الباحث القرآني

قالَ اللهُ تعالى: ﴿فَمَن بَدَّلَهُ بَعْدَما سَمِعَهُ فَإنَّما إثْمُهُ عَلى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ إنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ۝﴾[البقرة: ١٨١]. وتبديلُ الوصيَّةِ مِن الكبائرِ، وتغييرُ وِجْهةِ المالِ التي صرَفَها صاحِبُها إليها محرَّمٌ لو كان حيًّا، والأمرُ بعدَ وفاتِهِ أعظَمُ، لانعدامِ عِلْمِه، فضلًا عَن قُدرتِه، وأنّ أجرَ المُوصِي يقَعُ، لأنّ المتصدِّقَ والمُنفِقَ بالحقِّ يُكتَبُ له الأجرُ بحسَبِ نيَّتِه وتحرِّيهِ ولو لم تَصِلْ لمرادِه، ولكنَّ الضَّرَرَ الذي يَلحَقُ مَن أوْصى له باقٍ، لتبديلِ الوصيَّةِ عن وجهِها الذي جعَلَها صاحبُها له. والوصيَّةُ نافذةٌ، ويجبُ العملُ بها، ولفظُ الوصيَّةِ مِن ألفاظِ الوجوبِ، لقولِهِ تعالى: ﴿يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أوْلادِكُمْ﴾ [النساء: ١١]، وهذا حُكْمٌ وحَدٌّ مِن حدودِ اللهِ تعالى يجبُ التِزامُه. روى ابنُ جريرٍ في «تفسيرِهِ»، عنِ ابنِ أبي نَجِيحٍ، عن مجاهِدٍ: ﴿فَمَن بَدَّلَهُ بَعْدَما سَمِعَهُ﴾ قال: «الوصيَّةُ»[[«تفسير الطبري» (٣/١٣٩ ـ ١٤٠).]]. وروى عن عليِّ بنِ أبي طَلْحةَ، عنِ ابنِ عبّاسٍ، في قولِه: ﴿فَمَن بَدَّلَهُ بَعْدَما سَمِعَهُ فَإنَّما إثْمُهُ عَلى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ﴾: «وقَدْ وقَعَ أجرُ المُوصِي على اللهِ، وبَرِئَ مِن إثمِه»[[«تفسير الطبري» (٣/١٤٠).]]. وختَمَ اللهُ الآيةَ بقولِه: ﴿إنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ۝﴾، أي: يَسمَعُ ويَعلَمُ ما كانت عليه الوصيَّةُ، ويعلَمُ تبديلَ المبدِّلِ ومِقْدارَهُ، وأثَرَهُ على المُوصِي والمُوصى له، وفي هذا تذكيرٌ وترهيبٌ لِمَن عزَمَ على التبديلِ ولمَن بَدَّلَ أنْ يُقلِعَ وأنْ يُعِيدَ الحقَّ إلى أهلِه، والوصيَّةَ إلى ما كانت عليه. بطلانُ الوصيَّةِ بالحرامِ: ومَن أوْصى في ضِرارٍ، أو قطيعةِ رَحِمٍ، أو شيءٍ محرَّمٍ: لا يجوزُ إنفاذُ وصيَّتِه، ويجبُ تبديلُها إلى أفضلِ الحقِّ وأَنْفَعِه، ومَن لم يبدِّلْها ـ والحالةُ هذه ـ وهو قادرٌ على ذلك، فهو آثِمٌ، وقد روى ابنُ جريرٍ عن عليٍّ، عن ابنِ عبّاسٍ، قال: «إنْ كان أوْصى في ضِرارٍ، لم تَجُزْ وصيَّتُهُ، كما قال اللهُ: ﴿غَيْرَ مُضَآرٍّ﴾ [النساء: ١٢]»[[المصدر السابق.]]. ورَوى سعيدُ بنُ منصورٍ، عنْ داوُدَ بنِ أبي هِنْدٍ، عن عِكْرِمةَ، عن ابنِ عَبّاسٍ، قالَ: «الجَنَفُ فِي الوَصِيَّةِ والإضْرارُ فِيها مِنَ الكَبائِرِ»[[أخرجه سعيد بن منصور في «سننه» (٣٤٣) (١/١٣٢).]]. مقدارُ الوصيَّةِ: والجمهورُ على أنّ الوصيَّةَ بأكثرَ مِن الثُّلُثِ باطِلةٌ، للحديثِ المشهورِ الذي رواهُ البخاريُّ ومسلمٌ وغيرُهما، عن سعدِ بنِ أبي وقّاصٍ، قال: «كانَ النَّبِيُّ ﷺ يَعُودُنِي وأَنا مَرِيضٌ بِمَكَّةَ، فَقُلْتُ: لِي مالٌ، أُوصِي بِمالِي كُلِّهِ؟ قالَ: (لا)، قُلْتُ: فالشَّطْرِ؟ قالَ: (لا)، قُلْتُ: فالثُّلُثِ؟ قالَ: (الثُّلُثُ، والثُّلُثُ كَثِيرٌ، أنْ تَدَعَ ورَثَتَكَ أغْنِياءَ خَيْرٌ مِن أنْ تَدَعَهُمْ عالَةً يَتَكَفَّفُونَ النّاسَ) [[أخرجه البخاري (٢٧٤٢) (٤/٣)، ومسلم (١٦٢٨) (٣/١٢٥٠).]]. وروى أحمدُ في «المسنَدِ»، عن ابنِ عَبّاسٍ، قالَ: «ودِدتُّ أنَّ النّاسَ غَضُّوا مِنَ الثُّلُثِ إلى الرُّبُعِ فِي الوَصِيَّةِ، لأِنَّ النَّبِيَّ ﷺ قالَ: (الثُّلُثُ كَثِيرٌ ـ أوْ: كَبِيرٌ ـ)»[[أخرجه أحمد (٢٠٧٦) (١/٢٣٣).]]. وروى سعيدُ بنُ منصورٍ، مِن حديثِ مُغِيرةَ عن إبراهِيمَ، قالَ: «كانَ الخُمُسُ فِي الوَصِيَّةِ أحَبَّ إلَيْهِمْ مِنَ الرُّبُعِ، والرُّبُعُ أحَبَّ إلَيْهِمْ مِنَ الثُّلُثِ، وكانَ يُقالُ: هُما المُرَّيانِ مِنَ الأَمْرِ: الإمْساكُ فِي الحَياةِ، والتَّبْذِيرُ فِي المَماتِ»[[أخرجه سعيد بن منصور في «سننه» (٣٣٧) (١/١٣١).]]. إمضاءُ الوصيَّةِ للوارثِ بإجازةِ الورثةِ: واختُلِفَ في إمضاءِ الوصيَّةِ للوارِثِ، إذا أجازَها بقيَّةُ الوَرَثةِ: والأصحُّ ـ وهو قولُ عامَّةِ العلماءِ ـ: أنّها إذا أجازَها الوَرَثةُ في حياةِ المُوصِي وبعدَ وفاتِهِ، مضَتْ. وأكثرُ السَّلَفِ: على أنّ الوَرَثةَ لو رجَعُوا عن إجازةِ الوصيَّةِ بأكثَرَ مِن الثُّلُثِ بعدَ موتِ مورِّثِهم: أنّ رجوعَهم حقٌّ لهم، وذلك لأنّهم ربَّما أجازُوا إرضاءً للمُوصِي، وحياءً منه، روى ابنُ أبي شَيْبةَ، عن الشَّعْبيِّ، عن شُرَيْحٍ، قال: «إذا استأذَنَ الرَّجلُ ورَثَتَهُ في الوصيَّةِ، فأَوْصى بأكثرَ مِن الثُّلُثِ، فطَيَّبُوا له، فإذا نفَضُوا أيديَهُمْ مِن قَبْرِه، فهُمْ على رأسِ أمْرِهم، إنْ شاؤُوا أجازُوا، وإنْ شاؤُوا لم يُجِيزُوا»[[أخرجه ابن أبي شيبة في «مصنفه» (٣٠٧٢٣) (٦/٢٠٨).]]. وقال بهذا عطاءٌ وطاوسٌ والحَكَمُ وغيرُهم[[أخرجه ابن أبي شيبة في «مصنفه» (٣٠٧٢٥، ٣٠٧٢٧، ٣٠٧٢٩) (٦/٢٠٩).]]. ومنَعَ رجوعَهم بعضُ السَّلَفِ. والأصحُّ: أنّ لهم الرُّجوعَ، لأنّ الوصيَّةَ قُيِّدَتْ بالثُّلُثِ بالنَّصِّ، والزيادةُ على الثلثِ مَرَدُّهُ إلى الوَرَثةِ، ولمّا كان إذنُهم له في حياتِهِ كان حياءً وشفَقةً، فالعلماءُ يتَّفقُونَ على أنّ ما أُخِذَ بسَيْفِ الحياءِ غيرُ جائزٍ، والمالُ استَقَرَّ حقًّا لهم بعدَ وفاتِه، ثمَّ هم أوْلى به مِن غيرِه، وكان الإذنُ بغير طِيبِ نفسٍ منهم. وإذا أوْصى المُوصِي بوصيَّتَيْنِ، فيُعمَلُ بأُخْراهما، فقد روى ابنُ أبي شَيْبةَ، عن يونُسَ، عن الحسَنِ قال: «إذا أوْصى بوصيَّةٍ، ثمَّ أوْصى بأُخرى بعدَها، قال: يُؤخَذُ بالأُخرى منهما»[[أخرجه ابن أبي شيبة في «مصنفه» (٣٠٧٣٣) (٦/٢٠٩).]]. وقال بهذا عطاءٌ وطاوسٌ وأبو الشَّعْثاءِ[[أخرجه ابن أبي شيبة في «مصنفه» (٣٠٧٣٤) (٦/٢٠٩).]]. ويُروى هذا عن عمرَ بنِ الخطّابِ[[أخرجه ابن أبي شيبة في «مصنفه» (٣٠٧٣٧) (٦/٢١٠).]]. وإذا أمكَنَ الجمعُ بينَهما ما لم يتَجاوَزا الثُّلُثَ، فيُجمَعُ بينَهما، وإلاَّ فالأخيرةُ منهما. روى ابنُ أبي شَيْبةَ، عن مَعْمَرٍ، عن الزُّهْريِّ، قال: «إذا أوْصى الرَّجُلُ بوصيَّةٍ، ثمَّ نقَضَها، فهي الآخِرةُ، وإنْ لم يَنْقُضْها، فإنّهما تَجُوزانِ جميعًا في ثُلُثِهِ بالحِصَصِ»[[أخرجه ابن أبي شيبة في «مصنفه» (٣٠٧٣٦) (٦/٢١٠).]]. وقال أبو حنيفةَ: «إن لم يكُنْ للمُوصِي ورَثةٌ ـ ولو عَصَبةً ـ دُونَ بيتِ المالِ، جازَ للمُوصِي أن يُوصيَ بجميعِ مالِه، ومَضى ذلك، أخذًا بالإيماءِ إلى العِلَّةِ في قولِهِ: (إنَّكَ أنْ تَدَعَ ورَثَتَكَ أغْنِياءَ خَيْرٌ) ... الحديثَ»[[سبق تخريجه.]]. وقال: «إنّ بيتَ المالِ جامعٌ لا عاصبٌ». ورُوِيَ أيضًا عن عليٍّ وابنِ عبّاسٍ ومسروقٍ وإسحاقَ بنِ راهَوَيْهِ. موتُ الفجأةِ وعدمُ الوصيَّةِ: ومَن مات مِن غيرِ وصيَّةٍ، كمَن أُخِذَ فَجْأةً، وله مالٌ ـ: استُحِبَّ التصدُّقُ عنه مِن مالِه، بما لا يُجحِفُ بحقِّ الوَرَثةِ، ولا يزيدُ عن ثُلُثِ المالِ، فقد روى البخاريُّ ومسلمٌ وأبو داودَ وغيرُهم، مِن حديثِ عُرْوةَ، عن عائِشةَ، أنَّ امْرَأَةً قالَتْ: يا رَسُولَ اللهِ، إنَّ أُمِّيَ افْتُلِتَتْ نَفْسُها، ولَوْلا ذَلِكَ، لَتَصَدَّقَتْ وأَعْطَتْ، أفَيُجْزِئُ أنْ أتَصَدَّقَ عَنْها؟ فَقالَ النَّبِيُّ ﷺ: (نَعَمْ، فَتَصَدَّقِي عَنْها) [[أخرجه البخاري (٢٧٦٠) (٤/٨)، ومسلم (١٠٠٤) (٢/٦٩٦)، وأبو داود (٢٨٨١) (٣/١١٨)، وغيرهم.]]. وروى أبو داودَ، مِن حديثِ عمرِو بنِ شُعَيْبٍ، عن أبيهِ، عن جَدِّهِ: «أنَّ العاصَ بنَ وائِلٍ أوْصى أنْ يُعْتَقَ عَنْهُ مِئَةُ رَقَبَةٍ، فَأَعْتَقَ ابْنُهُ هِشامٌ خَمْسِينَ رَقَبَةً، فَأَرادَ ابْنُهُ عَمْرٌو أنْ يُعْتِقَ عَنْهُ الخَمْسِينَ الباقِيَةَ، فَقالَ: حَتّى أسْأَلَ رَسُولَ اللهِ ﷺ، فَأَتى النَّبِيَّ ﷺ، فَقالَ: يا رَسُولَ اللهِ، إنَّ أبِي أوْصى بِعِتْقِ مِئَةِ رَقَبَةٍ، وإنَّ هِشامًا أعْتَقَ عَنْهُ خَمْسِينَ، وبَقِيَتْ عَلَيْهِ خَمْسُونَ رَقَبَةً، أفَأُعْتِقُ عَنْهُ؟ فَقالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: (إنَّهُ لَوْ كانَ مُسْلِمًا، فَأَعْتَقْتُمْ عَنْهُ، أوْ تَصَدَّقْتُمْ عَنْهُ، أوْ حَجَجْتُمْ عَنْهُ ـ بَلَغَهُ ذَلِكَ) [[أخرجه أبو داود (٢٨٨٣) (٣/١١٨)، وغيره.]]. قال الشافعيُّ في القديمِ: «وبهذا نأخُذُ، وقد أعتَقَتْ عائشةُ عن أخيها، ومات مِن غيرِ وصيَّةٍ»[[ينظر: «معرفة السنن والآثارِ» للبيهقي (٩/١٩٨).]].
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب