الباحث القرآني

ولَمّا انْقَضى الخَبَرُ عَنِ المَلِكِ الأوّابِ؛ الَّذِي مَلَكَ الدُّنْيا بِالفِعْلِ قَهْرًا؛ وغَلَبَةً؛ شَرْقًا وغَرْبًا؛ وكانَ أيُّوبُ - عَلَيْهِ السَّلامُ - في ثَرْوَةِ المُلُوكِ؛ وإنْ لَمْ يَكُنْ مَلِكًا بِالفِعْلِ؛ وكانَ تَكْذِيبُ مَن كَذَّبَ بِالنَّبِيِّ ﷺ إنَّما هو بِتَسْلِيطِ اللَّهِ الشَّياطِينَ بِوَسْوَسَتِهِ عَلَيْهِمْ؛ وأمْرِهِ - سُبْحانَهُ - بِالصَّبْرِ عَلى ذَلِكَ؛ وقَصَّ عَلَيْهِ مِن أخْبارِ الأوّابِينَ؛ تَعْلِيمًا لِحُسْنِ الأوْبَةِ إنْ وهَنَ الصَّبْرُ؛ أتْبَعَهُ الإخْبارَ عَنِ الصّابِرِ الأوّابِ؛ الَّذِي لَمْ يَتَأوَّهْ إلّا مِن وسْوَسَةِ الشَّيْطانِ لِزَوْجِهِ؛ بِما كانَ يَفْتِنُها؛ لِيَزْدادَ النَّبِيُّ ﷺ بِذِكْرِ هَذِهِ الأخْبارِ صَبْرًا؛ ويَتَضاعَفَ إقْبالُهُ عَلى اللَّهِ (تَعالى)؛ وتَضَرُّعُهُ لَهُ؛ اقْتِداءً بِإخْوانِهِ الَّذِينَ لَمْ تَشْغَلْهم عَنْهُ مِنحَةُ السَّرّاءِ؛ ولا مِحْنَةُ الضَّرّاءِ؛ وتَذْكِيرًا لِقُدْرَةِ اللَّهِ عَلى كُلِّ ما يُرِيدُهُ؛ تَنْبِيهًا عَلى أنَّهُ قادِرٌ عَلى رَدِّ قُرَيْشٍ عَمّا هم فِيهِ؛ ونَصْرِ المُسْتَضْعَفِينَ مِن عِبادِهِ عَلَيْهِمْ؛ بِأيْسَرِ سَعْيٍ؛ فَقالَ: ﴿واذْكُرْ عَبْدَنا﴾؛ أيْ: الَّذِي هو أهْلٌ لِلْإضافَةِ إلى عَظِيمِ جَنابِنا؛ وبَيَّنَهُ بِقَوْلِهِ: ﴿أيُّوبَ﴾؛ وهو مِنَ الرُّومِ؛ مِن أوْلادِ عِيصَ بْنِ إسْحاقَ - عَلَيْهِمُ السَّلامُ - لِتَتَأسّى بِحالِهِ؛ فَتَصْبِرَ عَلى قَوْمِكَ؛ وإنْ رَأيْتَ ما لا (p-٣٨٩)صَبْرَ لَكَ عَلَيْهِ دَعَوْتَ اللَّهَ في إصْلاحِهِ. ولَمّا أمَرَهُ بِذِكْرِهِ؛ بَيَّنَ أنَّ مُعْظَمَ المُرادِ بَعْضُ أحْوالِهِ الشَّرِيفَةِ؛ لِيَتَأسّى بِهِ؛ فَقالَ - مُبْدِلًا مِنهُ بَدَلَ اشْتِمالٍ -: ﴿إذْ﴾؛ أيْ: اذْكُرْ حالَهُ الَّذِي كانَ حِينَ ﴿نادى﴾؛ وصَرَفَ القَوْلَ عَنْ مَظْهَرِ العَظَمَةِ؛ إلى صِفَةِ الإحْسانِ؛ لِأنَّهُ مَوْطِنُهُ؛ لِاقْتِضاءِ حالِهِ ذَلِكَ؛ فَقالَ: ﴿رَبَّهُ﴾ أيُّ المُحْسِنَ إلَيْهِ؛ الَّذِي عَرَفَ إحْسانَهُ إلَيْهِ في تَرْبِيَتِهِ بِبَلائِهِ؛ كَما عَرَفَ امْتِنانَهُ بِظاهِرِ نَعْمائِهِ؛ وآلائِهِ؛ ثُمَّ ذَكَرَ المُنادى بِهِ؛ حاكِيًا لَهُ بِلَفْظِهِ؛ فَقالَ - مُشِيرًا بِالتَّأْكِيدِ إلى أنَّهُ - وإنْ كانَ حالُهُ فِيما عَهِدَ مِن شِدَّةِ صَبْرِهِ مُقْتَضِيًا عَدَمَ الشَّكْوى - أتاهُ ما لا صَبْرَ عَلَيْهِ -: ﴿أنِّي﴾؛ أيْ: رَبِّ أدْعُوكَ بِسَبَبِ أنِّي؛ ولَمّا كانَ هُنا في سِياقِ التَّصْبِيرِ؛ عَظَّمَ الأمْرَ بِإسْنادِ الضُّرِّ إلى أعْدى الأعْداءِ؛ إلْهابًا إلى الإجابَةِ؛ وأدَبًا مَعَ اللَّهِ؛ فَقالَ: ﴿مَسَّنِيَ﴾؛ أيْ: وأنا مِن أوْلِيائِكَ؛ ﴿الشَّيْطانُ﴾؛ أيْ: المُحْتَرِقُ بِاللَّعْنَةِ؛ البَعِيدُ مِنَ الرَّحْمَةِ؛ بِتَسْلِيطِكَ لَهُ؛ ﴿بِنُصْبٍ﴾؛ أيْ: ضُرٍّ؛ ومَشَقَّةٍ؛ وهَمٍّ؛ وداءٍ؛ ووَجَعٍ؛ وبَلاءٍ يُثْقِلُ صاحِبَهُ؛ فَيُتْعِبُهُ؛ ويُعْيِيهِ؛ ويَكِدُّهُ؛ ويُجْهِدُهُ؛ ويَصِلُ بِهِ إلى الغايَةِ مِن كُلِّ ذَلِكَ؛ وقُرِئَ بِضَمِّ الصّادِ أيْضًا؛ وقُرِئَ بِالتَّحْرِيكِ؛ كَـ ”الرُّشْدِ“؛ و”الرَّشَدِ“؛ وكانَ ذَلِكَ إشارَةً إلى أحْوالِ الضُّرِّ في الشِّدَّةِ؛ والخِفَّةِ؛ فالمُسَكَّنُ أدْناهُ؛ والمُحَرَّكُ أوْسَطُهُ؛ والمُثَقَّلُ بِالضَّمِّ أعْلاهُ؛ ﴿وعَذابٍ﴾؛ أيْ: نَكَدٍ قَوِيٍّ جِدًّا؛ دائِمٍ؛ مانِعٍ مِن (p-٣٩٠)كُلِّ ما يَلَذُّ؛ ويُمْكِنُ أنْ يُساغَ؛ ويُسْتَطْعَمَ أجْمَلُهُ؛ ونَكَّرَهُ تَنْكِيرًا؛ لِتَعْظِيمِ اسْتِغْنائِهِ - عَلى وجازَتِهِ - عَنْ جُمَلٍ طِوالٍ؛ ودُعاءٍ عَرِيضٍ؛ إعْلامًا بِأنَّ السَّيْلَ قَدْ بَلَغَ الزُّبى؛ وأوْهَنَ البَلاءُ القُوى؛ ولَمْ يَذْكُرْهُ بِلَفْظِ إبْلِيسَ؛ الَّذِي هو مِن مَعْنى اليَأْسِ وانْقِطاعِ الرَّجاءِ؛ دَلالَةً عَلى أنَّهُ هو راجٍ فَضْلَ اللَّهِ؛ غَيْرَ آيِسٍ مِن رَوْحِهِ؛ وذَلِكَ أنَّ اللَّهَ (تَعالى) سَلَّطَهُ عَلى إهْلاكِ أهْلِهِ؛ ووَلَدِهِ؛ ومالِهِ؛ فَصَبَرَ؛ ثُمَّ سَلَّطَهُ عَلى بَدَنِهِ؛ إلى أنْ سَقَطَ لَحْمُهُ؛ واسْتَمَرَّ عَلى ذَلِكَ مُدَدًا طِوالًا؛ فَلِذَلِكَ تَراءى لِزَوْجَتِهِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْها - في زِيِّ طَبِيبٍ؛ وقالَ لَها: أنا أُداوِيهِ؛ ولا أُرِيدُ إلّا أنْ يَقُولَ لِي؛ إذا عُوفِيَ: أنْتَ شَفَيْتَنِي؛ وقِيلَ: قالَ لَها: لَوْ سَجَدَ لِي سَجْدَةً واحِدَةً شَفَيْتُهُ؛ فَأتَتْهُ؛ وحَدَّثَتْهُ بِذَلِكَ؛ فَأخْبَرَها؛ وعَرَّفَها أنَّهُ الشَّيْطانُ؛ وحَذَّرَها مِنهُ؛ وخافَ غائِلَتَهُ عَلَيْها؛ فَدَعا اللَّهَ بِما تَقَدَّمَ؛ وشَدَّدَ النَّكِيرَ والتَّعْظِيمَ لِما وسْوَسَ لَها بِهِ؛ بِأنْ حَلَفَ لِيَضْرِبَنَّها مِائَةَ ضَرْبَةٍ؛ رَدْعًا لَها عَنِ الإصْغاءِ إلى شَيْءٍ مِن ذَلِكَ؛ وتَهْوِينًا لِما يَلْقاهُ مِن بَلائِهِ في جَنْبِهِ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب