الباحث القرآني
قَوْلُهُ تَعالى: ﴿فَمَن بَدَّلَهُ بَعْدَما سَمِعَهُ فَإنَّما إثْمُهُ عَلى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ إنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾ .
اعْلَمْ أنَّهُ تَعالى لَمّا ذَكَرَ أمْرَ الوَصِيَّةِ ووُجُوبَها، وعِظَمَ أمْرِها، أتْبَعَهُ بِما يَجْرِي مَجْرى الوَعِيدِ في تَغْيِيرِها.
أمّا قَوْلُهُ تَعالى: ﴿فَمَن بَدَّلَهُ﴾ فَفِيهِ مَسائِلُ:
المَسْألَةُ الأُولى: هَذا المُبَدِّلُ مَن هو ؟ فِيهِ قَوْلانِ:
أحَدُهُما: وهو المَشْهُورُ أنَّهُ هو الوَصِيُّ أوِ الشّاهِدُ أوْ سائِرُ النّاسِ، أمّا الوَصِيُّ فَبِأنْ يُغَيِّرَ الوَصِيُّ الوَصِيَّةَ إمّا في الكِتابَةِ وإمّا في قِسْمَةِ الحُقُوقِ، وأمّا الشّاهِدُ فَبِأنْ يُغَيِّرَ شَهادَةً أوْ يَكْتُمَها، وأمّا غَيْرُ الوَصِيِّ والشّاهِدُ فَبِأنْ يَمْنَعُوا مِن وصْلِ ذَلِكَ المالِ إلى مُسْتَحِقِّهِ، فَهَؤُلاءِ كُلُّهم داخِلُونَ تَحْتَ قَوْلِهِ تَعالى: ﴿فَمَن بَدَّلَهُ﴾ .
والقَوْلُ الثّانِي: أنَّ المَنهِيَّ عَنِ التَّغْيِيرِ هو المُوصِي نَهى عَنْ تَغْيِيرِ الوَصِيَّةِ عَنِ المَواضِعِ الَّتِي بَيَّنَ اللَّهُ تَعالى بِالوَصِيَّةِ إلَيْها وذَلِكَ لِأنّا بَيَّنّا أنَّهم كانُوا في الجاهِلِيَّةِ يُوصُونَ لِلْأجانِبِ ويَتْرُكُونَ الأقارِبَ في الجُوعِ والضُّرِّ، فاللَّهُ تَعالى أمَرَهم بِالوَصِيَّةِ لِلْأقْرَبِينَ، ثُمَّ زَجَرَ بِقَوْلِهِ: ﴿فَمَن بَدَّلَهُ بَعْدَما سَمِعَهُ﴾ مَن أعْرَضَ عَنْ هَذا التَّكْلِيفِ.
* * *
المَسْألَةُ الثّانِيَةُ: الكِنايَةُ في قَوْلِهِ: ﴿فَمَن بَدَّلَهُ﴾ عائِدٌ إلى الوَصِيَّةِ، مَعَ أنَّ الكِنايَةَ المَذْكُورَةَ مُذَكَّرَةٌ والوَصِيَّةُ مُؤَنَّثَةٌ، وذَكَرُوا فِيهِ وُجُوهًا:
أحَدُها: أنَّ الوَصِيَّةَ بِمَعْنى الإيصاءِ ودالَّةٌ عَلَيْهِ، كَقَوْلِهِ تَعالى: ﴿فَمَن جاءَهُ مَوْعِظَةٌ﴾ [البقرة: ٢٧٥] أيْ وعْظٌ، والتَّقْدِيرُ: فَمَن بَدَّلَ ما قالَهُ المَيِّتُ، أوْ ما أوْصى بِهِ أوْ سَمِعَهُ عَنْهُ.
وثانِيها: قِيلَ الهاءُ راجِعَةٌ إلى الحُكْمِ والفَرْضِ والتَّقْدِيرُ: فَمَن بَدَّلَ الأمْرَ المُقَدَّمَ ذِكْرُهُ.
وثالِثُها: أنَّ الضَّمِيرَ عائِدٌ إلى ما أوْصى بِهِ المَيِّتَ فَلِذَلِكَ ذَكَرَهُ، وإنْ كانَتِ الوَصِيَّةُ مُؤَنَّثَةً.
ورابِعُها: أنَّ الكِنايَةَ تَعُودُ إلى مَعْنى الوَصِيَّةِ وهو قَوْلٌ أوْ فِعْلٌ.
وخامِسُها: أنَّ تَأْنِيثَ الوَصِيَّةِ لَيْسَ بِالحَقِيقِيِّ فَيَجُوزُ أنْ يُكَنّى عَنْها بِكِنايَةِ المُذَكَّرِ.
أمّا قَوْلُهُ: ﴿بَعْدَما سَمِعَهُ﴾ فَهو يَدُلُّ عَلى أنَّ الإثْمَ إنَّما يَثْبُتُ أوْ يَعْظُمُ بِشَرْطِ أنْ يَكُونَ المُبَدِّلُ قَدْ عَلِمَ ذَلِكَ؛ لِأنَّهُ لا مَعْنى لِلسَّماعِ لَوْ لَمْ يَقَعِ العِلْمُ بِهِ، فَصارَ إثْباتُ سَماعِهِ كَإثْباتِ عِلْمِهِ.
أمّا قَوْلُهُ: ﴿فَإنَّما إثْمُهُ عَلى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ﴾ فاعْلَمْ أنَّ كَلِمَةَ (إنَّما) لِلْحَصْرِ، والضَّمِيرُ في قَوْلِهِ: (إثْمُهُ) عائِدٌ إلى التَّبْدِيلِ، والمَعْنى: أنَّ إثْمَ ذَلِكَ التَّبْدِيلِ لا يَعُودُ إلّا إلى المُبَدِّلِ، وقَدْ تَقَدَّمَ بَيانُ أنَّ المُبَدِّلَ مَن هو.
واعْلَمْ أنَّ العُلَماءَ اسْتَدَلُّوا بِهَذِهِ الآيَةِ عَلى أحْكامٍ:
أحَدُها: أنَّ الطِّفْلَ لا يُعَذَّبُ عَلى كُفْرِ أبِيهِ.
وثانِيها: أنَّ الإنْسانَ إذا أمَرَ الوارِثَ بِقَضاءِ دَيْنِهِ، ثُمَّ إنَّ الوارِثَ قَصَّرَ فِيهِ بِأنْ لا يَقْضِيَ دَيْنَهُ فَإنَّ الإنْسانَ المَيِّتَ لا يُعَذَّبُ (p-٥٦)بِسَبَبِ تَقْصِيرِ ذَلِكَ الوارِثِ خِلافًا لِبَعْضِ الجُهّالِ.
وثالِثُها: أنَّ المَيِّتَ لا يُعَذَّبُ بِبُكاءِ غَيْرِهِ عَلَيْهِ، وذَلِكَ؛ لِأنَّ هَذِهِ الآيَةَ دالَّةٌ عَلى أنَّ إثْمَ التَّبْدِيلِ لا يَعُودُ إلّا إلى المُبَدِّلِ، فَإنَّ اللَّهَ تَعالى لا يُؤاخِذُ أحَدًا بِذَنْبِ غَيْرِهِ، وتَتَأكَّدُ دَلالَةُ هَذِهِ الآيَةِ بِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿ولا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إلّا عَلَيْها ولا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى﴾ [الأنعام: ١٦٤] ﴿مَن عَمِلَ صالِحًا فَلِنَفْسِهِ ومَن أساءَ فَعَلَيْها﴾ [فصلت: ٤٦] ﴿لَها ما كَسَبَتْ وعَلَيْها ما اكْتَسَبَتْ﴾ [البقرة: ٢٨٦] .
* * *
المَسْألَةُ الثّالِثَةُ: إذا أوْصى لِلْأجانِبِ، وفي الأقارِبِ مَن تَشْتَدُّ حاجَتُهُ هَلْ يَجُوزُ لِلْوَصِيِّ تَغْيِيرُ الوَصِيَّةِ ؟
أمّا مَن يَقُولُ بِوُجُوبِ الوَصِيَّةِ لِمَن لا يَرِثُ مِنَ الوالِدَيْنِ والأقْرَبِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ، فَمِنهم مَن قالَ: كانَتِ الوَصِيَّةُ لِلْأقارِبِ واجِبَةً عَلَيْهِ، فَإذا لَمْ يَفْعَلْ وصَرَفَ الوَصِيَّةَ إلى الأجانِبِ كانَ ذَلِكَ الأجْنَبِيُّ أحَقَّ بِهِ، ومِنهم مَن قالَ: يُنْقَضُ ذَلِكَ ويُرَدُّ إلى الأقْرَبِينَ، وقَدْ ذَكَرْنا تَفْصِيلَ قَوْلِ هَؤُلاءِ. أمّا مَن لا يُوجِبُ الوَصِيَّةَ لِلْقَرِيبِ الَّذِي لا يَرِثُ، فَإمّا أنْ يَكُونَ ذَلِكَ بِالثُّلُثِ أوْ بِأكْثَرَ مِنَ الثُّلُثِ، فَإنْ كانَ بِالثُّلُثِ فَهو جائِزٌ ولا يَجُوزُ تَغْيِيرُهُ، ثُمَّ اخْتَلَفُوا في المُسْتَحَبِّ، فَكانَ الحَسَنُ يَقُولُ: المُسْتَحَبُّ هو النُّقْصانُ مِنَ الثُّلُثِ؛ لِأنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ قالَ: ”«الثُّلُثُ والثُّلُثُ كَثِيرٌ» “ فَنَدَبَ إلى النُّقْصانِ، ومِنهم مَن قالَ: بَلِ الثُّلُثُ مُسْتَحَبٌّ؛ لِأنَّهُ حَقُّهُ والثَّوابُ فِيهِ أكْثَرُ، ومِنهم مَن يَعْتَبِرُ حالَ المَيِّتِ وحالَ الوَرَثَةِ وقَدْرَ التَّرِكَةِ، وهَذا هو الأوْلى، فَأمّا إنْ كانَتِ الوَصِيَّةُ بِأكْثَرَ مِنَ الثُّلْثِ فَقَدِ اخْتَلَفُوا فِيهِ، فَمِنهم مَن قالَ: لا يَجُوزُ ذَلِكَ إلّا بِأمْرِ الوَرَثَةِ، والتِماسِ الرِّضا مِنهم، وقالَ آخَرُونَ: لا تَأْثِيرَ لِقَوْلِ الوَرَثَةِ إلّا بَعْدَ المَوْتِ، ثُمَّ إذا أوْصى بِأكْثَرَ مِنَ الثُّلُثِ اخْتَلَفُوا فَمِنهم مَن قالَ: يَجُوزُ إنْ أجازَهُ الوارِثُ ويَكُونُ عَطِيَّةً مِنَ المَيِّتِ، ومِنهم مَن يَقُولُ: بَلْ يَكُونُ كابْتِداءِ عَطِيَّةٍ مِنَ الوارِثِ.
أمّا قَوْلُهُ: ﴿إنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾ فَمَعْناهُ أنَّهُ تَعالى سَمِيعٌ لِلْوَصِيَّةِ عَلى حَدِّها، ويَعْلَمُها عَلى صِفَتِها، فَلا يَخْفى عَلَيْهِ خافِيَةٌ مِنَ التَّغْيِيرِ الواقِعِ فِيها، واللَّهُ أعْلَمُ.
{"ayah":"فَمَنۢ بَدَّلَهُۥ بَعۡدَ مَا سَمِعَهُۥ فَإِنَّمَاۤ إِثۡمُهُۥ عَلَى ٱلَّذِینَ یُبَدِّلُونَهُۥۤۚ إِنَّ ٱللَّهَ سَمِیعٌ عَلِیمࣱ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق