الباحث القرآني
قَوْلُهُ تَعالى ﴿قالَ إنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتانِيَ الكِتابَ وجَعَلَنِي نَبِيًّا﴾ ﴿وجَعَلَنِي مُبارَكًا أيْنَ ما كُنْتُ وأوْصانِي بِالصَّلاةِ والزَّكاةِ ما دُمْتُ حَيًّا﴾ ﴿وبَرًّا بِوالِدَتِي ولَمْ يَجْعَلْنِي جَبّارًا شَقِيًّا﴾ ﴿والسَّلامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ ويَوْمَ أمُوتُ ويَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا﴾
اعْلَمْ أنَّهُ وصَفَ نَفْسَهُ بِصِفاتٍ تِسْعٍ:
الصِّفَةُ الأُولى: قَوْلُهُ: ﴿إنِّي عَبْدُ اللَّهِ﴾ وفِيهِ فَوائِدُ:
الفائِدَةُ الأُولى: أنَّ الكَلامَ مِنهُ في ذَلِكَ الوَقْتِ كانَ سَبَبًا لِلْوَهْمِ الَّذِي ذَهَبَتْ إلَيْهِ النَّصارى، فَلا جَرَمَ أوَّلُ ما تَكَلَّمَ إنَّما تَكَلَّمَ بِما يَرْفَعُ ذَلِكَ الوَهْمَ فَقالَ: ﴿إنِّي عَبْدُ اللَّهِ﴾ وكانَ ذَلِكَ الكَلامُ وإنْ كانَ مُوهِمًا مِن حَيْثُ إنَّهُ صَدَرَ عَنْهُ في تِلْكَ الحالَةِ، ولَكِنَّ ذَلِكَ الوَهْمَ يَزُولُ ولا يَبْقى مِن حَيْثُ إنَّهُ تَنْصِيصٌ عَلى العُبُودِيَّةِ.
الفائِدَةُ الثّانِيَةُ: أنَّهُ لَمّا أقَرَّ بِالعُبُودِيَّةِ فَإنْ كانَ صادِقًا في مَقالِهِ فَقَدْ حَصَلَ الغَرَضُ وإنْ كانَ كاذِبًا لَمْ تَكُنِ القُوَّةُ قُوَّةً إلَهِيَّةً بَلْ قُوَّةً شَيْطانِيَّةً فَعَلى التَّقْدِيرَيْنِ يَبْطُلُ كَوْنُهُ إلَهًا.
الفائِدَةُ الثّالِثَةُ: أنَّ الَّذِي اشْتَدَّتِ الحاجَةُ إلَيْهِ في ذَلِكَ الوَقْتِ إنَّما هو نَفْيُ تُهْمَةِ الزِّنا عَنْ مَرْيَمَ عَلَيْها السَّلامُ ثُمَّ إنَّ عِيسى عَلَيْهِ السَّلامُ لَمْ يَنُصَّ عَلى ذَلِكَ وإنَّما نَصَّ عَلى إثْباتِ عُبُودِيَّةِ نَفْسِهِ كَأنَّهُ جَعَلَ إزالَةَ (p-١٧٩)التُّهْمَةِ عَنِ اللَّهِ تَعالى أوْلى مِن إزالَةِ التُّهْمَةِ عَنِ الأُمِّ، فَلِهَذا أوَّلَ ما تَكَلَّمَ إنَّما تَكَلَّمَ بِها.
الفائِدَةُ الرّابِعَةُ: وهي أنَّ التَّكَلُّمَ بِإزالَةِ هَذِهِ التُّهْمَةِ عَنِ اللَّهِ تَعالى يُفِيدُ إزالَةَ التُّهْمَةِ عَنِ الأُمِّ لِأنَّ اللَّهَ سُبْحانَهُ لا يَخُصُّ الفاجِرَةَ بِوَلَدٍ في هَذِهِ الدَّرَجَةِ العالِيَةِ والمَرْتَبَةِ العَظِيمَةِ. وأمّا التَّكَلُّمُ بِإزالَةِ التُّهْمَةِ عَنِ الأُمِّ لا يُفِيدُ إزالَةَ التُّهْمَةِ عَنِ اللَّهِ تَعالى فَكانَ الِاشْتِغالُ بِذَلِكَ أوْلى فَهَذا مَجْمُوعُ ما في هَذا اللَّفْظِ مِنَ الفَوائِدِ، واعْلَمْ أنَّ مَذْهَبَ النَّصارى مُتَخَبِّطٌ جِدًّا، وقَدِ اتَّفَقُوا عَلى أنَّهُ سُبْحانَهُ لَيْسَ بِجِسْمٍ ولا مُتَحَيِّزٍ، ومَعَ ذَلِكَ فَإنّا نَذْكُرُ تَقْسِيمًا حاصِرًا يُبْطِلُ مَذْهَبَهم عَلى جَمِيعِ الوُجُوهِ فَنَقُولُ: إمّا أنْ يَعْتَقِدُوا كَوْنَهُ مُتَحَيِّزًا أوْ لا، فَإنِ اعْتَقَدُوا كَوْنَهُ مُتَحَيِّزًا أبْطَلْنا قَوْلَهم بِإقامَةِ الدَّلالَةِ عَلى حُدُوثِ الأجْسامِ، وحِينَئِذٍ يَبْطُلُ كُلُّ ما فَرَّعُوا عَلَيْهِ. وإنِ اعْتَقَدُوا أنَّهُ لَيْسَ بِمُتَحَيِّزٍ يَبْطُلُ ما يَقُولُهُ بَعْضُهم مِن أنَّ الكَلِمَةَ اخْتَلَطَتْ بِالنّاسُوتِ اخْتِلاطَ الماءِ بِالخَمْرِ وامْتِزاجَ النّارِ بِالفَحْمِ لِأنَّ ذَلِكَ لا يُعْقَلُ إلّا في الأجْسامِ فَإذا لَمْ يَكُنْ جِسْمًا اسْتَحالَ ذَلِكَ ثُمَّ نَقُولُ: لِلنّاسِ قَوْلانِ في الإنْسانِ: مِنهم مَن قالَ إنَّهُ هو هَذِهِ البِنْيَةُ أوْ جِسْمٌ مَوْجُودٌ في داخِلِها ومِنهم مَن يَقُولُ إنَّهُ جَوْهَرٌ مُجَرَّدٌ عَنِ الجِسْمِيَّةِ والحُلُولِ في الأجْسامِ فَنَقُولُ: هَؤُلاءِ النَّصارى، إمّا أنْ يَعْتَقِدُوا أنَّ اللَّهَ أوْ صِفَةً مِن صِفاتِهِ اتَّحَدَ بِبَدَنِ المَسِيحِ أوْ بِنَفْسِهِ أوْ يَعْتَقِدُوا أنَّ اللَّهَ أوْ صِفَةً مِن صِفاتِهِ حَلَّ في بَدَنِ المَسِيحِ أوْ في نَفْسِهِ، أوْ يَقُولُوا لا نَقُولُ بِالِاتِّحادِ ولا بِالحُلُولِ ولَكِنْ نَقُولُ إنَّهُ تَعالى أعْطاهُ القُدْرَةَ عَلى خَلْقِ الأجْسامِ والحَياةِ والقُدْرَةِ وكانَ لِهَذا السَّبَبِ إلَهًا، أوْ لا يَقُولُوا بِشَيْءٍ مِن ذَلِكَ ولَكِنْ قالُوا: إنَّهُ عَلى سَبِيلِ التَّشْرِيفِ اتَّخَذَهُ ابْنًا كَما اتَّخَذَ إبْراهِيمَ عَلى سَبِيلِ التَّشْرِيفِ خَلِيلًا فَهَذِهِ هي الوُجُوهُ المَعْقُولَةُ في هَذا البابِ، والكُلُّ باطِلٌ.
أمّا القَوْلُ الأوَّلُ بِالِاتِّحادِ فَهو باطِلٌ قَطْعًا؛ لِأنَّ الشَّيْئَيْنِ إذا اتَّحَدا فَهُما حالَ الِاتِّحادِ، إمّا أنْ يَكُونا مَوْجُودَيْنَ أوْ مَعْدُومَيْنَ أوْ يَكُونَ أحَدُهُما مَوْجُودًا والآخَرُ مَعْدُومًا، فَإنْ كانا مَوْجُودَيْنِ فَهُما اثْنانِ لا واحِدٌ فالِاتِّحادُ باطِلٌ، وإنْ عُدِما وحَصَلَ ثالِثٌ فَهو أيْضًا لا يَكُونُ اتِّحادًا بَلْ يَكُونُ قَوْلًا بِعَدَمِ ذَيْنِكَ الشَّيْئَيْنِ، وحُصُولِ شَيْءٍ ثالِثٍ، وإنْ بَقِيَ أحَدُهُما وعُدِمَ الآخَرُ فالمَعْدُومُ يَسْتَحِيلُ أنْ يَتَّحِدَ بِالوُجُودِ؛ لِأنَّهُ يَسْتَحِيلُ أنْ يُقالَ: المَعْدُومُ بِعَيْنِهِ هو المَوْجُودُ فَظَهَرَ مِن هَذا البُرْهانِ الباهِرِ أنَّ الِاتِّحادَ مُحالٌ. وأمّا الحُلُولُ فَلَنا فِيهِ مَقامانِ:
الأوَّلُ: أنَّ التَّصْدِيقَ مَسْبُوقٌ بِالتَّصَوُّرِ فَلا بُدَّ مِنَ البَحْثِ عَنْ ماهِيَّةِ الحُلُولِ حَتّى يُمْكِنَنا أنْ نَعْلَمَ أنَّهُ هَلْ يَصِحُّ عَلى اللَّهِ تَعالى أوْ لا يَصِحُّ ؟ وذَكَرُوا لِلْحُلُولِ تَفْسِيراتٍ ثَلاثَةً:
أحَدُها: كَوْنُ الشَّيْءِ في غَيْرِهِ كَكَوْنِ ماءِ الوَرْدِ في الوَرْدِ، والدُّهْنِ في السِّمْسِمِ، والنّارِ في الفَحْمِ، واعْلَمْ أنَّ هَذا باطِلٌ لِأنَّ هَذا إنَّما يَصِحُّ لَوْ كانَ اللَّهُ تَعالى جِسْمًا وهم وافَقُونا عَلى أنَّهُ لَيْسَ بِجِسْمٍ.
وثانِيها: حُصُولُهُ في الشَّيْءِ عَلى مِثالِ حُصُولِ اللَّوْنِ في الجِسْمِ فَنَقُولُ: المَعْقُولُ مِن هَذِهِ التَّبَعِيَّةِ حُصُولُ اللَّوْنِ في ذَلِكَ الحَيِّزِ تَبَعًا لِحُصُولِ مَحَلِّهِ فِيهِ، وهَذا أيْضًا إنَّما يُعْقَلُ في حَقِّ الأجْسامِ لا في حَقِّ اللَّهِ تَعالى.
وثالِثُها: حُصُولُهُ في الشَّيْءِ عَلى مِثالِ حُصُولِ الصِّفاتِ الإضافِيَّةِ لِلذَّواتِ فَنَقُولُ: هَذا أيْضًا باطِلٌ لِأنَّ المَعْقُولَ مِن هَذِهِ التَّبَعِيَّةِ الِاحْتِياجُ فَلَوْ كانَ اللَّهُ تَعالى في شَيْءٍ بِهَذا المَعْنى لَكانَ مُحْتاجًا فَكانَ مُمْكِنًا فَكانَ مُفْتَقِرًا إلى المُؤَثِّرِ، وذَلِكَ مُحالٌ، وإذا ثَبَتَ أنَّهُ لا يُمْكِنُ تَفْسِيرُ هَذا الحُلُولِ بِمَعْنًى مُلَخَّصٍ يُمْكِنُ إثْباتُهُ في حَقِّ اللَّهِ تَعالى امْتَنَعَ إثْباتُهُ.
المَقامُ الثّانِي: احْتَجَّ الأصْحابُ عَلى نَفْيِ الحُلُولِ مُطْلَقًا بِأنْ قالُوا: لَوْ حَلَّ لَحَلَّ، إمّا مَعَ وُجُوبِ أنْ يَحِلَّ أوْ مَعَ جَوازِ أنْ يَحِلَّ والقِسْمانِ باطِلانِ، فالقَوْلُ بِالحُلُولِ باطِلٌ، وإنَّما قُلْنا: إنَّهُ لا يَجُوزُ أنْ يَحِلَّ مَعَ وُجُوبِ أنْ (p-١٨٠)يَحِلَّ لِأنَّ ذَلِكَ يَقْتَضِي إمّا حُدُوثَ اللَّهِ تَعالى أوْ قِدَمَ المَحَلِّ وكَلاهُما باطِلانِ؛ لِأنّا دَلَّلْنا عَلى أنَّ اللَّهَ قَدِيمٌ. وعَلى أنَّ الجِسْمَ مُحْدَثٌ؛ ولِأنَّهُ لَوْ حَلَّ مَعَ وُجُوبِ أنْ يَحِلَّ لَكانَ مُحْتاجًا إلى المَحَلِّ والمُحْتاجُ إلى الغَيْرِ مُمْكِنٌ لِذاتِهِ لا يَكُونُ واجِبًا لِذاتِهِ، وإنَّما قُلْنا: إنَّهُ لا يَجُوزُ أنْ يَحِلَّ مَعَ جَوازِ أنْ يَحِلَّ؛ لِأنَّهُ لَمّا كانَتْ ذاتُهُ واجِبَةَ الوُجُودِ لِذاتِها، وحُلُولُهُ في المَحَلِّ أمْرٌ جائِزٌ، والمَوْصُوفُ بِالوُجُوبِ غَيْرُ ما هو مَوْصُوفٌ بِالجَوازِ؛ فَيَلْزَمُ أنْ يَكُونَ حُلُولُهُ في المَحَلِّ أمْرًا زائِدًا عَلى ذاتِهِ، وذَلِكَ مُحالٌ لِوَجْهَيْنِ:
أحَدُهُما: أنَّ حُلُولَهُ في المَحَلِّ لَوْ كانَ زائِدًا عَلى ذاتِهِ؛ لَكانَ حُلُولُ ذَلِكَ الزّائِدِ في مَحَلِّهِ زائِدًا عَلى ذاتِهِ، أوْ لَزِمَ التَّسَلْسُلُ وهو مُحالٌ.
والثّانِي: أنَّ حُلُولَهُ في ذَلِكَ لَمّا كانَ زائِدًا عَلى ذاتِهِ، فَإذا حَلَّ في مَحَلٍّ؛ وجَبَ أنْ يَحِلَّ فِيهِ صِفَةٌ مُحْدَثَةٌ، وذَلِكَ مُحالٌ؛ لِأنَّهُ لَوْ كانَ قابِلًا لِلْحَوادِثِ؛ لَكانَتْ تِلْكَ القابِلِيَّةُ مِن لَوازِمِ ذاتِهِ، وكانَتْ حاصِلَةً أزَلًا، وذَلِكَ مُحالٌ؛ لِأنَّ وُجُودَ الحَوادِثِ في الأزَلِ مُحالٌ، فَحُصُولُ قابِلِيَّتِها وجَبَ أنْ يَكُونَ مُمْتَنِعَ الحُصُولِ؛ فَإنْ قِيلَ: لِمَ لا يَجُوزُ أنْ يَحِلَّ مَعَ وُجُوبِ أنْ يَحِلَّ؛ لِأنَّهُ يَلْزَمُ إمّا حُدُوثُ الحالِّ أوْ قِدَمُ المَحَلِّ ؟
قُلْنا: لا نُسَلِّمُ وُجُوبَ أحَدِ الأمْرَيْنِ، ولِمَ لا يَجُوزُ أنْ يُقالَ: إنَّ ذاتَهُ تَقْتَضِي الحُلُولَ بِشَرْطِ وُجُودِ المَحَلِّ ؟
فَفِي الأزَلِ ما وُجِدَ المَحَلُّ فَلَمْ يُوجَدْ شَرْطُ هَذا الوُجُوبِ ؟ فَلا جَرَمَ لَمْ يَجِبِ الحُلُولُ، وفِيما لا يَزالُ حَصَلَ هَذا الشَّرْطُ فَلا جَرَمَ وجَبَ.
سَلَّمْنا أنَّهُ يَلْزَمُ؛ إمّا حُدُوثُ الحالِّ أوْ قِدَمُ المَحَلِّ؛ فَلِمَ لا يَجُوزُ قَوْلُهُ: إنّا دَلَّلْنا عَلى حُدُوثِ الأجْسامِ ؟ قُلْنا: لِمَ لا يَجُوزُ أنْ يَكُونَ مَحَلُّهُ لَيْسَ بِجِسْمٍ، ولَكِنَّهُ يَكُونُ عَقْلًا أوْ نَفْسًا أوْ هَيُولى عَلى ما يُثْبِتُهُ بَعْضُهم، ودَلِيلُكم عَلى حُدُوثِ الأجْسامِ لا يَقْبَلُ حُدُوثَ هَذِهِ الأشْياءِ ؟
قَوْلُهُ ثانِيًا: لَوْ حَلَّ مَعَ وُجُوبِ أنْ يَحِلَّ؛ لَكانَ مُحْتاجًا إلى المَحَلِّ، قُلْنا: لا نُسَلِّمُ وُجُوبَ أحَدِ الأمْرَيْنِ بَلْ هَهُنا احْتِمالانِ آخَرانِ:
أحَدُهُما: أنَّ العِلَّةَ وإنِ امْتَنَعَ انْفِكاكُها عَنِ المَعْلُولِ لَكِنَّها لا تَكُونُ مُحْتاجَةً إلى المَعْلُولِ فَلِمَ لا يَجُوزُ أنْ يُقالَ: إنَّ ذاتَهُ غَنِيَّةٌ عَنْ ذَلِكَ المَحَلِّ ولَكِنَّ ذاتَهُ تُوجِبُ حُلُولَ نَفْسِها في ذَلِكَ المَعْلُولِ فَيَكُونُ وُجُوبُ حُلُولِها في ذَلِكَ المَحَلِّ مِن مَعْلُولاتِ ذاتِهِ، وقَدْ ثَبَتَ أنَّ العِلَّةَ وإنِ اسْتَحالَ انْفِكاكُها عَنِ المَعْلُولِ لَكِنَّ ذَلِكَ لا يَقْتَضِي احْتِياجَها إلى المَعْلُولِ.
الثّانِي: أنْ يُقالَ إنَّهُ في ذاتِهِ يَكُونُ غَنِيًّا عَنِ المَحَلِّ وعَنِ الحُلُولِ، إلّا أنَّ المَحَلَّ يُوجِبُ لِذاتِهِ صِفَةَ الحُلُولِ، فالمُفْتَقِرُ إلى المَحَلِّ صِفَةٌ مِن صِفاتِهِ وهي حُلُولُهُ في ذَلِكَ المَحَلِّ فَأمّا ذاتُهُ فَلا، ولا يَلْزَمُ مِنَ افْتِقارِ صِفَةٍ مِن صِفاتِهِ الإضافِيَّةِ إلى الغَيْرِ افْتِقارُ ذاتِهِ إلى الغَيْرِ وذَلِكَ لِأنَّ جَمِيعَ الصِّفاتِ الإضافِيَّةِ الحاصِلَةِ لَهُ مِثْلَ كَوْنِهِ أوَّلًا وآخِرًا ومُقارِنًا ومُؤَثِّرًا ومَعْلُومًا ومَذْكُورًا مِمّا لا يَتَحَقَّقُ إلّا عِنْدَ حُصُولِ التَّحَيُّزِ، وكَيْفَ لا والإضافاتُ لا بُدَّ في تَحَقُّقِها مِن أمْرَيْنِ ؟ سَلَّمْنا ذَلِكَ، فَلِمَ لا يَجُوزُ أنْ يَحِلَّ مَعَ جَوازِ أنْ يَحِلَّ، قَوْلُهُ يَلْزَمُ أنْ يَكُونَ حُلُولُهُ فِيهِ زائِدًا عَلَيْهِ، ويَلْزَمُ التَّسَلْسُلُ ؟
قُلْنا: حُلُولُهُ في المَحَلِّ لَمّا كانَ جائِزًا كانَ حُلُولُهُ في المَحَلِّ زائِدًا عَلَيْهِ، أمّا كَوْنُ ذَلِكَ الحُلُولِ حالًّا في المَحَلِّ أمْرٌ واجِبٌ فَلا يَلْزَمُ أنْ يَكُونَ حُلُولُ الحُلُولِ زائِدًا عَلَيْهِ فَلا يَلْزَمُ التَّسَلْسُلُ.
قَوْلُهُ ثانِيًا: يَلْزَمُ أنْ يَصِيرَ مَحَلَّ الحَوادِثِ، قُلْنا: لِمَ لا يَجُوزُ ذَلِكَ، قَوْلُهُ: يَلْزَمُ أنْ يَكُونَ قابِلًا لِلْحَوادِثِ في الأزَلِ ؟
قُلْنا: لا شَكَّ أنَّ تَمَكُّنَهُ مِنَ الإيجادِ ثابِتٌ لَهُ إمّا لِذاتِهِ أوْ لِأمْرٍ يَنْتَهِي إلى ذاتِهِ، وكَيْفَ كانَ فَيَلْزَمُ صِحَّةُ كَوْنِهِ مُؤَثِّرًا في الأزَلِ فَكُلُّ ما ذَكَرْتُمُوهُ في المُؤَثِّرِيَّةِ فَنَحْنُ نَذْكُرُهُ في القابِلِيَّةِ ؟
والجَوابُ: أنّا نُقَرِّرُ هَذِهِ الدَّلالَةَ عَلى وجْهٍ آخَرَ (p-١٨١)بِحَيْثُ تَسْقُطُ عَنْها هَذِهِ الأسْئِلَةُ، فَنَقُولُ: ذاتُهُ، إمّا أنْ تَكُونَ كافِيَةً اقْتِضاءَ هَذا الحُلُولِ أوْ لا تَكُونُ كافِيَةً في ذَلِكَ فَإنْ كانَ الأوَّلُ اسْتَحالَ تَوَقُّفُ ذَلِكَ الِاقْتِضاءِ عَلى حُصُولِ شَرْطٍ فَيَعُودُ ما قُلْنا: إنَّهُ يَلْزَمُ إمّا قِدَمُ المَحَلِّ أوْ حُدُوثُ الحالِّ، وإنْ كانَ الثّانِي كانَ كَوْنُهُ مُقْتَضِيًا لِذَلِكَ الحُلُولِ أمْرًا زائِدًا عَلى ذاتِهِ حادِثًا فِيهِ فَعَلى التَّقْدِيراتِ كُلِّها يَلْزَمُ مِن حُدُوثِ حُلُولِهِ في مَحَلِّ حُدُوثِ شَيْءٍ فِيهِ لَكِنْ يَسْتَحِيلُ أنْ يَكُونَ قابِلًا لِلْحَوادِثِ، وإلّا لَزِمَ أنْ يَكُونَ في الأزَلِ قابِلًا لَها وهو مُحالٌ عَلى ما بَيَّنّاهُ، وأمّا المُعارَضَةُ بِالقُدْرَةِ فَغَيْرُ وارِدَةٍ؛ لِأنَّهُ تَعالى لِذاتِهِ قادِرٌ عَلى الإيجادِ في الأزَلِ فَهو قادِرٌ عَلى الإيجادِ فِيما لا يَزالُ فَهَهُنا أيْضًا لَوْ كانَتْ ذاتُهُ قابِلَةً لِلْحَوادِثِ؛ لَكانَتْ في الأزَلِ قابِلَةً لَها فَحِينَئِذٍ يَلْزَمُ المُحالُ المَذْكُورُ. هَذا تَمامُ القَوْلِ في هَذِهِ الأدِلَّةِ، ولَنا في إبْطالِ قَوْلِ النَّصارى وُجُوهٌ أُخَرُ:
أحَدُها: أنَّهم وافَقُونا عَلى أنَّ ذاتَهُ سُبْحانَهُ وتَعالى لَمْ تَحِلَّ في ناسُوتِ عِيسى عَلَيْهِ السَّلامُ بَلْ قالُوا: الكَلِمَةُ حَلَّتْ فِيهِ، والمُرادُ مِنَ الكَلِمَةِ العِلْمُ.
فَنَقُولُ: العِلْمُ لَمّا حَلَّ في عِيسى فَفي تِلْكَ الحالَةِ إمّا أنْ يُقالَ إنَّهُ بَقِيَ في ذاتِ اللَّهِ تَعالى أوْ ما بَقِيَ فِيها، فَإنْ كانَ الأوَّلُ؛ لَزِمَ حُصُولُ الصِّفَةِ الواحِدَةِ في مَحِلَّيْنِ، وذَلِكَ غَيْرُ مَعْقُولٍ، ولِأنَّهُ لَوْ جازَ أنْ يُقالَ العِلْمُ الحاصِلُ في ذاتِ عِيسى عَلَيْهِ السَّلامُ هو العِلْمُ الحاصِلُ في ذاتِ اللَّهِ تَعالى بِعَيْنِهِ، فَلِمَ لا يَجُوزُ في حَقِّ كُلِّ واحِدٍ ذَلِكَ حَتّى يَكُونَ العِلْمُ الحاصِلُ لِكُلِّ واحِدٍ هو العِلْمُ الحاصِلُ لَذاتِ اللَّهِ تَعالى، وإنْ كانَ الثّانِي لَزِمَ أنْ يُقالَ: إنَّ اللَّهَ تَعالى لَمْ يَبْقَ عالِمًا بَعْدَ حُلُولِ عِلْمِهِ في عِيسى عَلَيْهِ السَّلامُ وذَلِكَ مِمّا لا يَقُولُهُ عاقِلٌ.
وثانِيها: مُناظَرَةٌ جَرَتْ بَيْنِي وبَيْنَ بَعْضِ النَّصارى، فَقُلْتُ لَهُ: هَلْ تُسَلِّمُ أنَّ عَدَمَ الدَّلِيلِ لا يَدُلُّ عَلى عَدَمِ المَدْلُولِ أمْ لا ؟ فَإنْ أنْكَرْتَ لَزِمَكَ أنْ لا يَكُونَ اللَّهُ تَعالى قَدِيمًا؛ لِأنَّ دَلِيلَ وُجُودِهِ هو العالَمُ، فَإذا لَزِمَ مِن عَدَمِ الدَّلِيلِ عَدَمُ المَدْلُولِ؛ لَزِمَ مِن عَدَمِ العالَمِ في الأزَلِ عَدَمُ الصّانِعِ في الأزَلِ، وإنْ سَلَّمْتَ أنَّهُ لا يَلْزَمُ مِن عَدَمِ الدَّلِيلِ عَدَمُ المَدْلُولِ.
فَنَقُولُ: إذا جَوَّزْتَ اتِّحادَ كَلِمَةِ اللَّهِ تَعالى بِعِيسى أوْ حُلُولَها فِيهِ؛ فَكَيْفَ عَرَفْتَ أنَّ كَلِمَةَ اللَّهِ تَعالى ما دَخَلَتْ في زَيْدٍ وعَمْرٍو ؟ بَلْ كَيْفَ أنَّها ما حَلَّتْ في هَذِهِ الهِرَّةِ وفي هَذا الكَلْبِ ؟
فَقالَ لِي: إنَّ هَذا السُّؤالَ لا يَلِيقُ بِكَ لِأنّا إنَّما أثْبَتْنا ذَلِكَ الِاتِّحادَ أوِ الحُلُولَ بِناءً عَلى ما ظَهَرَ عَلى يَدِ عِيسى عَلَيْهِ السَّلامُ مِن إحْياءِ المَوْتى وإبْراءِ الأكْمَهِ والأبْرَصِ، فَإذا لَمْ نَجِدْ شَيْئًا مِن ذَلِكَ ظَهَرَ عَلى يَدِ غَيْرِهِ؛ فَكَيْفَ نُثْبِتُ الِاتِّحادَ أوِ الحُلُولَ ؟
فَقُلْتُ لَهُ: إنِّي عَرَفْتُ مِن هَذا الكَلامِ أنَّكَ ما عَرَفْتَ أوَّلَ الكَلامِ؛ لِأنَّكَ سَلَّمْتَ لِي أنَّ عَدَمَ الدَّلِيلِ لا يَدُلُّ عَلى عَدَمِ المَدْلُولِ، فَإذا كانَ هَذا الحُلُولُ غَيْرَ مُمْتَنِعٍ في الجُمْلَةِ فَأكْثَرُ ما في البابِ أنَّهُ وُجِدَ ما يَدُلُّ عَلى حُصُولِهِ في حَقِّ عِيسى عَلَيْهِ السَّلامُ ولَمْ يُوجَدْ ذَلِكَ الدَّلِيلُ في حَقِّ زَيْدٍ وعَمْرٍو ولَكِنَّ عَدَمَ الدَّلِيلِ لا يَدُلُّ عَلى عَدَمِ المَدْلُولِ؛ فَلا يَلْزَمُ مِن عَدَمِ ظُهُورِ هَذِهِ الخَوارِقِ عَلى يَدِ زَيْدٍ وعَمْرٍو وعَلى السِّنَّوْرِ والكَلْبِ عَدَمُ ذَلِكَ الحُلُولِ، فَثَبَتَ أنَّكَ مَهْما جَوَّزْتَ القَوْلَ بِالِاتِّحادِ والحُلُولِ لَزِمَكَ تَجْوِيزُ حُصُولِ ذَلِكَ الِاتِّحادِ وذَلِكَ الحُلُولِ في حَقِّ كُلِّ واحِدٍ بَلْ في حَقِّ كُلِّ حَيَوانٍ ونَباتٍ ولا شَكَّ أنَّ المَذْهَبَ الَّذِي يَسُوقُ قائِلَهُ إلى مِثْلِ هَذا القَوْلِ الرَّكِيكِ يَكُونُ باطِلًا قَطْعًا.
ثُمَّ قُلْتُ لَهُ: وكَيْفَ دَلَّ إحْياءُ المَوْتى وإبْراءُ الأكْمَهِ والأبْرَصِ عَلى ما قُلْتَ ؟ ألَيْسَ أنَّ انْقِلابَ العَصا ثُعْبانًا أبْعَدُ مِنَ انْقِلابِ المَيِّتِ حَيًّا ؟ فَإذا ظَهَرَ ذَلِكَ عَلى يَدِ مُوسى عَلَيْهِ السَّلامُ ولَمْ يَدُلَّ عَلى إلَهِيَّتِهِ فَبِأنْ لا يَدُلُّ هَذا عَلى إلَهِيَّةِ عِيسى أوْلى.
(p-١٨٢)وثالِثُها: أنّا نَقُولُ دَلالَةُ أحْوالِ عِيسى عَلى العُبُودِيَّةِ أقْوى مِن دَلالَتِها عَلى الرُّبُوبِيَّةِ؛ لِأنَّهُ كانَ مُجْتَهِدًا في العِبادَةِ، والعِبادَةُ لا تَلِيقُ إلّا بِالعَبِيدِ فَإنَّهُ كانَ في نِهايَةِ البُعْدِ عَنِ الدُّنْيا والِاحْتِرازِ عَنْ أهْلِها حَتّى قالَتِ النَّصارى إنَّ اليَهُودَ قَتَلُوهُ ومَن كانَ في الضَّعْفِ هَكَذا، فَكَيْفَ تَلِيقُ بِهِ الرُّبُوبِيَّةُ ؟
ورابِعُها: المَسِيحُ إمّا أنْ يَكُونَ قَدِيمًا أوْ مُحْدَثًا والقَوْلُ بِقِدَمِهِ باطِلٌ؛ لِأنّا نَعْلَمُ بِالضَّرُورَةِ أنَّهُ وُلِدَ وكانَ طِفْلًا ثُمَّ صارَ شابًّا وكانَ يَأْكُلُ ويَشْرَبُ ويَعْرِضُ لَهُ ما يَعْرِضُ لِسائِرِ البَشَرِ، وإنْ كانَ مُحْدَثًا كانَ مَخْلُوقًا ولا مَعْنى لِلْعُبُودِيَّةِ إلّا ذَلِكَ، فَإنْ قِيلَ: المَعْنى بِإلَهِيَّتِهِ أنَّهُ حَلَّتْ صِفَةُ الإلَهِيَّةِ فِيهِ، قُلْنا: هَبْ أنَّهُ كانَ كَذَلِكَ لَكِنَّ الحالَّ هو صِفَةُ الإلَهِ، والمَسِيحُ هو المَحَلُّ والمَحَلُّ مُحْدَثٌ مَخْلُوقٌ فَما هو المَسِيحُ (إلّا) عَبْدٌ مُحْدَثٌ؛ فَكَيْفَ يُمْكِنُ وصْفُهُ بِالإلَهِيَّةِ ؟
وخامِسُها: أنَّ الوَلَدَ لا بُدَّ وأنْ يَكُونَ مِن جِنْسِ الوالِدِ فَإنْ كانَ لِلَّهِ ولَدٌ فَلا بُدَّ وأنْ يَكُونَ مِن جِنْسِهِ فَإذَنْ قَدِ اشْتَرَكا مِن بَعْضِ الوُجُوهِ، فَإنْ لَمْ يَتَمَيَّزْ أحَدُهُما عَنِ الآخَرِ بِأمْرٍ ما فَكُلُّ واحِدٍ مِنهُما هو الآخَرُ، وإنْ حَصَلَ الِامْتِيازُ فَما بِهِ الِامْتِيازُ غَيْرُ ما بِهِ الِاشْتِراكُ، فَيَلْزَمُ وُقُوعُ التَّرْكِيبِ في ذاتِ اللَّهِ وكُلُّ مُرَكَّبٍ مُمْكِنٌ، فالواجِبُ مُمْكِنٌ، هَذا خُلْفٌ مُحالٌ هَذا كُلُّهُ عَلى الِاتِّحادِ والحُلُولِ.
أمّا الِاحْتِمالُ الثّالِثُ: وهو أنْ يُقالَ مَعْنى كَوْنِهِ إلَهًا أنَّهُ سُبْحانَهُ خَصَّ نَفْسَهُ أوْ بَدَنَهُ بِالقُدْرَةِ عَلى خَلْقِ الأجْسامِ والتَّصَرُّفِ في هَذا العالَمِ فَهَذا أيْضًا باطِلٌ لِأنَّ النَّصارى حَكَوْا عَنْهُ الضَّعْفَ والعَجْزَ وأنَّ اليَهُودَ قَتَلُوهُ ولَوْ كانَ قادِرًا عَلى خَلْقِ الأجْسامِ لَما قَدَرُوا عَلى قَتْلِهِ بَلْ كانَ هو يَقْتُلُهم ويَخْلُقُ لِنَفْسِهِ عَسْكَرًا يَذُبُّونَ عَنْهُ.
وأمّا الِاحْتِمالُ الرّابِعُ: وهو أنَّهُ اتَّخَذَهُ ابْنًا لِنَفْسِهِ عَلى سَبِيلِ التَّشْرِيفِ فَهَذا قَدْ قالَ بِهِ قَوْمٌ مِنَ النَّصارى يُقالُ لَهُمُ الأرْمِيُوسِيَّةُ ولَيْسَ فِيهِ كَثِيرُ خَطَأٍ إلّا في اللَّفْظِ فَهَذا جُمْلَةُ الكَلامِ عَلى النَّصارى وبِهِ ثَبَتَ صِدْقُ ما حَكاهُ اللَّهُ تَعالى عَنْهُ أنَّهُ قالَ: إنِّي عَبْدُ اللَّهِ.
* * *
الصِّفَةُ الثّانِيَةُ: قَوْلُهُ تَعالى: ﴿آتانِيَ الكِتابَ﴾ وفِيهِ مَسائِلُ:
المَسْألَةُ الأُولى: اخْتَلَفَ النّاسُ فِيهِ فالجُمْهُورُ عَلى أنَّهُ قالَ هَذا الكَلامَ حالَ صِغَرِهِ، وقالَ أبُو القاسِمِ البَلْخِيُّ: إنَّهُ إنَّما قالَ ذَلِكَ حِينَ كانَ كالمُراهِقِ الَّذِي يَفْهَمُ وإنْ لَمْ يَبْلُغْ حَدَّ التَّكْلِيفِ أمّا الأوَّلُونَ فَلَهم قَوْلانِ:
أحَدُهُما: أنَّهُ كانَ في ذَلِكَ الصِّغَرِ نَبِيًّا.
الثّانِي: رُوِيَ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما أنَّهُ قالَ: المُرادُ بِأنْ حَكَمَ وقَضى بِأنَّهُ سَيَبْعَثُنِي مِن بَعْدُ ولَمّا تَكَلَّمَ بِذَلِكَ سَكَتَ وعادَ إلى حالِ الصِّغَرِ. ولَمّا بَلَغَ ثَلاثِينَ سَنَةً بَعَثَهُ اللَّهُ نَبِيًّا، واحْتَجَّ مَن نَصَّ عَلى فَسادِ القَوْلِ الأوَّلِ بِأُمُورٍ:
أحَدُها: أنَّ النَّبِيَّ لا يَكُونُ إلّا كامِلًا والصَّغِيرُ ناقِصُ الخِلْقَةِ بِحَيْثُ يُعَدُّ هَذا التَّحَدِّي مِنَ الصَّغِيرِ مُنَفِّرًا بَلْ هو في التَّنْفِيرِ أعْظَمُ مِن أنْ يَكُونَ امْرَأةً.
وثانِيها: أنَّهُ لَوْ كانَ نَبِيًّا في هَذا الصِّغَرِ لَكانَ كَمالُ عَقْلِهِ مُقَدَّمًا عَلى ادِّعائِهِ لِلنُّبُوَّةِ إذِ النَّبِيُّ لا بُدَّ وأنْ يَكُونَ كامِلَ العَقْلِ لَكِنَّ كَمالَ عَقْلِهِ في ذَلِكَ الوَقْتِ خارِقٌ لِلْعادَةِ فَيَكُونُ المُعْجِزُ مُتَقَدِّمًا عَلى التَّحَدِّي وإنَّهُ غَيْرُ جائِزٍ.
وثالِثُها: أنَّهُ لَوْ كانَ نَبِيًّا في ذَلِكَ الوَقْتِ لَوَجَبَ أنْ يَشْتَغِلَ بِبَيانِ الأحْكامِ، وتَعْرِيفِ الشَّرائِعِ ولَوْ وقَعَ ذَلِكَ لاشْتُهِرَ ولَنُقِلَ فَحَيْثُ لَمْ يَحْصُلْ ذَلِكَ عَلِمْنا أنَّهُ ما كانَ نَبِيًّا في ذَلِكَ الوَقْتِ. أجابَ الأوَّلُونَ عَنِ الكَلامِ الأوَّلِ بِأنَّ كَوْنَ الصَّبِيِّ ناقِصًا لَيْسَ لِذاتِهِ بَلِ الأمْرُ يَرْجِعُ إلى صِغَرِ جِسْمِهِ ونُقْصانِ فَهْمِهِ، فَإذا أزالَ اللَّهُ تَعالى هَذِهِ الأشْياءَ لَمْ تَحْصُلِ النَّفْرَةُ بَلْ تَكُونُ الرَّغْبَةُ إلى اسْتِماعِ قَوْلِهِ وهو عَلى هَذِهِ الصِّفَةِ أتَمَّ وأكْمَلَ.
وعَنِ الكَلامِ الثّانِي لِمَ لا يَجُوزُ أنْ يُقالَ إكْمالُ عَقْلِهِ وإنْ حَصَلَ مُقَدَّمًا عَلى دَعْواهُ إلّا أنَّهُ مُعْجِزَةٌ لِزَكَرِيّا عَلَيْهِ السَّلامُ ؟ أوْ يُقالُ: إنَّهُ إرْهاصٌ لِنُبُوَّتِهِ أوْ كَرامَةٌ لِمَرْيَمَ عَلَيْها السَّلامُ وعِنْدَنا الإرْهاصُ والكَراماتُ جائِزَةٌ.
وعَنِ الكَلامِ الثّالِثِ لِمَ لا يَجُوزُ أنْ يُقالَ مُجَرَّدُ بَعْثَتِهِ إلَيْهِمْ مِن غَيْرِ بَيانِ شَيْءٍ مِنَ الشَّرائِعِ والأحْكامِ جائِزٌ ثُمَّ بَعْدَ البُلُوغِ أخَذَ في شَرْحِ تِلْكَ الأحْكامِ، فَثَبَتَ (p-١٨٣)بِهَذا أنَّهُ لا امْتِناعَ في كَوْنِهِ نَبِيًّا في ذَلِكَ الوَقْتِ ؟
وقَوْلُهُ: ﴿آتانِيَ الكِتابَ﴾ يَدُلُّ عَلى كَوْنِهِ نَبِيًّا في ذَلِكَ الوَقْتِ فَوَجَبَ إجْراؤُهُ عَلى ظاهِرِهِ بِخِلافِ ما قالَهُ عِكْرِمَةُ، أمّا قَوْلُ أبِي القاسِمِ البَلْخِيِّ فَبَعِيدٌ وذَلِكَ لِأنَّ الحاجَةَ إلى كَلامِ عِيسى عَلَيْهِ السَّلامُ إنَّما كانَتْ عِنْدَ وُقُوعِ التُّهْمَةِ عَلى مَرْيَمَ عَلَيْها السَّلامُ.
المَسْألَةُ الثّانِيَةُ: اخْتَلَفُوا في ذَلِكَ الكِتابِ فَقالَ بَعْضُهم هو التَّوْراةُ؛ لِأنَّ الألِفَ واللّامَ في الكِتابِ تَنْصَرِفُ لِلْمَعْهُودِ والكِتابُ المَعْهُودُ لَهم هو التَّوْراةُ، وقالَ أبُو مُسْلِمٍ: المُرادُ هو الإنْجِيلُ؛ لِأنَّ الألِفَ واللّامَ هَهُنا لِلْجِنْسِ أيْ: آتانِي مِن هَذا الجِنْسِ، وقالَ قَوْمٌ: المُرادُ هو التَّوْراةُ والإنْجِيلُ؛ لِأنَّ الألِفَ واللّامَ تُفِيدُ الِاسْتِغْراقَ.
المَسْألَةُ الثّالِثَةُ: اخْتَلَفُوا في أنَّهُ مَتى آتاهُ الكِتابَ ؟ ومَتى جَعَلَهُ نَبِيًّا ؟ لِأنَّ قَوْلَهُ: ﴿آتانِيَ الكِتابَ وجَعَلَنِي نَبِيًّا﴾ يَدُلُّ عَلى أنَّ ذَلِكَ كانَ قَدْ حَصَلَ مِن قَبْلُ إمّا مُلاصِقًا لِذَلِكَ الكَلامِ أوْ مُتَقَدِّمًا عَلَيْهِ بِأزْمانٍ، والظّاهِرُ أنَّهُ مِن قَبْلِ أنْ كَلَّمَهم آتاهُ اللَّهُ الكِتابَ وجَعَلَهُ نَبِيًّا وأمَرَهُ بِالصَّلاةِ والزَّكاةِ وأنْ يَدْعُوَ إلى اللَّهِ تَعالى وإلى دِينِهِ وإلى ما خُصَّ بِهِ مِنَ الشَّرِيعَةِ، فَقِيلَ هَذا الوَحْيُ نَزَلَ عَلَيْهِ وهو في بَطْنِ أُمِّهِ، وقِيلَ لَمّا انْفَصَلَ مِنَ الأُمِّ آتاهُ اللَّهُ الكِتابَ والنُّبُوَّةَ وأنَّهُ تَكَلَّمَ مَعَ أُمِّهِ وأخْبَرَها بِحالِهِ وأخْبَرَها بِأنَّهُ يُكَلِّمُهم بِما يَدُلُّ عَلى بَراءَةِ حالِها فَلِهَذا أشارَتْ إلَيْهِ بِالكَلامِ.
{"ayah":"قَالَ إِنِّی عَبۡدُ ٱللَّهِ ءَاتَىٰنِیَ ٱلۡكِتَـٰبَ وَجَعَلَنِی نَبِیࣰّا"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق