الباحث القرآني

قوله عزّ وجلّ: ﴿قالَتْ فَذَلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ ولَقَدْ راوَدْتُهُ عن نَفْسِهِ فاسْتَعْصَمَ ولَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ ما آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ ولَيَكُونًا مِنَ الصاغِرِينَ﴾ ﴿قالَ رَبِّ السِجْنُ أحَبُّ إلَيَّ مِمّا يَدْعُونَنِي إلَيْهِ وإلا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أصْبُ إلَيْهِنَّ وأكُنْ مِنَ الجاهِلِينَ﴾ ﴿فاسْتَجابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عنهُ كَيْدَهُنَّ إنَّهُ هو السَمِيعُ العَلِيمُ﴾ قالَ الطَبَرِيُّ: المَعْنى: فَهَذا الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ، أيْ: هَذا الَّذِي قَطَعْتُنَّ أيْدِيَكُنَّ بِسَبَبِهِ هو الَّذِي جَعَلْتُنَّنِي ضالَّةً في هَواهُ، والضَمِيرُ عائِدٌ عَلى يُوسُفَ في "فِيهِ"، ويَجُوزُ أنْ تَكُونَ الإشارَةُ إلى حُبِّ يُوسُفَ والضَمِيرُ عائِدٌ عَلى الحُبِّ، فَيَكُونُ ذَلِكَ إشارَةً إلى غائِبٍ عَلى بابِهِ. ثُمَّ أقَرَّتِ امْرَأةُ العَزِيزِ لِلنِّسْوَةِ بِالمُراوَدَةِ، واسْتَأْمَنَتْ إلَيْهِنَّ في ذَلِكَ؛ إذْ قَدْ عَلِمَتْ أنَّهُنَّ قَدْ عَذَرْنَها. و"فاسْتَعْصَمَ" مَعْناهُ: طَلَبَ العِصْمَةَ وتَمَسَّكَ بِها وعَصانِي، ثُمَّ (p-٨٣)جَعَلَتْ تَتَوَعَّدُهُ -وَهُوَ يَسْمَعُ- بِقَوْلِها: ﴿وَلَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ﴾ إلى آخِرِ الآيَةِ. واللامُ في قَوْلِهِ: "لَيُسْجَنَنَّ" لامُ القَسَمِ، واللامُ الأولى هي المُؤْذِنَةُ بِمَجِيءِ القِسْمِ، والنُونُ هي الثَقِيلَةُ والوُقُوفُ عَلَيْها بِشَدِّها، و"لَيَكُونًا" نُونُهُ هي النُونُ الخَفِيفَةُ، والوَقْفُ عَلَيْهِ بِالألِفِ، وهي مِثْلُ قَوْلِهِ تَبارَكَ وتَعالى: "لَنَسْفَعًا"، ومِثْلُها قَوْلُ الأعْشى: ؎ وصَلِّ عَلى حِينِ العَشِياتِ والضُحى ∗∗∗ ولا تَعْبُدُ الشَيْطانَ واللهَ فاعْبُدا أرادَ: فاعْبُدْنَ. وقَرَأتْ فِرْقَةٌ: "وَلَيَكُونُنَّ" بِالنُونِ الشَدِيدَةِ، والصاغِرُونَ: الأذِلّاءُ الَّذِينَ لَحِقَهُمُ الصَغارُ. وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿قالَ رَبِّ السِجْنُ أحَبُّ إلَيَّ﴾. رُوِيَ أنَّهُ لَمّا تَوَعَّدَتْهُ امْرَأةُ العَزِيزِ قالَ لَهُ النِسْوَةُ: (أطِعْ مَوْلاتَكَ، وافْعَلْ ما أمَرَتْكَ بِهِ)، فَلِذَلِكَ قالَ: ﴿مِمّا يَدْعُونَنِي إلَيْهِ﴾، قالَ نَحْوَهُ الحَسَنُ. ووَزْنُ (يَدْعُونَ) فى هَذِهِ الآيَةِ: يَفْعُلْنَ، بِخِلافِ قَوْلِكَ: (الرِجالُ يَدْعُونَ). وقَرَأ الجُمْهُورُ: "السِجْنُ" بِكَسْرِ السِينِ، وهو الِاسْمُ. وقَرَأ الزُهْرِيُّ، وابْنُ هُرْمُزَ، ويَعْقُوبُ، وابْنُ أبِي إسْحاقَ: "السَجْنُ" بِفَتْحِ السِينِ، وهي قِراءَةُ عُثْمانَ رَضِيَ اللهُ عنهُ وطارِقِ مَوْلاهُ، وهو المَصْدَرُ، وهو كَقَوْلِكَ: الجِدْعُ والجَدْعُ. وقَوْلُهُ: ﴿وَإلا تَصْرِفْ عَنِّي...﴾ إلى آخِرِ الآيَةِ، اسْتِسْلامٌ لِلَّهِ تَبارَكَ وتَعالى، ورَغْبَةٌ إلَيْهِ، وتَوَكُّلٌ عَلَيْهِ، المَعْنى: وإنْ لَمْ تُنَجِّنِي أنْتَ هَلَكْتُ، هَذا مُقْتَضى قَرِينَةِ كَلامِهِ وحالِهِ، والضَمِيرُ في "إلَيْهِ" عائِدٌ عَلى الفاحِشَةِ المَعْنِيَّةِ بِـ"ما" في قَوْلِهِ: "مِمّا". (p-٨٤)وَ"أصْبُ" مَأْخُوذَةٌ مِنَ الصَبْوَةِ، وهي أفْعالُ الصِبا، ومِن ذَلِكَ قَوْلُ الشاعِرِ: -أنْشَدَهُ الطَبَرِيُّ -: ؎ إلى هِنْدٍ صَبا قَلْبِي ∗∗∗ ∗∗∗ وهِنْدٌ مِثْلُها يُصْبِي ومِن ذَلِكَ قَوْلُ دُرَيْدِ بْنِ الصِمَّةِ: ؎ صَبا ما صَبا حَتّى عَلا الشَيْبُ رَأْسَهُ ∗∗∗ ∗∗∗ فَلَمّا عَلاهُ قالَ لِلْباطِلِ ابْعُدِ والجاهِلُونَ: هُمُ الَّذِينَ لا يُراعُونَ حُدُودَ اللهِ تَعالى ونَواهِيهِ. وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿فاسْتَجابَ لَهُ رَبُّهُ﴾ الآيَةُ. قَوْلُ يُوسُفَ عَلَيْهِ السَلامُ: ﴿رَبِّ السِجْنُ﴾ إلى قَوْلِهِ: ﴿مِنَ الجاهِلِينَ﴾ كَلامٌ يَتَضَمَّنُ التَشَكِّي إلى اللهِ عَزَّ وجَلَّ مِن حالِهِ مَعَهُنَّ، والدُعاءُ إلَيْهِ في كَشْفِ بَلْواهُ، فَلِذَلِكَ قالَ -بَعْدَ مَقالَةِ يُوسُفَ -: ﴿فاسْتَجابَ لَهُ رَبُّهُ﴾، أيْ: أجابَهُ إلى إرادَتِهِ، وصَرَفَ عنهُ كَيْدَهُنَّ في أنْ حالَ بَيْنَهُ وبَيْنَ المَعْصِيَةِ، وقَوْلُهُ: ﴿السَمِيعُ العَلِيمُ﴾ صِفَتانِ لائِقَتانِ بِقَوْلِهِ: "فاسْتَجابَ".
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب