الباحث القرآني

﴿قالَ رَبِّ السِّجْنُ أحَبُّ إلَيَّ مِمّا يَدْعُونَنِي إلَيْهِ وإلّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أصْبُ إلَيْهِنَّ وأكُنْ مِنَ الجاهِلِينَ﴾ ﴿فاسْتَجابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ إنَّهُ هو السَّمِيعُ العَلِيمُ﴾ اسْتِئْنافٌ بَيانِيٌّ؛ لِأنَّ ما حُكِيَ قَبْلَهُ مَقامُ شِدَّةٍ مِن شَأْنِهِ أنْ يَسْألَ سامِعُهُ عَنْ حالِ تَلَقِّي يُوسُفَ - عَلَيْهِ السَّلامُ - فِيهِ لِكَلامِ امْرَأةِ العَزِيزِ. وهَذا الكَلامُ مُناجاةٌ لِرَبِّهِ الَّذِي هو شاهِدُهم، فالظّاهِرُ أنَّهُ قالَ هَذا القَوْلَ في نَفْسِهِ. ويُحْتَمَلُ أنَّهُ جَهَرَ بِهِ في مَلَئِهِنَّ تَأْيِيسًا لَهُنَّ مِن أنْ يَفْعَلَ ما تَأْمُرُهُ بِهِ. وقَرَأ الجُمْهُورُ السِّجْنُ بِكَسْرِ السِّينِ. وقَرَأهُ يَعْقُوبُ وحْدَهُ بِفَتْحِ السِّينِ عَلى مَعْنى المَصْدَرِ، أيْ إنَّ السَّجْنَ أحَبُّ إلَيَّ. وفَضَّلَ السَّجْنَ مَعَ ما فِيهِ مِنَ الألَمِ والشِّدَّةِ وضِيقِ النَّفَسِ عَلى ما يَدْعُونَهُ إلَيْهِ مِنَ الِاسْتِمْتاعِ بِالمَرْأةِ الحَسَنَةِ النَّفِيسَةِ عَلى ما فِيهِ مِنَ اللَّذَّةِ ولَكِنَّ كُرْهَهُ لِفِعْلِ الحَرامِ فَضُلَ عِنْدَهُ مُقاساةُ السِّجْنِ. فَلَمّا عَلِمَ أنَّهُ لا مَحِيصَ مِن أحَدِ الأمْرَيْنِ صارَ السَّجْنُ مَحْبُوبًا إلَيْهِ بِاعْتِبارِ أنَّهُ يُخَلِّصُهُ مِنَ الوُقُوعِ في الحَرامِ فَهي مَحَبَّةٌ ناشِئَةٌ عَنْ مُلاءَمَةِ الفِكْرِ، كَمَحَبَّةِ الشُّجاعِ الحَرْبَ. فالإخْبارُ بِأنَّ السِّجْنَ أحَبُّ إلَيْهِ مِنَ الِاسْتِمْتاعِ بِالمَرْأةِ مُسْتَعْمَلٌ في إنْشاءِ الرِّضى بِالسِّجْنِ في مَرْضاةِ اللَّهِ - تَعالى - والتَّباعُدِ عَنْ مَحارِمِهِ، إذْ لا فائِدَةَ في إخْبارِ مَن يَعْلَمُ ما في نَفْسِهِ فاسْمُ التَّفْضِيلِ عَلى حَقِيقَتِهِ ولا داعِيَ إلى تَأْوِيلِهِ بِمَسْلُوبِ المُفاضَلَةِ. (p-٢٦٦)وعَبَّرَ عَمّا عَرَضَتْهُ المَرْأةُ بِالمَوْصُولِيَّةِ لِما في الصِّلَةِ مِنَ الإيماءِ إلى كَوْنِ المَطْلُوبِ حالَةً هي مَظَنَّةُ الطَّواعِيَةِ؛ لِأنْ تُمالِئَ النّاسُ عَلى طَلَبِ الشَّيْءِ مِن شَأْنِهِ أنْ يُوَطِّنَ نَفْسَ المَطْلُوبِ لِلْفِعْلِ، فَأظْهَرَ أنَّ تَمالُئَهُنَّ عَلى طَلَبِهِنَّ مِنهُ امْتِثالُ أمْرِ المَرْأةِ لَمْ يَفُلَّ مِن صارِمِ عَزْمِهِ عَلى المُمانَعَةِ، وجَعَلَ ذَلِكَ تَمْهِيدًا لِسُؤالِ العِصْمَةِ مِنَ الوُقُوعِ في شَرَكِ كَيْدِهِنَّ، فانْتَقَلَ مِن ذِكْرِ الرِّضى بِوَعِيدِها إلى سُؤالِ العِصْمَةِ مِن كَيْدِها. وأسْنَدَ فِعْلَ ﴿يَدْعُونَنِي﴾ إلى نُونِ النِّسْوَةِ، فالواوُ الَّذِي فِيهِ هو حَرْفٌ أصْلِيٌّ ولَيْسَتْ واوُ الجَماعَةِ، والنُّونُ لَيْسَتْ نُونُ رَفْعٍ لِأنَّهُ مَبْنِيٌّ لِاتِّصالِهِ بِنُونِ النِّسْوَةِ، ووَزْنُهُ يَفْعَلْنَ. وأسْنَدَ الفِعْلَ إلى ضَمِيرِ جَمْعِ النِّساءِ مَعَ أنَّ الَّتِي دَعَتْهُ امْرَأةٌ واحِدَةٌ، إمّا لِأنَّ تِلْكَ الدَّعْوَةَ مِن رَغَباتِ صِنْفِ النِّساءِ فَيَكُونُ عَلى وزانِ جَمْعِ الضَّمِيرِ في كَيْدِهِنَّ، وإمّا لِأنَّ النِّسْوَةَ اللّاتِي جَمَعَتْهُنَّ امْرَأةُ العَزِيزِ لَمّا سَمِعْنَ كَلامَها تَمالَأْنَ عَلى لَوْمِ يُوسُفَ - عَلَيْهِ السَّلامُ - وتَحْرِيضِهِ عَلى إجابَةِ الدّاعِيَةِ، وتَحْذِيرِهِ مِن وعِيدِها بِالسِّجْنِ. وعَلى وزانِ هَذا يَكُونُ القَوْلُ في جَمْعِ الضَّمِيرِ في كَيْدَهُنَّ أيْ كَيْدَ صِنْفِ النِّساءِ، مِثْلَ قَوْلِ العَزِيزِ ﴿إنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ﴾ [يوسف: ٢٨]، أيْ كَيْدَ هَؤُلاءِ النِّسْوَةِ. وجُمْلَةُ ﴿وإلّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ﴾ خَبَرٌ مُسْتَعْمَلٌ في التَّخَوُّفِ والتَّوَقُّعِ التِجاءً إلى اللَّهِ ومُلازَمَةً لِلْأدَبِ نَحْوَ رَبِّهِ بِالتَّبَرُّؤِ مِنَ الحَوْلِ والقُوَّةِ والخَشْيَةِ مِن تُقَلُّبِ القَلْبِ ومِنَ الفِتْنَةِ بِالمَيْلِ إلى اللَّذَّةِ الحَرامِ. فالخَبَرُ مُسْتَعْمَلٌ في الدُّعاءِ، ولِذَلِكَ فَرَّعَ عَنْهُ جُمْلَةَ ﴿فاسْتَجابَ لَهُ رَبُّهُ﴾ ومَعْنى أصْبُ أمِلْ. والصَّبْوُ: المَيْلُ إلى المَحْبُوبِ. والجاهِلُونَ: سُفَهاءُ الأحْلامِ، فالجَهْلُ هُنا مُقابِلُ الحِلْمِ. والقَوْلُ في أنَّ مُبالَغَةَ ﴿وأكُنْ مِنَ الجاهِلِينَ﴾ أكْثَرُ مِن أكُنْ جاهِلًا كالقَوْلِ في ﴿ولَيَكُونَنْ مِنَ الصّاغِرِينَ﴾ [يوسف: ٣٢] (p-٢٦٧)وعَطْفُ جُمْلَةِ ﴿فاسْتَجابَ﴾ بِفاءِ التَّعْقِيبِ إشارَةٌ إلى أنَّ اللَّهَ عَجَّلَ إجابَةَ دُعائِهِ الَّذِي تَضَمَّنَهُ قَوْلُهُ: ﴿وإلّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ﴾ . واسْتَجابَ: مُبالَغَةٌ في أجابَ، كَما تَقَدَّمَ في قَوْلِهِ: ﴿فاسْتَعْصَمَ﴾ [يوسف: ٣٢] وصَرْفُ كَيْدِهِنَّ عَنْهُ صَرْفُ أثَرِهِ، وذَلِكَ بِأنْ ثَبَّتَهُ عَلى العِصْمَةِ فَلَمْ يَنْخَدِعْ لِكَيْدِها ولا لِكَيْدِ خَلائِلِها في أضْيَقِ الأوْقاتِ. وجُمْلَةُ ﴿إنَّهُ هو السَّمِيعُ العَلِيمُ﴾ في مَوْضِعِ العِلَّةِ لِـ اسْتَجابَ المَعْطُوفِ بِفاءِ التَّعْقِيبِ، أيْ أجابَ دُعاءَهُ بِدُونِ مُهْلَةٍ لِأنَّهُ سَرِيعُ الإجابَةِ وعَلِيمٌ بِالضَّمائِرِ الخالِصَةِ. فالسَّمْعُ مُسْتَعْمَلٌ في إجابَةِ المَطْلُوبِ، يُقالُ: سَمِعَ اللَّهُ لِمَن حَمِدَهُ. وتَأْكِيدُهُ بِضَمِيرِ الفَصْلِ لِتَحْقِيقِ ذَلِكَ المَعْنى.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب