الباحث القرآني
قوله عزّ وجلّ:
﴿فَأشارَتْ إلَيْهِ قالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَن كانَ في المَهْدِ صَبِيًّا﴾ ﴿قالَ إنِّي عَبْدُ اللهِ آتانِيَ الكِتابَ وجَعَلَنِي نَبِيًّا﴾ ﴿وَجَعَلَنِي مُبارَكًا أيْنَ ما كُنْتُ وأوصانِي بِالصَلاةِ والزَكاةِ ما دُمْتُ حَيًّا﴾ ﴿وَبَرًّا بِوالِدَتِي ولَمْ يَجْعَلْنِي جَبّارًا شَقِيًّا﴾ ﴿والسَلامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ ويَوْمَ أمُوتُ ويَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا﴾
التَزَمَتْ مَرْيَمُ عَلَيْها السَلامُ ما أُمِرَتْ بِهِ مِن تَرْكِ الكَلامِ، ولَمْ يَرِدْ في هَذِهِ الآيَةِ أنَّها نَطَقَتْ بِـ ﴿إنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا﴾ [مريم: ٢٦]، وإنَّما ورَدَ أنَّها أشارَتْ، فَيَقْوى بِهَذا قَوْلُ مَن قالَ: إنَّ أمْرَها في "فَقُولِي" إنَّما أُرِيدَ بِهِ الإشارَةُ، ويُرْوى أنَّهم - لَمّا أشارَتْ إلى الطِفْلِ - قالُوا: اسْتِخْفافُها بِنا أشَدُّ عَلَيْنا مِن زِناها، ثُمْ قالُوا لَها - عَلى جِهَةِ التَقْرِيرِ - ﴿كَيْفَ نُكَلِّمُ مَن كانَ في المَهْدِ صَبِيًّا﴾ ؟
و"كانَ" هُنا لَيْسَ يُرادُ بِها المُضِيُّ؛ لِأنَّ كُلَّ واحِدٍ قَدْ كانَ في المَهْدِ صَبِيًّا، وإنَّما هي في مَعْنى: هو "الآنَ"، ويُحْتَمَلُ أنْ تَكُونَ الناقِصَةَ، والأظْهَرُ أنَّها التامَّةُ، وقَدْ قالَ أبُو عُبَيْدَةَ: "كانَ" هُنا لَغْوٌ. وقالَ الزَجّاجُ والفَرّاءُ: "مَن" شَرْطِيَّةٌ في قَوْلِهِ تَبارَكَ وتَعالى: ﴿مَن كانَ﴾.
(p-٢٩)قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللهُ:
ونَظِيرُ "كانَ" هَذِهِ قَوْلُ رُؤْبَةَ:
؎ والرَأْسُ قَدْ كانَ لَهُ قَتِيرٌ
و"صَبِيًّا" إمّا خَبَرُ "كانَ" عَلى تَجَوُّزٍ وتَخَيُّلٍ في كَوْنِها ناقِصَةً، وإمّا حالٌ [إذا قُدِّرَتْ زائِدَةً أو تامَّةً] لِاسْتِقْرارِ المُقَدَّرِ في الكَلامِ.
ورُوِيَ أنَّ المَهْدَ يُرادُ بِهِ حِجْرُ أُمِّهِ، قالَ لَهم عِيسى مِن مَرْقَدِهِ: "إنِّي عَبْدُ اللهِ" الآيَةُ، ورُوِيَ أنَّهُ قامَ مُتَّكِئًا عَلى يَسارِهِ، وأشارَ إلَيْهِمْ بِسَبّابَتِهِ اليُمْنى. و"الكِتابُ": التَوْراةُ، ويُحْتَمَلُ التَوْراةُ والإنْجِيلُ، و"آتانِيَ" مَعْناهُ: قَضى بِذَلِكَ وأنْفَذَهُ في سابِقِ حُكْمِهِ، وهَذا نَحْوُ قَوْلِهِ عَزَّ وجَلَّ: ﴿أتى أمْرُ اللهِ﴾ [النحل: ١] وغَيْرُ هَذا، وأمالَ الكِسائِيُّ "آتانِيَ" و"أوصانِيَ"، والباقُونَ لا يُمِيلُونَ، قالَ أبُو عَلِيٍّ: الإمالَةُ في "آتانِيَ" أحْسَنُ لا في "أوصانِيَ". و"مُبارَكًا" قالَ مُجاهِدٌ: مَعْناهُ: نَفّاعًا، وقالَ سُفْيانُ الثَوْرِيُّ: مَعْناهُ: مُعَلِّمْ خَيْرٍ، (p-٣٠)وَقِيلَ: آمِرًا بِمَعْرُوفٍ ناهِيًا عن مُنْكَرٍ، وقالَ رَجُلٌ لِبَعْضِ العُلَماءِ: ما الَّذِي أُعْلِنُ مِن عِلْمِي؟ قالَ: الأمْرُ بِالمَعْرُوفِ والنَهْيُ عَنِ المُنْكَرِ؛ فَإنَّهُ دِينُ اللهِ الَّذِي بَعَثَ بِهِ أنْبِياءَهُ، وأسْنَدَ النَقّاشُ عَنِ الضَحّاكِ أنَّهُ قالَ: "مُبارَكًا" مَعْناهُ: قَضّاءٌ لِلْحَوائِجِ.
قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللهُ:
وقَوْلُهُ تَعالى: "مُبارَكًا" يَعُمْ هَذِهِ الوُجُوهَ وغَيْرَها.
و"الصَلاةُ والزَكاةُ" قِيلَ: هُما المَشْرُوعَتانِ في البَدَنِ والمالِ، وقِيلَ: زَكاةُ الرُؤُوسِ في الفِطْرِ، وقِيلَ: الصَلاةُ الدُعاءُ، والزَكاةُ التَطْهِيرُ مِن كُلِّ عَيْبٍ ونَقْصٍ ومَعْصِيَةٍ. وقَرَأ "دُمْتُ" بِضَمِّ الدالِّ عاصِمْ وجَماعَةٌ، وقَرَأ "دِمْتُ" بِكَسْرِها أهْلُ المَدِينَةِ، وابْنُ كَثِيرٍ، وأبُو عَمْرٍو، وجَماعَةٌ.
وقَرَأ الجُمْهُورُ "وَبَرًّا" بِفَتْحِ الباءِ - وهو الكَثِيرُ البِرُّ - ونَصْبُهُ عَلى قَوْلِهِ: "مُبارَكًا"، وقَرَأ أبُو نَهْيِكٍ، وأبُو مِجْلَزٍ، وجَماعَةٌ "بِرًّا" بِكَسْرِ الباءِ، فَقالَ بَعْضُهُمْ: نَصْبُهُ عَلى العَطْفِ عَلى قَوْلِهِ: "مُبارَكًا"، فَكَأنَّهُ قالَ: ذا بِرٍّ، فاتَّصَفَ بِالمَصْدَرِ كَعَدْلٍ ونَحْوِهُ، وقالَ بَعْضُهُمْ: نَصْبُهُ بِقَوْلِهِ: "وَأوصانِي"، أيْ: وأوصانِي بِرًّا بِوالِدَتِي، حَذَفَ الجارَّ، يُرِيدُ: وأوصانِي بِبِرِّ والِدَتِي، وحَكى الزَهْراوِيُّ هَذِهِ القِراءَةَ "وَبِرٍّ" بِالخَفْضِ عَطْفًا عَلى "الزَكاةِ"، وقَوْلُهُ: "بِوالِدَتِي" بَيانٌ لِأنَّهُ لا والِدَ لَهُ، وبِهَذا القَوْلِ بَرَّأها قَوْمُها.
و"الجَبّارُ": المُتَعَظِّمْ، وهي خُلُقٌ مَقْرُونَةُ بِالشَقاءِ لِأنَّها مُناقِضَةٌ لِجَمِيعِ الناسِ فَلا يَلْقى صاحِبُها مِن أحَدٍ إلّا مَكْرُوهًا، وكانَ عِيسى صَلَواتُ اللهِ عَلَيْهِ في غايَةِ التَواضُعِ، يَأْكُلُ الشَجَرَ، ويَلْبَسُ الشَعْرَ، ويَجْلِسُ عَلى التُرابِ، ويَأْوِي حَيْثُ جَنَّهُ اللَيْلُ لا مَسْكَنَ لَهُ، قالَ قَتادَةُ: وكانَ يَقُولُ: سَلُونِي فَإنَّ لَيِّنُ القَلْبِ صَغِيرٌ في نَفْسِي، وقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُ تَسْلِيمِهِ عَلى نَفْسِهِ وإدْلالِهِ في ذَلِكَ، وذِكْرُ المَواطِنِ الَّتِي خَصَّها لِأنَّها أوقاتُ حاجَةِ الإنْسانِ إلى رَحْمَةِ اللهِ.
(p-٣١)وَقالَ مالِكُ بْنُ أنَسٍ رَضِيَ اللهُ عنهُ في هَذِهِ الآيَةِ: ما أشَدَّها عَلى أهْلِ القَدْرِ، أخْبَرَ عِيسى بِما قُضِيَ مِن أمْرِهِ وبِما هو كائِنٌ إلى أنْ يَمُوتَ، وفي قَصَصِ هَذِهِ الآيَةِ عَنِ ابْنِ زَيْدٍ وغَيْرِهِ أنَّهم لَمّا سَمِعُوا كَلامَ عِيسى وهو في المَهْدِ أذْعَنُوا وقالُوا: إنَّ هَذا لَأمْرٌ عَظِيمٌ، ورُوِيَ أنَّ عِيسى عَلَيْهِ السَلامُ إنَّما تَكَلَّمَ في طُفُولَتِهِ بِهَذِهِ الآيَةِ ثُمْ عادَ إلى حالَةِ الأطْفالِ حَتّى نَشَأ عَلى عادَةِ البَشَرِ، وقالَتْ فِرْقَةٌ: إنَّ عِيسى كانَ أُوتِيَ الكُتّابَ وهو في ذَلِكَ السِنِّ، وكانَ يَصُومُ ويُصَلِّي.
قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللهُ:
وهَذا في غايَةِ الضَعْفِ، مُصَرِّحٌ بِجَهالَةِ قائِلِهِ.
{"ayahs_start":29,"ayahs":["فَأَشَارَتۡ إِلَیۡهِۖ قَالُوا۟ كَیۡفَ نُكَلِّمُ مَن كَانَ فِی ٱلۡمَهۡدِ صَبِیࣰّا","قَالَ إِنِّی عَبۡدُ ٱللَّهِ ءَاتَىٰنِیَ ٱلۡكِتَـٰبَ وَجَعَلَنِی نَبِیࣰّا","وَجَعَلَنِی مُبَارَكًا أَیۡنَ مَا كُنتُ وَأَوۡصَـٰنِی بِٱلصَّلَوٰةِ وَٱلزَّكَوٰةِ مَا دُمۡتُ حَیࣰّا","وَبَرَّۢا بِوَ ٰلِدَتِی وَلَمۡ یَجۡعَلۡنِی جَبَّارࣰا شَقِیࣰّا","وَٱلسَّلَـٰمُ عَلَیَّ یَوۡمَ وُلِدتُّ وَیَوۡمَ أَمُوتُ وَیَوۡمَ أُبۡعَثُ حَیࣰّا"],"ayah":"قَالَ إِنِّی عَبۡدُ ٱللَّهِ ءَاتَىٰنِیَ ٱلۡكِتَـٰبَ وَجَعَلَنِی نَبِیࣰّا"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق