الباحث القرآني
.
قَوْلُهُ: ﴿هَلْ يَنْظُرُونَ﴾ الآيَةَ، هَذا جَوابُ شُبْهَةٍ أُخْرى لِمُنْكِرِي النُّبُوَّةِ، فَإنَّهم طَلَبُوا مِنَ النَّبِيِّ ﷺ أنْ يُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ مَلَكًا مِنَ السَّماءِ يَشْهَدُ عَلى صِدْقِهِ في ادِّعاءِ النُّبُوَّةِ فَقالَ: هَلْ يَنْظُرُونَ في تَصْدِيقِ نُبُوَّتِكَ ﴿إلّا أنْ تَأْتِيَهُمُ المَلائِكَةُ﴾ شاهِدِينَ بِذَلِكَ، ويُحْتَمَلُ أنْ يُقالَ: إنَّهم لَمّا طَعَنُوا في القُرْآنِ بِأنَّهُ أساطِيرُ الأوَّلِينَ أوْعَدَهُمُ اللَّهُ بِقَوْلِهِ: ﴿هَلْ يَنْظُرُونَ إلّا أنْ تَأْتِيَهُمُ المَلائِكَةُ﴾ لَقَبْضِ أرْواحِهِمْ ﴿أوْ يَأْتِيَ أمْرُ رَبِّكَ﴾ أيْ عَذابُهُ في الدُّنْيا المُسْتَأْصِلُ لَهم، أوِ المُرادُ بِأمْرِ اللَّهِ القِيامَةُ.
وقَرَأ الأعْمَشُ، وابْنُ وثّابٍ، وحَمْزَةُ، والكِسائِيُّ، وخَلَفٌ ﴿إلّا أنْ تَأْتِيَهُمُ المَلائِكَةُ﴾ بِالياءِ التَّحْتِيَّةِ وقَرَأ الباقُونَ بِالمُثَنّاةِ الفَوْقِيَّةِ، والمُرادُ بِكَوْنِهِمْ يَنْظُرُونَ، أيْ: يَنْتَظِرُونَ إتْيانَ المَلائِكَةِ (p-٧٨١)أوْ إتْيانَ أمْرِ اللَّهِ عَلى التَّفْسِيرِ الآخَرِ أنَّهم قَدْ فَعَلُوا فِعْلَ مَن وجَبَ عَلَيْهِ العَذابُ وصارَ مُنْتَظِرًا لَهُ، ولَيْسَ المُرادُ أنَّهم يَنْتَظِرُونَ ذَلِكَ حَقِيقَةً، فَإنَّهم لا يُؤْمِنُونَ بِذَلِكَ ولا يُصَدِّقُونَهُ ﴿كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ﴾ أيْ مِثْلَ فِعْلِ هَؤُلاءِ مِنَ الإصْرارِ عَلى الكُفْرِ والتَّكْذِيبِ والِاسْتِهْزاءِ فَعَلَ الَّذِينَ خَلَوْا مَن قَبْلِهِمْ مِن طَوائِفِ الكُفّارِ فَأتاهم أمْرُ اللَّهِ فَهَلَكُوا ﴿وما ظَلَمَهُمُ اللَّهُ﴾ بِتَدْمِيرِهِمْ بِالعَذابِ فَإنَّهُ أنْزَلَ بِهِمْ ما اسْتَحَقُّوهُ بِكُفْرِهِمْ ﴿ولَكِنْ كانُوا أنْفُسَهم يَظْلِمُونَ﴾ بِما ارْتَكَبُوهُ مِنَ القَبائِحِ، وفِيهِ أنَّ ظُلْمَهم مَقْصُورٌ عَلَيْهِمْ بِاعْتِبارِ ما إلَيْهِ يَئُولُ.
وجُمْلَةُ ﴿فَأصابَهم سَيِّئاتُ ما عَمِلُوا﴾ مَعْطُوفَةٌ عَلى فِعْلِ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ، وما بَيْنَهُما اعْتِراضٌ، وقِيلَ في الكَلامِ تَقْدِيمٌ وتَأْخِيرٌ، والتَّقْدِيرُ: كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَأصابَهم سَيِّئاتُ ما عَمِلُوا وما ظَلَمَهُمُ اللَّهُ، والمَعْنى: فَأصابَهم جَزاءُ سَيِّئاتِ أعْمالِهِمْ، أوْ جَزاءُ أعْمالِهِمُ السَّيِّئَةِ وحاقَ بِهِمْ أيْ نَزَلَ بِهِمْ عَلى وجْهِ الإحاطَةِ ﴿ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ﴾ أيِ العَذابُ الَّذِي كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ أوْ عِقابُ اسْتِهْزائِهِمْ.
﴿وقالَ الَّذِينَ أشْرَكُوا﴾ هَذا نَوْعٌ آخَرُ مِن كُفْرِهِمُ الَّذِي حَكاهُ اللَّهُ عَنْهم، والمُرادُ بِالَّذِينِ أشْرَكُوا هُنا أهْلُ مَكَّةَ ﴿لَوْ شاءَ اللَّهُ ما عَبَدْنا مِن دُونِهِ مِن شَيْءٍ﴾ أيْ لَوْ شاءَ عَدَمَ عِبادَتِنا لِشَيْءٍ غَيْرِهِ ما عَبَدْنا ذَلِكَ ﴿نَحْنُ ولا آباؤُنا﴾ الَّذِينَ كانُوا عَلى ما نَحْنُ عَلَيْهِ الآنَ مِن دِينِ الكُفْرِ والشِّرْكِ بِاللَّهِ.
قالَ الزَّجّاجُ: إنَّهم قالُوا هَذا عَلى جِهَةِ الِاسْتِهْزاءِ، ولَوْ قالُوهُ عَنِ اعْتِقادٍ لَكانُوا مُؤْمِنِينَ، وقَدْ مَضى الكَلامُ عَلى مِثْلِ هَذا في سُورَةِ الأنْعامِ ﴿ولا حَرَّمْنا مِن دُونِهِ مِن شَيْءٍ﴾ مِنَ السَّوائِبِ والبَحائِرِ ونَحْوِهِما، ومَقْصُودُهم بِهَذا القَوْلِ المُعَلَّقِ بِالمَشِيئَةِ الطَّعْنُ في الرِّسالَةِ، أيْ: لَوْ كانَ ما قالَهُ الرَّسُولُ حَقًّا مِنَ المَنعِ مِن عِبادَةِ غَيْرِ اللَّهِ، والمَنعِ مِن تَحْرِيمِ ما لَمْ يُحَرِّمْهُ اللَّهُ حاكِيًا ذَلِكَ عَنِ اللَّهِ لَمْ يَقَعْ مِنّا ما يُخالِفُ ما أرادَهُ مِنّا فَإنَّهُ قَدْ شاءَ ذَلِكَ، وما شاءَهُ كانَ وما لَمْ يَشَأْهُ لَمْ يَكُنْ، فَلَمّا وقَعَ مِنّا العِبادَةُ لِغَيْرِهِ وتَحْرِيمُ ما لَمْ يُحَرِّمْهُ كانَ ذَلِكَ دَلِيلًا عَلى أنَّ ذَلِكَ هو المُطابِقُ لِمُرادِهِ والمُوافِقُ لِمَشِيئَتِهِ، مَعَ أنَّهم في الحَقِيقَةِ لا يَعْتَرِفُونَ بِذَلِكَ ولا يُقِرُّونَ بِهِ لَكِنَّهم قَصَدُوا ما ذَكَرْنا مِنَ الطَّعْنِ عَلى الرُّسُلِ ﴿كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ﴾ مِن طَوائِفِ الكُفْرِ فَإنَّهم أشْرَكُوا بِاللَّهِ وحَرَّمُوا ما لَمْ يُحَرِّمْهُ وجادَلُوا رُسُلَهُ بِالباطِلِ واسْتَهْزَأُوا بِهِمْ، ثُمَّ قالَ ﴿فَهَلْ عَلى الرُّسُلِ﴾ الَّذِينَ يُرْسِلُهُمُ اللَّهُ إلى عِبادِهِ بِما شَرَعَهُ لَهم مِن شَرائِعِهِ الَّتِي رَأْسُها تَوْحِيدُهُ، وتَرْكُ الشِّرْكِ بِهِ إلّا البَلاغُ إلى مَن أُرْسِلُوا إلَيْهِمْ بِما أُمِرُوا بِتَبْلِيغِهِ بَلاغًا واضِحًا يَفْهَمُهُ المُرْسَلُ إلَيْهِمْ ولا يَلْتَبِسُ عَلَيْهِمْ.
ثُمَّ إنَّهُ سُبْحانَهُ أكَّدَ هَذا وزادَهُ إيضاحًا فَقالَ: ﴿ولَقَدْ بَعَثْنا في كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا﴾ كَما بَعَثْنا في هَؤُلاءِ لِإقامَةِ الحُجَّةِ عَلَيْهِمْ ﴿وما كُنّا مُعَذِّبِينَ حَتّى نَبْعَثَ رَسُولًا﴾ الإسْراءِ ١٥، وأنِ في قَوْلِهِ ﴿أنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ﴾ إمّا مَصْدَرِيَّةٌ، أيْ: بَعَثْنا بِأنِ اعْبُدُوا اللَّهَ، أوْ مُفَسِّرَةٌ لِأنَّ في البَعْثِ مَعْنى القَوْلِ ﴿واجْتَنِبُوا الطّاغُوتَ﴾ أيِ اتْرُكُوا كُلَّ مَعْبُودٍ دُونَ اللَّهِ كالشَّيْطانِ والكاهِنِ والصَّنَمِ وكُلِّ مَن دَعا إلى الضَّلالِ فَمِنهم أيْ مِن هَذِهِ الأُمَمِ الَّتِي بَعَثَ اللَّهُ إلَيْها رُسُلَهُ ﴿مَن هَدى اللَّهُ﴾ أيْ أرْشَدَهُ إلى دِينِهِ وتَوْحِيدِهِ وعِبادَتِهِ واجْتِنابِ الطّاغُوتِ ﴿ومِنهم مَن حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ﴾ أيْ وجَبَتْ وثَبَتَتْ لِإصْرارِهِ عَلى الكُفْرِ والعِنادِ.
قالَ الزَّجّاجُ: أعْلَمَ اللَّهُ أنَّهُ بَعَثَ الرُّسُلَ بِالأمْرِ بِالعِبادَةِ وهو مِن وراءِ الإضْلالِ والهِدايَةِ، ومِثْلُ هَذِهِ الآيَةِ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿فَرِيقًا هَدى وفَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلالَةُ﴾ [الأعراف: ٣٠]، وفي هَذِهِ الآيَةِ التَّصْرِيحُ بِأنَّ اللَّهَ أمَرَ جَمِيعَ عِبادِهِ بِعِبادَتِهِ، واجْتِنابِ الشَّيْطانِ وكُلِّ ما يَدْعُو إلى الضَّلالِ، وأنَّهم بَعْدَ ذَلِكَ فَرِيقانِ فَمِنهم مَن هَدى ومِنهم مَن حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ، فَكانَ في ذَلِكَ دَلِيلٌ عَلى أنَّ أمْرَ اللَّهِ سُبْحانَهُ لا يَسْتَلْزِمُ مُوافَقَةَ إرادَتِهِ فَإنَّهُ يَأْمُرُ الكُلَّ بِالإيمانِ، ولا يُرِيدُ الهِدايَةَ إلّا لِلْبَعْضِ، إذْ لَوْ أرادَها لِلْكُلِّ لَمْ يَكْفُرْ أحَدٌ، وهَذا مَعْنى ما حَكَيْناهُ عَنِ الزَّجّاجِ هُنا ﴿فَسِيرُوا في الأرْضِ﴾ سَيْرَ مُعْتَبِرِينَ ﴿فانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ المُكَذِّبِينَ﴾ مِنَ الأُمَمِ السّابِقَةِ عِنْدَ مُشاهَدَتِكم لِآثارِهِمْ كَعادٍ وثَمُودَ، أيْ: كَيْفَ صارَ آخِرُ أمْرِهِمْ إلى خَرابِ الدِّيارِ بَعْدَ هَلاكِ الأبْدانِ بِالعَذابِ.
ثُمَّ خَصَّصَ الخِطابَ بِرَسُولِهِ ﷺ مُؤَكِّدًا لِما تَقَدَّمَ فَقالَ: ﴿إنْ تَحْرِصْ عَلى هُداهُمْ﴾ أيْ تَطْلُبْ بِجُهْدِكَ ذَلِكَ ﴿فَإنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَن يُضِلُّ﴾ قَرَأ ابْنُ مَسْعُودٍ وأهْلُ الكُوفَةِ لا يَهْدِي بِفَتْحِ حَرْفِ المُضارَعَةِ عَلى أنَّهُ فِعْلُ مُسْتَقْبَلٍ مُسْنَدٍ إلى اللَّهِ سُبْحانَهُ، أيْ: فَإنَّ اللَّهَ لا يُرْشِدُ مَن أضَلَّهُ، و( مَن ) في مَوْضِعِ نَصْبٍ عَلى المَفْعُولِيَّةِ.
وقَرَأ الباقُونَ " لا يُهْدى " بِضَمِّ حَرْفِ المُضارَعَةِ عَلى أنَّهُ مَبْنِيٌّ لِلْمَجْهُولِ، واخْتارَ هَذِهِ القِراءَةَ أبُو عُبَيْدٍ، وأبُو حاتِمٍ عَلى مَعْنى أنَّهُ لا يَهْدِيهِ هادٍ كائِنًا مَن كانَ، و( مَن ) في مَوْضِعِ رَفْعٍ عَلى أنَّها نائِبُ الفاعِلِ المَحْذُوفِ، فَتَكُونُ هَذِهِ الآيَةُ عَلى هَذِهِ القِراءَةِ كَقَوْلِهِ في الآيَةِ الأُخْرى ﴿مَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَلا هادِيَ لَهُ﴾ [الأعراف: ١٨٦] والعائِدُ عَلى القِراءَتَيْنِ مَحْذُوفٌ، أيْ: مَن يُضِلُّهُ.
ورَوى أبُو عُبَيْدٍ عَنِ الفَرّاءِ عَلى القِراءَةِ الأُولى أنَّ مَعْنى لا يَهْدِي ( لا يَهْتَدِي ) كَقَوْلِهِ تَعالى: ﴿أمَّنْ لا يَهِدِّي إلّا أنْ يُهْدى﴾ [يونس: ٣٥]، بِمَعْنى يَهْتَدِي.
قالَ أبُو عُبَيْدٍ: ولا نَعْلَمُ أحَدًا رَوى هَذا غَيْرَ الفَرّاءِ ولَيْسَ بِمُتَّهَمٍ فِيما يَحْكِيهِ.
قالَ النَّحّاسَ: حُكِيَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ يَزِيدَ المُبَرِّدِ، كَأنَّ مَعْنى ﴿لا يَهْدِي مَن يُضِلُّ﴾ مَن عَلِمَ ذَلِكَ مِنهُ وسَبَقَ لَهُ عِنْدَهُ ﴿وما لَهم مِن ناصِرِينَ﴾ يَنْصُرُونَهم عَلى الهِدايَةِ لِمَن أضَلَّهُ اللَّهُ أوْ يَنْصُرُونَهم بِدَفْعِ العَذابِ عَنْهم.
ثُمَّ ذَكَرَ عِنادَ قُرَيْشٍ وإنْكارَهم لِلْبَعْثِ فَقالَ ﴿وأقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أيْمانِهِمْ﴾ مَصْدَرٌ في مَوْضِعِ الحالِ، أيْ: جاهِدِينَ ﴿لا يَبْعَثُ اللَّهُ مَن يَمُوتُ﴾ مِن عِبادِهِ، زَعَمُوا أنَّ اللَّهَ سُبْحانَهُ عاجِزٌ عَنْ بَعْثِ الأمْواتِ، فَرَدَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: ﴿بَلى وعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا﴾ هَذا إثْباتٌ لِما بَعْدَ النَّفْيِ أيْ بَلى يَبْعَثُهم، ووَعْدًا مَصْدَرٌ مُؤَكِّدٌ لِما دَلَّ عَلَيْهِ بَلى وهو يَبْعَثُهم لِأنَّ البَعْثَ وعْدٌ مِنَ اللَّهِ وعَدَ عِبادَهُ بِهِ، والتَّقْدِيرُ: وعَدَ البَعْثَ وعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا لا خُلْفَ فِيهِ، وحَقًّا صِفَةٌ لِوَعْدٍ، وكَذا ( عَلَيْهِ ) فَإنَّهُ صِفَةٌ لِوَعْدٍ، أيْ: كائِنًا عَلَيْهِ، أوْ نُصِبَ ( حَقًّا ) عَلى المَصْدَرِيَّةِ، أيْ: حُقَّ حَقًّا ﴿ولَكِنَّ أكْثَرَ النّاسِ لا يَعْلَمُونَ﴾ (p-٧٨٢)أنَّ ذَلِكَ يَسِيرٌ عَلَيْهِ سُبْحانَهُ غَيْرُ عَسِيرٍ.
وقَوْلُهُ: ﴿لِيُبَيِّنَ لَهُمُ﴾ أيْ لِيُظْهِرَ لَهم، وهو غايَةٌ لِما دَلَّ عَلَيْهِ ( بَلى ) مِنَ البَعْثِ، والضَّمِيرُ في لَهم راجِعٌ إلى ( مَن يَمُوتُ ) والمَوْصُولُ في قَوْلِهِ: ﴿الَّذِي يَخْتَلِفُونَ فِيهِ﴾ في مَحَلِّ نَصْبٍ عَلى أنَّهُ مَفْعُولُ لِيُبَيِّنَ أيِ الأمْرُ الَّذِي وقَعَ الخِلافُ بَيْنَهم فِيهِ، وبَيانُهُ إذْ ذاكَ يَكُونُ بِما جاءَتْهم بِهِ الرُّسُلُ، ونَزَلَتْ عَلَيْهِمْ فِيهِ كُتُبُ اللَّهِ، وقِيلَ إنَّ لِيُبَيِّنَ مُتَعَلِّقٌ بِقَوْلِهِ: ﴿ولَقَدْ بَعَثْنا﴾ أيْ بَعَثْنا في كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا لِيُبَيِّنَ. وهو بَعِيدٌ ﴿ولِيَعْلَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ بِاللَّهِ سُبْحانَهُ وأنْكَرُوا البَعْثَ ﴿أنَّهم كانُوا كاذِبِينَ﴾ في جِدالِهِمْ وإنْكارِهِمُ البَعْثَ بِقَوْلِهِمْ: ﴿لا يَبْعَثُ اللَّهُ مَن يَمُوتُ﴾ .
وجُمْلَةُ ﴿إنَّما قَوْلُنا لِشَيْءٍ إذا أرَدْناهُ أنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ﴾ مُسْتَأْنَفَةٌ لِبَيانِ كَيْفِيَّةِ الإبْداءِ والإعادَةِ بَعْدَ بَيانِ سُهُولَةِ البَعْثِ عَلَيْهِ سُبْحانَهُ.
قالَ الزَّجّاجُ: أعْلَمَهم بِسُهُولَةِ خَلْقِ الأشْياءِ عَلَيْهِ فَأخْبَرَ أنَّهُ مَتى أرادَ الشَّيْءَ كانَ، وهَذا كَقَوْلِهِ: ﴿وإذا قَضى أمْرًا فَإنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ﴾ البَقَرَةِ ١١٧، وقَرَأ ابْنُ عامِرٍ، والكِسائِيُّ " فَيَكُونَ " بِالنَّصْبِ عَطْفًا عَلى ﴿أنْ نَقُولَ﴾ .
قالَ الزَّجّاجُ: يَجُوزُ أنْ يَكُونَ نَصْبًا عَلى جَوابِ كُنْ.
وقَرَأ الباقُونَ بِالرَّفْعِ عَلى مَعْنى: فَهو يَكُونُ.
قالَ ابْنُ الأنْبارِيِّ: أوْقَعَ لَفْظَ الشَّيْءِ عَلى المَعْلُومِ عِنْدَ اللَّهِ تَعالى قَبْلَ الخَلْقِ، لِأنَّهُ بِمَنزِلَةِ ما قَدْ وُجِدَ وشُوهِدَ.
وقالَ الزَّجّاجُ: إنْ مَعْنى لِشَيْءٍ لِأجْلِ شَيْءٍ. فَجَعَلَ اللّامَ سَبَبِيَّةً، وقِيلَ هي لامُ التَّبْلِيغِ، كَما في قَوْلِكَ قُلْتُ لَهُ قُمْ فَقامَ، وإنَّما قَوْلُنا مُبْتَدَأٌ ﴿أنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ﴾ خَبَرُهُ، وهَذا الكَلامُ مِن بابِ التَّمْثِيلِ عَلى مَعْنى أنَّهُ لا يَمْتَنِعُ عَلَيْهِ شَيْءٌ، وأنَّ وُجُودَهُ عِنْدَ إرادَتِهِ كَوُجُودِ المَأْمُورِيَّةِ عِنْدَ أمْرِ الآمِرِ المُطاعِ إذا ورَدَ عَلى المَأْمُورِ المُطِيعِ، ولَيْسَ هُناكَ قَوْلٌ ولا مَقُولٌ لَهُ ولا أمْرٌ ولا مَأْمُورٌ حَتّى يُقالَ إنَّهُ يَلْزَمُ مِنهُ أحَدُ مُحالَيْنِ إمّا خِطابُ المَعْدُومِ، أوْ تَحْصِيلٌ لِحاصِلٍ.
وقَدْ مَضى تَفْسِيرُ ذَلِكَ في سُورَةِ البَقَرَةِ مُسْتَوْفًى.
وقَدْ أخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وابْنُ جَرِيرٍ، وابْنُ المُنْذِرِ، وابْنُ أبِي حاتِمٍ عَنْ قَتادَةَ في قَوْلِهِ: ﴿هَلْ يَنْظُرُونَ إلّا أنْ تَأْتِيَهُمُ المَلائِكَةُ﴾ قالَ: بِالمَوْتِ، وقالَ في آيَةٍ أُخْرى ﴿ولَوْ تَرى إذْ يَتَوَفّى الَّذِينَ كَفَرُوا المَلائِكَةُ﴾ [الأنفال: ٥٠]، وهو مَلَكُ المَوْتِ، ولَهُ رُسُلٌ ﴿أوْ يَأْتِيَ أمْرُ رَبِّكَ﴾ وذاكم يَوْمُ القِيامَةِ.
وأخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ مُجاهِدٍ نَحْوَهُ.
وأخْرَجَ ابْنُ أبِي حاتِمٍ عَنْ عِكْرِمَةَ في قَوْلِهِ: ﴿فَإنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَن يُضِلُّ﴾ قالَ: مَن يُضِلُّهُ اللَّهُ لا يَهْدِيهِ أحَدٌ.
وأخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وابْنُ جَرِيرٍ، وابْنُ المُنْذِرِ، وابْنُ أبِي حاتِمٍ عَنْ أبِي العالِيَةِ قالَ: كانَ لِرَجُلٍ مِنَ المُسْلِمِينَ عَلى رَجُلٍ مِنَ المُشْرِكِينَ دَيْنٌ فَأتاهُ يَتَقاضاهُ فَكانَ فِيما تَكَلَّمَ بِهِ: والَّذِي أرْجُوهُ بَعْدَ المَوْتِ إنَّهُ لِكَذا وكَذا، فَقالَ لَهُ المُشْرِكُ: إنَّكَ لَتَزْعُمُ أنَّكَ تُبْعَثُ مِن بَعْدِ المَوْتِ ؟ فَأقْسَمَ بِاللَّهِ جَهْدَ يَمِينِهِ لا يَبْعَثُ اللَّهُ مَن يَمُوتُ، فَأنْزَلَ اللَّهُ ﴿وأقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أيْمانِهِمْ لا يَبْعَثُ اللَّهُ مَن يَمُوتُ﴾ الآيَةَ.
وأخْرَجَ ابْنُ العُقَيْلِيِّ، وابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ عَلِيٍّ في قَوْلِهِ: ﴿وأقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أيْمانِهِمْ لا يَبْعَثُ اللَّهُ مَن يَمُوتُ﴾ قالَ: نَزَلَتْ فِيَّ.
وأخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وابْنُ أبِي حاتِمٍ، وابْنُ المُنْذِرِ عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ قالَ: قالَ اللَّهُ تَعالى سَبَّنِي ابْنُ آدَمَ ولَمْ يَكُنْ يَنْبَغِي لَهُ أنْ يَسُبَّنِي، وكَذَّبَنِي ولَمْ يَكُنْ يَنْبَغِي لَهُ أنْ يُكَذِّبَنِي، أمّا تَكْذِيبُهُ إيّايَ فَقالَ: ﴿وأقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أيْمانِهِمْ لا يَبْعَثُ اللَّهُ مَن يَمُوتُ﴾، وقُلْتُ: ﴿بَلى وعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا﴾ وأمّا سَبُّهُ إيّايَ، فَقالَ: ﴿إنَّ اللَّهَ ثالِثُ ثَلاثَةٍ﴾ [المائدة: ٧٣]، وقُلْتُ ﴿هُوَ اللَّهُ أحَدٌ اللَّهُ الصَّمَدُ لَمْ يَلِدْ ولَمْ يُولَدْ ولَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أحَدٌ﴾ [الإخلاص: ١ - ٤]، هَكَذا ذَكَرَهُ أبُو هُرَيْرَةَ مَوْقُوفًا وهو في الصَّحِيحَيْنِ مَرْفُوعًا بِلَفْظٍ آخَرَ.
وأخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وابْنُ جَرِيرٍ، وابْنُ المُنْذِرِ، وابْنُ أبِي حاتِمٍ عَنْ قَتادَةَ في قَوْلِهِ: ﴿لِيُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي يَخْتَلِفُونَ فِيهِ﴾ يَقُولُ: لِلنّاسِ عامَّةً.
{"ayahs_start":33,"ayahs":["هَلۡ یَنظُرُونَ إِلَّاۤ أَن تَأۡتِیَهُمُ ٱلۡمَلَـٰۤىِٕكَةُ أَوۡ یَأۡتِیَ أَمۡرُ رَبِّكَۚ كَذَ ٰلِكَ فَعَلَ ٱلَّذِینَ مِن قَبۡلِهِمۡۚ وَمَا ظَلَمَهُمُ ٱللَّهُ وَلَـٰكِن كَانُوۤا۟ أَنفُسَهُمۡ یَظۡلِمُونَ","فَأَصَابَهُمۡ سَیِّـَٔاتُ مَا عَمِلُوا۟ وَحَاقَ بِهِم مَّا كَانُوا۟ بِهِۦ یَسۡتَهۡزِءُونَ","وَقَالَ ٱلَّذِینَ أَشۡرَكُوا۟ لَوۡ شَاۤءَ ٱللَّهُ مَا عَبَدۡنَا مِن دُونِهِۦ مِن شَیۡءࣲ نَّحۡنُ وَلَاۤ ءَابَاۤؤُنَا وَلَا حَرَّمۡنَا مِن دُونِهِۦ مِن شَیۡءࣲۚ كَذَ ٰلِكَ فَعَلَ ٱلَّذِینَ مِن قَبۡلِهِمۡۚ فَهَلۡ عَلَى ٱلرُّسُلِ إِلَّا ٱلۡبَلَـٰغُ ٱلۡمُبِینُ","وَلَقَدۡ بَعَثۡنَا فِی كُلِّ أُمَّةࣲ رَّسُولًا أَنِ ٱعۡبُدُوا۟ ٱللَّهَ وَٱجۡتَنِبُوا۟ ٱلطَّـٰغُوتَۖ فَمِنۡهُم مَّنۡ هَدَى ٱللَّهُ وَمِنۡهُم مَّنۡ حَقَّتۡ عَلَیۡهِ ٱلضَّلَـٰلَةُۚ فَسِیرُوا۟ فِی ٱلۡأَرۡضِ فَٱنظُرُوا۟ كَیۡفَ كَانَ عَـٰقِبَةُ ٱلۡمُكَذِّبِینَ","إِن تَحۡرِصۡ عَلَىٰ هُدَىٰهُمۡ فَإِنَّ ٱللَّهَ لَا یَهۡدِی مَن یُضِلُّۖ وَمَا لَهُم مِّن نَّـٰصِرِینَ","وَأَقۡسَمُوا۟ بِٱللَّهِ جَهۡدَ أَیۡمَـٰنِهِمۡ لَا یَبۡعَثُ ٱللَّهُ مَن یَمُوتُۚ بَلَىٰ وَعۡدًا عَلَیۡهِ حَقࣰّا وَلَـٰكِنَّ أَكۡثَرَ ٱلنَّاسِ لَا یَعۡلَمُونَ","لِیُبَیِّنَ لَهُمُ ٱلَّذِی یَخۡتَلِفُونَ فِیهِ وَلِیَعۡلَمَ ٱلَّذِینَ كَفَرُوۤا۟ أَنَّهُمۡ كَانُوا۟ كَـٰذِبِینَ","إِنَّمَا قَوۡلُنَا لِشَیۡءٍ إِذَاۤ أَرَدۡنَـٰهُ أَن نَّقُولَ لَهُۥ كُن فَیَكُونُ"],"ayah":"وَقَالَ ٱلَّذِینَ أَشۡرَكُوا۟ لَوۡ شَاۤءَ ٱللَّهُ مَا عَبَدۡنَا مِن دُونِهِۦ مِن شَیۡءࣲ نَّحۡنُ وَلَاۤ ءَابَاۤؤُنَا وَلَا حَرَّمۡنَا مِن دُونِهِۦ مِن شَیۡءࣲۚ كَذَ ٰلِكَ فَعَلَ ٱلَّذِینَ مِن قَبۡلِهِمۡۚ فَهَلۡ عَلَى ٱلرُّسُلِ إِلَّا ٱلۡبَلَـٰغُ ٱلۡمُبِینُ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق