الباحث القرآني

قَوْلُهُ تَعالى: ﴿رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ المُلْكِ وعَلَّمْتَنِي مِن تَأْوِيلِ الأحادِيثِ فاطِرَ السَّماواتِ والأرْضِ أنْتَ ولِيِّي في الدُّنْيا والآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وألْحِقْنِي بِالصّالِحِينَ﴾ فِي الآيَةِ مَسائِلُ: المَسْألَةُ الأُولى: رُوِيَ أنَّ يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلامُ أخَذَ بِيَدِ يَعْقُوبَ وطافَ بِهِ في خَزائِنِهِ فَأدْخَلَهُ خَزائِنَ (p-١٧٣)الذَّهَبِ والفِضَّةِ وخَزائِنَ الحُلِيِّ وخَزائِنَ الثِّيابِ وخَزائِنَ السِّلاحِ، فَلَمّا أدْخَلَهُ مَخازِنَ القَراطِيسِ قالَ: يا بُنَيَّ، ما أغْفَلَكَ ! عِنْدَكَ هَذِهِ القَراطِيسُ وما كَتَبْتَ إلَيَّ عَلى ثَمانِ مَراحِلَ ؟ قالَ: نَهانِي جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلامُ عَنْهُ، قالَ: سَلْهُ عَنِ السَّبَبِ، قالَ: أنْتَ أبْسَطُ إلَيْهِ؛ فَسَألَهُ، فَقالَ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلامُ: أمَرَنِي اللَّهُ بِذَلِكَ لِقَوْلِكَ: وأخافُ أنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ، فَهَلّا خِفْتَنِي ! ورُوِيَ أنَّ يَعْقُوبَ عَلَيْهِ السَّلامُ أقامَ مَعَهُ أرْبَعًا وعِشْرِينَ سَنَةً، ولَمّا قَرُبَتْ وفاتُهُ أوْصى إلَيْهِ أنْ يَدْفِنَهُ بِالشّامِ إلى جَنْبِ أبِيهِ إسْحاقَ، فَمَضى بِنَفْسِهِ ودَفَنَهُ، ثُمَّ عادَ إلى مِصْرَ، وعاشَ بَعْدَ أبِيهِ ثَلاثًا وعِشْرِينَ سَنَةً، فَعِنْدَ ذَلِكَ تَمَنّى مُلْكَ الآخِرَةِ فَتَمَنّى المَوْتَ، وقِيلَ: ما تَمَنّاهُ نَبِيٌّ قَبْلَهُ ولا بَعْدَهُ؛ فَتَوَفّاهُ اللَّهُ طَيِّبًا طاهِرًا، فَتَخاصَمَ أهْلُ مِصْرَ في دَفْنِهِ، كُلُّ أحَدٍ يُحِبُّ أنْ يَدْفِنَهُ في مَحَلَّتِهِمْ حَتّى هَمُّوا بِالقِتالِ؛ فَرَأوْا أنَّ الأصْلَحَ أنْ يَعْمَلُوا لَهُ صُنْدُوقًا مِن مَرْمَرٍ ويَجْعَلُوهُ فِيهِ، ويَدْفِنُوهُ في النِّيلِ بِمَكانٍ يَمُرُّ الماءُ عَلَيْهِ، ثُمَّ يَصِلُ إلى مِصْرَ لِتَصِلَ بَرَكَتُهُ إلى كُلِّ أحَدٍ، ووُلِدَ لَهُ إفْرائِيمُ ومِيشا، ووُلِدَ لِإفْرائِيمَ نُونٌ، ولِنُونٍ يُوشَعُ فَتى مُوسى، ثُمَّ دُفِنَ يُوسُفُ هُناكَ إلى أنْ بَعَثَ اللَّهُ مُوسى، فَأخْرَجَ عِظامَهُ مِن مِصْرَ، ودَفَنَها عِنْدَ قَبْرِ أبِيهِ. المَسْألَةُ الثّانِيَةُ: مَن في قَوْلِهِ: ﴿مِنَ المُلْكِ﴾ و﴿مِن تَأْوِيلِ الأحادِيثِ﴾ لِلتَّبْعِيضِ؛ لِأنَّهُ لَمْ يُؤْتَ إلّا بَعْضُ مُلْكِ الدُّنْيا أوْ بَعْضُ مُلْكِ مِصْرَ وبَعْضُ التَّأْوِيلِ، قالَ الأصَمُّ: إنَّما قالَ: مِنَ المُلْكِ، لِأنَّهُ كانَ ذُو مُلْكٍ فَوْقَهُ. واعْلَمْ أنَّ مَراتِبَ المَوْجُوداتِ ثَلاثَةٌ: المُؤَثِّرُ الَّذِي لا يَتَأثَّرُ، وهو الإلَهُ تَعالى وتَقَدَّسَ، والمُتَأثِّرُ الَّذِي لا يُؤَثِّرُ وهو عالَمُ الأجْسامِ، فَإنَّها قابِلَةٌ لِلتَّشْكِيلِ والتَّصْوِيرِ والصِّفاتِ المُخْتَلِفَةِ والأعْراضِ المُتَضادَّةِ، فَلا يَكُونُ لَها تَأْثِيرٌ في شَيْءٍ أصْلًا، وهَذانِ القِسْمانِ مُتَباعِدانِ جِدًّا، ويَتَوَسَّطُهُما قِسْمٌ ثالِثٌ، وهو الَّذِي يُؤَثِّرُ ويَتَأثَّرُ، وهو عالَمُ الأرْواحِ، فَخاصِّيَّةُ جَوْهَرِ الأرْواحِ أنَّها تَقْبَلُ الأثَرَ والتَّصَرُّفَ عَنْ عالَمِ نُورِ جَلالِ اللَّهِ، ثُمَّ إنَّها إذا أقْبَلَتْ عَلى عالَمِ الأجْسامِ تَصَرَّفَتْ فِيهِ وأثَّرَتْ فِيهِ، فَتَعَلَّقَ الرُّوحُ بِعالَمِ الأجْسامِ بِالتَّصَرُّفِ والتَّدْبِيرِ فِيهِ، وتَعَلُّقُهُ بِعالَمِ الإلَهِيّاتِ بِالعِلْمِ والمَعْرِفَةِ. وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ المُلْكِ﴾ إشارَةٌ إلى تَعَلُّقِ النَّفْسِ بِعالَمِ الأجْسامِ، وقَوْلُهُ: ﴿وعَلَّمْتَنِي مِن تَأْوِيلِ الأحادِيثِ﴾ إشارَةٌ إلى تَعَلُّقِها بِحَضْرَةِ جَلالِ اللَّهِ، ولَمّا كانَ لا نِهايَةَ لِدَرَجاتِ هَذَيْنِ النَّوْعَيْنِ في الكَمالِ والنُّقْصانِ والقُوَّةِ والضَّعْفِ والجَلاءِ والخَفاءِ، امْتُنِعَ أنْ يَحْصُلَ مِنهُما لِلْإنْسانِ إلّا مِقْدارٌ مُتَناهٍ، فَكانَ الحاصِلُ في الحَقِيقَةِ بَعْضًا مِن أبْعاضِ المُلْكِ، وبَعْضًا مِن أبْعاضِ العِلْمِ، فَلِهَذا السَّبَبِ ذَكَرَ فِيهِ كَلِمَةَ ”مِن“ لِأنَّها دالَّةٌ عَلى التَّبْعِيضِ، ثُمَّ قالَ: ﴿فاطِرَ السَّماواتِ والأرْضِ﴾ وفِيهِ أبْحاثٌ: البَحْثُ الأوَّلُ: في تَفْسِيرِ لَفْظِ الفاطِرِ بِحَسَبِ اللُّغَةِ. قالَ ابْنُ عَبّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما: ما كُنْتُ أدْرِي مَعْنى الفاطِرِ حَتّى احْتَكَمَ إلَيَّ أعْرابِيّانِ في بِئْرٍ، فَقالَ أحَدُهُما: أنا فَطَرْتُها، وأنا ابْتَدَأْتُ حَفْرَها. قالَ أهْلُ اللُّغَةِ: أصْلُ الفَطْرِ في اللُّغَةِ الشَّقُّ، يُقالُ: فَطَرَ نابُ البَعِيرِ إذا بَدا وفَطَرْتُ الشَّيْءَ فانْفَطَرَ، أيْ شَقَقْتُهُ فانْشَقَّ، وتَفَطَّرَتِ الأرْضُ بِالنَّباتِ والشَّجَرُ بِالوَرَقِ إذا تَصَدَّعَتْ، هَذا أصْلُهُ في اللُّغَةِ، ثُمَّ صارَ عِبارَةً عَنِ الإيجادِ؛ لِأنَّ ذَلِكَ الشَّيْءَ حالَ عَدَمِهِ كَأنَّهُ في ظُلْمَةٍ وخَفاءٍ، فَلَمّا دَخَلَ في الوُجُودِ صارَ كَأنَّهُ انْشَقَّ عَنِ العَدَمِ، وخَرَجَ ذَلِكَ الشَّيْءُ مِنهُ. البَحْثُ الثّانِي: أنَّ لَفْظَ الفاطِرِ قَدْ يُظَنُّ أنَّهُ عِبارَةٌ عَنْ تَكْوِينِ الشَّيْءِ عَنِ العَدَمِ المَحْضِ بِدَلِيلِ الِاشْتِقاقِ الَّذِي ذَكَرْناهُ، إلّا أنَّ الحَقَّ أنَّهُ لا يَدُلُّ عَلَيْهِ، ويَدُلُّ عَلَيْهِ وُجُوهٌ: أحَدُها: أنَّهُ قالَ: ﴿الحَمْدُ لِلَّهِ فاطِرِ﴾ (p-١٧٤)﴿السَّماواتِ والأرْضِ﴾ ثُمَّ بَيَّنَ تَعالى أنَّهُ إنَّما خَلَقَها مِنَ الدُّخانِ حَيْثُ قالَ: ﴿ثُمَّ اسْتَوى إلى السَّماءِ وهي دُخانٌ﴾ (فُصِّلَتْ: ١١) فَدَلَّ عَلى أنَّ لَفْظَ الفاطِرِ لا يُفِيدُ أنَّهُ أحْدَثَ ذَلِكَ الشَّيْءَ مِنَ العَدَمِ المَحْضِ. وثانِيها: أنَّهُ قالَ تَعالى: ﴿فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النّاسَ عَلَيْها﴾ (الرُّومِ: ٣٠) مَعَ أنَّهُ تَعالى إنَّما خَلَقَ النّاسَ مِنَ التُّرابِ. قالَ تَعالى: ﴿مِنها خَلَقْناكم وفِيها نُعِيدُكم ومِنها نُخْرِجُكم تارَةً أُخْرى﴾ (طه: ٥٥) . وثالِثُها: أنَّ الشَّيْءَ إنَّما يَكُونُ حاصِلًا عِنْدَ حُصُولِ مادَّتِهِ وصُورَتِهِ مِثْلُ الكُوزِ، فَإنَّهُ إنَّما يَكُونُ مَوْجُودًا إذا صارَتِ المادَّةُ المَخْصُوصَةُ مَوْصُوفَةً بِالصِّفَةِ المَخْصُوصَةِ، فَعِنْدَ عَدَمِ الصُّورَةِ ما كانَ ذَلِكَ المَجْمُوعُ مَوْجُودًا، وبِإيجادِ تِلْكَ الصُّورَةِ صارَ مُوجِدًا لِذَلِكَ الكُوزِ، فَعَلِمْنا أنَّ كَوْنَهُ مُوجِدًا لِلْكَوْنِ لا يَقْتَضِي كَوْنَهُ مُوجِدًا لِمادَّةِ الكُوزِ، فَثَبَتَ أنَّ لَفْظَ الفاطِرِ لا يُفِيدُ كَوْنَهُ تَعالى مُوجِدًا لِلْأجْزاءِ الَّتِي مِنها تَرَكَّبَتِ السَّماواتُ والأرْضُ، وإنَّما صارَ إلَيْنا كَوْنُهُ مُوجِدًا لَها بِحَسَبِ الدَّلائِلِ العَقْلِيَّةِ لا بِحَسَبِ لَفْظِ القُرْآنِ. واعْلَمْ أنَّ قَوْلَهُ: ﴿فاطِرَ السَّماواتِ والأرْضِ﴾ يُوهِمُ أنَّ تَخْلِيقَ السَّماواتِ مُقَدَّمٌ عَلى تَخْلِيقِ الأرْضِ عِنْدَ مَن يَقُولُ: الواوُ تُفِيدُ التَّرْتِيبَ، ثُمَّ العَقْلُ يُؤَكِّدُهُ أيْضًا، وذَلِكَ لِأنَّ تَعَيُّنَ المُحِيطِ يُوجِبُ تَعَيُّنَ المَرْكَزِ، وتَعَيُّنُهُ فَإنَّهُ لا يُوجِبُ تَعَيُّنَ المُحِيطِ، لِأنَّهُ يُمْكِنُ أنْ يُحِيطَ بِالمَرْكَزِ الواحِدِ مُحِيطاتٌ لا نِهايَةَ لَها، أمّا لا يُمْكِنُ أنْ يَحْصُلَ لِلْمُحِيطِ الواحِدِ إلّا مَرْكَزٌ واحِدٌ بِعَيْنِهِ. وأيْضًا اللَّفْظُ يُفِيدُ أنَّ السَّماءَ كَثِيرَةٌ والأرْضَ واحِدَةٌ، ووَجْهُ الحِكْمَةِ فِيهِ قَدْ ذَكَرْناهُ في قَوْلِهِ: ﴿الحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ والأرْضَ﴾ (الأنْعامِ: ١) . البَحْثُ الثّالِثُ: قالَ الزَّجّاجُ: نَصْبُهُ مِن وجْهَيْنِ: أحَدُهُما: عَلى الصِّفَةِ لِقَوْلِهِ: ﴿رَبِّ﴾ وهو نِداءٌ مُضافٌ في مَوْضِعِ النَّصْبِ. والثّانِي: يَجُوزُ أنْ يُنْصَبَ عَلى نِداءٍ ثانٍ. * * * ثُمَّ قالَ: ﴿أنْتَ ولِيِّي في الدُّنْيا والآخِرَةِ﴾ والمَعْنى: أنْتَ الَّذِي تَتَوَلّى إصْلاحَ جَمِيعِ مُهِمّاتِي في الدُّنْيا والآخِرَةِ؛ فَوَصَلَ المُلْكَ الفانِيَ بِالمُلْكِ الباقِي، وهَذا يَدُلُّ عَلى أنَّ الإيمانَ والطّاعَةَ كَلِمَةٌ مِنَ اللَّهِ تَعالى، إذْ لَوْ كانَ ذَلِكَ مِنَ العَبْدِ لَكانَ المُتَوَلِّي لِمَصالِحِهِ هو هو، وحِينَئِذٍ يَبْطُلُ عُمُومُ قَوْلِهِ: ﴿رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ المُلْكِ﴾ . * * * ثُمَّ قالَ: ﴿تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وألْحِقْنِي بِالصّالِحِينَ﴾ وفِيهِ مَسائِلُ: المَسْألَةُ الأُولى: اعْلَمْ أنَّ النَّبِيَّ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ حَكى عَنْ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلامُ، عَنْ رَبِّ العِزَّةِ أنَّهُ قالَ: ”«مَن شَغَلَهُ ذِكْرِي عَنْ مَسْألَتِي أعْطَيْتُهُ أفْضَلَ ما أُعْطِي السّائِلِينَ» “ فَلِهَذا المَعْنى مَن أرادَ الدُّعاءَ فَلا بُدَّ وأنْ يُقَدِّمَ عَلَيْهِ ذِكْرَ الثَّناءِ عَلى اللَّهِ، فَهَهُنا يُوسُفُ عَلَيْهِ السَّلامُ لَمّا أرادَ أنْ يَذْكُرَ الدُّعاءَ قَدَّمَ عَلَيْهِ الثَّناءَ وهو قَوْلُهُ: ﴿رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ المُلْكِ وعَلَّمْتَنِي مِن تَأْوِيلِ الأحادِيثِ فاطِرَ السَّماواتِ والأرْضِ﴾، ثُمَّ ذَكَرَ عَقِيبَهُ الدُّعاءَ وهو قَوْلُهُ: ﴿تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وألْحِقْنِي بِالصّالِحِينَ﴾، ونَظِيرُهُ ما فَعَلَهُ الخَلِيلُ صَلَواتُ اللَّهِ عَلَيْهِ في قَوْلِهِ: ﴿الَّذِي خَلَقَنِي فَهو يَهْدِينِ﴾ (الشُّعَراءِ: ٧٨)، مِن هُنا إلى قَوْلِهِ: ﴿رَبِّ هَبْ لِي حُكْمًا﴾ (الشُّعَراءِ: ٨٣) ثَناءٌ عَلى اللَّهِ، ثُمَّ قَوْلُهُ: ﴿رَبِّ هَبْ لِي﴾ إلى آخِرِ الكَلامِ دُعاءٌ، فَكَذا هَهُنا. المَسْألَةُ الثّانِيَةُ: اخْتَلَفُوا في أنَّ قَوْلَهُ: ﴿تَوَفَّنِي مُسْلِمًا﴾ هَلْ هو طَلَبٌ مِنهُ لِلْوَفاةِ أمْ لا ؟ فَقالَ قَتادَةُ: سَألَ رَبَّهُ اللُّحُوقَ بِهِ ولَمْ يَتَمَنَّ نَبِيٌّ قَطُّ المَوْتَ قَبْلَهُ، وكَثِيرٌ مِنَ المُفَسِّرِينَ عَلى هَذا القَوْلِ، وقالَ ابْنُ عَبّاسٍ رَضِيَ (p-١٧٥)اللَّهُ عَنْهُما: في رِوايَةِ عَطاءٍ يُرِيدُ: إذا تَوَفَّيْتَنِي فَتَوَفَّنِي عَلى دِينِ الإسْلامِ، فَهَذا طَلَبٌ لِأنْ يَجْعَلَ اللَّهُ وفاتَهُ عَلى الإسْلامِ، ولَيْسَ فِيهِ ما يَدُلُّ عَلى أنَّهُ طَلَبَ الوَفاةَ. واعْلَمْ أنَّ اللَّفْظَ صالِحٌ لِلْأمْرَيْنِ، ولا يَبْعُدُ في الرَّجُلِ العاقِلِ إذا كَمُلَ عَقْلُهُ أنْ يَتَمَنّى المَوْتَ ويُعَظِّمَ رَغْبَتَهُ فِيهِ لِوُجُوهٍ كَثِيرَةٍ مِنها: أنَّ كَمالَ النَّفْسِ الإنْسانِيَّةِ عَلى ما بَيَّنّاهُ في أنْ يَكُونَ عالِمًا بِالإلَهِيّاتِ، وفي أنْ يَكُونَ مَلِكًا ومالِكًا مُتَصَرِّفًا في الجِسْمانِيّاتِ، وذَكَرْنا أنَّ مَراتِبَ التَّفاوُتِ في هَذَيْنِ النَّوْعَيْنِ غَيْرُ مُتَناهِيَةٍ، والكَمالُ المُطْلَقُ فِيهِما لَيْسَ إلّا لِلَّهِ، وكُلُّ ما دُونَ ذَلِكَ فَهو ناقِصٌ، والنّاقِصُ إذا حَصَلَ لَهُ شُعُورٌ بِنُقْصانِهِ وذاقَ لَذَّةَ الكَمالِ المُطْلَقِ؛ بَقِيَ في القَلَقِ وألَمِ الطَّلَبِ، وإذا كانَ الكَمالُ المُطْلَقُ لَيْسَ إلّا لِلَّهِ، وما كانَ حُصُولُهُ لِلْإنْسانِ مُمْتَنِعًا لَزِمَ أنْ يَبْقى الإنْسانُ أبَدًا في قَلَقِ الطَّلَبِ وألَمِ التَّعَبِ، فَإذا عَرَفَ الإنْسانُ هَذِهِ الحالَةَ عَرَفَ أنَّهُ لا سَبِيلَ لَهُ إلى دَفْعِ هَذا التَّعَبِ عَنِ النَّفْسِ إلّا بِالمَوْتِ، فَحِينَئِذٍ يَتَمَنّى المَوْتَ. والسَّبَبُ الثّانِي: لِتَمَنِّي المَوْتِ أنَّ الخُطَباءَ والبُلَغاءَ وإنْ أطْنَبُوا في مَذَمَّةِ الدُّنْيا إلّا أنَّ حاصِلَ كَلامِهِمْ يَرْجِعُ إلى أُمُورٍ ثَلاثَةٍ: أحَدُها: أنَّ هَذِهِ السَّعاداتِ سَرِيعَةُ الزَّوالِ، مُشْرِفَةٌ عَلى الفَناءِ، والألَمُ الحاصِلُ عِنْدَ زَوالِها أشَدُّ مِنَ اللَّذَّةِ الحاصِلَةِ عِنْدَ وِجْدانِها. وثانِيها: أنَّها غَيْرُ خالِصَةٍ بَلْ هي مَمْزُوجَةٌ بِالمُنَغِّصاتِ والمُكَدِّراتِ. وثالِثُها: أنَّ الأراذِلَ مِنَ الخَلْقِ يُشارِكُونَ الأفاضِلَ فِيها، بَلْ رُبَّما كانَ حِصَّةُ الأراذِلِ أعْظَمَ بِكَثِيرٍ مِن حِصَّةِ الأفاضِلِ، فَهَذِهِ الجِهاتُ الثَّلاثَةُ مُنَفِّرَةٌ عَنْ هَذِهِ اللَّذّاتِ، ولَمّا عَرَفَ العاقِلُ أنَّهُ لا سَبِيلَ إلى تَحْصِيلِ هَذِهِ اللَّذّاتِ إلّا مَعَ هَذِهِ الجِهاتِ الثَّلاثَةِ المُنَفِّرَةِ، لا جَرَمَ يَتَمَنّى المَوْتَ لِيَتَخَلَّصَ عَنْ هَذِهِ الآفاتِ. والسَّبَبُ الثّالِثُ: وهو الأقْوى عِنْدَ المُحَقِّقِينَ رَحِمَهُمُ اللَّهُ أجْمَعِينَ أنَّ هَذِهِ اللَّذّاتِ الجِسْمانِيَّةَ لا حَقِيقَةَ لَها، وإنَّما حاصِلُها دَفْعُ الآلامِ، فَلَذَّةُ الأكْلِ عِبارَةٌ عَنْ دَفْعِ ألَمِ الجُوعِ، ولَذَّةُ الوِقاعِ عِبارَةٌ عَنْ دَفْعِ الألَمِ الحاصِلِ بِسَبَبِ الدَّغْدَغَةِ المُتَوَلِّدَةِ مِن حُصُولِ المَنِيِّ في أوْعِيَةِ المَنِيِّ. ولَذَّةُ الإمارَةِ والرِّياسَةِ عِبارَةٌ عَنْ دَفْعِ الألَمِ الحاصِلِ بِسَبَبِ شَهْوَةِ الِانْتِقامِ وطَلَبِ الرِّياسَةِ، وإذا كانَ حاصِلُ هَذِهِ اللَّذّاتِ لَيْسَ إلّا دَفْعَ الألَمِ لا جَرَمَ صارَتْ عِنْدَ العُقَلاءِ حَقِيرَةً خَسِيسَةً نازِلَةً ناقِصَةً، وحِينَئِذٍ يَتَمَنّى الإنْسانُ المَوْتَ لِيَتَخَلَّصَ عَنِ الِاحْتِياجِ إلى هَذِهِ الأحْوالِ الخَسِيسَةِ. والسَّبَبُ الرّابِعُ: أنَّ مَداخِلَ اللَّذّاتِ الدُّنْيَوِيَّةِ قَلِيلَةٌ، وهي ثَلاثَةُ أنْواعٍ: لَذَّةُ الأكْلِ، ولَذَّةُ الوِقاعِ، ولَذَّةُ الرِّياسَةِ، ولِكُلِّ واحِدَةٍ مِنها عُيُوبٌ كَثِيرَةٌ. أمّا لَذَّةُ الأكْلِ فَفِيها عُيُوبٌ: أحَدُها: أنَّ هَذِهِ اللَّذّاتِ لَيْسَتْ قَوِيَّةً، فَإنَّ الشُّعُورَ بِألَمِ القُولَنْجِ الشَّدِيدِ -والعِياذُ بِاللَّهِ مِنهُ- أشَدُّ مِنَ الشُّعُورِ بِاللَّذَّةِ الحاصِلَةِ عِنْدَ أكْلِ الطَّعامِ. وثانِيها: أنَّ هَذِهِ اللَّذَّةَ لا يُمْكِنُ بَقاؤُها، فَإنَّ الإنْسانَ إذا أكَلَ شَبِعَ، وإذا شَبِعَ لَمْ يَبْقَ شَوْقُهُ لِلِالتِذاذِ بِالأكْلِ، فَهَذِهِ اللَّذَّةُ ضَعِيفَةٌ، ومَعَ ضَعْفِها غَيْرُ باقِيَةٍ. وثالِثُها: أنَّها في نَفْسِها خَسِيسَةٌ، فَإنَّ الأكْلَ عِبارَةٌ عَنْ تَرْطِيبِ ذَلِكَ الطَّعامِ بِالبُزاقِ المُجْتَمِعِ في الفَمِ، ولا شَكَّ أنَّهُ شَيْءٌ مُنَفِّرٌ مُسْتَقْذَرٌ، ثَمَّ لَمّا يَصِلُ إلى المَعِدَةِ تَظْهَرُ فِيهِ الِاسْتِحالَةُ إلى الفَسادِ والنَّتْنِ والعُفُونَةِ، وذَلِكَ أيْضًا مُنَفِّرٌ. ورابِعُها: أنَّ جَمِيعَ الحَيَواناتِ الخَسِيسَةِ مُشارِكَةٌ فِيها، فَإنَّ الرَّوْثَ في مَذاقِ الجُعْلِ كاللَّوْزِينَجِ في مَذاقِ الإنْسانِ، وكَما أنَّ الإنْسانَ يَكْرَهُ تَناوُلَ غِذاءِ الجُعْلِ، فَكَذَلِكَ الجُعْلُ يَكْرَهُ تَناوُلَ غِذاءِ الإنْسانِ، وأمّا اللَّذَّةُ فَمُشْتَرَكَةٌ فِيما بَيْنَ النّاسِ. وخامِسُها: أنَّ الأكْلَ إنَّما يَطِيبُ عِنْدَ اشْتِدادِ الجُوعِ، وتِلْكَ حاجَةٌ شَدِيدَةٌ، والحاجَةُ نَقْصٌ وافِرٌ. وسادِسُها: أنَّ الأكْلَ يُسْتَحْقَرُ عِنْدَ العُقَلاءِ، قِيلَ: مَن كانَتْ هِمَّتُهُ ما (p-١٧٦)يَدْخُلُ في بَطْنِهِ فَقِيمَتُهُ ما يَخْرُجُ مِن بَطْنِهِ، فَهَذا هو الإشارَةُ المُخْتَصَرَةُ في مَعايِبِ الأكْلِ. وأمّا لَذَّةُ النِّكاحِ، فَكُلُّ ما ذَكَرْناهُ في الأكْلِ حاصِلٌ هَهُنا مَعَ أشْياءَ أُخْرى، وهي أنَّ النِّكاحَ سَبَبٌ لِحُصُولِ الوَلَدِ، وحِينَئِذٍ تَكْثُرُ الأشْخاصُ، فَتَكْثُرُ الحاجَةُ إلى المالِ، فَيَحْتاجُ الإنْسانُ بِسَبَبِها إلى الِاحْتِيالِ في طَلَبِ المالِ بِطُرُقٍ لا نِهايَةَ لَها، ورُبَّما صارَ هالِكًا بِسَبَبِ طَلَبِ المالِ، وأمّا لَذَّةُ الرِّياسَةِ فَعُيُوبُها كَثِيرَةٌ، والَّذِي نَذْكُرُهُ هَهُنا بِسَبَبٍ واحِدٍ، وهو أنَّ كُلَّ أحَدٍ يَكْرَهُ بِالطَّبْعِ أنْ يَكُونَ خادِمًا مَأْمُورًا، ويُحِبُّ أنْ يَكُونَ مَخْدُومًا آمِرًا، فَإذا سَعى الإنْسانُ في أنْ يَصِيرَ رَئِيسًا آمِرًا كانَ ذَلِكَ دالًّا عَلى مُخالَفَةِ كُلِّ ما سِواهُ، فَكَأنَّهُ يُنازِعُ كُلَّ الخَلْقِ في ذَلِكَ، وهو يُحاوِلُ تَحْصِيلَ تِلْكَ الرِّياسَةِ، وجَمِيعُ أهْلِ الشَّرْقِ والغَرْبِ يُحاوِلُونَ إبْطالَهُ ودَفْعَهُ، ولا شَكَّ أنَّ كَثْرَةَ الأسْبابِ تُوجِبُ قُوَّةَ حُصُولِ الأثَرِ، وإذا كانَ كَذَلِكَ كانَ حُصُولُ هَذِهِ الرِّياسَةِ كالمُتَعَذَّرِ، ولَوْ حَصَلَ فَإنَّهُ يَكُونُ عَلى شَرَفِ الزَّوالِ في كُلِّ حِينٍ وأوانٍ بِكُلِّ سَبَبٍ مِنَ الأسْبابِ، وكانَ صاحِبُها عِنْدَ حُصُولِها في الخَوْفِ الشَّدِيدِ مِنَ الزَّوالِ، وعِنْدَ زَوالِها في الأسَفِ العَظِيمِ والحُزْنِ الشَّدِيدِ بِسَبَبِ ذَلِكَ الزَّوالِ. واعْلَمْ أنَّ العاقِلَ إذا تَأمَّلَ هَذِهِ المَعانِيَ عَلِمَ قَطْعًا أنَّهُ لا صَلاحَ لَهُ في طَلَبِ هَذِهِ اللَّذّاتِ والسَّعْيِ في هَذِهِ الخَيْراتِ البَتَّةَ، ثُمَّ إنَّ النَّفْسَ خُلِقَتْ مَجْبُولَةً عَلى طَلَبِها، والعِشْقِ الشَّدِيدِ عَلَيْها، والرَّغْبَةِ التّامَّةِ في الوُصُولِ إلَيْها، وحِينَئِذٍ يَنْعَقِدُ هَهُنا قَيافٍ، وهو أنَّ الإنْسانَ ما دامَ يَكُونُ في هَذِهِ الحَياةِ الجِسْمانِيَّةِ فَإنَّهُ يَكُونُ طالِبًا لِهَذِهِ اللَّذّاتِ، وما دامَ يَطْلُبُها كانَ في عَيْنِ الآفاتِ وفي لُجَّةِ الحَسَراتِ، وهَذا اللّازِمُ مَكْرُوهٌ فالمَلْزُومُ أيْضًا مَكْرُوهٌ، فَحِينَئِذٍ يَتَمَنّى زَوالَ هَذِهِ الحَياةِ الجِسْمانِيَّةِ، والسَّبَبُ في الأُمُورِ المُرَغِّبَةِ في المَوْتِ أنَّ مُوجِباتِ هَذِهِ اللَّذَّةِ الجِسْمانِيَّةِ مُتَكَرِّرَةٌ، ولا يُمْكِنُ الزِّيادَةُ عَلَيْها، والتَّكْرِيرُ يُوجِبُ المَلالَةَ، أمّا سَعاداتُ الآخِرَةِ فَهي أنْواعٌ كَثِيرَةٌ غَيْرُ مُتَناهِيَةٍ. قالَ الإمامُ فَخْرُ الدِّينِ الرّازِيُّ رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِ، وهو مُصَنِّفُ هَذا الكِتابِ أنارَ اللَّهُ بُرْهانَهُ: أنا صاحِبُ هَذِهِ الحالَةِ والمُتَوَغِّلُ فِيها، ولَوْ فَتَحْتُ البابَ وبالَغْتُ في عُيُوبِ هَذِهِ اللَّذّاتِ الجِسْمانِيَّةِ فَرُبَّما كَتَبْتُ المُجَلَّداتِ، وما وصَلْتُ إلى القَلِيلِ مِنها، فَلِهَذا السَّبَبِ صِرْتُ مُواظِبًا في أكْثَرِ الأوْقاتِ عَلى ذِكْرِ هَذا الَّذِي ذَكَرَهُ يُوسُفُ عَلَيْهِ السَّلامُ وهو قَوْلُهُ: ﴿رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ المُلْكِ وعَلَّمْتَنِي مِن تَأْوِيلِ الأحادِيثِ فاطِرَ السَّماواتِ والأرْضِ أنْتَ ولِيِّي في الدُّنْيا والآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وألْحِقْنِي بِالصّالِحِينَ﴾ . المَسْألَةُ الثّالِثَةُ: تَمَسَّكَ أصْحابُنا في بَيانِ أنَّ الإيمانَ مِنَ اللَّهِ تَعالى بِقَوْلِهِ: ﴿تَوَفَّنِي مُسْلِمًا﴾، وتَقْرِيرُهُ أنَّ تَحْصِيلَ الإسْلامِ، وإبْقاءَهُ إذا كانَ مِنَ العَبْدِ كانَ طَلَبُهُ مِنَ اللَّهِ فاسِدًا، وتَقْرِيرُهُ كَأنَّهُ يَقُولُ: افْعَلْ يا مَن لا يَفْعَلُ، والمُعْتَزِلَةُ أبَدًا يُشَنِّعُونَ عَلَيْنا ويَقُولُونَ: إذا كانَ الفِعْلُ مِنَ اللَّهِ فَكَيْفَ يَجُوزُ أنْ يُقالَ لِلْعَبْدِ: افْعَلْ؛ مَعَ أنَّكَ لَسْتَ فاعِلًا ؟ فَنَحْنُ نَقُولُ هَهُنا أيْضًا: إذا كانَ تَحْصِيلُ الإيمانِ وإبْقاؤُهُ مِنَ العَبْدِ لا مِنَ اللَّهِ تَعالى، فَكَيْفَ يَطْلُبُ ذَلِكَ مِنَ اللَّهِ ؟ قالَ الجُبّائِيُّ والكَعْبِيُّ: مَعْناهُ: اطْلُبِ اللُّطْفَ لِي في الإقامَةِ عَلى الإسْلامِ إلى أنْ أمُوتَ عَلَيْهِ. فَهَذا الجَوابُ ضَعِيفٌ؛ لِأنَّ السُّؤالَ وقَعَ عَلى الإسْلامِ، فَحَمْلُهُ عَلى اللُّطْفِ عُدُولٌ عَنِ الظّاهِرِ، وأيْضًا كُلُّ ما في المَقْدُورِ مِنَ الألْطافِ فَقَدْ فَعَلَهُ، فَكانَ طَلَبُهُ مِنَ اللَّهِ مُحالًا. المَسْألَةُ الرّابِعَةُ: لِقائِلٍ أنْ يَقُولَ: الأنْبِياءُ عَلَيْهِمُ السَّلامُ يَعْلَمُونَ أنَّهم يَمُوتُونَ لا مَحالَةَ عَلى الإسْلامِ، فَكانَ هَذا الدُّعاءُ حاصِلُهُ طَلَبُ تَحْصِيلِ الحاصِلِ، وأنَّهُ لا يَجُوزُ. (p-١٧٧) والجَوابُ: أحْسَنُ ما قِيلَ فِيهِ أنَّ كَمالَ حالِ المُسْلِمِ أنْ يَسْتَسْلِمَ لِحُكْمِ اللَّهِ تَعالى عَلى وجْهٍ يَسْتَقِرُّ قَلْبُهُ عَلى ذَلِكَ الإسْلامِ ويَرْضى بِقَضاءِ اللَّهِ وقَدَرِهِ، ويَكُونُ مُطْمَئِنَّ النَّفْسِ مُنْشَرِحَ الصَّدْرِ مُنْفَسِحَ القَلْبِ في هَذا البابِ، وهَذِهِ الحالَةُ زائِدَةٌ عَلى الإسْلامِ الَّذِي هو ضِدُّ الكُفْرِ، فالمَطْلُوبُ هَهُنا هو الإسْلامُ بِهَذا المَعْنى. المَسْألَةُ الخامِسَةُ: أنَّ يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلامُ كانَ مِن أكابِرِ الأنْبِياءِ عَلَيْهِمُ السَّلامُ، والصَّلاحُ أوَّلُ دَرَجاتِ المُؤْمِنِينَ، فالواصِلُ إلى الغايَةِ كَيْفَ يَلِيقُ بِهِ أنْ يَطْلُبَ البِدايَةَ. قالَ ابْنُ عَبّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما وغَيْرُهُ مِنَ المُفَسِّرِينَ: يَعْنِي بِآبائِهِ إبْراهِيمَ وإسْماعِيلَ وإسْحاقَ ويَعْقُوبَ، والمَعْنى: ألْحِقْنِي بِهِمْ في ثَوابِهِمْ ومَراتِبِهِمْ ودَرَجاتِهِمْ، وهَهُنا مَقامٌ آخَرُ مِن تَفْسِيرِ هَذِهِ الآيَةِ عَلى لِسانِ أصْحابِ المُكاشَفاتِ، وهو أنَّ النُّفُوسَ المُفارِقَةَ إذا أشْرَقَتْ بِالأنْوارِ الإلَهِيَّةِ واللَّوامِعِ القُدْسِيَّةِ، فَإذا كانَتْ مُتَناسِبَةً مُتَشاكِلَةً انْعَكَسَ النُّورُ الَّذِي في كُلِّ واحِدَةٍ مِنها إلى الأُخْرى بِسَبَبِ تِلْكَ المُلازَمَةِ والمُجانَسَةِ، فَتَعْظُمُ تِلْكَ الأنْوارُ وتَقْوى تِلْكَ الأضْواءُ، ومِثالُ تِلْكَ الأحْوالِ المِرْآةُ الصَّقِيلَةُ الصّافِيَةُ إذا وُضِعَتْ وضْعًا مَتى أشْرَقَتِ الشَّمْسُ عَلَيْها انْعَكَسَ الضَّوْءُ مِن كُلِّ واحِدَةٍ مِنها إلى الأُخْرى، فَهُناكَ يَقْوى الضَّوْءُ ويَكْمُلُ النُّورُ، ويَنْتَهِي في الإشْراقِ والبَرِيقِ واللَّمَعانِ إلى حَدٍّ لا تُطِيقُهُ العُيُونُ والأبْصارُ الضَّعِيفَةُ، فَكَذا هَهُنا.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب