الباحث القرآني

قَوْلُهُ تَعالى: ﴿ويَسْألُونَكَ عَنْ ذِي القَرْنَيْنِ﴾ الآيَةَ. أخْرَجَ اِبْنُ أبِي حاتِمٍ عَنِ السُّدِّيِّ قالَ: «قالَتِ [٢٧٣ظ] اليَهُودُ لِلنَّبِيِّ ﷺ: يا مُحَمَّدُ، إنَّما تَذْكُرُ إبْراهِيمَ ومُوسى وعِيسى والنَّبِيِّينَ، أنَّكَ سَمِعْتَ ذِكْرَهم مِنّا، فَأخْبِرْنا عَنْ نَبِيٍّ لَمْ يَذْكُرْهُ اللَّهُ في التَّوْراةِ إلّا في مَكانٍ واحِدٍ. قالَ: ”ومَن هُوَ؟“ قالُوا: ذُو القَرْنَيْنِ. قالَ: ”ما بَلَغَنِي عَنْهُ شَيْءٌ“ . فَخَرَجُوا فَرِحِينَ وقَدْ غَلَبُوا في أنْفُسِهِمْ، فَلَمْ يَبْلُغُوا بابَ البَيْتِ حَتّى نَزَلَ جِبْرِيلُ بِهَؤُلاءِ الآياتِ: ﴿ويَسْألُونَكَ عَنْ ذِي القَرْنَيْنِ قُلْ سَأتْلُو عَلَيْكم مِنهُ ذِكْرًا﴾ [الكهف»: ٨٣] . وأخْرَجَ اِبْنُ أبِي حاتِمٍ عَنْ عُمَرَ مَوْلى غُفْرَةَ قالَ: «دَخَلَ بَعْضُ أهْلِ الكِتابِ عَلى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ فَسَألُوهُ فَقالُوا: يا أبا القاسِمِ، كَيْفَ تَقُولُ في رَجُلٍ كانَ يَسِيحُ في الأرْضِ؟ قالَ: ”لا عِلْمَ لِي بِهِ“ . فَبَيْنَما (p-٦٣٠)هَمُ عَلى ذَلِكَ إذْ سَمِعُوا نَقِيضًا في السَّقْفِ، ووَجَدَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ غُمَّةَ الوَحْيِ، ثُمَّ سُرِّيَ عَنْهُ، فَتَلا: ”﴿ويَسْألُونَكَ عَنْ ذِي القَرْنَيْنِ﴾“ الآيَةَ. فَلَمّا ذَكَرَ السَّبَبَ قالُوا: أتاكَ خَبَرُهُ يا أبا القاسِمِ، حَسْبُكَ» . وأخْرَجَ عَبْدُ الرَّزّاقِ، وابْنُ المُنْذِرِ، وابْنُ أبِي حاتِمٍ، والحاكِمُ وصَحَّحَهُ، وابْنُ مَرْدُويَهْ، عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ قالَ: قالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «”ما أدْرِي، أتُبَّعٌ كانَ لَعِينًا أمْ لا، وما أدْرِي،، أذُو القَرْنَيْنِ كانَ نَبِيًّا أمْ لا، وما أدْرِي، الحُدُودُ كَفّاراتٌ لِأهْلِها أمْ لا“» . وأخْرَجَ اِبْنُ مَرْدُويَهْ عَنْ سالِمِ بْنِ أبِي الجَعْدِ قالَ: «سُئِلَ عَلِيٌّ عَنْ ذِي القَرْنَيْنِ: أنَبِيٌّ هُوَ؟ فَقالَ: سَمِعْتُ نَبِيَّكم ﷺ يَقُولُ: ”هُوَ عَبْدٌ ناصَحَ اللَّهَ فَنَصَحَهُ“» . وأخْرَجَ اِبْنُ عَبْدِ الحَكَمِ في ”فُتُوحِ مِصْرَ“، وابْنُ المُنْذِرِ، وابْنُ أبِي حاتِمٍ، وابْنُ الأنْبارِيِّ في ”المَصاحِفِ“، وابْنُ أبِي عاصِمٍ في ”السُّنَّةِ“، وابْنُ مَرْدُويَهْ، مِن طَرِيقِ أبِي الطُّفَيْلِ، أنَّ اِبْنَ الكَوّاءِ سَألَ عَلِيَّ بْنَ أبِي طالِبٍ عَنْ ذِي القَرْنَيْنِ: أنَبِيّا كانَ أمْ مَلَكًا قالَ: لَمْ يَكُنْ نَبِيًّا ولا مَلَكًا، ولَكِنْ كانَ عَبْدًا صالِحًا، أحَبَّ اللَّهَ فَأحَبَّهُ، (p-٦٣١)ونَصَحَ اللَّهَ فَنَصَحَهُ، بَعَثَهُ اللَّهُ إلى قَوْمِهِ، فَضَرَبُوهُ عَلى قَرْنِهِ فَماتَ، ثُمَّ أحْياهُ اللَّهُ لِجِهادِهِمْ، ثُمَّ بَعَثَهُ إلى قَوْمِهِ، فَضَرَبُوهُ عَلى قَرْنِهِ الآخَرِ فَماتَ، فَأحْياهُ اللَّهُ لِجِهادِهِمْ، فَلِذَلِكَ سُمِّيَ ذا القَرْنَيْنِ، وإنَّ فِيكم مِثْلَهُ. وأخْرَجَ اِبْنُ مَرْدُويَهْ عَنِ اِبْنِ عَبّاسٍ قالَ: ذُو القَرْنَيْنِ: عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الضَّحّاكِ بْنِ مَعَدٍّ. وأخْرَجَ اِبْنُ أبِي حاتِمٍ، وابْنُ مَرْدُويَهْ عَنِ اِبْنِ عَمْرٍو قالَ: ذُو القَرْنَيْنِ نَبِيٌّ. وأخْرَجَ اِبْنُ أبِي حاتِمٍ عَنِ الأحْوَصِ بْنِ حَكِيمٍ، عَنْ أبِيهِ، «أنَّ النَّبِيَّ ﷺ: سُئِلَ عَنْ ذِي القَرْنَيْنِ فَقالَ: ”هُوَ مَلَكٌ مَسَحَ الأرْضَ بِالأسْبابِ“» . وأخْرَجَ اِبْنُ عَبْدِ الحَكَمِ في ”فُتُوحِ مِصْرَ“، وابْنُ المُنْذِرِ، وابْنُ أبِي حاتِمٍ، وأبُو الشَّيْخِ في ”العَظَمَةِ“، عَنْ خالِدِ بْنِ مَعْدانَ الكَلاعِيِّ، «أنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ سُئِلَ عَنْ ذِي القَرْنَيْنِ فَقالَ: ”مَلَكٌ مَسَحَ الأرْضَ مِن تَحْتِها بِالأسْبابِ“» . (p-٦٣٢)وأخْرَجَ اِبْنُ عَبْدِ الحَكَمِ، وابْنُ المُنْذِرِ، وابْنُ أبِي حاتِمٍ، وابْنُ الأنْبارِيِّ في كِتابِ ”الأضْدادِ“، وأبُو الشَّيْخِ، عَنْ عُمَرَ بْنِ الخَطّابِ، أنَّهُ سَمِعَ رَجُلًا يُنادِي بِمِنًى: يا ذا القَرْنَيْنِ. فَقالَ لَهُ عُمَرُ: ها أنْتُمْ قَدْ سَمَّيْتُمْ بِأسْماءِ الأنْبِياءِ، فَما بالُكم وأسْماءِ المَلائِكَةِ! وأخْرَجَ اِبْنُ أبِي حاتِمٍ عَنْ جُبَيْرِ بْنِ نُفَيْرٍ، أنَّ ذا القَرْنَيْنِ مَلَكٌ مِنَ المَلائِكَةِ أهْبَطَهُ اللَّهُ إلى الأرْضِ وآتاهُ مِن كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا. وأخْرَجَ الشِّيرازِيُّ في ”الألْقابِ“ عَنْ جُبَيْرِ بْنِ نُفَيْرٍ، «أنَّ أحْبارًا مِنَ اليَهُودِ قالُوا لِلنَّبِيِّ ﷺ: حَدِّثْنا عَنْ ذِي القَرْنَيْنِ إنْ كُنْتَ نَبِيًّا. فَقالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: ”هُوَ مَلَكٌ مَسَحَ الأرْضَ بِالأسْبابِ“» . وأخْرَجَ اِبْنُ أبِي حاتِمٍ عَنِ اِبْنِ زَيْدٍ قالَ: كانَ نَذِيرٌ واحِدٌ بَلَغَ ما بَيْنَ المَشْرِقِ والمَغْرِبِ؛ ذُو القَرْنَيْنِ، بَلَغَ السَّدَّيْنِ، وكانَ نَذِيرًا، ولَمْ أسْمَعْ بِحَقٍّ أنَّهُ كانَ نَبِيًّا. وأخْرَجَ أبُو الشَّيْخِ في ”العَظَمَةِ“ عَنْ أبِي الوَرْقاءِ قالَ: قُلْتُ لِعَلِيِّ بْنِ أبِي طالِبٍ: ذُو القَرْنَيْنِ، ما كانَ قَرْناهُ؟ قالَ: لَعَلَّكَ تَحْسَبُ أنَّ قَرْنَيْهِ ذَهَبٌ أوْ فِضَّةٌ، كانَ نَبِيًّا فَبَعَثَهُ اللَّهُ إلى ناسٍ فَدَعاهم إلى اللَّهِ تَعالى، فَقامَ رَجُلٌ فَضَرَبَ قَرْنَهُ الأيْسَرَ فَماتَ، ثُمَّ بَعَثَهُ اللَّهُ فَأحْياهُ، ثُمَّ بَعَثَهُ إلى ناسٍ، فَقامَ رَجُلٌ فَضَرَبَ قَرْنَهُ الأيْمَنَ (p-٦٣٣)فَماتَ فَسَمّاهُ اللَّهُ ذا القَرْنَيْنِ. وأخْرَجَ أبُو الشَّيْخِ عَنْ إبْراهِيمَ بْنِ عَلِيِّ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَعْفَرٍ قالَ: إنَّما سُمِّيَ ذُو القَرْنَيْنِ ذا القَرْنَيْنِ لِشَجَّتَيْنِ شَجَّهُما عَلى قَرْنَيْهِ في اللَّهِ، وكانَ أسْوَدَ. وأخْرَجَ أبُو الشَّيْخِ عَنْ وهْبِ بْنِ مُنَبِّهٍ، أنَّ ذا القَرْنَيْنِ أوَّلُ مَن لَبِسَ العِمامَةَ، وذَلِكَ أنَّهُ كانَ في رَأْسِهِ قَرْنانِ كالظِّلْفَيْنِ يَتَحَرَّكانِ، فَلَبِسَ العِمامَةَ مِن أجْلِ ذَلِكَ، وأنَّهُ دَخَلَ الحَمّامَ ودَخَلَ كاتِبُهُ مَعَهُ، فَوَضَعَ ذُو القَرْنَيْنِ العِمامَةَ، فَقالَ لِكاتِبِهِ: هَذا أمْرٌ لَمْ يَطَّلِعْ عَلَيْهِ خَلْقٌ غَيْرُكَ، فَإنْ سَمِعْتُ بِهِ مِن أحَدٍ قَتَلْتُكَ، فَخَرَجَ الكاتِبُ مِنَ الحَمّامِ، فَأخَذَهُ كَهَيْئَةِ المَوْتِ، فَأتى الصَّحْراءَ، فَوَضَعَ فَمَهُ بِالأرْضِ، ثُمَّ نادى: ألا إنَّ لِلْمَلِكِ قَرْنَيْنِ، ألا إنَّ لِلْمَلِكِ قَرْنَيْنِ. فَأنْبَتَ اللَّهُ مِن كَلِمَتِهِ قَصَبَتَيْنِ، فَمَرَّ بِهِما راعٍ فَأُعْجِبَ بِهِما، فَقَطَعَهُما واِتَّخَذَهُما مِزْمارًا، فَكانَ إذا زَمَّرَ خَرَجَ مِنَ القَصَبَتَيْنِ: ألا إنَّ لِلْمَلِكِ قَرْنَيْنِ. فانْتَشَرَ ذَلِكَ (p-٦٣٤)فِي المَدِينَةِ، فَأرْسَلَ ذُو القَرْنَيْنِ إلى الكاتِبِ فَقالَ: لَتَصْدُقَنِّي أوْ لَأقْتُلَنَّكَ. فَقَصَّ عَلَيْهِ الكاتِبُ القِصَّةَ، فَقالَ ذُو القَرْنَيْنِ: هَذا أمْرٌ أرادَ اللَّهُ أنْ يُبْدِيَهُ. فَوَضَعَ العِمامَةَ عَنْ رَأْسِهِ. وأخْرَجَ اِبْنُ عَبْدِ الحَكَمِ في ”فُتُوحِ مِصْرَ“، وابْنُ أبِي حاتِمٍ، وأبُو الشَّيْخِ، والبَيْهَقِيُّ في ”الدَّلائِلِ“، «عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عامِرٍ الجُهَنِيِّ قالَ: كُنْتُ أخْدُمُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ، فَخَرَجْتُ ذاتَ يَوْمٍ فَإذا أنا بِرِجالٍ مِن أهْلِ الكِتابِ بِالبابِ مَعَهم مَصاحِفُ، فَقالُوا: مَن يَسْتَأْذِنُ لَنا عَلى النَّبِيِّ؟ فَدَخَلْتُ عَلى النَّبِيِّ ﷺ فَأخْبَرْتُهُ، فَقالَ: ”ما لِي ولَهُمْ، يَسْألُونِي عَمّا لا أدْرِي؟ إنَّما أنا عَبْدٌ لا أعْلَمُ إلّا ما عَلَّمَنِي رَبِّي عَزَّ وجَلَّ“ . ثُمَّ قالَ: ”أبْغِنِي وضُوءًا“ . فَأتَيْتُهُ بِوَضُوءٍ، فَتَوَضَّأ ثُمَّ صَلّى رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ اِنْصَرَفَ فَقالَ لِي وأنا أرى السُّرُورَ والبِشْرَ في وجْهِهِ: ”أدْخِلِ القَوْمَ عَلَيَّ، ومَن كانَ مِن أصْحابِي فَأدْخِلْهُ أيْضًا عَلَيَّ“ . فَأذِنْتُ لَهم فَدَخَلُوا، فَقالَ: ”إنْ شِئْتُمْ أخْبَرْتُكم عَمّا جِئْتُمْ تَسْألُونِي عَنْهُ مِن قَبْلِ أنْ تَكَلَّمُوا، وإنْ شِئْتُمْ فَتَكَلَّمُوا قَبْلَ أنْ أقُولَ“ . قالُوا: بَلْ أخْبِرْنا. قالَ: ”جِئْتُمْ (p-٦٣٥)تَسْألُونِي عَنْ ذِي القَرْنَيْنِ، إنَّ أوَّلَ أمْرِهِ أنَّهُ كانَ غُلامًا مِنَ الرُّومِ، أُعْطِيَ مُلْكًا، فَسارَ حَتّى أتى ساحِلَ أرْضِ مِصْرَ، فابْتَنى مَدِينَةً يُقالُ لَها: إسْكَنْدَرِيَّةُ. فَلَمّا فَرَغَ مِن شَأْنِها بَعَثَ اللَّهُ عَزَّ وجَلَّ إلَيْهِ مَلَكًا، فَعَرَجَ بِهِ، فاسْتَعْلى بَيْنَ السَّماءِ، ثُمَّ قالَ لَهُ: اُنْظُرْ ما تَحْتَكَ. فَقالَ: أرى مَدِينَتِي وأرى مَدائِنَ مَعَها. ثُمَّ عَرَجَ بِهِ، فَقالَ: اُنْظُرْ. فَقالَ: قَدِ اِخْتَلَطَتْ مَعَ المَدائِنِ فَلا أعْرِفُها. ثُمَّ زادَ فَقالَ: اُنْظُرْ. قالَ: أرى مَدِينَتِي وحْدَها ولا أرى غَيْرَها. قالَ لَهُ المَلَكُ: إنَّما تِلْكَ الأرْضُ كُلُّها، والَّذِي تَرى يُحِيطُ بِها هو البَحْرُ، وإنَّما أرادَ رَبُّكَ أنْ يُرِيَكَ الأرْضَ، وقَدْ جَعَلَ لَكَ سُلْطانًا فِيها، فَسِرْ في الأرْضِ فَعَلِّمِ الجاهِلَ وثَبِّتِ العالِمَ. فَسارَ حَتّى بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ، ثُمَّ سارَ حَتّى بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ، ثُمَّ أتى السَّدَّيْنِ، وهُما جَبَلانِ لَيِّنانِ يَزْلُقُ عَنْهُما كُلُّ شَيْءٍ، فَبَنى السَّدَّ، ثُمَّ أجازَ يَأْجُوجَ ومَأْجُوجَ، فَوَجَدَ قَوْمًا وُجُوهُهم وُجُوهُ الكِلابِ يُقاتِلُونَ يَأْجُوجَ ومَأْجُوجَ، ثُمَّ قَطَعَهم فَوَجَدَ أُمَّةً قِصارًا يُقاتِلُونَ القَوْمَ الَّذِينَ وُجُوهُهم وُجُوهُ الكِلابِ، ووَجَدَ أُمَّةً مِنَ الغَرانِيقِ يُقاتِلُونَ القَوْمَ القِصارَ، ثُمَّ مَضى، فَوَجَدَ أُمَّةً مِنَ الحَيّاتِ تَلْتَقِمُ الحَيَّةُ مِنها الصَّخْرَةَ العَظِيمَةَ، ثُمَّ أفْضى إلى البَحْرِ المُدِيرِ بِالأرْضِ“ . فَقالُوا: نَشْهَدُ أنَّ أمْرَهُ هَكَذا (p-٦٣٦)كَما ذَكَرْتَ، وإنّا نَجِدُهُ هَكَذا في كِتابِنا» . وأخْرَجَ اِبْنُ عَساكِرَ عَنْ سُلَيْمانَ الأشَجِّ صاحِبِ كَعْبِ الأحْبارِ، أنَّ ذا القَرْنَيْنِ كانَ رَجُلًا طَوّافًا صالِحًا، فَلَمّا وقَفَ عَلى جَبَلِ آدَمَ الَّذِي هَبَطَ عَلَيْهِ، ونَظَرَ إلى أثَرِهِ هالَهُ، فَقالَ لَهُ الخَضِرُ، وكانَ صاحِبَ لِوائِهِ الأكْبَرِ: ما لَكَ أيُّها المَلِكُ، قالَ: هَذا أثَرُ الآدَمِيِّينَ، أرى مَوْضِعَ الكَفَّيْنِ والقَدَمَيْنِ وهَذِهِ القُرْحَةَ، وأرى هَذِهِ الأشْجارَ حَوْلَهُ قائِمَةً يابِسَةً يَسِيلُ مِنها ماءٌ أحْمَرُ، إنَّ لَها لَشَأْنًا. فَقالَ لَهُ الخَضِرُ، وكانَ قَدْ أُعْطِيَ العِلْمَ والفَهْمَ: أيُّها المَلِكُ، ألا تَرى الوَرَقَةَ المُعَلَّقَةَ مِنَ النَّخْلَةِ الكَبِيرَةِ؟ قالَ: بَلى. قالَ: فَهي تُخْبِرُكَ بِشَأْنِ هَذا المَوْضِعِ. وكانَ الخَضِرُ يَقْرَأُ كُلَّ كِتابٍ، فَقالَ: أيُّها المَلِكُ، أرى كِتابًا فِيهِ: ﷽، هَذا كِتابٌ مِن آدَمَ أبِي البَشَرِ، أُوصِيكم ذُرِّيَّتِي وبَناتِي أنْ تَحْذَرُوا عَدُوِّي وعَدُوَّكم إبْلِيسَ، الَّذِي كانَ يُلِينُ كَلامَهُ، وفُجُورَ أُمْنِيَتِهِ، أنْزَلَنِي مِنَ الفِرْدَوْسِ إلى تُرْبَةِ الدُّنْيا، فَأُلْقِيتُ عَلى مَوْضِعِي هَذا لا يُلْتَفَتُ إلَيَّ مِائَتَيْ سَنَةٍ بِخَطِيئَةٍ واحِدَةٍ، حَتّى رَسَتْ بِيَ الأرْضُ، وهَذا أثَرِي، وهَذِهِ الأشْجارُ مِن دُمُوعِ عَيْنِي، فَعَلَيَّ في هَذِهِ التُّرْبَةِ أُنْزِلَتِ التَّوْبَةُ، فَتُوبُوا مِن قَبْلِ أنْ تَنْدَمُوا، وبادِرُوا مِن قَبْلِ أنْ يُبادَرَ بِكُمْ، وقَدِّمُوا مِن قَبْلِ أنْ يُقَدَّمَ بِكم. فَنَزَلَ ذُو القَرْنَيْنِ، فَمَسَحَ (p-٦٣٧)مَوْضِعَ جُلُوسِ آدَمَ، فَإذا هو ثَمانُونَ ومِائَةُ مِيلٍ، ثُمَّ أحْصى الأشْجارَ، فَإذا هي تِسْعُمِائَةِ شَجَرَةٍ، كُلُّها مِن دُمُوعِ آدَمَ نَبَتَتْ، فَلَمّا قَتَلَ قابِيلُ هابِيلَ تَحَوَّلَتْ يابِسَةً، وهي تَبْكِي دَمًا أحْمَرَ، فَقالَ ذُو القَرْنَيْنِ لِلْخَضِرِ: اِرْجِعْ بِنا فَلا طَلَبْتُ الدُّنْيا بَعْدَها. وأخْرَجَ اِبْنُ عَبْدِ الحَكَمِ في ”فُتُوحِ مِصْرَ“ عَنِ السُّدِّيِّ قالَ: كانَ أنْفُ الإسْكَنْدَرِ ثَلاثَةَ أذْرُعٍ. وأخْرَجَ اِبْنُ عَبْدِ الحَكَمِ عَنِ الحَسَنِ قالَ: كانَ ذُو القَرْنَيْنِ مَلِكًا، وكانَ رَجُلًا صالِحًا. وأخْرَجَ اِبْنُ عَبْدِ الحَكَمِ، وابْنُ أبِي حاتِمٍ، والشِّيرازِيُّ في ”الألْقابِ“، عَنْ عُبَيْدِ بْنِ تِعْلى قالَ: إنَّما سُمِّيَ ”ذُو القَرْنَيْنِ“ لِأنَّهُ كانَ لَهُ قَرْنانِ صَغِيرانِ تُوارِيهِما العِمامَةُ. وأخْرَجَ أحْمَدُ في ”الزُّهْدِ“، وابْنُ المُنْذِرِ، وابْنُ أبِي حاتِمٍ، وأبُو الشَّيْخِ في ”العَظَمَةِ“، عَنْ وهْبِ بْنِ مُنَبِّهٍ، أنَّهُ سُئِلَ عَنْ ذِي القَرْنَيْنِ فَقالَ: لَمْ يُوحَ إلَيْهِ وكانَ (p-٦٣٨)مَلِكًا. قِيلَ: فَلِمَ سُمِّيَ ذا القَرْنَيْنِ؟ فَقالَ: اِخْتَلَفَ فِيهِ أهْلُ الكِتابِ؛ فَقالَ بَعْضُهم: مَلَكَ الرُّومَ وفارِسَ. وقالَ بَعْضُهم: إنَّهُ كانَ في رَأْسِهِ شِبْهُ القَرْنَيْنِ. وأخْرَجَ اِبْنُ أبِي حاتِمٍ عَنْ بَكْرِ بْنِ مُضَرَ، أنَّ هِشامَ بْنَ عَبْدِ المَلِكِ سَألَ عَنْ ذِي القَرْنَيْنِ: أكانَ نَبِيًّا؟ فَقالَ: لا، ولَكِنَّهُ إنَّما أُعْطِيَ ما أُعْطِيَ بِأرْبَعِ خِصالٍ كُنَّ فِيهِ؛ كانَ إذا قَدَرَ عَفا، وإذا وعَدَ وفّى، وإذا حَدَّثَ صَدَقَ، ولا يَجْمَعُ اليَوْمَ لِغَدٍ. وأخْرَجَ اِبْنُ عَبْدِ الحَكَمِ عَنْ يُونُسَ بْنِ عُبَيْدٍ قالَ: إنَّما سُمِّيَ ذا القَرْنَيْنِ لِأنَّهُ كانَ لَهُ غَدِيرَتانِ مِن رَأْسِهِ مِن شَعَرٍ يَطَأُ فِيهِما. وأخْرَجَ اِبْنُ المُنْذِرِ، وأبُو الشَّيْخِ، عَنْ أبِي العالِيَةِ قالَ: إنَّما سُمِّيَ ”ذُو القَرْنَيْنِ“ لِأنَّهُ قَرَنَ ما بَيْنَ مَطْلِعِ الشَّمْسِ ومَغْرِبِها. وأخْرَجَ اِبْنُ عَبْدِ الحَكَمِ في ”فُتُوحِ مِصْرَ“ عَنِ اِبْنِ شِهابٍ قالَ: إنَّما سُمِّيَ ذا القَرْنَيْنِ أنَّهُ بَلَغَ قَرْنَ الشَّمْسِ مِن مَغْرِبِها، وقَرْنَ الشَّمْسِ مِن مَطْلِعِها. وأخْرَجَ عَنْ قَتادَةَ قالَ: الإسْكَنْدَرُ هو ذُو القَرْنَيْنِ. (p-٦٣٩)وأخْرَجَ اِبْنُ المُنْذِرِ، وابْنُ أبِي حاتِمٍ، وأبُو الشَّيْخِ، مِن طَرِيقِ اِبْنِ إسْحاقَ، عَمَّنْ يَسُوقُ الأحادِيثَ عَنِ الأعاجِمِ مِن أهْلِ الكِتابِ مِمَّنْ قَدْ أسْلَمَ، في ما تَوارَثُوا مِن عِلْمِهِ، أنَّ ذا القَرْنَيْنِ كانَ رَجُلًا صالِحًا مِن أهْلِ مِصْرَ، اِسْمُهُ مَرْزَبى اِبْنُ مَرْذَبَةَ اليُونانِيُّ، مِن ولَدِ يُونُنَ بْنِ يافِثَ بْنِ نُوحٍ. وأخْرَجَ أبُو الشَّيْخِ، وابْنُ مَرْدُويَهْ، عَنْ عُبَيْدِ بْنِ عُمَيْرٍ، أنْ ذا القَرْنَيْنِ حَجَّ ماشِيًا، فَسَمِعَ بِهِ إبْراهِيمُ فَتَلَقّاهُ. وأُخْرِجَ الشِّيرازِيُّ في ”الألْقابِ“ عَنْ قَتادَةَ قالَ: إنَّما سُمِّيَ ذا القَرْنَيْنِ لِأنَّهُ كانَ لَهُ عَقِيصَتانِ. وأخْرَجَ اِبْنُ أبِي حاتِمٍ عَنْ قَتادَةَ، أنَّ ذا القَرْنَيْنِ كانَ مِن سُوّاسِ الرُّومِ، يَسُوسُ [٢٧٤و] أُمُورَهُمْ، فَخُيِّرَ بَيْنَ ذِلالِ السَّحابِ وصِعابِها، فاخْتارَ ذِلالَها (p-٦٤٠)فَكانَ يَرْكَبُ عَلَيْها. وأخْرَجَ اِبْنُ إسْحاقَ، وابْنُ المُنْذِرِ، وابْنُ أبِي حاتِمٍ، والشِّيرازِيُّ في ”الألْقابِ“، وأبُو الشَّيْخِ، عَنْ وهْبِ بْنِ مُنَبِّهٍ اليَمانِيِّ، وكانَ لَهُ عِلْمٌ بِالأحادِيثِ الأُولى، أنَّهُ كانَ يَقُولُ: كانَ ذُو القَرْنَيْنِ رَجُلًا مِنَ الرُّومِ، اِبْنَ عَجُوزٍ مِن عَجائِزِهِمْ لَيْسَ لَها ولَدٌ غَيْرُهُ، وكانَ اِسْمُهُ الإسْكَنْدَرِيسَ، وإنَّما سُمِّيَ ذا القَرْنَيْنِ أنَّ صَفْحَتَيْ رَأْسِهِ كانَتا مِن نُحاسٍ، فَلَمّا بَلَغَ، وكانَ عَبْدًا صالِحًا، قالَ اللَّهُ لَهُ: يا ذا القَرْنَيْنِ، إنِّي باعِثُكَ إلى أُمَمِ الأرْضِ؛ مِنهم أُمَّتانِ بَيْنَهُما طُولُ الأرْضِ كُلِّها، ومِنهم أُمَّتانِ بَيْنَهُما عَرْضُ الأرْضِ كُلِّها، وأُمَمٌ في وسَطِ الأرْضِ؛ ومِنهُمُ الجِنُّ والإنْسُ ويَأْجُوجُ ومَأْجُوجُ؛ فَأمّا اللَّتانِ بَيْنَهُما طُولُ الأرْضِ فَأُمَّةٌ عِنْدَ مَغْرِبِ الشَّمْسِ يُقالُ لَها: ناسِكٌ. وأمّا الأُخْرى، فَعِنْدَ مَطْلِعِها، يُقالُ لَها: مَنسَكٌ. وأمّا اللَّتانِ بَيْنَهُما عَرْضُ الأرْضِ، فَأُمَّةٌ في قُطْرِ الأرْضِ الأيْمَنِ يُقالُ لَها: هاوِيلُ. وأمّا الأُخْرى الَّتِي في قُطْرِ الأرْضِ الأيْسَرِ، فَأُمَّةٌ يُقالُ لَها: تاوِيلُ. فَلَمّا قالَ اللَّهُ لَهُ ذَلِكَ، قالَ لَهُ ذُو القَرْنَيْنِ: يا إلَهِي، أنْتَ قَدْ نَدَبْتَنِي لِأمْرٍ عَظِيمٍ، لا يَقْدِرُ قَدْرَهُ إلّا أنْتَ، فَأخْبِرْنِي عَنْ هَذِهِ الأُمَمِ الَّتِي تَبْعَثُنِي إلَيْها، بِأيِّ قُوَّةٍ أُكابِرُهُمْ، وبِأيِّ جَمْعٍ أُكاثِرُهُمْ، وبِأيِّ حِيلَةٍ أُكايِدُهُمْ، (p-٦٤١)وبِأيِّ صَبْرٍ أُقاسِيهِمْ، وبِأيِّ لِسانٍ أُناطِقُهُمْ؟ وكَيْفَ لِي بِأنْ أفْقَهَ لُغاتِهِمْ، وبِأيِّ سَمْعٍ أعِي قَوْلَهُمْ، وبِأيِّ بَصَرٍ أنْفُذُهُمْ، وبِأيِّ حُجَّةٍ أُخاصِمُهُمْ، وبِأيِّ قَلْبٍ أعْقِلُ عَنْهُمْ، وبِأيِّ حِكْمَةٍ أُدَبِّرُ أمْرَهُمْ، وبِأيِّ قِسْطٍ أعْدِلُ بَيْنِهِمْ، وبِأيِّ حِلْمٍ أُصابِرُهُمْ، وبِأيِّ مَعْرِفَةٍ أفْصِلُ بَيْنَهُمْ، وبِأيِّ عِلْمٍ أُتْقِنُ أمْرَهُمْ، وبِأيِّ يَدٍ أسْطُو عَلَيْهِمْ، وبِأيِّ رِجْلٍ أطَؤُهُمْ، وبِأيِّ طاقَةٍ أُحْصِيهِمْ، وبِأيِّ جُنْدٍ أُقاتِلُهُمْ، وبِأيِّ رِفْقٍ أسْتَأْلِفُهُمْ؟ فَإنَّهُ لَيْسَ عِنْدِي يا إلَهِي شَيْءٌ مِمّا ذَكَرْتُ يُقْرِنُ لَهُمْ، ولا يَقْوى عَلَيْهِمْ، ولا يُطِيقُهُمْ، وأنْتَ الرَّبُّ الرَّحِيمُ الَّذِي لا تُكَلِّفُ نَفْسًا إلّا وُسْعَها، ولا تُحَمِّلُها إلّا طاقَتَها، ولا تَعْنِتُها ولا تَفْدَحُها بَلْ تَرْأفُها وتَرْحَمُها. فَقالَ لَهُ اللَّهُ عَزَّ وجَلَّ: إنِّي سَأُطَوِّقُكَ ما حَمَّلْتُكَ، أشْرَحُ لَكَ صَدْرَكَ فَيَسَعُ كُلَّ شَيْءٍ، وأشْرَحُ لَكَ فَهْمَكَ فَتَفْقَهُ كُلَّ شَيْءٍ، وأبْسُطُ لَكَ لِسانَكَ فَتَنْطِقُ بِكُلِّ شَيْءٍ، وأفْتَحُ لَكَ سَمْعَكَ فَتَعِي كُلَّ شَيْءٍ، وأمُدُّ لَكَ بَصَرَكَ فَتَنْفُذُ كُلَّ شَيْءٍ، (p-٦٤٢)وأُدَبِّرُ لَكَ أمْرَكَ فَتُتْقِنُ كُلَّ شَيْءٍ، وأُحْصِي لَكَ فَلا يَفُوتُكَ شَيْءٌ، وأحْفَظُ عَلَيْكَ فَلا يَعْزُبُ عَنْكَ شَيْءٌ، وأشُدُّ لَكَ ظَهْرَكَ فَلا يَهُدُّكَ شَيْءٌ، وأشُدُّ لَكَ رُكْنَكَ فَلا يَغْلِبُكَ شَيْءٌ، وأشُدُّ لَكَ قَلْبَكَ فَلا يَرُوعُكَ شَيْءٌ، وأشُدُّ لَكَ عَقْلَكَ فَلا يَهُولُكَ شَيْءٌ، وأبْسُطُ لَكَ يَدَيْكَ فَيَسْطُوانِ فَوْقَ كُلِّ شَيْءٍ، وأشُدُّ لَكَ وطْأتَكَ فَتَهُدُّ كُلَّ شَيْءٍ، وأُلْبِسُكَ الهَيْبَةَ فَلا يَرُومُكَ شَيْءٌ، وأُسَخِّرُ لَكَ النُّورَ والظُّلْمَةَ فَأجْعَلُهُما جُنْدًا مِن جُنُودِكَ، يَهْدِيكَ النُّورُ مِن أمامِكَ، وتَحُوطُكَ الظُّلْمَةُ مِن ورائِكَ. فَلَمّا قِيلَ لَهُ ذَلِكَ، اِنْطَلَقَ يَؤُمُّ الأُمَّةَ الَّتِي عِنْدَ مَغْرِبِ الشَّمْسِ، فَلَمّا بَلَغَهم وجَدَ جَمْعًا وعَدَدًا لا يُحْصِيهِ إلّا اللَّهُ، وقُوَّةً وبَأْسًا لا يُطِيقُهُ إلّا اللَّهُ، وألْسِنَةً مُخْتَلِفَةً، وأُمُورًا مُشْتَبِهَةً، وأهْواءً مُتَشَتِّتَةً، وقُلُوبًا مُتَفَرِّقَةً، فَلَمّا رَأى ذَلِكَ كابَرَهم بِالظُّلْمَةِ، فَضَرَبَ حَوْلَهم ثَلاثَةَ عَساكِرَ مِنها، فَأحاطَتْ بِهِمْ مِن كُلِّ مَكانٍ، وحاشَتْهم حَتّى جَمَعَتْهم في مَكانٍ واحِدٍ، ثُمَّ دَخَلَ عَلَيْهِمْ بِالنُّورِ، فَدَعاهم إلى اللَّهِ وعِبادَتِهِ، فَمِنهم مَن آمَنَ لَهُ، ومِنهم مَن صَدَّ عَنْهُ، (p-٦٤٣)فَعَمَدَ إلى الَّذِينَ تَوَلَّوْا عَنْهُ فَأدْخَلَ عَلَيْهِمُ الظُّلْمَةَ، فَدَخَلَتْ في أفْواهِهِمْ وأُنُوفِهِمْ وآذانِهِمْ وأجْوافِهِمْ، ودَخَلَتْ في بُيُوتِهِمْ ودُورِهِمْ، وغَشِيَتْهم مِن فَوْقِهِمْ ومِن تَحْتِهِمْ ومِن كُلِّ جانِبٍ مِنهُمْ، فَماجُوا فِيها وتَحَيَّرُوا، فَلَمّا أشْفَقُوا أنْ يَهْلِكُوا فِيها عَجُّوا إلَيْهِ بِصَوْتٍ واحِدٍ، فَكَشَفَها عَنْهم وأخَذَهم عَنْوَةً، فَدَخَلُوا في دَعْوَتِهِ، فَجَنَّدَ مِن أهْلِ المَغْرِبِ أُمَمًا عَظِيمَةً، فَجَعَلَهم جُنْدًا واحِدًا، ثُمَّ اِنْطَلَقَ بِهِمْ يَقُودُهم والظُّلْمَةُ تَسُوقُهم مِن خَلْفِهِمْ وتَحُوشُهم مِن حَوْلِهِمْ، والنُّورُ أمامَهُ يَقُودُهُ ويَدُلُّهُ، وهو يَسِيرُ في ناحِيَةِ الأرْضِ اليُمْنى، وهو يُرِيدُ الأُمَّةَ الَّتِي في قُطْرِ الأرْضِ الأيْمَنِ الَّتِي يُقالُ لَها: هاوِيلُ. وسَخَّرَ اللَّهُ لَهُ يَدَهُ وقَلْبَهُ ورَأْيَهُ وعَقْلَهُ ونَظَرَهُ وائْتِمارَهُ، فَلا يُخْطِئُ إذا اِئْتَمَرَ، وإذا عَمِلَ عَمَلًا أتْقَنَهُ، فانْطَلَقَ يَقُودُ تِلْكَ الأُمَمَ وهي تَتْبَعُهُ، فَإذا اِنْتَهى إلى بَحْرٍ أوْ مَخاضَةٍ، بَنى سُفُنًا مِن ألْواحٍ صِغارٍ أمْثالِ النِّعالِ، فَنَظَمَها في ساعَةٍ واحِدَةٍ، ثُمَّ حَمَلَ فِيها جَمِيعَ مَن مَعَهُ مِن تِلْكَ الأُمَمِ وتِلْكَ الجُنُودِ، فَإذا قَطَعَ الأنْهارَ والبِحارَ فَتَقَها، ثُمَّ دَفَعَ إلى كُلِّ إنْسانٍ لَوْحًا فَلا يَكْرِثُهُ حَمْلُهُ، فَلَمْ يَزَلْ (p-٦٤٤)ذَلِكَ دَأْبَهُ حَتّى اِنْتَهى إلى هاوِيلَ، فَعَمِلَ فِيهِمْ كَعَمَلِهِ في ناسِكٍ، فَلَمّا فَرَغَ مِنهم مَضى عَلى وجْهِهِ في ناحِيَةِ الأرْضِ اليُمْنى، حَتّى اِنْتَهى إلى مَنسَكٍ عِنْدَ مَطْلَعِ الشَّمْسِ، فَعَمِلَ فِيها وجَنَّدَ مِنها جُنُودًا كَفِعْلِهِ في الأُمَّتَيْنِ اللَّتَيْنِ قَبْلَها، ثُمَّ كَرَّ مُقْبِلًا في ناحِيَةِ الأرْضِ اليُسْرى وهو يُرِيدُ تاوِيلَ، وهي الأُمَّةُ الَّتِي بِحِيالِ هاوِيلَ، وهُما مُتَقابِلَتانِ، بَيْنَهُما عَرْضُ الأرْضِ كُلُّهُ، فَلَمّا بَلَغَها عَمِلَ فِيها وجَنَّدَ مِنها كَفِعْلِهِ فِيما قَبْلَها، فَلَمّا فَرَغَ مِنها عَطَفَ مِنها إلى الأُمَمِ الَّتِي في وسَطِ الأرْضِ، مِنَ الجِنِّ وسائِرِ الإنْسِ ويَأْجُوجَ ومَأْجُوجَ. فَلَمّا كانَ في بَعْضِ الطَّرِيقِ مِمّا يَلِي مُنْقَطَعَ أرْضِ التُّرْكِ نَحْوَ المَشْرِقِ، قالَتْ لَهُ أُمَّةٌ مِنَ الإنْسِ صالِحَةٌ: يا ذا القَرْنَيْنِ، إنَّ بَيْنَ هَذَيْنِ الجَبَلَيْنِ خَلْقًا مِن خَلْقِ اللَّهِ كَثِيرًا، فِيهِمْ مُشابَهَةٌ مِنَ الأُنْسِ، وهم أشْباهُ البَهائِمِ، يَأْكُلُونَ العُشْبَ، ويَفْتَرِسُونَ الدَّوابَّ والوَحْشَ كَما يَفْتَرِسُها السِّباعُ، ويَأْكُلُونَ خَشاشَ الأرْضِ كُلِّها؛ مِنَ الحَيّاتِ والعَقارِبِ وكُلِّ ذِي رُوحٍ مِمّا خَلَقَ اللَّهُ في الأرْضِ، ولَيْسَ لِلَّهِ خَلْقٌ يَنْمِي نَماءَهم في العامِ الواحِدِ، ولا يَزْدادُ كَزِيادَتِهِمْ ولا يَكْثُرُ كَكَثْرَتِهِمْ (p-٦٤٥)فَإنْ كانَتْ لَهم مُدَّةٌ عَلى ما تَرى مِن نَمائِهِمْ وزِيادَتِهِمْ، فَلا شَكَّ أنَّهم سَيَمْلَئُونَ الأرْضَ ويُجْلُونَ أهْلَها، ويَظْهَرُونَ عَلَيْها فَيُفْسِدُونَ فِيها، ولَيْسَتْ تَمُرُّ بِنا سَنَةٌ مُنْذُ جاوَرْناهم إلّا ونَحْنُ نَتَوَقَّعُهم ونَنْتَظِرُ أنْ يَطْلُعَ عَلَيْنا أوائِلُهم مِن هَذَيْنِ الجَبَلَيْنِ: ﴿فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجًا عَلى أنْ تَجْعَلَ بَيْنَنا وبَيْنَهم سَدًّا﴾ [الكهف: ٩٤] . قالَ: ﴿ما مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَأعِينُونِي بِقُوَّةٍ أجْعَلْ بَيْنَكم وبَيْنَهم رَدْمًا﴾ [الكهف: ٩٥]: أعِدُّوا لِيَ الصُّخُورَ والحَدِيدَ والنُّحاسَ حَتّى أرْتادَ بِلادَهُمْ، وأعْلَمَ عِلْمَهُمْ، وأقِيسَ ما بَيْنَ جَبَلَيْهِمْ. ثُمَّ اِنْطَلَقَ يَؤُمُّهم حَتّى دَفَعَ إلَيْهِمْ وتَوَسَّطَ بِلادَهُمْ، فَإذا هم عَلى مِقْدارٍ واحِدٍ، أُنْثاهم وذَكَرُهُمْ، يَبْلُغُ طُولُ الواحِدِ مِنهم مِثْلَ نِصْفِ الرَّجُلِ المَرْبُوعِ مِنّا، لَهم مَخالِيبُ في مَواضِعِ الأظْفارِ مِن أيْدِينا، وأنْيابٌ وأضْراسٌ كَأضْراسِ السِّباعِ وأنْيابِها، وأحْناكٌ كَأحْناكِ الإبِلِ قُوَّةً، يُسْمَعُ لَها حَرَكَةٌ إذا أكَلَ كَحَرَكَةِ الجِرَّةِ مِنَ الإبِلِ، أوْ كَقَضْمِ البَغْلِ المُسِنِّ، أوِ الفُرْسِ (p-٦٤٦)القَوِيِّ، وهم هُلْبٌ، عَلَيْهِمْ مِنَ الشَّعَرِ في أجْسادِهِمْ ما يُوارِيهِمْ وما يَتَّقُونَ بِهِ مِنَ الحَرِّ والبَرْدِ إذا أصابَهُمْ، ولِكُلِّ واحِدٍ مِنهم أُذُنانِ عَظِيمَتانِ؛ إحْداهُما وبِرَةٌ ظَهْرُها وبَطْنُها، والأُخْرى زَغِبَةٌ ظَهْرُها وبَطْنُها، تَسَعانِهِ إذا لَبِسَهُما، يَلْبَسُ إحْداهُما ويَفْتَرِشُ الأُخْرى، ويَتَصَيَّفُ في إحْداهُما ويَشْتُو في الأُخْرى، ولَيْسَ مِنهم ذَكَرٌ ولا أُنْثى إلّا وقَدْ عَرَفَ أجْلَهُ الَّذِي يَمُوتُ فِيهِ ويَنْقَطِعُ عُمُرُهُ، وذَلِكَ أنَّهُ لا يَمُوتُ مَيِّتٌ مِن ذُكُورِهِمْ حَتّى يَخْرُجَ مِن صُلْبِهِ ألْفُ ولَدٍ، ولا تَمُوتُ الأُنْثى حَتّى يَخْرُجَ مِن رَحِمَها ألْفُ ولَدٍ، فَإذا كانَ ذَلِكَ أيْقَنَ بِالمَوْتِ وتَهَيَّأ لَهُ، وهم يُرْزَقُونَ التِّنِّينَ في زَمانِ الرَّبِيعِ، ويَسْتَمْطِرُونَهُ إذا تَحَيَّنُوهُ، كَما يُسْتَمْطَرُ الغَيْثُ لِحِينِهِ، فَيُقْذَفُونَ مِنهُ كُلَّ سَنَةٍ بِواحِدٍ، فَيَأْكُلُونَهُ عامَهم كُلَّهُ إلى مِثْلِها مِن قابِلٍ، فَيُغْنِيهِمْ عَلى كَثْرَتِهِمْ ونَمائِهِمْ، فَإذا أُمْطِرُوا أخَصَبُوا، وعاشُوا وسَمِنُوا، ورُئِيَ أثَرُهُ عَلَيْهِمْ، فَدَرَّتْ عَلَيْهِمُ الإناثُ، وشَبِقَتْ مِنهُمُ الذُّكُورُ، وإذا (p-٦٤٧)أخْطَأهم هَزَلُوا وأجْدَبُوا، وجَفَرَتْ مِنهُمُ الذُّكُورُ، وأحالَتِ الإناثُ، وتَبَيَّنَ أثَرُ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ، وهم يَتَداعَوْنَ تَداعِيَ الحَمامِ، ويَعْوُونَ عَوِيَّ الذِّئابِ، ويَتَسافَدُونَ حَيْثُما اِلْتَقَوْا تَسافُدَ البَهائِمِ. ثُمَّ لَمّا عايَنَ ذَلِكَ مِنهم ذُو القَرْنَيْنِ، اِنْصَرَفَ إلى ما بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ، فَقاسَ ما بَيْنَهُما وهو في مُنْقَطَعِ أرْضِ التُّرْكِ مِمّا يَلِي الشَّمْسَ، فَوَجَدَ بُعْدَ ما بَيْنَهُما مِائَةَ فَرْسَخٍ، فَلَمّا أنْشَأ في عَمَلِهِ حَفَرَ لَهُ أُسًّا حَتّى بَلَغَ الماءَ، ثُمَّ جَعَلَ عَرْضَهُ خَمْسِينَ فَرْسَخًا، وجَعَلَ حَشْوَهُ الصُّخُورَ، وطِينَهُ النُّحاسَ، يُذابُ ثُمَّ يُصَبُّ عَلَيْهِ، فَصارَ كَأنَّهُ عِرْقٌ مِن جَبَلٍ تَحْتَ الأرْضِ، ثُمَّ عَلاهُ وشَرَّفَهُ بِزُبَرِ الحَدِيدِ والنُّحاسِ المُذابِ، وجَعَلَ خِلالَهُ عِرْقًا مِن نُحاسٍ أصْفَرَ، فَصارَ كَأنَّهُ بَرْدٌ مُحَبَّرٌ مِن صُفْرَةِ النُّحاسِ وحُمْرَتِهِ وسَوادِ الحَدِيدِ، فَلَمّا فَرَغَ مِنهُ وأحْكَمَهُ، اِنْطَلَقَ عامِدًا إلى جَماعَةِ الإنْسِ والجِنِّ، فَبَيْنَما هو يَسِيرُ إذْ دَفَعَ إلى أُمَّةٍ صالِحَةٍ يَهْدُونَ بِالحَقِّ وبِهِ يَعْدِلُونَ، فَوَجَدَ أُمَّةً مُقْسِطَةً يَقْسِمُونَ بِالسَّوِيَّةِ، ويَحْكُمُونَ بِالعَدْلِ، ويَتَآسَوْنَ ويَتَراحَمُونَ، (p-٦٤٨)حالُهم واحِدَةٌ، وكَلِمَتُهم واحِدَةٌ، وأخْلاقُهم مُشْتَبِهَةٌ، وطَرِيقَتُهم مُسْتَقِيمَةٌ، وقُلُوبُهم مُؤْتَلِفَةٌ، وسِيرَتُهم مُسْتَوِيَةٌ، وقُبُورُهم بِأبْوابِ بُيُوتِهِمْ، ولَيْسَ عَلى بُيُوتِهِمْ أبْوابٌ، ولَيْسَ عَلَيْهِمْ أُمَراءُ، ولَيْسَ بَيْنَهم قُضاةٌ، ولَيْسَ فِيهِمْ أغْنِياءُ ولا مُلُوكٌ ولا أشْرافٌ، ولا يَتَفاوَتُونَ ولا يَتَفاضَلُونَ، ولا يَتَنازَعُونَ ولا يَسْتَبُّونَ ولا يَقْتَتِلُونَ، ولا يَقْحَطُونَ ولا يُحْرَدُونَ، ولا تُصِيبُهُمُ الآفاتُ الَّتِي تُصِيبُ النّاسَ، وهم أطْوَلُ النّاسِ أعْمارًا، ولَيْسَ فِيهِمْ مِسْكِينٌ ولا فَقِيرٌ ولا فَظٌّ ولا غَلِيظٌ. فَلَمّا رَأى ذَلِكَ ذُو القَرْنَيْنِ مِن أمْرِهِمْ أُعْجِبَ مِنهم وقالَ لَهم: أخْبِرُونِي أيُّها القَوْمُ خَبَرَكُمْ، فَإنِّي قَدْ أحْصَيْتُ الأرْضَ كُلَّها؛ بَرَّها وبَحْرَها، وشَرْقَها وغَرْبَها، ونُورَها وظُلْمَتَها، فَلَمْ أجِدْ فِيها أحَدًا مِثْلَكُمْ، فَأخْبِرُونِي خَبَرَكم. قالُوا: نَعَمْ، سَلْنا عَمّا تُرِيدُ. قالَ: أخْبِرُونِي ما بالُ قُبُورِكم عَلى أبْوابِ بُيُوتِكُمْ؟ قالُوا: عَمْدًا فَعَلْنا ذَلِكَ، لِئَلّا نَنْسى المَوْتَ ولا يَخْرُجَ ذِكْرُهُ مِن قُلُوبِنا. قالَ: فَما بالُ بُيُوتِكم لَيْسَ عَلَيْها أبْوابٌ؟ قالُوا: لَيْسَ فِينا مُتَّهَمٌ ولَيْسَ فِينا إلّا أمِينٌ مُؤْتَمَنٌ. قالَ: فَما بالُكم لَيْسَ عَلَيْكم أُمَراءُ؟ قالُوا: لا نَتَظالَمُ. قالَ: فَما بالُكم لَيْسَ بَيْنَكم حُكّامٌ؟ قالُوا: لا نَخْتَصِمُ. قالَ: فَما بالُكم لَيْسَ فِيكم أغْنِياءُ؟ قالُوا: لا نَتَكاثَرُ. قالَ: فَما بالُكم لَيْسَ فِيكم مُلُوكٌ؟ قالُوا: لا نَتَكابَرُ. قالَ: فَما بالُكم لَيْسَ فِيكم أشْرافٌ؟ قالُوا: لا نَتَنافَسُ. قالَ: فَما بالُكم لا تَتَفاضَلُونَ ولا تَتَفاوَتُونَ؟ قالُوا: مِن قِبَلِ أنّا مُتَواصِلُونَ مُتَراحِمُونَ. قالَ: فَما بالُكم لا تَتَنازَعُونَ (p-٦٤٩)ولا تَخْتَلِفُونَ؟ قالُوا: مِن قِبَلِ أُلْفَةِ قُلُوبِنا وصَلاحِ ذاتِ بَيْنِنا. قالَ: فَما بالُكم لا تَسْتَبُّونَ ولا تَقْتَتِلُونَ؟ قالُوا: مِن قِبَلِ أنّا غَلَبْنا [٢٧٤ظ] طَبائِعَنا بِالعَزْمِ، وسُسْنا أنْفُسَنا بِالأحْلامِ. قالَ: فَما بالُ كَلِمَتِكم واحِدَةً، وطَرِيقَتِكم مُسْتَقِيمَةً؟ قالُوا: مِن قِبَلِ أنّا لا نَتَكاذَبُ ولا نَتَخادَعُ، فَلا يَغْتابُ بَعْضُنا بَعْضًا. قالَ: فَأخْبِرُونِي مِن أيْنَ تَشابَهَتْ قُلُوبُكُمْ، واعْتَدَلَتْ سِيرَتُكُمْ؟ قالُوا: صَحَّتْ صُدُورُنا، فَنَزَعَ اللَّهُ بِذَلِكَ الغِلَّ والحَسَدَ مِن قُلُوبِنا. قالَ: فَما بالُكم لَيْسَ فِيكم مِسْكِينٌ ولا فَقِيرٌ؟ قالُوا: مِن قِبَلِ أنّا نَقْسِمُ بِالسَّوِيَّةِ. قالَ: فَما بالُكم لَيْسَ فِيكم فَظٌّ ولا غَلِيظٌ؟ قالُوا: مِن قِبَلِ الذُّلِّ والتَّواضُعِ. قالَ: فَما بالُكم جُعِلْتُمْ أطْوَلَ النّاسِ أعْمارًا؟ قالُوا: مِن قِبَلِ أنّا نَتَعاطى الحَقَّ ونَحْكُمُ بِالعَدْلِ. قالَ: فَما بالُكم لا تَقْحَطُونَ؟ قالُوا: لا نَغْفُلُ عَنِ الِاسْتِغْفارِ. قالَ: فَما بالُكم لا تُجْرَدُونَ؟ قالُوا: مِن قِبَلِ أنّا وطَّنّا أنْفُسَنا لِلْبَلاءِ مُنْذُ كُنّا، وأحْبَبْناهُ وحَرَصْنا عَلَيْهِ فَعُرِّينا مِنهُ. قالَ: فَما بالُكم لا تُصِيبُكُمُ الآفاتُ كَما تُصِيبُ النّاسَ؟ قالُوا: لا نَتَوَكَّلُ عَلى غَيْرِ اللَّهِ، ولا نَعْمَلُ بِأنْواءِ النُّجُومِ. قالَ: حَدِّثُونِي، أهَكَذا وجَدْتُمْ آباءَكم يَفْعَلُونَ؟ قالُوا: نَعَمْ، وجَدْنا آباءَنا يَرْحَمُونَ مَساكِينَهُمْ، ويُواسُونَ فُقَراءَهُمْ، ويَعْفُونَ عَمَّنْ ظَلَمَهُمْ، ويُحْسِنُونَ إلى مَن أساءَ إلَيْهِمْ، ويَحْلُمُونَ عَمَّنْ جَهِلَ عَلَيْهِمْ، ويَسْتَغْفِرُونَ لِمَن سَبَّهُمْ، ويَصِلُونَ أرْحامَهُمْ، ويَرُدُّونَ أماناتِهِمْ، ويَحْفَظُونَ وقْتَهم لِصَلاتِهِمْ، ويُوفُونَ بِعُهُودِهِمْ، ويَصْدُقُونَ في مَواعِيدِهِمْ، (p-٦٥٠)ولا يَرْغَبُونَ عَنْ أكْفائِهِمْ، ولا يَسْتَنْكِفُونَ عَنْ أقارِبِهِمْ، فَأصْلَحَ اللَّهُ بِذَلِكَ أمْرَهُمْ، وحَفِظَهم بِهِ ما كانُوا أحْياءً، وكانَ حَقًّا عَلَيْهِ أنْ يَخْلُفَهم في تَرِكَتِهِمْ. فَقالَ لَهم ذُو القَرْنَيْنِ: لَوْ كُنْتُ مُقِيمًا لَأقَمْتُ فِيكُمْ، ولَكِنِّي لَمْ أُومَرْ بِالإقامَةِ. وأخْرَجَ اِبْنُ أبِي حاتِمٍ، وأبُو الشَّيْخِ، عَنْ أبِي جَعْفَرٍ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ الحُسَيْنِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ أبِي طالِبٍ قالَ: كانَ لِذِي القَرْنَيْنِ صَدِيقٌ مِنَ المَلائِكَةِ يُقالُ لَهُ: زَرافِيلُ. وكانَ لا يَزالُ يَتَعاهَدُهُ بِالسَّلامِ، فَقالَ لَهُ ذُو القَرْنَيْنِ: يا زَرافِيلُ، هَلْ تَعْلَمُ شَيْئًا يَزِيدُ في طُولِ العُمْرِ لِنَزْدادَ شُكْرًا وعِبادَةً؟ قالَ: ما لِي بِذَلِكَ مِن عِلْمٍ، ولَكِنْ سَأسْألُ لَكَ عَنْ ذَلِكَ في السَّماءِ. فَعَرَجَ زَرافِيلُ إلى السَّماءِ، فَلَبِثَ ما شاءَ اللَّهُ أنْ يَلْبَثَ ثُمَّ هَبَطَ، فَقالَ: إنِّي سَألْتُ عَمّا سَألْتَنِي عَنْهُ، فَأُخْبِرْتُ أنَّ لِلَّهِ عَيْنًا في ظُلْمَةٍ، هي أشَدُّ بَياضًا مِنَ اللَّبَنِ، وأحْلى مِنَ الشَّهْدِ، مَن شَرِبَ مِنها شَرْبَةً لَمْ يَمُتْ حَتّى يَكُونَ هو الَّذِي يَسْألُ اللَّهَ المَوْتَ. قالَ: فَجَمَعَ ذُو القَرْنَيْنِ عُلَماءَ الأرْضِ إلَيْهِ، فَقالَ: هَلْ تَعْلَمُونَ أنَّ لِلَّهِ عَيْنًا في ظُلْمَةٍ؟ فَقالُوا: ما نَعْلَمُ ذَلِكَ. فَقامَ إلَيْهِ رَجُلٌ شابٌّ فَقالَ: وما حاجَتُكَ إلَيْها أيُّها المَلِكُ؟ قالَ: لِي فِيها حاجَةٌ. قالَ: فَإنِّي أعْلَمُ مَكانَها. قالَ: ومِن أيْنَ عَلِمْتَ مَكانَها؟ قالَ: قَرَأْتُ وصِيَّةَ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلامُ فَوَجَدْتُ فِيها: إنَّ لِلَّهِ عَيْنًا خَلْفَ مَطْلِعِ الشَّمْسِ في (p-٦٥١)ظُلْمَةٍ، ماؤُها أشَدُّ بَياضًا مِنَ اللَّبَنِ، وأحْلى مِنَ الشَّهْدِ، مَن شَرِبَ مِنها شَرْبَةً لَمْ يَمُتْ حَتّى يَكُونَ هو الَّذِي يَسْألُ اللَّهَ المَوْتَ. فَسارَ ذُو القَرْنَيْنِ مِن مَوْضِعِهِ الَّذِي كانَ فِيهِ ثِنْتَيْ عَشْرَةَ سَنَةً حَتّى اِنْتَهى إلى مَطْلِعِ الشَّمْسِ، ثُمَّ عَسْكَرَ وجَمَعَ العُلَماءَ، فَقالَ: إنِّي أُرِيدُ أنْ أسْلُكَ هَذِهِ الظُّلْمَةَ بِكم. فَقالُوا: إنّا نُعِيذُكَ بِاللَّهِ أنْ تَسْلُكَ بِنا مَسْلَكًا لَمْ يَسْلُكْهُ أحَدٌ مِن بَنِي آدَمَ قَطُّ قَبْلَكَ. قالَ: لا بُدَّ أنْ أسْلُكَها. قالُوا: إنّا نُعِيذُكَ أنْ تَسْلُكَ بِنا هَذِهِ الظُّلْمَةَ، فَإنّا لا نَأْمَنُ أنْ يَنْفَتِقَ عَلَيْنا مِنها أمْرٌ يَكُونُ فِيهِ فَسادُ الأرْضِ. قالَ: لا بُدَّ أنْ أسْلُكَها. قالُوا: فَشَأْنَكَ. فَسَألَهم: أيُّ الدَّوابِّ أبْصَرُ؟ قالُوا: الخَيْلُ. قالَ: فَأيُّ الخَيْلِ أبْصَرُ؟ قالُوا: الإناثُ. قالَ: فَأيُّ الإناثِ أبْصَرُ؟ قالُوا: الأبْكارُ. فانْتَقى سِتَّةَ آلافِ فَرَسٍ أُنْثى بِكْرٍ، ثُمَّ اِنْتَخَبَ مِن عَسْكَرِهِ سِتَّةَ آلافِ رَجُلٍ، فَدَفَعَ إلى كُلِّ رَجُلٍ مِنهم فَرَسًا، ووَلّى الخَضِرَ مِنها عَلى ألْفَيْ فارِسٍ، ثُمَّ جَعَلَهُ عَلى مُقَدِّمَتِهِ، ثُمَّ قالَ: سِرْ أمامِي. فَقالَ لَهُ الخَضِرُ: أيُّها المَلِكُ، إنِّي لَسْتُ آمِنُ هَذِهِ الأُمَّةَ الضَّلالَ، فَيَتَفَرَّقَ النّاسُ عَنِّي. فَدَفَعَ إلَيْهِ خَرَزَةً حَمْراءَ، فَقالَ: إذا تَفَرَّقَ النّاسُ عَنْكَ فارْمِ هَذِهِ الخَرَزَةَ، فَإنَّها سَتُضِيءُ لَكَ وتُصَوِّتُ (p-٦٥٢)حَتّى يَجْتَمِعَ إلَيْكَ أهْلُ الضَّلالِ. واسْتَخْلَفَ عَلى النّاسِ خَلِيفَةً، وأمَرَهُ أنْ يُقِيمَ في عَسْكَرِهِ ثِنْتَيْ عَشْرَةَ سَنَةً، فَإنْ هو رَجَعَ إلى ذَلِكَ، وإلّا أمَرَ النّاسَ فَتَفَرَّقُوا في بُلْدانِهِمْ. ثُمَّ أمَرَ الخَضِرَ فَسارَ أمامَهُ، فَكانَ الخَضِرُ إذا أتاهُ ذُو القَرْنَيْنِ رَحَلَ مِن مَنزِلِهِ ونَزَلَ ذُو القَرْنَيْنِ في مَنزِلِ الخَضِرِ الَّذِي كانَ فِيهِ، فَبَيْنا الخَضِرُ يَسِيرُ في تِلْكَ الظُّلْمَةِ إذْ تَفَرَّقَ النّاسُ عَنْهُ، فَطَرَحَ الخَرَزَةَ مِن يَدِهِ، فَإذا هي عَلى شَفِيرِ العَيْنِ، والعَيْنُ في وادٍ، فَأضاءَ لَهُ ما حَوْلَ البِئْرِ، فَنَزَلَ الخَضِرُ، ونَزَعَ ثِيابَهُ، ودَخَلَ العَيْنَ فَشَرِبَ مِنها، واغْتَسَلَ ثُمَّ خَرَجَ، فَجَمَعَ عَلَيْهِ ثِيابَهُ، ثُمَّ أخَذَ الخَرَزَةَ ورَكِبَ، وخالَفَهُ ذُو القَرْنَيْنِ في غَيْرِ الطَّرِيقِ الَّذِي أخَذَ فِيهِ الخَضِرُ. فَسارُوا في تِلْكَ الظُّلْمَةِ في مِقْدارِ سِتِّ لَيالٍ وأيّامِهِنَّ، ولَمْ تَكُنْ ظُلْمَةً كَظُلْمَةِ اللَّيْلِ، إنَّما كانَتْ ظُلْمَةً كَهَيْئَةِ ضَبابٍ، حَتّى خَرَجُوا إلى أرْضٍ ذاتِ نُورٍ، لَيْسَ فِيها شَمْسٌ ولا قَمَرٌ ولا نَجْمٌ، فَعَسْكَرَ، ثُمَّ نَزَلَ النّاسُ ثُمَّ رَكِبَ ذُو القَرْنَيْنِ وحْدَهُ، فَسارَ حَتّى اِنْتَهى إلى قَصْرٍ طُولُهُ فَرْسَخٌ في فَرْسَخٍ، فَدَخَلَ القَصْرَ، فَإذا هو بِعَمُودٍ عَلى حافَّتَيِ القَصْرِ، وإذا طائِرٌ مَذْمُومٌ، بِأنْفِهِ سِلْسِلَةٌ مُعَلَّقَةٌ، في ذَلِكَ العَمُودِ شِبْهُ الخُطّافِ، أوْ قَرِيبٌ مِنَ الخُطّافِ، فَقالَ لَهُ الطَّيْرُ: مَن أنْتَ؟ قالَ أنا ذُو القَرْنَيْنِ. قالَ لَهُ الطَّيْرُ: يا ذا القَرْنَيْنِ، أمّا كَفاكَ ما وراءَكَ حَتّى تَناوَلْتَ الظُّلْمَةَ؟ أنْبِئْنِي يا ذا (p-٦٥٣)القَرْنَيْنِ. قالَ: سَلْ. قالَ: هَلْ كَثُرَ بُنْيانٌ مِنَ الجِصِّ والآجُرِّ في النّاسِ؟ قالَ: نَعَمْ. فانْتَفَخَ الطَّيْرُ حَتّى سَدَّ ثُلُثَ ما بَيْنَ الحائِطَيْنِ. ثُمَّ قالَ: يا ذا القَرْنَيْنِ، أنْبِئْنِي. قالَ: سَلْ. قالَ: هَلْ كَثُرَتِ المَعازِفُ في النّاسِ؟ قالَ: نَعَمْ. فانْتَفَخَ حَتّى سَدَّ ثُلُثَيْ ما بَيْنَ الحائِطَيْنِ، ثُمَّ قالَ: يا ذا القَرْنَيْنِ أنْبِئْنِي. قالَ: سَلْ. قالَ: هَلْ كَثُرَتْ شَهاداتُ الزُّورِ في النّاسِ؟ قالَ: نَعَمْ. فانْتَفَخَ حَتّى سَدَّ ما بَيْنَ الحائِطَيْنِ، واجْتُثَّ ذُو القَرْنَيْنِ مِنهُ فَرَقًا، قالَ لَهُ الطَّيْرُ: يا ذا القَرْنَيْنِ، لا تَخَفْ، أنْبِئْنِي. قالَ: سَلْ. قالَ: هَلْ تَرَكَ النّاسُ شَهادَةَ أنْ لا إلَهَ إلّا اللَّهُ؟ قالَ: لا. فانْضَمَّ ثُلُثًا، قالَ: يا ذا القَرْنَيْنِ، أنْبِئْنِي. قالَ: سَلْ. قالَ: هَلْ تَرَكَ النّاسُ الغُسْلَ مِنَ الجَنابَةِ؟ قالَ: لا، قالَ: فانْضَمَّ ثُلُثًا. قالَ: يا ذا القَرْنَيْنِ، أنْبِئْنِي. قالَ: سَلْ. قالَ: هَلْ تَرَكَ النّاسُ المَكْتُوبَةَ؟ قالَ: لا. فانْضَمَّ الطَّيْرُ حَتّى عادَ كَما كانَ، ثُمَّ قالَ: يا ذا القَرْنَيْنِ، اِنْطَلِقْ إلى تِلْكَ الدَّرَجَةِ فاصْعَدْها، فَإنَّكَ سَتَلْقى مَن تَسْألُهُ ويُخْبِرُكَ. فَسارَ حَتّى اِنْتَهى إلى دَرَجَةٍ مُدْرَجَةٍ، فَصَعِدَ عَلَيْها، فَإذا هو بِسَطْحٍ مَمْدُودٍ لا يُرى طَرَفاهُ، وإذا رَجُلٌ شابٌّ قائِمٌ شاخِصٌ بِبَصَرِهِ إلى السَّماءِ، واضِعٌ يَدَهُ عَلى فَمِهِ، قَدْ قَدَّمَ رِجْلًا وأخَّرَ أُخْرى، فَسَلَّمَ عَلَيْهِ ذُو القَرْنَيْنِ، فَرَدَّ عَلَيْهِ السَّلامَ، ثُمَّ قالَ لَهُ: مَن أنْتَ؟ قالَ: أنا ذُو القَرْنَيْنِ. قالَ: يا ذا القَرْنَيْنِ، أما كَفاكَ (p-٦٥٤)ما وراءَكَ حَتّى قَطَعْتَ الظُّلْمَةَ ووَصَلْتَ إلَيَّ؟ قالَ: ومَن أنْتَ؟ قالَ: أنا صاحِبُ الصُّورِ، قَدْ قَدَّمْتُ رِجْلًا وأخَّرْتُ أُخْرى، ووَضَعْتُ الصُّورَ عَلى فَمِي، وأنا شاخِصٌ بِبَصَرِي أنْتَظِرُ أمْرَ رَبِّي. ثُمَّ تَناوَلَ حَجَرًا فَدَفَعَهُ، فَقالَ: اِنْصَرِفْ، فَإنَّ هَذا الحَجَرَ سَيُخْبِرُكَ بِتَأْوِيلِ ما أرَدْتَ. فانْصَرَفَ ذُو القَرْنَيْنِ حَتّى أتى عَسْكَرَهُ، فَنَزَلَ وجَمَعَ إلَيْهِ العُلَماءَ، فَحَدَّثَهم بِحَدِيثِ القَصْرِ، وحَدِيثِ العَمُودِ، وحَدِيثِ الطَّيْرِ، وما قالَ لَهُ وما رَدَّ عَلَيْهِ، وحَدِيثِ صاحِبِ الصُّورِ، وأنَّهُ قَدْ دَفَعَ إلَيْهِ هَذا الحَجَرَ وقالَ: إنَّهُ سَيُخْبِرُنِي بِتَأْوِيلِ ما جِئْتُ بِهِ، فَأخْبِرُونِي عَنْ هَذا الحَجَرِ، ما هُ، َ؟ وأيُّ شَيْءٍ أرادَ بِهَذا؟ قالَ: فَدَعَوْا بِمِيزانٍ، ووُضِعَ حَجَرُ صاحِبِ الصُّورِ في إحْدى الكِفَّتَيْنِ، ووُضِعَ حَجَرٌ مِثْلُهُ في الكِفَّةِ الأُخْرى فَرَجَحَ بِهِ، ثُمَّ وُضِعَ مَعَهُ حَجْرٌ آخَرُ فَرَجَحَ بِهِ، ثُمَّ وُضِعَ عَشَرَةُ أحْجارٍ فَرَجَحَ بِها، ثُمَّ وُضِعَ مِائَةُ حَجَرٍ فَرَجَحَ بِها، حَتّى وضَعَ ألْفَ حَجَرٍ فَرَجَحَ بِها، فَقالَ ذُو القَرْنَيْنِ: هَلْ عِنْدَ أحَدٍ مِنكم في هَذا الحَجَرِ مِن عِلْمٍ؟ قالَ، والخَضِرُ قاعِدٌ بِحِيالِهِ لا يَتَكَلَّمُ، فَقالَ لَهُ: يا خَضِرُ، هَلْ عِنْدَكَ في هَذا الحَجَرِ مِن عِلْمٍ؟ قالَ: نَعَمْ. قالَ: فَما هُوَ؟ قالَ الخَضِرُ: أيُّها المَلِكُ، إنَّ اللَّهَ اِبْتَلى العالِمَ بِالعالِمِ، وابْتَلى النّاسَ بَعْضَهم بِبَعْضٍ، وإنَّ اللَّهَ اِبْتَلاكَ بِي، وابْتَلانِي بِكَ. فَقالَ لَهُ ذُو القَرْنَيْنِ: ما أراكَ (p-٦٥٥)إلّا قَدْ ظَفِرْتَ بِالأمْرِ الَّذِي جِئْتُ أطْلُبُهُ. قالَ لَهُ الخَضِرُ: قَدْ كانَ ذاكَ. قالَ: فَأنْبِئْنِي. فَأخَذَ المِيزانَ ووَضَعَ حَجَرَ صاحِبِ الصُّورِ في إحْدى الكِفَّتَيْنِ، ووَضَعَ في الكِفَّةِ الأُخْرى حَجَرًا، وأخَذَ قَبْضَةً مِن تُرابٍ، فَوَضَعَها مَعَ الحَجَرِ، ثُمَّ رَفَعَ المِيزانَ، فَرَجَحَ الحَجَرُ الَّذِي مَعَهُ التُّرابُ عَلى حَجَرِ صاحِبِ الصُّورِ، فَقالَتِ العُلَماءُ: سُبْحانَ رَبِّنا، وضَعْناهُ مَعَ ألْفِ حَجَرٍ فَشالَ بِها، ووَضَعَ الخَضِرُ مَعَهُ حَجَرًا واحِدًا وقَبْضَةً مِن تُرابٍ فَشالَ بِهُ. فَقالَ لَهُ ذُو القَرْنَيْنِ: أخْبِرْنِي بِتَأْوِيلِ هَذا، قالَ: أُخْبْرُكَ، إنَّكَ مُكِّنْتَ مِن مَشْرِقِ الأرْضِ ومَغْرِبِها، فَلَمْ يَكْفِكَ ذَلِكَ حَتّى تَناوَلْتَ الظُّلْمَةَ، حَتّى وصَلْتَ إلى صاحِبِ الصُّورِ، وإنَّهُ لا يَمْلَأُ عَيْنَكَ إلّا التُّرابُ. قالَ: صَدَقْتَ. ورَحَلَ ذُو القَرْنَيْنِ، فَرَجَعَ في الظُّلْمَةِ راجِعًا، فَجَعَلُوا يَسْمَعُونَ خَشْخَشَةً تَحْتَ سَنابِكِ خَيْلِهِمْ، فَقالُوا: أيُّها المَلِكُ، ما هَذِهِ الخَشْخَشَةُ الَّتِي نَسْمَعُ تَحْتَ سَنابِكِ خَيْلِنا؟ قالَ: مَن أخَذَ مِنهُ نَدِمَ، ومَن تَرَكَهُ نَدِمَ. فَأخَذَتْ مِنهُ طائِفَةٌ، وتَرَكَتْ طائِفَةٌ، فَلَمّا بَرَزُوا بِهِ إلى الضَّوْءِ نَظَرُوا، فَإذا هو الزَّبَرْجَدُ، فَنَدِمَ الآخِذُ (p-٦٥٦)ألّا يَكُونَ اِزْدادَ، ونَدِمَ التّارِكُ ألّا يَكُونَ أخَذَ. فَقالَ النَّبِيُّ ﷺ: «”رَحِمَ اللَّهُ أخِي ذا القَرْنَيْنِ، دَخَلَ الظُّلْمَةَ وخَرَجَ مِنها زاهِدًا، أما إنَّهُ لَوْ خَرَجَ مِنها راغِبًا لَما تَرَكَ مِنها حَجَرًا إلّا أخْرَجَهُ“» . قالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «”فَأقامَ بِدُومَةِ الجَنْدَلِ، فَعَبَدَ اللَّهَ فِيها حَتّى ماتَ“» . ولَفْظُ أبِي الشَّيْخِ: قالَ أبُو جَعْفَرٍ: إنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قالَ: «”رَحِمَ اللَّهُ أخِي ذا القَرْنَيْنِ، لَوْ ظَفِرَ بِالزَّبَرْجَدِ في مَبْداهُ ما تَرَكَ مِنهُ شَيْئًا حَتّى يُخْرِجَهُ إلى النّاسِ؛ لِأنَّهُ كانَ راغِبًا في الدُّنْيا، ولَكِنَّهُ ظَفِرَ بِهِ وهو زاهِدٌ في الدُّنْيا لا حاجَةَ لَهُ فِيها“» . وأخْرَجَ اِبْنُ إسْحاقَ، والفِرْيابِيُّ، وابْنُ أبِي الدُّنْيا في كِتابِ ”مَن عاشَ بَعْدَ المَوْتِ“، وابْنُ المُنْذِرِ، وابْنُ أبِي حاتِمٍ، مِن طُرُقٍ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أبِي طالِبٍ، أنَّهُ سُئِلَ عَنْ ذِي القَرْنَيْنِ فَقالَ: كانَ عَبْدًا أحَبَّ اللَّهَ فَأحَبَّهُ، وناصَحَ اللَّهَ فَناصَحَهُ، فَبَعَثَهُ إلى قَوْمٍ يَدْعُوهم إلى اللَّهِ، فَدَعاهم إلى اللَّهِ وإلى الإسْلامِ، فَضَرَبُوهُ عَلى قَرْنِهِ الأيْمَنِ فَماتَ، فَأمْسَكَهُ اللَّهُ ما شاءَ ثُمَّ بَعَثَهُ، فَأرْسَلَهُ إلى أُمَّةٍ أُخْرى يَدْعُوهم إلى اللَّهِ وإلى الإسْلامِ، فَضَرَبُوهُ عَلى قَرْنِهِ الأيْسَرِ فَماتَ، فَأمْسَكَهُ اللَّهُ ما شاءَ ثُمَّ بَعَثَهُ، فَسَخَّرَ لَهُ السَّحابَ وخَيَّرَهُ فِيهِ، فاخْتارَ صَعْبَهُ عَلى ذَلُولِهِ، وصَعْبُهُ الَّذِي لا يُمْطِرُ، وبَسَطَ لَهُ النُّورَ، ومَدَّ لَهُ الأسْبابَ، وجَعَلَ اللَّيْلَ والنَّهارَ [٢٧٥و] عَلَيْهِ (p-٦٥٧)سَواءً، فَبِذَلِكَ بَلَغَ مَشارِقَ الأرْضِ ومَغارِبَها. وأخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وابْنُ المُنْذِرِ، عَنْ عِكْرِمَةَ، أنَّ ذا القَرْنَيْنِ لَمّا بَلَغَ الجَبَلَ الَّذِي يُقالُ لَهُ: قافٌ. ناداهُ مَلَكٌ مِنَ الجَبَلِ: أيُّها الخاطِئُ اِبْنَ الخاطِئِ، جِئْتَ حَيْثُ لَمْ يَجِئْ أحَدٌ قَبْلَكَ، ولا يَجِيءُ أحَدٌ بَعْدَكَ. فَأجابَهُ ذُو القَرْنَيْنِ: وأيْنَ أنا؟ قالَ لَهُ المَلَكُ: أنْتَ في الأرْضِ السّابِعَةِ. فَقالَ لَهُ ذُو القَرْنَيْنِ: ما يُنْجِينِي؟ فَقالَ: يُنْجِيكَ اليَقِينُ. فَقالَ ذُو القَرْنَيْنِ: اللَّهُمَّ اُرْزُقْنِي يَقِينًا. فَأنْجاهُ اللَّهُ. قالَ لَهُ المَلَكُ: إنَّكَ سَتَأْتِي إلى قَوْمٍ لِتَبْنِيَ لَهم سَدًّا، فَإذا أنْتَ بَنَيْتَهُ وفَرَغْتَ مِنهُ، فَلا تُحَدِّثْ نَفْسَكَ أنَّكَ بَنَيْتَهُ بِحَوْلٍ مِنكَ أوْ قُوَّةٍ، فَيُسَلِّطَ اللَّهُ عَلى بُنْيانِكَ أضْعَفَ خَلْقِهِ فَيَهْدِمَهُ. ثُمَّ قالَ لَهُ ذُو القَرْنَيْنِ: ما هَذا الجَبَلُ؟ فَقالَ لَهُ: قافٌ. وهو أخْضَرُ والسَّماءُ بَيْضاءُ، وإنَّما خُضْرَتُها مِن هَذا الجَبَلِ، وهَذا الجَبَلُ أُمُّ الجِبالِ كُلِّها، والجِبالُ كُلُّها مِن عُرُوقِهِ، فَإذا أرادَ اللَّهُ أنْ يُزَلْزِلَ قَرْيَةً حَرَّكَ مِنهُ عِرْقًا. ثُمَّ إنَّ المَلَكَ ناوَلَهُ عُنْقُودًا مِن عِنَبٍ، وقالَ لَهُ: حَبَّةٌ تُرْوِيكَ، وحَبَّةٌ تُشْبِعُكَ، وكُلَّما أخَذْتَ مِنهُ حَبَّةً عادَتْ مَكانَها حَبَّةٌ. ثُمَّ خَرَجَ مِن عِنْدِهِ، فَجاءَ البُنْيانَ الَّذِي أرادَ اللَّهَ، فَقالُوا لَهُ: ﴿يا ذا القَرْنَيْنِ إنَّ يَأْجُوجَ ومَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ في الأرْضِ﴾ [الكهف: ٩٤] . إلى قَوْلِهِ: ﴿أجْعَلْ بَيْنَكم وبَيْنَهم رَدْمًا﴾ [الكهف: ٩٥] . (p-٦٥٨)قالَ عِكْرِمَةُ: هم مَنسَكٌ، وناسِكٌ، وتاوِيلُ، وراحِيلُ. وقالَ أبُو سَعِيدٍ: هم خَمْسَةٌ وعِشْرُونَ قَبِيلَةً مِن وراءِ يَأْجُوجَ ومَأْجُوجَ. وأخْرَجَ الحاكِمُ عَنْ مُعاوِيَةَ قالَ: مَلَكَ الأرْضَ أرْبَعَةٌ: سُلَيْمانُ، وذُو القَرْنَيْنِ، ورَجُلٌ مِن أهْلِ حُلْوانَ، ورَجُلٌ آخَرُ. فَقِيلَ لَهُ: الخَضِرُ؟ قالَ: لا. وأخْرَجَ اِبْنُ أبِي حاتِمٍ، وابْنُ عَساكِرَ، عَنْ مُجاهِدٍ قالَ: إنَّ ذا القَرْنَيْنِ مَلَكَ الأرْضَ كُلَّها إلّا بِلْقِيسَ صاحِبَةَ مَأْرِبَ، فَإنَّ ذا القَرْنَيْنِ كانَ يَلْبَسُ ثِيابَ المَساكِينِ، ثُمَّ يَدْخُلُ المَدائِنَ، فَيَنْظُرُ مِن عَوْرَتِها قَبْلَ أنْ يَقْتُلَ أهْلَها، فَأُخْبِرَتْ بِذَلِكَ بِلْقِيسُ، فَبَعَثَتْ رَسُولًا يَنْظُرُ مِنهُ فَيُصَوِّرُ لَها صُورَتَهُ في مُلْكِهِ حِينَ يَقْعُدُ، وصُورَتَهُ في ثِيابِ المَساكِينِ، ثُمَّ جَعَلَتْ كُلَّ يَوْمٍ تُطْعِمُ المَساكِينَ وتَجْمَعُهُمْ، فَجاءَها رَسُولُها بِصُورَتِهِ، فَجَعَلَتْ إحْدى صُورَتَيْهِ تَلِيها، والأُخْرى عَلى بابِ الأُسْطُوانَةِ، فَكانَتْ تُطْعِمُ المَساكِينَ كُلَّ يَوْمٍ، فَإذا فَرَغُوا عَرَضَتْهم واحِدًا واحِدًا فَيَخْرُجُونَ، حَتّى جاءَ ذُو القَرْنَيْنِ في ثِيابِ المَساكِينِ، فَدَخَلَ مَدِينَتَها، ثُمَّ جَلَسَ مَعَ المَساكِينِ إلى طَعامِها، فَقَرَّبَتْ إلَيْهِمُ الطَّعامَ، فَلَمّا فَرَغُوا أخْرَجَتْهم واحِدًا واحِدًا، وهي تَنْظُرُ إلى صُورَتِهِ في ثِيابِ المَساكِينِ، حَتّى (p-٦٥٩)مَرَّ ذُو القَرْنَيْنِ، فَنَظَرَتْ إلى صُورَتِهِ فَقالَتْ: أجْلِسُوا هَذا وأخْرِجُوا مَن بَقِيَ مِنَ المَساكِينِ. فَقالَ لَها: لِمَ أجْلَسْتِينِي وإنَّما أنا مِسْكِينٌ؟ قالَتْ: لا، أنْتَ ذُو القَرْنَيْنِ، هَذِهِ صُورَتُكَ في ثِيابِ المَساكِينِ، واللَّهِ لا تُفارِقُنِي حَتّى تَكْتُبَ لِي أمانًا بِمُلْكِي أوْ أضْرِبَ عُنُقَكَ. فَلَمّا رَأى ذَلِكَ كَتَبَ لَها أمانًا، فَلَمْ يَنْجُ مِنهُ أحَدٌ غَيْرُها. وأخْرَجَ اِبْنُ أبِي حاتِمٍ عَنْ وهْبِ بْنِ مُنَبِّهٍ قالَ: مَلَكَ ذُو القَرْنَيْنِ ثِنْتَيْ عَشْرَةَ سَنَةً. وأخْرَجَ اِبْنُ أبِي حاتِمٍ، وأبُو الشَّيْخِ في ”العَظَمَةِ“، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ أبِي جَعْفَرٍ قالَ: كانَ ذُو القَرْنَيْنِ في بَعْضِ مَسِيرِهِ، فَمَرَّ بِقَوْمٍ قُبُورُهم عَلى أبْوابِ بُيُوتِهِمْ، وإذا ثِيابُهم لَوْنٌ واحِدٌ، وإذا هم رِجالُ كُلُّهم لَيْسَ فِيهِمُ اِمْرَأةٌ، فَتَوَسَّمَ رَجُلًا مِنهم فَقالَ لَهُ: لَقَدْ رَأيْتُ شَيْئًا ما رَأيْتُهُ في شَيْءٍ مِن مَسِيرِي. قالَ: وما هُوَ؟ قالَ: فَوَصَفَ لَهُ ما رَأى مِنهم. قالَ: أمّا هَذِهِ القُبُورُ عَلى أبْوابِنا، فَإنّا جَعَلْناها مَوْعِظَةً لِقُلُوبِنا؛ تَخْطِرُ عَلى قَلْبِ أحَدِنا الدُّنْيا، فَيَخْرُجُ فَيَرى القُبُورَ، (p-٦٦٠)ويَرْجِعُ إلى نَفْسِهِ فَيَقُولُ: إلى هَذا المَصِيرُ، وإلَيْها صارَ مَن كانَ قَبْلِي. وأمّا هَذِهِ الثِّيابُ، فَإنَّهُ لا يَكادُ الرَّجُلُ مِنّا يَلْبَسُ ثِيابًا أحْسَنَ مِن صاحِبِهِ إلّا رَأى لَهُ بِهِ فَضْلًا عَلى جَلِيسِهِ. وأمّا قَوْلُكَ: رِجالٌ كُلُّكم لَيْسَ مَعَكم نِساءٌ. فَلَعَمْرِي لَقَدْ خُلِقْنا مِن ذَكَرٍ وأُنْثى، ولَكِنَّ هَذا القَلْبَ لا يُشْغَلُ بِشَيْءٍ إلّا اِشْتَغَلَ بِهِ، فَجَعَلْنا نِساءَنا وذُرِّيَّتَنا في قَرْيَةٍ قَرِيبَةٍ، فَإذا أرادَ الرَّجُلُ مِن أهْلِهِ ما يُرِيدُ الرَّجُلُ أتاها، فَكانَ مَعَها اللَّيْلَةَ واللَّيْلَتَيْنِ، ثُمَّ يُرْجَعُ إلى ما هَهُنا؛ لِأنّا خَلَوْنا هَهُنا لِلْعِبادَةِ. فَقالَ: ما كُنْتُ لِأعِظَكم بِشَيْءٍ أفْضَلَ مِمّا وعَظْتُمْ بِهِ أنْفُسَكُمْ، سَلْنِي ما شِئْتَ. قالَ: مَن أنْتَ؟ قالَ أنا ذُو القَرْنَيْنِ. قالَ: ما أسْألُكَ وأنْتَ لا تَمْلِكُ لِي شَيْئًا! قالَ: وكَيْفَ وقَدْ آتانِيَ اللَّهُ مِن كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا؟ قالَ: لا تَقْدِرُ عَلى أنْ تَأْتِيَنِي بِما لَمْ يُقَدَّرْ لِي، ولا تَصْرِفَ عَنِّي ما قُدِّرَ لِي. وأخْرَجَ البَيْهَقِيُّ في ”شُعَبِ الإيمانِ“ عَنْ وهْبِ بْنِ مُنَبِّهٍ قالَ: لَمّا بَلَغَ ذُو القَرْنَيْنِ مَطْلِعَ الشَّمْسِ قالَ لَهُ مَلَكُها: يا ذا القَرْنَيْنِ، صِفْ لِيَ النّاسَ. قالَ: إنَّ مُحادَثَتَكَ مَن لا يَعْقِلُ بِمَنزِلَةِ مَن يَضَعُ المَوائِدَ لِأهْلِ القُبُورِ، ومُحادَثَتَكَ مَن لا يَعْقِلُ (p-٦٦١)بِمَنزِلَةِ مَن يَبُلُّ الصَّخْرَةَ حَتّى تَبْتَلَّ، أوْ يَطْبُخُ الحَدِيدَ يَلْتَمِسُ أُدْمَهُ، نَقْلُ الحِجارَةِ مِن رُءُوسِ الجِبالِ أيْسَرُ مِن مُحادَثَةِ مَن لا يَعْقِلُ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب