الباحث القرآني
(p-١٢٦٦)قَوْلُهُ: ﴿واذْكُرْ عَبْدَنا أيُّوبَ﴾ مَعْطُوفٌ عَلى قَوْلِهِ ﴿واذْكُرْ عَبْدَنا داوُدَ﴾ [ص: ١٧] وأيُّوبَ عَطْفُ بَيانٍ، و﴿إذْ نادى رَبَّهُ﴾ بَدَلُ اشْتِمالٍ مِن ( عَبْدَنا ) ﴿أنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطانُ﴾ قَرَأ الجُمْهُورُ بِفَتْحِ الهَمْزَةِ عَلى أنَّهُ حِكايَةٌ لِكَلامِهِ الَّذِي نادى رَبَّهُ بِهِ، ولَوْ لَمْ يَحْكِهِ لَقالَ: إنَّهُ مَسَّهُ. وقَرَأ عِيسى بْنُ عُمَرَ بِكَسْرِها عَلى إضْمارِ القَوْلِ.
وفِي قِصَّةِ أيُّوبَ إرْشادٌ لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ - إلى الِاقْتِداءِ بِهِ في الصَّبْرِ عَلى المَكارِهِ.
قَرَأ الجُمْهُورُ بِضَمِّ النُّونِ مِن قَوْلِهِ: ﴿بِنُصْبٍ﴾ وسُكُونِ الصّادِ، فَقِيلَ: هو جَمْعُ نَصَبٍ بِفَتْحَتَيْنِ نَحْوَ أسَدٍ وأُسْدٍ، وقِيلَ: هو لُغَةٌ في النَّصَبِ، نَحْوَ رَشَدٍ ورُشْدٍ.
وقَرَأ أبُو جَعْفَرٍ يَزِيدُ بْنُ القَعْقاعِ وشَيْبَةُ وحَفْصٌ ونافِعٌ في رِوايَةٍ عَنْهُ بِضَمَّتَيْنِ، ورُوِيَتْ هَذِهِ القِراءَةُ عَنِ الحَسَنِ.
وقَرَأ أبُو حَيْوَةَ ويَعْقُوبُ وحَفْصٌ في رِوايَةٍ بِفَتْحٍ وسُكُونٍ، وهَذِهِ القِراءاتُ كُلُّها بِمَعْنًى واحِدٍ، وإنَّما اخْتَلَفَتِ القِراءاتُ بِاخْتِلافِ اللُّغاتِ.
وقالَ أبُو عُبَيْدَةَ: إنَّ النَّصَبَ بِفَتْحَتَيْنِ: التَّعَبُ والإعْياءُ، وعَلى بَقِيَّةِ القِراءاتِ الشَّرُّ والبَلاءُ، ومَعْنى قَوْلِهِ: وعَذابٍ أيْ: ألَمٍ.قالَ قَتادَةُ ومُقاتِلٌ: النَّصَبُ في الجَسَدِ، والعَذابُ في المالِ. قالَ النَّحّاسُ وفِيهِ بَعْدُ كَذا قالَ. والأوْلى تَفْسِيرُ النَّصَبِ بِالمَعْنى اللُّغَوِيِّ وهو التَّعَبُ والإعْياءُ، وتَفْسِيرُ العَذابِ بِما يَصْدُقُ عَلَيْهِ مُسَمّى العَذابِ وهو الألَمُ، وكِلاهُما راجِعٌ إلى البَدَنِ.
﴿ارْكُضْ بِرِجْلِكَ﴾ هو بِتَقْدِيرِ القَوْلِ أيْ: قُلْنا لَهُ: ارْكُضْ بِرِجْلِكَ كَذا قالَ الكِسائِيُّ: والرَّكْضُ الدَّفْعُ بِالرِّجْلِ، يُقالُ: رَكَضَ الدّابَّةَ بِرِجْلِهِ: إذا ضَرَبَها بِها.
وقالَ المُبَرِّدُ: الرَّكْضُ التَّحْرِيكُ. قالَ الأصْمَعِيُّ: يُقالُ: رَكَضْتُ الدّابَّةَ، ولا يُقالُ: رَكَضَتْ هي، لِأنَّ الرَّكْضَ إنَّما هو تَحْرِيكُ راكِبِها رِجْلَيْهِ، ولا فِعْلَ لَها في ذَلِكَ، وحَكى سِيبَوَيْهِ: رَكَضْتُ الدّابَّةَ فَرَكَضَتْ، مِثْلُ جَبَرْتُ العَظْمَ فَجَبَرَ ﴿هَذا مُغْتَسَلٌ بارِدٌ وشَرابٌ﴾ هَذا أيْضًا مِن مَقُولِ القَوْلِ المُقَدَّرِ: المُغْتَسَلُ هو الماءُ الَّذِي يُغْتَسَلُ بِهِ، والشَّرابُ الَّذِي يُشْرَبُ مِنهُ. وقِيلَ: إنَّ المُغْتَسَلَ هو المَكانُ الَّذِي يُغْتَسَلُ فِيهِ. قالَ قَتادَةُ: هُما عَيْنانِ بِأرْضِ الشّامِ في أرْضٍ يُقالُ: لَها الجابِيَةُ فاغْتَسَلَ مِن إحْداهُما فَأذْهَبَ اللَّهُ ظاهِرَ دائِهِ، وشَرِبَ مِنَ الأُخْرى فَأذْهَبَ اللَّهُ باطِنَ دائِهِ، وكَذا قالَ الحَسَنُ.
وقالَ مُقاتِلٌ نَبَعَتْ عَيْنٌ جارِيَةٌ فاغْتَسَلَ فِيها فَخَرَجَ صَحِيحًا، ثُمَّ نَبَعَتْ عَيْنٌ أُخْرى فَشَرِبَ مِنها ماءً عَذْبًا بارِدًا.
وفِي الكَلامِ حَذْفٌ، والتَّقْدِيرُ: فَرَكَضَ بِرِجْلِهِ فَنَبَعَتْ عَيْنٌ، فَقُلْنا لَهُ هَذا مُغْتَسَلٌ إلَخْ، وأسْنَدَ المَسَّ إلى الشَّيْطانِ مَعَ أنَّ اللَّهَ - سُبْحانَهُ - هو الَّذِي مَسَّهُ بِذَلِكَ: إمّا لِكَوْنِهِ لَمّا عَمِلَ بِوَسْوَسَتِهِ عُوقِبَ عَلى ذَلِكَ بِذَلِكَ النَّصَبِ والعَذابِ.
فَقَدْ قِيلَ: إنَّهُ أُعْجِبَ بِكَثْرَةِ مالِهِ، وقِيلَ: اسْتَغاثَهُ مَظْلُومٌ فَلَمْ يُغِثْهُ، وقِيلَ: إنَّهُ قالَ ذَلِكَ عَلى طَرِيقَةِ الأدَبِ، وقِيلَ: إنَّهُ قالَ ذَلِكَ لِأنَّ الشَّيْطانَ وسْوَسَ إلى أتْباعِهِ، فَرَفَضُوهُ وأخْرَجُوهُ مِن دِيارِهِمْ، وقِيلَ المُرادُ بِهِ: ما كانَ يُوَسْوِسُهُ الشَّيْطانُ إلَيْهِ حالَ مَرَضِهِ وابْتِلائِهِ مِن تَحْسِينِ الجَزَعِ وعَدَمِ الصَّبْرِ عَلى المُصِيبَةِ، وقِيلَ غَيْرُ ذَلِكَ.
وقَوْلُهُ: ﴿ووَهَبْنا لَهُ أهْلَهُ﴾ مَعْطُوفٌ عَلى مُقَدَّرٍ كَأنَّهُ قِيلَ: فاغْتَسَلَ وشَرِبَ، فَكَشَفْنا بِذَلِكَ ما بِهِ مِن ضُرٍّ ووَهَبَنا لَهُ أهْلَهُ.
قِيلَ: أحْياهُمُ اللَّهُ بَعْدَ أنْ أماتَهم: وقِيلَ: جَمَعَهم بَعْدَ تَفَرُّقِهِمْ، وقِيلَ: غَيَّرَهم مِثْلَهم، ثُمَّ زادَهُ مِثْلَهم مَعَهم، وهو مَعْنى قَوْلِهِ: ﴿ومِثْلَهم مَعَهُمْ﴾ فَكانُوا مِثْلَما كانُوا مِن قَبْلِ ابْتِلائِهِ، وانْتِصابُ قَوْلِهِ: ﴿رَحْمَةً مِنّا وذِكْرى لِأُولِي الألْبابِ﴾ عَلى أنَّهُ مَفْعُولٌ لِأجْلِهِ أيْ: وهَبْناهم لَهُ لِأجْلِ رَحْمَتِنا إيّاهُ، ولِيَتَذَكَّرَ بِحالِهِ أُولُو الألْبابِ فَيَصْبِرُوا عَلى الشَّدائِدِ كَما صَبَرَ، وقَدْ تَقَدَّمَ في سُورَةِ الأنْبِياءِ تَفْسِيرُ هَذِهِ الآيَةِ مُسْتَوْفًى فَلا نُعِيدُهُ.
﴿وخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا﴾ مَعْطُوفٌ عَلى ارْكُضْ، أوْ عَلى وهَبْنا، أوِ التَّقْدِيرُ وقُلْنا لَهُ و﴿وخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا﴾ والضِّغْثُ: عِثْكالُ النَّخْلِ بِشَمارِيخِهِ، وقِيلَ: هو قَبْضَةٌ مِن حَشِيشٍ مُخْتَلِطٌ رَطِبُها بِيابِسِها وقِيلَ: الحِزْمَةُ الكَبِيرَةُ مِنَ القُضْبانِ وأصْلُ المادَّةِ تَدُلُّ عَلى جَمْعِ المُخْتَلَطاتِ.
قالَ الواحِدِيُّ: الضِّغْثُ مِلْءُ الكَفِّ مِنَ الشَّجَرِ والحَشِيشِ والشَّمارِيخِ ﴿فاضْرِبْ بِهِ ولا تَحْنَثْ﴾ أيِ: اضْرِبْ بِذَلِكَ الضِّغْثِ ولا تَحْنَثْ في يَمِينِكَ، والحِنْثُ: الإثْمُ، ويُطْلَقُ عَلى فِعْلِ ما حُلِفَ عَلى تَرْكِهِ، وكانَ أيُّوبُ قَدْ حَلَفَ في مَرَضِهِ أنْ يَضْرِبَ امْرَأتَهُ مِائَةَ جَلْدَةٍ.
واخْتُلِفَ في سَبَبِ ذَلِكَ، فَقالَ سَعِيدُ بْنُ المُسَيَّبِ أنَّها جاءَتْهُ بِزِيادَةٍ عَلى ما كانَتْ تَأْتِيهِ بِهِ مِنَ الخُبْزِ فَخافَ خِيانَتَها فَحَلَفَ لَيَضْرِبَنَّها. وقالَ يَحْيى بْنُ سَلامٍ، وغَيْرُهُ: إنَّ الشَّيْطانَ أغْواها أنْ تَحْمِلَ أيُّوبَ عَلى أنْ يَذْبَحَ سَخْلَةً تَقَرُّبًا إلَيْهِ، فَإنَّهُ إذا فَعَلَ ذَلِكَ بَرِئَ، فَحَلَفَ لَيَضْرِبَنَّها إنْ عُوفِيَ مِائَةَ جَلْدَةٍ. وقِيلَ: باعَتْ ذُؤابَتَها بِرَغِيفَيْنِ إذْ لَمْ تَجِدْ شَيْئًا وكانَ أيُّوبُ يَتَعَلَّقُ بِها إذا أرادَ القِيامَ، فَلِهَذا حَلَفَ لَيَضْرِبَنَّها.
وقِيلَ: جاءَها إبْلِيسُ في صُورَةِ طَبِيبٍ فَدَعَتْهُ لِمُداواةِ أيُّوبَ، فَقالَ أُداوِيهِ عَلى أنَّهُ إذا بَرِئَ قالَ: أنْتَ شَفَيْتَنِي، لا أُرِيدُ جَزاءً سِواهُ، قالَتْ: نَعَمْ، فَأشارَتْ عَلى أيُّوبَ بِذَلِكَ فَحَلَفَ لَيَضْرِبَنَّها.
وقَدِ اخْتَلَفَ العُلَماءُ هَلْ هَذا خاصٌّ بِأيُّوبَ أوْ عامٌّ لِلنّاسِ كُلِّهِمْ ؟ وأنَّ مَن حَلَفَ خَرَجَ مِن يَمِينِهِ بِمِثْلِ ذَلِكَ.
قالَ الشّافِعِيُّ: إذا حَلَفَ لَيَضْرِبَنَّ فُلانًا مِائَةَ جَلْدَةٍ أوْ ضَرْبًا ولَمْ يَقُلْ ضَرْبًا شَدِيدًا ولَمْ يَنْوِ بِقَلْبِهِ فَيَكْفِيهِ مِثْلُ هَذا الضَّرْبِ المَذْكُورِ في الآيَةِ، حَكاهُ ابْنُ المُنْذِرِ عَنْهُ وعَنْ أبِي ثَوْرٍ وأصْحابِ الرَّأْيِ.
وقالَ عَطاءٌ: هو خاصٌّ بِأيُّوبَ ورَواهُ ابْنُ القاسِمِ عَنْ مالِكٍ.
ثُمَّ أثْنى اللَّهُ - سُبْحانَهُ - عَلى أيُّوبَ فَقالَ: ﴿إنّا وجَدْناهُ صابِرًا﴾ (p-١٢٦٧)أيْ: عَلى البَلاءِ الَّذِي ابْتَلَيْناهُ بِهِ، فَإنَّهُ ابْتُلِيَ بِالدّاءِ العَظِيمِ في جَسَدِهِ وذَهابِ مالِهِ وأهْلِهِ ووَلَدِهِ فَصَبَرَ ﴿نِعْمَ العَبْدُ﴾ أيْ: أيُّوبُ ﴿إنَّهُ أوّابٌ﴾ أيْ: رَجّاعٌ إلى اللَّهِ بِالِاسْتِغْفارِ والتَّوْبَةِ.
﴿واذْكُرْ عِبادَنا إبْراهِيمَ وإسْحاقَ ويَعْقُوبَ﴾ قَرَأ الجُمْهُورُ عِبادَنا بِالجَمْعِ. وقَرَأ ابْنُ عَبّاسٍ ومُجاهِدٌ وحُمَيْدٌ وابْنُ مُحَيْصِنٍ وابْنُ كَثِيرٍ " عَبْدَنا " بِالإفْرادِ.
فَعَلى قِراءَةِ الجُمْهُورِ يَكُونُ إبْراهِيمُ وإسْحاقُ ويَعْقُوبُ عَطْفُ بَيانٍ، وعَلى القِراءَةِ الأُخْرى يَكُونُ إبْراهِيمُ عَطْفُ بَيانٍ، وما بَعْدَهُ عَطْفٌ عَلى " عَبْدَنا " لا عَلى إبْراهِيمَ.
وقَدْ يُقالُ: لَمّا كانَ المُرادُ بِعَبْدِنا الجِنْسُ جازَ إبْدالُ الجَماعَةِ مِنهُ.
وقِيلَ: إنَّ إبْراهِيمَ وما بَعْدَهُ بَدَلٌ، أوِ النَّصْبُ بِإضْمارِ أعْنِي وعَطْفُ البَيانِ أظْهَرُ، وقِراءَةُ الجُمْهُورِ أبْيَنُ وقَدِ اخْتارَها أبُو عُبَيْدٍ وأبُو حاتِمٍ ﴿أُولِي الأيْدِي والأبْصارِ﴾ الأيْدِي، جَمْعُ اليَدِ الَّتِي بِمَعْنى القُوَّةِ والقُدْرَةِ. قالَ قَتادَةُ: أُعْطُوا قُوَّةً في العِبادَةِ ونَصْرًا في الدِّينِ. قالَ الواحِدِيُّ: وبِهِ قالَ مُجاهِدٌ وسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ والمُفَسِّرُونَ. قالَ النَّحّاسُ: أمّا الأبْصارُ فَمُتَّفَقٌ عَلى أنَّها البَصائِرُ في الدِّينِ والعِلْمِ. وأمّا الأيْدِي فَمُخْتَلَفٌ في تَأْوِيلِها، فَأهْلُ التَّفْسِيرِ يَقُولُونَ إنَّها القُوَّةُ في الدِّينِ، وقَوْمٌ يَقُولُونَ: الأيْدِي جَمْعُ يَدٍ وهي النِّعْمَةُ أيْ: هم أصْحابُ النِّعَمِ أيِ: الَّذِينَ أنْعَمَ اللَّهُ - عَزَّ وجَلَّ - عَلَيْهِمْ، وقِيلَ: هم أصْحابُ النِّعَمِ عَلى النّاسِ والإحْسانِ إلَيْهِمْ، لِأنَّهم قَدْ أحْسَنُوا وقَدَّمُوا خَيْرًا، واخْتارَ هَذا ابْنُ جَرِيرٍ.
قَرَأ الجُمْهُورُ ﴿أُولِي الأيْدِي﴾ بِإثْباتِ الياءِ في الأيْدِي. وقَرَأ ابْنُ مَسْعُودٍ، والأعْمَشُ، والحَسَنُ وعِيسى الأيْدِ بِغَيْرِ ياءٍ، فَقِيلَ: مَعْناها مَعْنى القِراءَةِ الأُولى، وإنَّما حُذِفَتِ الياءُ لِدَلالَةِ كَسْرَةِ الدّالِ عَلَيْها، وقِيلَ: الأيْدُ: القُوَّةُ.
وجُمْلَةُ ﴿إنّا أخْلَصْناهم بِخالِصَةٍ ذِكْرى الدّارِ﴾ تَعْلِيلٌ لِما وُصِفُوا بِهِ.
قَرَأ الجُمْهُورُ ﴿بِخالِصَةٍ﴾ بِالتَّنْوِينِ وعَدَمِ الإضافَةِ عَلى أنَّها مَصْدَرٌ بِمَعْنى الإخْلاصِ، فَيَكُونُ ( ذِكْرى ) مَنصُوبًا بِهِ، أوْ بِمَعْنى الخُلُوصِ فَيَكُونُ ( ذِكْرى ) مَرْفُوعًا بِهِ، أوْ يَكُونُ " خالِصَةٍ " اسْمَ فاعِلٍ عَلى بابِهِ، و( ذِكْرى ) بَدَلٌ مِنها، أوْ بَيانٌ لَها، أوْ بِإضْمارِ أعْنِي، أوْ مَرْفُوعَةٌ بِإضْمارِ مُبْتَدَأٍ، و( الدّارِ ) يَجُوزُ أنْ تَكُونَ مَفْعُولًا بِهِ لِ ( ذِكْرى )، وأنْ تَكُونَ ظَرْفًا: إمّا عَلى الِاتِّساعِ، أوْ عَلى إسْقاطِ الخافِضِ، وعَلى كُلِّ تَقْدِيرٍ فَ " خالِصَةٍ " صِفَةٌ لِمَوْصُوفٍ مَحْذُوفٍ والباءُ لِلسَّبَبِيَّةِ أيْ: بِسَبَبِ خَصْلَةٍ خالِصَةٍ.
وقَرَأ نافِعٌ وشَيْبَةُ وأبُو جَعْفَرٍ وهِشامٌ عَنِ ابْنِ عامِرٍ بِإضافَةِ " خالِصَةٍ " إلى ( ذِكْرى ) عَلى أنَّ الإضافَةَ لِلْبَيانِ، لِأنَّ الخالِصَةَ تَكُونُ ذِكْرى وغَيْرَ ذِكْرى، أوْ عَلى أنَّ " خالِصَةٍ " مَصْدَرٌ مُضافٌ إلى مَفْعُولِهِ والفاعِلُ مَحْذُوفٌ.
أيْ: بِأنْ أخْلَصُوا ذِكْرى الدّارِ، أوْ مَصْدَرٌ بِمَعْنى الخُلُوصِ مُضافًا إلى فاعِلِهِ.
قالَ مُجاهِدٌ: مَعْنى الآيَةِ اسْتَصْفَيْناهم بِذِكْرِ الآخِرَةِ فَأخْلَصْناهم بِذِكْرِها. وقالَ قَتادَةُ: كانُوا يَدْعُونَ إلى الآخِرَةِ وإلى اللَّهِ. وقالَ السُّدِّيُّ: أخْلَصُوا بِخَوْفِ الآخِرَةِ.
قالَ الواحِدِيُّ: فَمَن قَرَأ بِالتَّنْوِينِ في خالِصَةٍ كانَ المَعْنى: جَعَلْناهم لَنا خالِصِينَ بِأنْ خَلَصَتْ لَهم ذِكْرى الدّارِ، والخالِصَةُ مَصْدَرٌ بِمَعْنى الخُلُوصِ والذِّكْرى بِمَعْنى التَّذَكُّرِ أيْ: خَلَصَ لَهم تَذَكُّرُ الدّارِ، وهو أنَّهم يَذْكُرُونَ التَّأهُّبَ لَهُ ويَزْهَدُونَ في الدُّنْيا، وذَلِكَ مِن شَأْنِ الأنْبِياءِ.
وأمّا مَن أضافَ فالمَعْنى: أخْلَصْنا لَهم بِأنْ خَلَصَتْ لَهم ذِكْرى الدّارِ، والخالِصَةُ مَصْدَرٌ مُضافٌ إلى الفاعِلِ، والذِّكْرى عَلى هَذا المَعْنى الذِّكْرُ.
﴿وإنَّهم عِنْدَنا لَمِنَ المُصْطَفَيْنَ الأخْيارِ﴾ الِاصْطِفاءُ: الِاخْتِيارُ، والأخْيارُ جَمْعُ خَيِّرٍ بِالتَّشْدِيدِ والتَّخْفِيفِ كَأمْواتٍ في جَمْعِ مَيِّتٍ مُشَدَّدًا ومُخَفَّفًا، والمَعْنى: إنَّهم عِنْدَنا لَمِنَ المُخْتارِينَ مِن أبْناءِ جِنْسِهِمْ مِنَ الأخْيارِ.
﴿واذْكُرْ إسْماعِيلَ﴾ قِيلَ: وجْهُ إفْرادِهِ بِالذِّكْرِ بَعْدَ ذِكْرِ أبِيهِ وأخِيهِ وابْنِ أخِيهِ لِلْإشْعارِ بِأنَّهُ عَرِيقٌ في الصَّبْرِ الَّذِي هو المَقْصُودُ بِالتَّذْكِيرِ هُنا ﴿واليَسَعَ وذا الكِفْلِ﴾ قَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُ اليَسَعَ، والكَلامُ فِيهِ في الأنْعامِ، وتَقَدَّمَ ذِكْرُ ذِي الكِفْلِ والكَلامُ فِيهِ في سُورَةِ الأنْبِياءِ، والمُرادُ مِن ذِكْرِ هَؤُلاءِ أنَّهم مِن جُمْلَةِ مَن صَبَرَ مِنَ الأنْبِياءِ وتَحَمَّلُوا الشَّدائِدَ في دِينِ اللَّهِ.
أمَرَ اللَّهُ رَسُولَهُ - صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ - بِأنْ يَذْكُرَهم لِيَسْلُكَ مَسْلَكَهم في الصَّبْرِ ﴿وكُلٌّ مِنَ الأخْيارِ﴾ يَعْنِي الَّذِينَ اخْتارَهُمُ اللَّهُ لِنُبُوَّتِهِ واصْطَفاهم مِن خَلْقِهِ.
﴿هَذا ذِكْرٌ﴾ الإشارَةُ إلى ما تَقَدَّمَ مِن ذِكْرِ أوْصافِهِمْ أيْ: هَذا ذِكْرٌ جَمِيلٌ في الدُّنْيا وشَرَفٌ يُذْكَرُونَ بِهِ أبَدًا ﴿وإنَّ لِلْمُتَّقِينَ لَحُسْنَ مَآبٍ﴾ أيْ: لَهم مَعَ هَذا الذِّكْرِ الجَمِيلِ حُسْنُ مَآبٍ في الآخِرَةِ، والمَآبُ: المَرْجِعُ، والمَعْنى: أنَّهم يَرْجِعُونَ في الآخِرَةِ إلى مَغْفِرَةِ اللَّهِ ورِضْوانِهِ ونَعِيمِ جَنَّتِهِ.
ثُمَّ بَيَّنَ حُسْنَ المَرْجِعِ فَقالَ: ﴿جَنّاتِ عَدْنٍ﴾ قَرَأ الجُمْهُورُ جَنّاتِ بِالنَّصْبِ بَدَلًا مِن " حُسْنَ مَآبٍ "، سَواءٌ كانَ ( جَنّاتِ عَدْنٍ ) مَعْرِفَةً أوْ نَكِرَةً لِأنَّ المَعْرِفَةَ تُبَدَّلُ مِنَ النَّكِرَةِ وبِالعَكْسِ، ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ ( جَنّاتِ ) عَطْفَ بَيانٍ إنْ كانَتْ نَكِرَةً، ولا يَجُوزُ ذَلِكَ فِيها إنْ كانَتْ مَعْرِفَةً عَلى مَذْهَبِ جُمْهُورِ النُّحاةِ وقَدْ جَوَّزَهُ بَعْضُهم. ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ نَصْبُ ( جَنّاتِ ) بِإضْمارِ فِعْلٍ. والعَدْنُ في الأصْلِ الإقامَةُ، يُقالُ: عَدَنَ بِالمَكانِ: إذا أقامَ فِيهِ وقِيلَ: هو اسْمٌ لِقَصْرٍ في الجَنَّةِ، وقُرِئَ بِرَفْعِ ( جَنّاتِ ) عَلى أنَّها مُبْتَدَأٌ. وخَبَرُها ( مُفَتَّحَةً ) أوْ عَلى أنَّها خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ أيْ: هُنَّ جَنّاتُ عَدْنٍ، وقَوْلُهُ: ﴿مُفَتَّحَةً لَهُمُ الأبْوابُ﴾ حالٌ مِن ( جَنّاتِ )، والعامِلُ فِيها ما في المُتَّقِينَ مِن مَعْنى الفِعْلِ، و( الأبْوابُ ) مُرْتَفِعَةٌ بِاسْمِ المَفْعُولِ: كَقَوْلِهِ: ﴿وفُتِحَتْ أبْوابُها﴾ [الزمر: ٧٣] والرّابِطُ بَيْنَ الحالِ وصاحِبِها ضَمِيرٌ مُقَدَّرٌ، أيْ: مِنها، أوِ الألِفُ واللّامُ لِقِيامِهِ مَقامَ الضَّمِيرِ، إذِ الأصْلُ أبْوابُها.
وقِيلَ: إنَّ ارْتِفاعَ الأبْوابِ عَلى البَدَلِ مِنَ الضَّمِيرِ في " مُفَتَّحَةٌ " العائِدِ عَلى ( جَنّاتِ )، وبِهِ قالَ أبُو عَلِيٍّ الفارِسِيُّ أيْ: مُفَتَّحَةٌ هي الأبْوابُ.
قالَ الفَرّاءُ: المَعْنى مُفَتَّحَةٌ أبْوابُها، والعَرَبُ تَجْعَلُ الألِفَ واللّامَ خَلَفًا مِنَ الإضافَةِ. وقالَ الزَّجّاجُ: المَعْنى مُفَتَّحَةٌ لَهُمُ الأبْوابُ مِنها. قالَ الحَسَنُ: إنَّ الأبْوابَ يُقالُ لَها: انْفَتِحِي فَتَنْفَتِحُ انْغَلِقِي فَتَنْغَلِقُ، وقِيلَ: تَفْتَحُ لَهُمُ المَلائِكَةُ الأبْوابَ. وانْتِصابُ ﴿مُتَّكِئِينَ فِيها﴾ عَلى الحالِ مِن ضَمِيرِ ( لَهُمُ )، والعامِلُ فِيهِ ( مُفَتَّحَةً )، وقِيلَ: هو حالٌ مِن يَدْعُونَ قُدِّمَتْ عَلى العامِلِ فِيها أيْ: يَدْعُونَ في الجَنّاتِ حالَ كَوْنِهِمْ مُتَّكِئِينَ فِيها ﴿بِفاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ﴾ أيْ: بِألْوانٍ مُتَعَدِّدَةٍ مُتَكَثِّرَةٍ (p-١٢٦٨)مِنَ الفَواكِهِ وشَرابٍ كَثِيرٍ فَحَذَفَ " كَثِيرًا " لِدَلالَةِ الأوَّلِ عَلَيْهِ، وعَلى جَعْلِ " مُتَّكِئِينَ " حالًا مِن ضَمِيرِ ( لَهُمُ )، والعامِلُ فِيهِ ( مُفَتَّحَةً )، فَتَكُونُ جُمْلَةُ ( يَدْعُونَ ) مُسْتَأْنَفَةٌ لِبَيانِ حالِهِمْ.
وقِيلَ: إنَّ ( يَدْعُونَ ) في مَحَلِّ نَصْبٍ عَلى الحالِ مِن ضَمِيرِ ( مُتَّكِئِينَ ) .
﴿وعِنْدَهم قاصِراتُ الطَّرْفِ أتْرابٌ﴾ أيْ: قاصِراتٌ طَرَفَهُنَّ عَلى أزْواجِهِنَّ لا يَنْظُرْنَ إلى غَيْرِهِمْ، وقَدْ مَضى بَيانُهُ في سُورَةِ الصّافّاتِ.
والأتْرابُ: المُتَّحِداتُ في السِّنِّ، أوِ المُتَساوِياتُ في الحُسْنِ.
وقالَ مُجاهِدٌ: مَعْنى ( أتْرابٌ ) أنَّهُنَّ مُتَواخِياتٌ لا يَتَباغَضْنَ ولا يَتَغايَرْنَ. وقِيلَ: أتْرابًا لِلْأزْواجِ. والأتْرابُ جَمْعُ تِرْبٍ، واشْتِقاقُهُ مِنَ التُّرابِ لِأنَّهُ يَمَسُّهُنَّ في وقْتٍ واحِدٍ لِاتِّحادِ مَوْلِدِهِنَّ. ﴿هَذا ما تُوعَدُونَ لِيَوْمِ الحِسابِ﴾ أيْ: هَذا الجَزاءُ الَّذِي وُعِدْتُمْ بِهِ لِأجْلِ يَوْمِ الحِسابِ، فَإنَّ الحِسابَ عِلَّةٌ لِلْوُصُولِ إلى الجَزاءِ، أوِ المَعْنى في يَوْمِ الحِسابِ.
وقَرَأ الجُمْهُورُ ﴿ما تُوعَدُونَ﴾ بِالفَوْقِيَّةِ عَلى الخِطابِ. وقَرَأ ابْنُ كَثِيرٍ وأبُو عَمْرٍو وابْنُ مُحَيْصِنٍ ويَعْقُوبُ بِالتَّحْتِيَّةِ عَلى الخَبَرِ، واخْتارَ هَذِهِ القِراءَةَ أبُو عُبَيْدٍ وأبُو حاتِمٍ لِقَوْلِهِ " ﴿وإنَّ لِلْمُتَّقِينَ﴾ " فَإنَّهُ خَبَرٌ.
﴿إنَّ هَذا لَرِزْقُنا﴾ أيْ: إنَّ هَذا المَذْكُورَ مِنَ النِّعَمِ والكَراماتِ لَرِزْقُنا الَّذِي أنْعَمْنا بِهِ عَلَيْكم ﴿ما لَهُ مِن نَفادٍ﴾ أيِ: انْقِطاعٍ ولا يَفْنى أبَدًا، ومِثْلُهُ قَوْلُهُ: ﴿عَطاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ﴾ [هود: ١٠٨] فَنِعَمُ الجَنَّةِ لا تَنْقَطِعُ عَنْ أهْلِها.
وقَدْ أخْرَجَ أحْمَدُ في الزُّهْدِ، وابْنُ أبِي حاتِمٍ، وابْنُ عَساكِرَ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ قالَ: إنَّ الشَّيْطانَ عَرَجَ إلى السَّماءِ، فَقالَ: يا رَبِّ سَلِّطْنِي عَلى أيُّوبَ، قالَ اللَّهُ: لَقَدْ سَلَّطْتُكَ عَلى مالِهِ ووَلَدِهِ ولَمْ أُسَلِّطْكَ عَلى جَسَدِهِ، فَنَزَلَ فَجَمَعَ جُنُودَهُ، فَقالَ لَهم: قَدْ سُلِّطْتُ عَلى أيُّوبَ فَأرُونِي سُلْطانَكم، فَصارُوا نِيرانًا ثُمَّ صارُوا ماءً، فَبَيْنَما هم في المَشْرِقِ إذا هم بِالمَغْرِبِ، وبَيْنَما هم بِالمَغْرِبِ إذا هم بِالمَشْرِقِ.
فَأرْسَلَ طائِفَةً مِنهم إلى زَرْعِهِ، وطائِفَةً إلى أهْلِهِ، وطائِفَةً إلى بَقَرِهِ، وطائِفَةً إلى غَنَمِهِ وقالَ: إنَّهُ لا يُعْتَصَمُ مِنكم إلّا بِالمَعْرُوفِ، فَأتَوْهُ بِالمَصائِبِ بَعْضُها عَلى بَعْضٍ، فَجاءَ صاحِبُ الزَّرْعِ فَقالَ: يا أيُّوبُ ألَمْ تَرَ إلى رَبِّكَ أرْسَلَ عَلى زَرْعِكَ نارًا فَأحْرَقَتْهُ ؟ ثُمَّ جاءَ صاحِبُ الإبِلِ، فَقالَ، يا أيُّوبُ ألَمْ تَرَ إلى رَبِّكَ أرْسَلَ إلى إبِلِكَ عَدُوًّا فَذَهَبَ بِها ؟ ثُمَّ جاءَ صاحِبُ البَقَرِ، فَقالَ، يا أيُّوبُ ألَمْ تَرَ إلى رَبِّكَ أرْسَلَ إلى بَقَرِكَ عَدُوًّا فَذَهَبَ بِها ثُمَّ جاءَهُ صاحِبُ الغَنَمِ فَقالَ: يا أيُّوبُ ألَمْ تَرَ إلى رَبِّكَ أرْسَلَ عَلى غَنَمِكَ عَدُوًّا فَذَهَبَ بِها ؟ وتَفَرَّدَ هو لِبَنِيهِ فَجَمَعَهم في بَيْتِ أكْبَرِهِمْ، فَبَيْنَما هم يَأْكُلُونَ ويَشْرَبُونَ إذْ هَبَّتْ رِيحٌ فَأخَذَتْ بِأرْكانِ البَيْتِ فَألْقَتْهُ عَلَيْهِمْ، فَجاءَ الشَّيْطانُ إلى أيُّوبَ بِصُورَةِ غُلامٍ بِأُذُنَيْهِ قُرْطانِ، فَقالَ: يا أيُّوبُ ألَمْ تَرَ إلى رَبِّكَ جَمَعَ بَنِيكَ في بَيْتِ أكْبَرِهِمْ، فَبَيْنَما هم يَأْكُلُونَ ويَشْرَبُونَ إذْ هَبَّتْ عَلَيْهِمْ رِيحٌ فَأخَذَتْ بِأرْكانِ البَيْتِ فَألْقَتْهُ عَلَيْهِمْ، فَلَوْ رَأيْتَهم حِينَ اخْتَلَطَتْ دِماؤُهم ولُحُومُهم بِطَعامِهِمْ وشَرابِهِمْ ؟ فَقالَ لَهُ أيُّوبُ: فَأيْنَ كُنْتَ ؟ قالَ: كُنْتُ مَعَهم، قالَ: فَكَيْفَ انْفَلَتَّ ؟ قالَ: انْفَلَتُّ، قالَ أيُّوبُ: أنْتَ الشَّيْطانُ، ثُمَّ قالَ أيُّوبُ: أنا اليَوْمَ كَيَوْمِ ولَدَتْنِي أُمِّي، فَقامَ فَحَلَقَ رَأْسَهُ وقامَ يُصَلِّي، فَرَنَّ إبْلِيسُ رَنَّةً سَمِعَها أهْلُ السَّماءِ وأهْلُ الأرْضِ، ثُمَّ عَرَجَ إلى السَّماءِ فَقالَ: أيْ رَبِّ إنَّهُ قَدِ اعْتَصَمَ، فَسَلِّطْنِي عَلَيْهِ فَإنِّي لا أسْتَطِيعُهُ إلّا بِسُلْطانِكَ، قالَ: قَدْ سَلَّطْتُكَ عَلى جَسَدِهِ ولَمْ أُسَلِّطْكَ عَلى قَلْبِهِ، فَنَزَلَ فَنَفَخَ تَحْتَ قَدَمِهِ نَفْخَةً قَرَحَ ما بَيْنَ قَدَمَيْهِ إلى قَرْنِهِ، فَصارَ قُرْحَةً واحِدَةً، وأُلْقِيَ عَلى الرَّمادِ حَتّى بَدا حِجابُ قَلْبِهِ، فَكانَتِ امْرَأتُهُ تَسْعى عَلَيْهِ، حَتّى قالَتْ لَهُ: ألا تَرى ياأيُّوبُ قَدْ نَزَلَ واللَّهِ بِي مِنَ الجَهْدِ والفاقَةِ ما إنْ بِعْتُ قُرُونِي بِرَغِيفٍ فَأطْعَمْتُكَ فادْعُ اللَّهَ أنْ يَشْفِيَكَ ويُرِيحَكَ قالَ: ويْحَكِ كُنّا في النَّعِيمِ سَبْعِينَ عامًا فاصْبِرِي حَتّى نَكُونَ في الضَّرّاءِ سَبْعِينَ عامًا، فَكانَ في البَلاءِ سَبْعَ سِنِينَ ودَعا فَجاءَ جِبْرِيلُ يَوْمًا فَدَعا بِيَدِهِ، ثُمَّ قالَ: قُمْ، فَقامَ فَنَحّاهُ عَنْ مَكانِهِ وقالَ: ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هَذا مُغْتَسَلٌ بارِدٌ وشَرابٌ فَرَكَضَ بِرِجْلِهِ فَنَبَعَتْ عَيْنٌ، فَقالَ: اغْتَسِلْ، فاغْتَسَلَ مِنها، ثُمَّ جاءَ أيْضًا فَقالَ: ارْكُضْ بِرِجْلِكَ فَنَبَعَتْ عَيْنٌ أُخْرى فَقالَ لَهُ: اشْرَبْ مِنها، وهو قَوْلُهُ: ﴿ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هَذا مُغْتَسَلٌ بارِدٌ وشَرابٌ﴾ وألْبَسَهُ اللَّهُ حُلَّةً مِنَ الجَنَّةِ، فَتَنَحّى أيُّوبُ فَجَلَسَ في ناحِيَةٍ وجاءَتِ امْرَأتُهُ فَلَمْ تَعْرِفْهُ، فَقالَتْ: يا عَبْدَ اللَّهِ أيْنَ المُبْتَلى الَّذِي كانَ هاهُنا ؟ لَعَلَّ الكِلابَ قَدْ ذَهَبَتْ بِهِ أوِ الذِّئابَ، وجَعَلَتْ تُكَلِّمُهُ ساعَةً، فَقالَ: ويْحَكِ أنا أيُّوبُ قَدْ رَدَّ اللَّهُ عَلَيَّ جَسَدِي، ورَدَّ عَلَيْهِ مالَهُ ووَلَدَهُ عِيانًا ومِثْلَهم مَعَهم، وأمْطَرَ عَلَيْهِ جَرادًا مِن ذَهَبٍ، فَجَعَلَ يَأْخُذُ الجَرادَ بِيَدِهِ ثُمَّ يَجْعَلُهُ في ثَوْبِهِ ويَنْشُرُ كِساءَهُ ويَأْخُذُهُ فَيَجْعَلُ فِيهِ، فَأوْحى اللَّهُ إلَيْهِ: يا أيُّوبُ أما شَبِعْتَ ؟ قالَ: يا رَبِّ مَن ذا الَّذِي يَشْبَعُ مِن فَضْلِكَ ورَحْمَتِكَ.
وفِي هَذا نَكارَةٌ شَدِيدَةٌ فَإنَّ اللَّهَ - سُبْحانَهُ - لا يُمَكِّنُ الشَّيْطانَ مِن نَبِيٍّ مِن أنْبِيائِهِ ويُسَلَّطُ عَلَيْهِ هَذا التَّسْلِيطَ العَظِيمَ.
وأخْرَجَ أحْمَدُ في الزُّهْدِ، وعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وابْنُ أبِي حاتِمٍ، وابْنُ عَساكِرَ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ قالَ: إنَّ إبْلِيسَ قَعَدَ عَلى الطَّرِيقِ وأخَذَ تابُوتًا يُداوِي النّاسَ، فَقالَتِ امْرَأةُ أيُّوبَ: يا عَبْدَ اللَّهِ إنَّ هاهُنا مُبْتَلًى مِن أمْرِهِ كَذا وكَذا فَهَلْ لَكَ أنْ تُداوِيَهُ قالَ: نَعَمْ بِشَرْطٍ إنْ أنا شَفَيْتُهُ أنْ يَقُولَ: أنْتَ شَفَيْتَنِي لا أُرِيدُ مِنهُ أجْرًا غَيْرَهُ.
فَأتَتْ أيُّوبَ فَذَكَرَتْ لَهُ ذَلِكَ، فَقالَ: ويْحَكِ ذاكَ الشَّيْطانُ، لِلَّهِ عَلَيَّ إنْ شَفانِي اللَّهُ أنْ أجْلِدَكِ مِائَةَ جَلْدَةٍ، فَلَمّا شَفاهُ اللَّهُ أمَرَهُ أنْ يَأْخُذَ ضِغْثًا فَيَضْرِبَها بِهِ، فَأخَذَ عِذْقًا فِيهِ مِائَةُ شِمْراخٍ فَضَرَبَها ضَرْبَةً واحِدَةً.
وأخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وابْنُ جَرِيرٍ، وابْنُ المُنْذِرِ، عَنْهُ في قَوْلِهِ: ﴿وخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا﴾ قالَ: هو الأسَلُ. وأخْرَجَ ابْنُ المُنْذِرِ عَنْهُ أيْضًا قالَ: الضِّغْثُ القَبْضُ مِنَ المَرْعى الرَّطْبِ. وأخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وابْنُ أبِي حاتِمٍ، عَنْهُ أيْضًا قالَ: الضِّغْثُ الحُزْمَةُ.
وأخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وابْنُ جَرِيرٍ والطَّبَرانِيُّ وابْنُ عَساكِرَ مِن طَرِيقِ أبِي أُمامَةَ بْنِ سَهْلِ بْنِ حُنَيْفٍ قالَ: «حَمَلَتْ ولِيدَةُ في بَنِي ساعِدَةَ مِن زِنًى، فَقِيلَ لَها: مِمَّنْ حَمْلُكِ ؟ قالَتْ: مِن فُلانٍ المُقْعَدِ، فَسُئِلَ المُقْعَدُ فَقالَ: صَدَقَتْ، فَرُفِعَ ذَلِكَ إلى رَسُولِ اللَّهِ - صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ - فَقالَ: خُذُوا عُثْكُولًا فِيهِ مِائَةُ شِمْراخٍ فاضْرِبُوهُ بِهِ (p-١٢٦٩)ضَرْبَةً واحِدَةً» .
وأخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وابْنُ جَرِيرٍ والطَّبَرانِيُّ وابْنُ عَساكِرَ نَحْوَهُ مِن طَرِيقٍ أُخْرى عَنْ أبِي أُمامَةَ بْنِ سَهْلِ بْنِ حُنَيْفٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ سَعْدِ بْنِ عُبادَةَ. وأخْرَجَ الطَّبَرانِيُّ عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ نَحْوَهُ.
وأخْرَجَ ابْنُ عَساكِرَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قالَ: ١ أيُّوبُ رَأْسُ الصّابِرِينَ يَوْمَ القِيامَةِ.
وأخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وابْنُ المُنْذِرِ، وابْنُ أبِي حاتِمٍ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ في قَوْلِهِ: ﴿أُولِي الأيْدِي﴾ قالَ: القُوَّةُ في العِبادَةِ والأبْصارِ قالَ: الفِقْهُ في الدِّينِ.
وأخْرَجَ ابْنُ أبِي حاتِمٍ عَنْهُ: ﴿أُولِي الأيْدِي﴾ قالَ: النِّعْمَةُ.
وأخْرَجَ ابْنُ أبِي حاتِمٍ عَنْهُ أيْضًا في قَوْلِهِ: ﴿إنّا أخْلَصْناهم بِخالِصَةٍ ذِكْرى الدّارِ﴾ قالَ: أخْلَصُوا بِذِكْرِ دارِ الآخِرَةِ أنْ يَعْمَلُوا لَها.
{"ayahs_start":41,"ayahs":["وَٱذۡكُرۡ عَبۡدَنَاۤ أَیُّوبَ إِذۡ نَادَىٰ رَبَّهُۥۤ أَنِّی مَسَّنِیَ ٱلشَّیۡطَـٰنُ بِنُصۡبࣲ وَعَذَابٍ","ٱرۡكُضۡ بِرِجۡلِكَۖ هَـٰذَا مُغۡتَسَلُۢ بَارِدࣱ وَشَرَابࣱ","وَوَهَبۡنَا لَهُۥۤ أَهۡلَهُۥ وَمِثۡلَهُم مَّعَهُمۡ رَحۡمَةࣰ مِّنَّا وَذِكۡرَىٰ لِأُو۟لِی ٱلۡأَلۡبَـٰبِ","وَخُذۡ بِیَدِكَ ضِغۡثࣰا فَٱضۡرِب بِّهِۦ وَلَا تَحۡنَثۡۗ إِنَّا وَجَدۡنَـٰهُ صَابِرࣰاۚ نِّعۡمَ ٱلۡعَبۡدُ إِنَّهُۥۤ أَوَّابࣱ","وَٱذۡكُرۡ عِبَـٰدَنَاۤ إِبۡرَ ٰهِیمَ وَإِسۡحَـٰقَ وَیَعۡقُوبَ أُو۟لِی ٱلۡأَیۡدِی وَٱلۡأَبۡصَـٰرِ","إِنَّاۤ أَخۡلَصۡنَـٰهُم بِخَالِصَةࣲ ذِكۡرَى ٱلدَّارِ","وَإِنَّهُمۡ عِندَنَا لَمِنَ ٱلۡمُصۡطَفَیۡنَ ٱلۡأَخۡیَارِ","وَٱذۡكُرۡ إِسۡمَـٰعِیلَ وَٱلۡیَسَعَ وَذَا ٱلۡكِفۡلِۖ وَكُلࣱّ مِّنَ ٱلۡأَخۡیَارِ","هَـٰذَا ذِكۡرࣱۚ وَإِنَّ لِلۡمُتَّقِینَ لَحُسۡنَ مَـَٔابࣲ","جَنَّـٰتِ عَدۡنࣲ مُّفَتَّحَةࣰ لَّهُمُ ٱلۡأَبۡوَ ٰبُ","مُتَّكِـِٔینَ فِیهَا یَدۡعُونَ فِیهَا بِفَـٰكِهَةࣲ كَثِیرَةࣲ وَشَرَابࣲ","۞ وَعِندَهُمۡ قَـٰصِرَ ٰتُ ٱلطَّرۡفِ أَتۡرَابٌ","هَـٰذَا مَا تُوعَدُونَ لِیَوۡمِ ٱلۡحِسَابِ","إِنَّ هَـٰذَا لَرِزۡقُنَا مَا لَهُۥ مِن نَّفَادٍ"],"ayah":"وَٱذۡكُرۡ عَبۡدَنَاۤ أَیُّوبَ إِذۡ نَادَىٰ رَبَّهُۥۤ أَنِّی مَسَّنِیَ ٱلشَّیۡطَـٰنُ بِنُصۡبࣲ وَعَذَابٍ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق