمُ بِما كَفَرُوا واتَّخَذُوا آياتِي ورُسُلِي هُزُوًا﴾ [الكهف: ١٠٦] ﴿إنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وعَمِلُوا الصّالِحاتِ كانَتْ لَهم جَنّاتُ الفِرْدَوْسِ نُزُلًا﴾ [الكهف: ١٠٧] ﴿خالِدِينَ فِيها لا يَبْغُونَ عَنْها حِوَلًا﴾ [الكهف: ١٠٨] ﴿قُلْ لَوْ كانَ البَحْرُ مِدادًا لِكَلِماتِ رَبِّي لَنَفِدَ البَحْرُ قَبْلَ أنْ تَنْفَدَ كَلِماتُ رَبِّي ولَوْ جِئْنا بِمِثْلِهِ مَدَدًا﴾ [الكهف: ١٠٩] ﴿قُلْ إنَّما أنا بَشَرٌ مِثْلُكم يُوحى إلَيَّ أنَّما إلَهُكم إلَهٌ واحِدٌ فَمَن كانَ يَرْجُو لِقاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صالِحًا ولا يُشْرِكْ بِعِبادَةِ رَبِّهِ أحَدًا﴾ [الكهف: ١١٠] (p-١٥٧)السَّدُّ الحاجِزُ والحائِلُ بَيْنَ الشَّيْئَيْنِ، ويُقالُ بِالضَّمِّ وبِالفَتْحِ. الرَّدْمُ: السَّدُّ. وقِيلَ: الرَّدْمُ أكْبَرُ مِنَ السَّدِّ؛ لِأنَّ الرَّدْمَ ما جُعِلَ بَعْضُهُ عَلى بَعْضٍ، يُقالُ: ثَوْبٌ مُرَدَّمٌ إذا كانَ قَدْ رُقِّعَ رُقْعَةً فَوْقَ رُقْعَةٍ. وقِيلَ: سَدَّ الخَلَلَ، قالَ عَنْتَرَةُ:
؎هَلْ غادَرَ الشُّعَراءُ مِن مُتَرَدَّمِ
أيْ خَلَلٌ في المَعانِي فَيَسُدُّ رَدْمًا. الزُّبْرَةُ: القِطْعَةُ وأصْلُهُ الِاجْتِماعُ، ومِنهُ زُبْرَةُ الأسَدِ لِما اجْتَمَعَ عَلى كاهِلِهِ مِنَ الشَّعْرِ، وزَبَرْتُ الكِتابَ جَمَعْتُ حُرُوفَهُ. الصَّدَفانِ جانِبا الجَبَلِ إذا تَحاذَيا لِتَقارُبِهِما أوْ لِتَلاقِيهِما قالَهُ الأزْهَرِيُّ، ويُقالُ: صُدُفٌ بِضَمِّهِما وبِفَتْحِهِما وبِضَمِّ الصّادِ وسُكُونِ الدّالِ وعَكْسِهِ. قالَ بَعْضُ اللُّغَوِيِّينَ: وفَتْحُهُما لُغَةُ تَمِيمٍ وضَمُّهُما لُغَةُ حِمْيَرَ. وقالَ أبُو عُبَيْدَةَ: الصَّدَفُ كُلُّ بِناءٍ عَظِيمٍ مُرْتَفِعٍ. القِطْرُ: النُّحاسُ المُذابُ في قَوْلِ الأكْثَرِينَ. وقِيلَ: الحَدِيدُ المُذابُ. وقِيلَ: الرَّصاصُ المُذابُ. النَّقْبُ مَصْدَرُ نَقَبَ، أيْ: حَفَرَ وقَطَعَ. الغِطاءُ مَعْرُوفٌ وجَمْعُهُ أغْطِيَةٌ، وهو مِن غَطّى إذا سَتَرَ. الفِرْدَوْسُ قالَ الفَرّاءُ: البُسْتانُ الَّذِي فِيهِ الكَرْمُ. وقالَ ثَعْلَبٌ: كُلُّ بُسْتانٍ يُحَوَّطُ عَلَيْهِ فَهو فِرْدَوْسٌ.
﴿ويَسْألُونَكَ عَنْ ذِي القَرْنَيْنِ قُلْ سَأتْلُو عَلَيْكم مِنهُ ذِكْرًا﴾ ﴿إنّا مَكَّنّا لَهُ في الأرْضِ وآتَيْناهُ مِن كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا﴾ ﴿فَأتْبَعَ سَبَبًا﴾ ﴿حَتّى إذا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ وجَدَها تَغْرُبُ في عَيْنٍ حَمِئَةٍ ووَجَدَ عِنْدَها قَوْمًا قُلْنا يا ذا القَرْنَيْنِ إمّا أنْ تُعَذِّبَ وإمّا أنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْنًا﴾ ﴿قالَ أمّا مَن ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إلى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذابًا نُكْرًا﴾ ﴿وأمّا مَن آمَنَ وعَمِلَ صالِحًا فَلَهُ جَزاءً الحُسْنى وسَنَقُولُ لَهُ مِن أمْرِنا يُسْرًا﴾ ﴿ثُمَّ أتْبَعَ سَبَبًا﴾ [الكهف: ٨٩] ﴿حَتّى إذا بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ وجَدَها تَطْلُعُ عَلى قَوْمٍ لَمْ نَجْعَلْ لَهم مِن دُونِها سِتْرًا﴾ [الكهف: ٩٠] ﴿كَذَلِكَ وقَدْ أحَطْنا بِما لَدَيْهِ خُبْرًا﴾ [الكهف: ٩١] .
(p-١٥٨)الضَّمِيرُ في (ويَسْألُونَكَ) عائِدٌ عَلى قُرَيْشٍ أوْ عَلى اليَهُودِ، والمَشْهُورُ أنَّ السّائِلِينَ قُرَيْشٌ حِينَ دَسَّتْها اليَهُودُ عَلى سُؤالِهِ عَنِ الرُّوحِ، والرَّجُلِ الطَّوّافِ، وفِتْيَةٍ ذَهَبُوا في الدَّهْرِ لِيَقَعَ امْتِحانُهُ بِذَلِكَ. وذُو القَرْنَيْنِ هو الإسْكَنْدَرُ اليُونانِيُّ ذَكَرَهُ ابْنُ إسْحاقَ. وقالَ وهْبٌ: هو رُومِيٌّ وهَلْ هو نَبِيٌّ أوْ عَبْدٌ صالِحٌ ؟ لَيْسَ بِنَبِيٍّ قَوْلانِ. وقِيلَ: كانَ مَلَكًا مِنَ المَلائِكَةِ وهَذا غَرِيبٌ. قِيلَ: مَلَكَ الدُّنْيا مُؤْمِنانِ: سُلَيْمانُ وذُو القَرْنَيْنِ، وكافِرانِ نُمْرُوذُ وبُخْتُ نَصَّرَ، وكانَ بَعْدَ نُمْرُوذَ. وعَنْ عَلِيٍّ كانَ عَبْدًا صالِحًا لَيْسَ بِمَلَكٍ ولا نَبِيٍّ ضُرِبَ عَلى قَرْنِهِ الأيْمَنِ فَماتَ في طاعَةِ اللَّهِ، ثُمَّ بَعَثَهُ اللَّهُ فَضُرِبَ عَلى قَرْنِهِ الأيْسَرِ فَماتَ، فَبَعَثَهُ اللَّهُ فَسُمِّيَ ذا القَرْنَيْنِ. وقِيلَ: طافَ قَرْنَيِ الدُّنْيا يَعْنِي جانِبَيْها شَرْقَها وغَرْبَها. وقِيلَ: كانَ لَهُ قَرْنانِ، أيْ: ضَفِيرَتانِ. وقِيلَ: انْقَرَضَ في وقْتِهِ قَرْنانِ مِنَ النّاسِ. وعَنْ وهْبٍ: لِأنَّهُ مَلَكَ الرُّومَ وفارِسَ ورُوِيَ: الرُّومَ والتُّرْكَ. وعَنْهُ: كانَتْ صَفِيحَتا رَأْسِهِ مِن نُحاسٍ. وقِيلَ: كانَ لِتاجِهِ قَرْنانِ. وقِيلَ: كانَ عَلى رَأْسِهِ ما يُشْبِهُ القَرْنَيْنِ. قالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: ويَجُوزُ أنْ يُسَمّى بِذَلِكَ لِشَجاعَتِهِ، كَما يُسَمّى الشُّجاعُ كَبْشًا كَأنَّهُ يَنْطَحُ أقْرانَهُ، وكانَ مِنَ الرُّومِ ولَدٌ عَجُوزٌ لَيْسَ لَها ولَدٌ غَيْرُهُ انْتَهى. وقِيلَ غَيْرُ ذَلِكَ في تَسْمِيَتِهِ ذا القَرْنَيْنِ، والمَشْهُورُ أنَّهُ الإسْكَنْدَرُ. وقالَ أبُو الرَّيْحانِ البَيْرُونِيُّ المُنَجِّمُ صاحِبُ كِتابِ الآثارِ الباقِيَةِ عَنِ القُرُونِ الخالِيَةِ: هو أبُو بَكْرِ بْنُ سُمَيِّ بْنِ عُمَيْرِ بْنِ إفْرِيقِسَ الحِمْيَرِيُّ، بَلَغَ مُلْكُهُ مَشارِقَ الأرْضِ ومَغارِبَها وهو الَّذِي افْتَخَرَ بِهِ أحَدُ الشُّعَراءِ مِن حِمْيَرَ حَيْثُ قالَ:
؎قَدْ كانَ ذُو القَرْنَيْنِ قَبْلِيَ مُسْلِمًا ∗∗∗ مَلِكًا عَلا في الأرْضِ غَيْرَ مُبَعَّدِ
؎بَلَغَ المَشارِقَ والمَغارِبَ يَبْتَغِي ∗∗∗ أسْبابَ مُلْكٍ مِن كَرِيمٍ سَيِّدِ
قالَ أبُو الرَّيْحانِ: ويُشْبِهُ أنْ يَكُونَ هَذا القَوْلُ أقْرَبَ؛ لِأنَّ الأذْواءَ كانُوا مِنَ اليَمَنِ وهُمُ الَّذِينَ لا تَخْلُو أسْماؤُهم مِن ذِي: كَذِي المَنارِ، وذِي يَواسَ انْتَهى. والشِّعْرُ الَّذِي أنْشَدَهُ نُسِبَ أيْضًا إلى تُبَّعٍ الحِمْيَرِيِّ وهو:
؎قَدْ كانَ ذُو القَرْنَيْنِ جَدِّي مُسْلِمًا
وعَنْ عَلِيٍّ وابْنِ عَبّاسٍ أنَّ اسْمَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الضَّحّاكِ. وعَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ الحُسَيْنِ: عَيّاشٌ. وعَنْ أبِي خَيْثَمَةَ هو الصَّعْبُ بْنُ جابِرِ بْنِ القَلَمَّسِ. وقِيلَ: مَرْزُبانُ بْنُ مَرْزَبَةَ اليُونانِيُّ مِن ولَدِ يُونانِ بْنِ يافِثَ. وعَنْ عَلِيٍّ هو مِنَ القَرْنِ الأوَّلِ مِن ولَدِ يافِثَ بْنِ نُوحٍ. وعَنِ الحَسَنِ: كانَ بَعْدَ ثَمُودٍ وكانَ عُمْرُهُ ألْفَ سَنَةٍ وسِتَّمِائَةٍ. وعَنْ وهْبٍ: كانَ في الفَتْرَةِ بَيْنَ عِيسى ومُحَمَّدٍ - صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِما وسَلَّمَ - .
والخِطابُ في (عَلَيْكم) لِلسّائِلِينَ إمّا اليَهُودُ وإمّا قُرَيْشٌ عَلى الخِلافِ الَّذِي سَبَقَ في السّائِلِينَ. وقَوْلُهُ (ذِكْرًا) يَحْتَمِلُ أنْ يُرِيدَ قُرْآنًا وأنْ يُرِيدَ حَدِيثًا وخَيْرًا، والتَّمْكِينُ الَّذِي لَهُ (في الأرْضِ) كَوْنُهُ مَلَكَ الدُّنْيا ودانَتْ لَهُ المُلُوكُ كُلُّها. قالَ بَعْضُ المُفَسِّرِينَ: والدَّلِيلُ عَلى أنَّهُ الإسْكَنْدَرُ أنَّ القُرْآنَ دَلَّ عَلى أنَّ الرَّجُلَ المُسَمّى بِذِي القَرْنَيْنِ بَلَغَ مُلْكُهُ إلى أقْصى المَغْرِبِ وإلى أقْصى المَشْرِقِ وإلى أقْصى الشَّمالِ، بِدَلِيلِ أنَّ يَأْجُوجَ ومَأْجُوجَ قَوْمٌ مِنَ التُّرْكِ يَسْكُنُونَ في أقْصى الشَّمالِ، وهَذا الَّذِي بَلَغَهُ مُلْكُ هَذا الرَّجُلِ هو نِهايَةُ المَعْمُورِ مِنَ الأرْضِ، ومِثْلُ هَذا المَلِكِ البَسِيطِ لا شَكَّ أنَّهُ عَلى خِلافِ العاداتِ، وما كانَ كَذَلِكَ وجَبَ أنْ يَبْقى ذِكْرُهُ مُخَلَّدًا عَلى وجْهِ الدَّهْرِ، وأنْ لا يَكُونَ مُخْتَفِيًا، والمَلِكُ الَّذِي اسْمُهُ في كُتُبِ التَّوارِيخِ أنَّهُ بَلَغَ مُلْكُهُ إلى هَذا الحَدِّ لَيْسَ إلّا الإسْكَنْدَرَ وذَلِكَ أنَّهُ لَمّا ماتَ أبُوهُ جَمَعَ مُلْكَ الرُّومِ بَعْدَ أنْ كانَ مَعَ طَوائِفَ، ثُمَّ قَصَدَ مُلُوكَ العَرَبِ وقَهَرَهم وأمْعَنَ حَتّى انْتَهى إلى البَحْرِ الأخْضَرِ، ثُمَّ عادَ إلى مِصْرَ وبَنى الإسْكَنْدَرِيَّةَ وسَمّاها بِاسْمِ نَفْسِهِ، ثُمَّ دَخَلَ الشّامَ وقَصَدَ بَنِي إسْرائِيلَ ووَرَدَ بَيْتَ المَقْدِسِ (p-١٥٩)وذَبَّحَ في مَذْبَحِهِ ثُمَّ عَطَفَ إلى أرْمِينِيَّةَ ودانَ لَهُ العِراقِيُّونَ والقِبْطُ والبَرْبَرُ، ثُمَّ نَحْوِ دارِ ابْنِ دارا وهَزَمَهُ مَرّاتٍ إلى أنْ قَتَلَهُ صاحِبُ حَرْبِهِ، واسْتَوْلى الإسْكَنْدَرُ عَلى مَمالِكِ الفُرْسِ وقَصَدَ الهِنْدَ والصِّينَ وغَزا الأُمَمَ البَعِيدَةَ ورَجَعَ إلى خُراسانَ وبَنى المُدُنَ الكَثِيرَةَ ورَجَعَ إلى العِراقِ ومَرِضَ بِشَهْرَزُورَ وماتَ بِها.
ووَرَدَ في الحَدِيثِ: «إنَّ الَّذِينَ مَلَكُوا الأرْضَ أرْبَعَةٌ مُؤْمِنانِ: سُلَيْمانُ بْنُ داوُدَ، وذُو القَرْنَيْنِ» . وقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُ ذَلِكَ وثَبَتَ في عِلْمِ التَّوارِيخِ أنَّ الَّذِي هَذا شَأْنُهُ ما كانَ إلّا الإسْكَنْدَرَ فَوَجَبَ القَطْعُ أنَّ المُرادَ بِذِي القَرْنَيْنِ هو الإسْكَنْدَرُ بْنُ فَيْلَفُوسَ اليُونانِيُّ. وقِيلَ تَمْكِينُهُ في الأرْضِ بِالنُّبُوَّةِ وإجْراءِ المُعْجِزاتِ. وقِيلَ: تَمْكِينُهُ بِأنْ سَخَّرَ لَهُ السَّحابَ وحَمَلَهُ عَلَيْها وبَسَطَ لَهُ النُّورَ فَكانَ اللَّيْلُ والنَّهارُ عَلَيْهِ سَواءً. وقِيلَ: بِكَثْرَةِ أعْوانِهِ وجُنُودِهِ والهَيْبَةِ والوَقارِ وقَذْفِ الرُّعْبِ في أعْدائِهِ وتَسْهِيلِ السَّيْرِ عَلَيْهِ وتَعْرِيفِهِ فِجاجَ الأرْضِ واسْتِيلائِهِ عَلى بَرِّها وبَحْرِها.
﴿وآتَيْناهُ مِن كُلِّ شَيْءٍ﴾، أيْ: يَحْتاجُ إلَيْهِ في الوُصُولِ إلى أغْراضِهِ (سَبَبًا)، أيْ: طَرِيقًا مُوَصِّلًا إلَيْهِ، والسَّبَبُ ما يُتَوَصَّلُ بِهِ إلى المَقْصُودِ مِن عِلْمٍ أوْ قُدْرَةٍ أوْ آلَةٍ، فَأرادَ بُلُوغَ المَغْرِبِ ﴿فَأتْبَعَ سَبَبًا﴾ يُوَصِّلُهُ إلَيْهِ حَتّى بَلَغَ، وكَذَلِكَ أرادَ المَشْرِقَ ﴿فَأتْبَعَ سَبَبًا﴾ وأرادَ بُلُوغَ السَّدَّيْنِ ﴿فَأتْبَعَ سَبَبًا﴾ وأصْلُ السَّبَبِ الحَبْلُ، ثُمَّ تَوَسَّعَ فِيهِ حَتّى صارَ يُطْلَقُ عَلى ما يُتَوَصَّلُ بِهِ إلى المَقْصُودِ. وقالَ الحَسَنُ: بَلاغًا إلى حَيْثُ أرادَ. وقَرَأ زَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ والزُّهْرِيُّ والأعْمَشُ وطَلْحَةُ وابْنُ أبِي لَيْلى والكُوفِيُّونَ وابْنُ عامِرٍ ﴿فَأتْبَعَ﴾ ثَلاثَتُها بِالتَّخْفِيفِ. وقَرَأ باقِي السَّبْعَةِ بِالتَّشْدِيدِ، والظّاهِرُ أنَّهُما بِمَعْنًى واحِدٍ. وعَنْ يُونُسَ بْنِ حَبِيبٍ وأبِي زَيْدٍ أنَّهُ بِقَطْعِ الهَمْزَةِ عِبارَةٌ عَنِ المُجِدِّ المُسْرِعِ الحَثِيثِ الطَّلَبِ، وبِوَصْلِها إنَّما يَتَضَمَّنُ الِاقْتِفاءَ دُونَ هَذِهِ الصِّفاتِ.
وقَرَأ عَبْدُ اللَّهِ وطَلْحَةُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ وعَمْرُو بْنُ العاصِي وابْنُ عُمَرَ وعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرٍو ومُعاوِيَةُ والحَسَنُ وزَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ وابْنُ عامِرٍ وحَمْزَةُ والكِسائِيُّ (حامِيَةٍ) بِالياءِ، أيْ: حارَّةٍ. وقَرَأ ابْنُ عَبّاسٍ وباقِي السَّبْعَةِ وشَيْبَةُ وحُمَيْدٌ وابْنُ أبِي لَيْلى ويَعْقُوبُ وأبُو حاتِمٍ وابْنُ جُبَيْرٍ الأنْطاكِيُّ (حَمِئَةٍ) بِهَمْزَةٍ مَفْتُوحَةٍ والزُّهْرِيُّ يُلَيِّنُها، يُقالُ حَمِئَتِ البِئْرُ تَحْمَأُ حَمَأً فَهي حَمِئَةٌ، وحَمَأْتُها نَزَعْتُ حَمْأتَها وأحْمَأْتُها أبْقَيْتُ فِيها الحَمْأةَ، ولا تَنافِي بَيْنَ الحامِيَةِ والحَمِئَةِ؛ إذْ تَكُونُ العَيْنُ جامِعَةً لِلْوَصْفَيْنِ. وقالَ أبُو حاتِمٍ: وقَدْ تُمْكِنُ أنْ تَكُونَ حامِيَةٌ مَهْمُوزَةً بِمَعْنى ذاتِ حَمْأةٍ فَتَكُونَ القِراءَتانِ بِمَعْنًى واحِدٍ يَعْنِي أنَّهُ سُهِّلَتِ الهَمْزَةُ بِإبْدالِها ياءً لِكَسْرَةِ ما قَبْلَها، وفي التَّوْراةِ تَغْرُبُ في ماءٍ وطِينٍ. وقالَ تُبَّعٌ:
؎فَرَأى مَغِيبَ الشَّمْسِ عِنْدَ مَآبِها ∗∗∗ في عَيْنِ ذِي خِلْبٍ وثاطٍ حَرْمَدِ
أيْ: في عَيْنِ ماءٍ ذِي طِينٍ وحُمٍّ أسْوَدَ. وفي حَدِيثِ أبِي ذَرٍّ «أنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ نَظَرَ إلى الشَّمْسِ عِنْدَ غُرُوبِها فَقالَ: ”أتَدْرِي أيْنَ تَغْرُبُ يا أبا ذَرٍّ ؟“ فَقُلْتُ: لا. فَقالَ: ”إنَّها تَغْرُبُ في عَيْنٍ حامِيَةٍ“» . وهَذا الحَدِيثُ وظاهِرُ النَّصِّ دَلِيلٌ عَلى أنَّ قَوْلَهُ ﴿فِي عَيْنٍ﴾ مُتَعَلِّقٌ بِقَوْلِهِ ﴿تَغْرُبُ﴾ لا ما قالَهُ بَعْضُ المُتَعَسِّفِينَ: أنَّ قَوْلَهُ في ﴿عَيْنٍ حَمِئَةٍ﴾ إنَّما المُرادُ أنَّ ذا القَرْنَيْنِ كانَ فِيها، أيْ: هي آخِرُ الأرْضِ، ومَعْنى ﴿تَغْرُبُ في عَيْنٍ﴾، أيْ: فِيما تَرى العَيْنُ لا أنَّ ذَلِكَ حَقِيقَةٌ كَما نُشاهِدُها في الأرْضِ المَلْساءِ كَأنَّها تَدْخُلُ في الأرْضِ، ويَجُوزُ أنْ تَكُونَ هَذِهِ العَيْنُ مِنَ البَحْرِ، ويَجُوزُ أنْ تَكُونَ الشَّمْسُ تَغِيبُ وراءَها، وزَعَمَ بَعْضُ البَغْدادِيِّينَ أنَّ (في) بِمَعْنى عِنْدَ، أيْ: ﴿تَغْرُبُ﴾ عِنْدَ عَيْنٍ.
﴿ووَجَدَ عِنْدَها قَوْمًا﴾، أيْ: عِنْدَ تِلْكَ العَيْنِ. قالَ ابْنُ السّائِبِ: مُؤْمِنِينَ وكافِرِينَ. وقالَ غَيْرُهُ: كَفَرَةٌ لِباسُهم جُلُودُ السِّباعِ وطَعامُهم ما أحْرَقَتْهُ الشَّمْسُ مِنَ الدَّوابِّ، وما لَفِظَتْهُ العَيْنُ مِنَ الحُوتِ إذا غَرَبَتْ. وقالَ وهْبٌ: انْطَلَقَ يَؤُمُّ المَغْرِبَ إلى أنِ انْتَهى إلى باسَكَ فَوَجَدَ جَمْعًا لا يُحْصِيهِمْ إلّا اللَّهُ، فَضَرَبَ حَوْلَهم ثَلاثَةَ عَساكِرَ حَتّى جَمَعَهم في مَكانٍ واحِدٍ، ثُمَّ دَخَلَ عَلَيْهِمْ في النُّورِ ودَعاهم إلى عِبادَةِ اللَّهِ، فَمِنهم مَن آمَنَ ومِنهم مَن صَدَّ عَنْهُ. وقالَ أبُو زَيْدٍ السُّهَيْلِيُّ: هم أهْلُ حابُوسَ (p-١٦٠)ويُقالُ لَها بِالسُّرْيانِيَّةِ جِرْجِيسا يَسْكُنُها قَوْمٌ مِن نَسْلِ ثَمُودَ. بَقِيَّتُهُمُ الَّذِينَ آمَنُوا بِصالِحٍ عَلَيْهِ السَّلامُ.
وظاهِرُ قَوْلِهِ (قُلْنا) أنَّهُ أوْحى اللَّهُ إلَيْهِ عَلى لِسانِ مَلِكٍ. وقِيلَ: كَلَّمَهُ كِفاحًا مِن غَيْرِ رَسُولٍ كَما كَلَّمَ مُوسى عَلَيْهِ السَّلامُ، وعَلى هَذَيْنِ القَوْلَيْنِ يَكُونُ نَبِيًّا، ويَبْعُدُ ما قالَهُ بَعْضُ المُتَأوِّلِينَ أنَّهُ إلْهامٌ وإلْقاءٌ في رَوْعِهِ؛ لِأنَّ مِثْلَ هَذا التَّخْيِيرِ لا يَكُونُ إلّا بِوَحْيٍ إذِ التَّكالِيفُ وإزْهاقُ النُّفُوسِ لا تَتَحَقَّقُ بِالإلْهامِ إلّا بِالإعْلامِ. وقالَ عَلِيُّ بْنُ عِيسى: المَعْنى (قُلْنا) يا مُحَمَّدُ قالُوا ﴿ياذا القَرْنَيْنِ﴾ ثُمَّ حُذِفَ القَوْلُ الأوَّلُ؛ لِأنَّ ذا القَرْنَيْنِ لَمْ يَصِحَّ أنَّهُ نَبِيٌّ فَيُخاطِبَهُ اللَّهُ، وعَلى هَذا يَكُونُ الضَّمِيرُ الَّذِي في قالُوا المَحْذُوفَةِ يَعُودُ عَلى جُنْدِهِ وعَسْكَرِهِ الَّذِينَ كانُوا مَعَهُ.
وقَوْلُهُ ﴿إمّا أنْ تُعَذِّبَ﴾ بِالقَتْلِ عَلى الكُفْرِ ﴿وإمّا أنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْنًا﴾، أيْ: بِالحَمْلِ عَلى الإيمانِ والهُدى، إمّا أنْ تَكْفُرَ فَتُعَذَّبَ، وإمّا أنْ تُؤْمِنَ فَتُحْسِنَ فَعُبِّرَ في التَّخْيِيرِ بِالمُسَبَّبِ عَنِ السَّبَبِ. قالَ الطَّبَرِيُّ: اتِّخاذُ الحُسْنِ هو أسْرُهم مَعَ كُفْرِهِمْ يَعْنِي أنَّهُ خُيِّرَ مَعَ كُفْرِهِمْ بَيْنَ قَتْلِهِمْ وبَيْنَ أسْرِهِمْ، وتَفْصِيلُ ذِي القَرْنَيْنِ ﴿أمّا مَن ظَلَمَ﴾ و(أمّا مَن آمَنَ) يَدْفَعُ هَذا القَوْلَ ولَمّا خَيَّرَهُ تَعالى بَيْنَ تَعْذِيبِهِمْ ودُعائِهِمْ إلى الإسْلامِ اخْتارَ الدَّعْوَةَ والِاجْتِهادَ في اسْتِمالَتِهِمْ. فَقالَ: أمّا مَن دَعْوَتَهُ فَأبى إلّا البَقاءَ عَلى الظُّلْمِ وهو الكُفْرُ هُنا بِلا خِلافٍ، فَذَلِكَ هو المُعَذَّبُ في الدّارَيْنِ، وأمّا مَن آمَنَ وعَمِلَ ما يَقْتَضِيهِ الإيمانُ، ﴿فَلَهُ جَزاءً الحُسْنى﴾ . وأتى بِحَرْفِ التَّنْفِيسِ في ﴿فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ﴾ لِما يَتَخَلَّلُ بَيْنَ إظْهارِهِ كُفْرَهُ وبَيْنَ تَعْذِيبِهِ مِن دُعائِهِ إلى الإيمانِ وتَأبِّيهِ عَنْهُ، فَهو لا يُعاجِلُهم بِالقَتْلِ عَلى ظُلْمِهِمْ بَلْ يَدْعُوهم ويُذَكِّرُهم فَإنْ رَجَعُوا وإلّا فالقَتْلُ.
وقَوْلُهُ ﴿ثُمَّ يُرَدُّ إلى رَبِّهِ﴾، أيْ: يَوْمَ القِيامَةِ وأتى بِنُونِ العَظَمَةِ في ﴿نُعَذِّبُهُ﴾ عَلى عادَةِ المُلُوكِ في قَوْلِهِمْ نَحْنُ فَعَلْنا. وقَوْلُهُ (إلى رَبِّهِ) فِيهِ إشْعارٌ بِأنَّ التَّخْيِيرَ لِذِي القَرْنَيْنِ لَيْسَ مِنَ اللَّهِ تَعالى، إذْ لَوْ كانَ كَذَلِكَ لَكانَ التَّرْكِيبُ: ثُمَّ يُرَدُّ إلَيْكَ فَتُعَذِّبُهُ، ولا يَبْعُدُ أنْ يَكُونَ التَّخْيِيرُ مِنَ اللَّهِ ويَكُونُ قَدْ أعْلَمَ ذُو القَرْنَيْنِ بِذَلِكَ أتْباعَهُ ثُمَّ فَصَّلَ مُخاطِبًا لِأتْباعِهِ لا لِرَبِّهِ تَعالى، وما أحْسَنَ مَجِيءُ هَذِهِ الجُمَلِ لَمّا ذَكَرَ ما يَسْتَحِقُّهُ مِن ظُلْمٍ بَدَأ بِما هو أقْرَبُ لَهم ومَحْسُوسٌ عِنْدَهم، وهو قَوْلُهُ ﴿فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ﴾ ثُمَّ أخْبَرَ بِما يَلْحَقُهُ آخِرًا يَوْمَ القِيامَةِ وهو تَعْذِيبُ اللَّهِ إيّاهُ العَذابَ النُّكُرَ؛ ولِأنَّ التَّرْتِيبَ الواقِعَ هو كَذا ولَمّا ذَكَرَ ما يَسْتَحِقُّهُ ﴿مَن آمَنَ وعَمِلَ صالِحًا﴾ ذَكَرَ جَزاءَ اللَّهِ لَهُ في الآخِرَةِ وهو (الحُسْنى)، أيِ الجَنَّةُ؛ لِأنَّ طَمَعَ المُؤْمِنِ في الآخِرَةِ ورَجاءَهُ هو الَّذِي حَمَلَهُ عَلى أنْ آمَنَ لِأجْلِ جَزائِهِ في الآخِرَةِ، وهو عَظِيمٌ بِالنِّسْبَةِ لِلْإحْسانِ في الدُّنْيا ثُمَّ أتْبَعَ ذَلِكَ بِإحْسانِهِ لَهُ في الدُّنْيا بِقَوْلِهِ ﴿وسَنَقُولُ لَهُ مِن أمْرِنا يُسْرًا﴾، أيْ: لا نَقُولُ لَهُ ما يَتَكَلَّفُهُ مِمّا هو شاقٌّ عَلَيْهِ، أيْ: قَوْلًا ذا يُسْرٍ وسُهُولَةٍ، كَما قالَ قَوْلًا مَيْسُورًا. ولَمّا ذَكَرَ ما أعَدَّ اللَّهُ لَهُ مِنَ الحُسْنى جَزاءً لَمْ يُناسِبْ أنْ يَذْكُرَ جَزاءَهُ بِالفِعْلِ بَلِ اقْتَصَرَ عَلى القَوْلِ أدَبًا مَعَ اللَّهِ تَعالى وإنْ كانَ يَعْلَمُ أنَّهُ يُحْسِنُ إلَيْهِ فِعْلًا وقَوْلًا.
وقَرَأ حَمْزَةُ والكِسائِيُّ وحَفْصٌ وأبُو بَحْرِيَّةَ والأعْمَشُ وطَلْحَةُ وابْنُ مُناذِرٍ ويَعْقُوبُ وأبُو عُبَيْدٍ وابْنُ سَعْدانَ وابْنُ عِيسى الأصْبَهانِيُّ وابْنُ جُبَيْرٍ الأنْطاكِيُّ ومُحَمَّدُ بْنُ جَرِيرٍ ﴿فَلَهُ جَزاءً﴾ بِالنَّصْبِ والتَّنْوِينِ وانْتَصَبَ (جَزاءً) عَلى أنَّهُ مَصْدَرٌ في مَوْضِعِ الحالِ، أيْ: مُجازًى كَقَوْلِكَ: في الدّارِ قائِمًا زَيْدٌ. وقالَ أبُو عَلِيٍّ قالَ أبُو الحَسَنِ: هَذا لا تَكادُ العَرَبُ تَكَلَّمُ بِهِ مُقَدَّمًا إلّا في الشِّعْرِ. وقِيلَ: انْتَصَبَ عَلى المَصْدَرِ، أيْ: يَجْزِي (جَزاءً) . وقالَ الفَرّاءُ: ومَنصُوبٌ عَلى التَّفْسِيرِ والمُرادُ بِالحُسْنى عَلى قِراءَةِ النَّصْبِ الجَنَّةُ. وقَرَأ باقِي السَّبْعَةِ (جَزاءُ الحُسْنى) بِرَفْعِ (جَزاءً) مُضافًا إلى (الحُسْنى) . قالَ أبُو عَلِيٍّ جَزاءُ الخِلالِ الحَسَنَةِ الَّتِي أتاها وعَمِلَها أوْ يُرادُ بِالحُسْنى الحَسَنَةُ والجَنَّةُ هي الجَزاءُ، وأضافَ كَما قالَ دارَ الآخِرَةِ و(جَزاءٌ) مُبْتَدَأٌ ولَهُ خَبَرُهُ.
وقَرَأ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ إسْحاقَ (فَلَهُ جَزاءٌ) مَرْفُوعٌ وهو مُبْتَدَأٌ وخَبَرٌ و(الحُسْنى) بَدَلٌ مِن (جَزاءٌ) . وقَرَأ ابْنُ عَبّاسٍ ومَسْرُوقٌ (جَزاءَ) نُصِبَ بِغَيْرِ تَنْوِينٍ (الحُسْنى) بِالإضافَةِ، ويُخَرَّجُ عَلى حَذْفِ المُبْتَدَإ لِدَلالَةِ (p-١٦١)المَعْنى عَلَيْهِ، أيْ: (فَلَهُ) الجَزاءُ ﴿جَزاءً الحُسْنى﴾ وخَرَّجَهُ المَهْدَوِيُّ عَلى حَذْفِ التَّنْوِينِ لِالتِقاءِ السّاكِنَيْنِ. وقَرَأ أبُو جَعْفَرٍ (يُسُرًا) بِضَمِّ السِّينِ حَيْثُ وقَعَ.
﴿ثُمَّ أتْبَعَ سَبَبًا﴾ [الكهف: ٨٩]، أيْ: طَرِيقًا إلى مَقْصِدِهِ الَّذِي يُسِّرَ لَهُ. وقَرَأ الحَسَنُ وعِيسى وابْنُ مُحَيْصِنٍ (مَطْلَعَ) بِفَتْحِ اللّامِ، ورُوِيَتْ عَنِ ابْنِ كَثِيرٍ وأهْلِ مَكَّةَ وهو القِياسُ. وقَرَأ الجُمْهُورُ بِكَسْرِها وهو سَماعٌ في أحْرُفٍ مَعْدُودَةٍ، وقِياسُ كَسْرِهِ أنْ يَكُونَ المُضارِعُ تَطْلِعُ بِكَسْرِ اللّامِ، وكانَ الكِسائِيُّ يَقُولُ: هَذِهِ لُغَةٌ ماتَتْ في كَثِيرٍ مِن لُغاتِ العَرَبِ، يَعْنِي ذَهَبَ مَن يَقُولُ مِنَ العَرَبِ (تَطْلِعُ) بِكَسْرِ اللّامِ وبَقِيَ (مَطْلِعُ) بِكَسْرِها في اسْمِ المَكانِ والزَّمانِ عَلى ذَلِكَ القِياسِ، والقَوْمُ هُنا الزِّنْجُ. وقالَ قَتادَةُ هُمُ الهُنُودُ وما وراءَهم. والسِّتْرُ البُنْيانُ أوِ الثِّيابُ أوِ الشَّجَرُ والجِبالُ أقْوالٌ، والمَعْنى أنَّهم لا شَيْءَ لَهم يَسْتُرُهم مِن حَرِّ الشَّمْسِ. وقِيلَ: تَنْفُذُ الشَّمْسُ سُقُوفَهم وثِيابَهم فَتَصِلُ إلى أجْسامِهِمْ. فَقِيلَ: إذا طَلَعَتْ نَزَلُوا الماءَ حَتّى يَنْكَسِرَ حَرُّها، قالَهُ الحَسَنُ وقَتادَةُ وابْنُ جُرَيْجٍ. وقِيلَ: يَدْخُلُونَ أسْرابًا. وقالَ مُجاهِدٌ: السُّودانُ عِنْدَ مَطْلَعِ الشَّمْسِ أكْثَرُ مِن جَمِيعِ أهْلِ الأرْضِ. قالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: والظّاهِرُ مِنَ اللَّفْظِ أنَّها عِبارَةٌ بَلِيغَةٌ عَنْ قُرْبِ الشَّمْسِ مِنهم، وفِعْلُها بِقُدْرَةِ اللَّهِ فِيهِمْ ونَيْلُها مِنهم، ولَوْ كانَتْ لَهم أسْرابٌ لَكانَ سِتْرًا كَثِيفًا انْتَهى. وقالَ بَعْضُ الرُّجّازِ:
؎بِالزِّنْجِ حَرٌّ غَيَّرَ الأجْسادا ∗∗∗ حَتّى كَسا جُلُودَها سَوادا
وذَلِكَ إنَّما هو مِن قُوَّةِ حَرِّ الشَّمْسِ عِنْدَهم واسْتِمْرارِها. كَذَلِكَ الإشارَةُ إلى البُلُوغِ، أيْ: كَما بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ بَلَغَ مَطْلَعَها. وقِيلَ ﴿أتْبَعَ سَبَبًا﴾ [الكهف: ٨٩] كَما ﴿أتْبَعَ سَبَبًا﴾ [الكهف: ٨٩] . وقِيلَ: كَما وجَدَ أُولَئِكَ عِنْدَ مَغْرِبِ الشَّمْسِ وحَكَمَ فِيهِمْ كَذَلِكَ وجَدَ هَؤُلاءِ عِنْدَ مَطْلَعِ الشَّمْسِ وحَكَمَ فِيهِمْ. وقِيلَ: كَذَلِكَ أمَرَهم كَما قَصَصْنا عَلَيْكم. وقِيلَ: (تَطْلُعُ) طُلُوعُها مِثْلُ غُرُوبِها. وقِيلَ: ﴿لَمْ نَجْعَلْ لَهم مِن دُونِها سِتْرًا كَذَلِكَ﴾ [الكهف: ٩٠]، أيْ: مِثْلَ أُولَئِكَ الَّذِينَ وجَدَهم في مَغْرِبِ الشَّمْسِ، كَفَرَةٌ مِثْلُهم، وحُكْمُهم مِثْلُ حُكْمِهِمْ، في التَّعْذِيبِ لِمَن بَقِيَ عَلى الكُفْرِ، والإحْسانِ لِمَن آمَنَ.
وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: (كَذَلِكَ)، أيْ: أمْرُ ذِي القَرْنَيْنِ كَذَلِكَ، أيْ: كَما وصَفْناهُ تَعْظِيمًا لِأمْرِهِ. وقِيلَ ﴿لَمْ نَجْعَلْ لَهم مِن دُونِها سِتْرًا﴾ [الكهف: ٩٠] مِثْلَ ذَلِكَ السِّتْرِ الَّذِي جَعَلْنا لَكم مِنَ الجِبالِ والحُصُونِ والأبْنِيَةِ والأكْنانِ مِن كُلِّ جِنْسٍ، والثِّيابِ مِن كُلِّ صِنْفٍ. وقالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: (كَذَلِكَ) مَعْناهُ فَعَلَ مَعَهم كَفِعْلِهِ مَعَ الأوَّلِينَ أهْلِ المَغْرِبِ، وأخْبَرَ بِقَوْلِهِ (كَذَلِكَ) ثُمَّ أخْبَرَ تَعالى عَنْ إحاطَتِهِ بِجَمِيعِ ما لَدى ذِي القَرْنَيْنِ وما تَصَرَّفَ فِيهِ مِن أفْعالِهِ، ويَحْتَمِلُ أنْ يَكُونَ (كَذَلِكَ) اسْتِئْنافَ قَوْلٍ ولا يَكُونُ راجِعًا عَلى الطّائِفَةِ الأُولى فَتَأمَّلْهُ، والأوَّلُ أصْوَبُ. وإذا كانَ مُسْتَأْنَفًا لا تَعَلُّقَ لَهُ بِما قَبْلَهُ فَيَحْتاجُ إلى تَقْدِيرٍ يُتِمُّ بِهِ كَلامًا.
{"ayahs_start":83,"ayahs":["وَیَسۡـَٔلُونَكَ عَن ذِی ٱلۡقَرۡنَیۡنِۖ قُلۡ سَأَتۡلُوا۟ عَلَیۡكُم مِّنۡهُ ذِكۡرًا","إِنَّا مَكَّنَّا لَهُۥ فِی ٱلۡأَرۡضِ وَءَاتَیۡنَـٰهُ مِن كُلِّ شَیۡءࣲ سَبَبࣰا","فَأَتۡبَعَ سَبَبًا","حَتَّىٰۤ إِذَا بَلَغَ مَغۡرِبَ ٱلشَّمۡسِ وَجَدَهَا تَغۡرُبُ فِی عَیۡنٍ حَمِئَةࣲ وَوَجَدَ عِندَهَا قَوۡمࣰاۖ قُلۡنَا یَـٰذَا ٱلۡقَرۡنَیۡنِ إِمَّاۤ أَن تُعَذِّبَ وَإِمَّاۤ أَن تَتَّخِذَ فِیهِمۡ حُسۡنࣰا","قَالَ أَمَّا مَن ظَلَمَ فَسَوۡفَ نُعَذِّبُهُۥ ثُمَّ یُرَدُّ إِلَىٰ رَبِّهِۦ فَیُعَذِّبُهُۥ عَذَابࣰا نُّكۡرࣰا","وَأَمَّا مَنۡ ءَامَنَ وَعَمِلَ صَـٰلِحࣰا فَلَهُۥ جَزَاۤءً ٱلۡحُسۡنَىٰۖ وَسَنَقُولُ لَهُۥ مِنۡ أَمۡرِنَا یُسۡرࣰا"],"ayah":"وَیَسۡـَٔلُونَكَ عَن ذِی ٱلۡقَرۡنَیۡنِۖ قُلۡ سَأَتۡلُوا۟ عَلَیۡكُم مِّنۡهُ ذِكۡرًا"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق