الباحث القرآني
قَوْلُهُ تَعالى: ﴿أمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ إنِ افْتَرَيْتُهُ فَعَلَيَّ إجْرامِي وأنا بَرِيءٌ مِمّا تُجْرِمُونَ﴾
اعْلَمْ أنَّ مَعْنى افْتَراهُ اخْتَلَقَهُ وافْتَعَلَهُ، وجاءَ بِهِ مِن عِنْدِ نَفْسِهِ، والهاءُ تَرْجِعُ إلى الوَحْيِ الَّذِي بَلَّغَهُ إلَيْهِمْ. وقَوْلُهُ: ﴿فَعَلَيَّ إجْرامِي﴾ الإجْرامُ اقْتِراحُ المَحْظُوراتِ واكْتِسابُها، وهَذا مِن بابِ حَذْفِ المُضافِ؛ لِأنَّ المَعْنى: فَعَلَيَّ عِقابُ إجْرامِي، وفي الآيَةِ مَحْذُوفٌ آخَرُ، وهو أنَّ المَعْنى: إنْ كُنْتُ افْتَرَيْتُهُ فَعَلَيَّ عِقابُ جُرْمِي، وإنْ كُنْتُ صادِقًا وكَذَّبْتُمُونِي فَعَلَيْكم عِقابُ ذَلِكَ التَّكْذِيبِ، إلّا أنَّهُ حَذَفَ هَذِهِ البَقِيَّةَ لِدَلالَةِ الكَلامِ عَلَيْهِ، كَقَوْلِهِ: ﴿أمَّ منْ هو قانِتٌ آناءَ اللَّيْلِ﴾ [الزُّمَرِ: ٩] ولَمْ يَذْكُرِ البَقِيَّةَ، وقَوْلُهُ: ﴿وأنا بَرِيءٌ مِمّا تُجْرِمُونَ﴾ أيْ أنا بَرِيءٌ مِن عِقابِ جُرْمِكم، وأكْثَرُ المُفَسِّرِينَ عَلى أنَّ هَذا مِن بَقِيَّةِ كَلامِ نُوحٍ عَلَيْهِ السَّلامُ، وهَذِهِ الآيَةُ وقَعَتْ في قِصَّةِ مُحَمَّدٍ ﷺ في أثْناءِ حِكايَةِ نُوحٍ. وقَوْلُهم بَعِيدٌ جِدًّا، وأيْضًا قَوْلُهُ: ﴿قُلْ إنِ افْتَرَيْتُهُ فَعَلَيَّ إجْرامِي﴾ لا يَدُلُّ عَلى أنَّهُ كانَ شاكًّا، إلّا أنَّهُ قَوْلٌ يُقالُ عَلى وجْهِ الإنْكارِ عِنْدَ اليَأْسِ مِنَ القَبُولِ.
قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وأُوحِيَ إلى نُوحٍ أنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِن قَوْمِكَ إلّا مَن قَدْ آمَنَ فَلا تَبْتَئِسْ بِما كانُوا يَفْعَلُونَ﴾
فِيهِ مَسائِلُ:
المَسْألَةُ الأُولى: قالَ ابْنُ عَبّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما: لَمّا جاءَ هَذا مِن عِنْدِ اللَّهِ تَعالى دَعا عَلى قَوْمِهِ فَقالَ: ﴿رَبِّ لا تَذَرْ عَلى الأرْضِ مِنَ الكافِرِينَ دَيّارًا﴾ [نُوحٍ: ٢٦]، وقَوْلُهُ: ﴿فَلا تَبْتَئِسْ﴾ أيْ لا تَحْزَنْ، قالَ أبُو زَيْدٍ: ابْتَأسَ الرَّجُلُ إذا بَلَغَهُ شَيْءٌ يَكْرَهُهُ. وأنْشَدَ أبُو عُبَيْدَةَ:
؎ما يَقْسِمُ اللَّهُ أقْبَلْ غَيْرَ مُبْتَئِسٍ بِهِ وأقْعُدْ كَرِيمًا ناعِمَ البالِ
أيْ غَيْرَ حَزِينٍ ولا كارِهٍ.
المَسْألَةُ الثّانِيَةُ: احْتَجَّ أصْحابُنا بِهَذِهِ الآيَةِ عَلى صِحَّةِ قَوْلِهِمْ في القَضاءِ والقَدَرِ، وقالُوا: إنَّهُ تَعالى أخْبَرَ (p-١٧٧)عَنْ قَوْمِهِ أنَّهم لا يُؤْمِنُونَ بَعْدَ ذَلِكَ، فَلَوْ حَصَلَ إيمانُهم لَكانَ إمّا مَعَ بَقاءِ هَذا الخَبَرِ صِدْقًا، ومَعَ بَقاءِ هَذا العِلْمِ عِلْمًا، أوْ مَعَ انْقِلابِ هَذا الخَبَرِ كَذِبًا، ومَعَ انْقِلابِ هَذا العَلَمِ جَهْلًا، والأوَّلُ ظاهِرُ البُطْلانِ؛ لِأنَّ وُجُودَ الإيمانِ مَعَ أنْ يَكُونَ الإخْبارُ عَنْ عَدَمِ الإيمانِ صِدْقًا، ومَعَ كَوْنِ العِلْمِ بِعَدَمِ الإيمانِ حاصِلًا حالَ وُجُودِ الإيمانِ جَمْعٌ بَيْنَ النَّقِيضَيْنِ، والثّانِي أيْضًا باطِلٌ؛ لِأنَّ انْقِلابَ خَبَرِ اللَّهِ كَذِبًا وعِلْمِ اللَّهِ جَهْلًا مُحالٌ، ولَمّا كانَ صُدُورُ الإيمانِ مِنهم لا بُدَّ وأنْ يَكُونَ عَلى هَذَيْنِ القِسْمَيْنِ وثَبَتَ أنَّ كُلَّ واحِدٍ مِنهُما مُحالٌ كانَ صُدُورُ الإيمانِ مِنهم مُحالًا، مَعَ أنَّهم كانُوا مَأْمُورِينَ بِهِ، وأيْضًا القَوْمُ كانُوا مَأْمُورِينَ بِالإيمانِ، ومِنَ الإيمانِ تَصْدِيقُ اللَّهِ تَعالى في كُلِّ ما أخْبَرَ عَنْهُ. ومِنهُ قَوْلُهُ: ﴿أنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِن قَوْمِكَ إلّا مَن قَدْ آمَنَ﴾ فَيَلْزَمُ أنْ يُقالَ: إنَّهم كانُوا مَأْمُورِينَ بِأنْ يُؤْمِنُوا بِأنَّهم لا يُؤْمِنُونَ البَتَّةَ. وذَلِكَ تَكْلِيفُ الجَمْعِ بَيْنَ النَّقِيضَيْنِ. وتَقْرِيرُ هَذا الكَلامِ قَدْ مَرَّ في هَذا الكِتابِ مِرارًا وأطْوارًا.
المَسْألَةُ الثّالِثَةُ: اخْتَلَفَ المُعْتَزِلَةُ في أنَّهُ هَلْ يَجُوزُ أنْ يُنَزِّلَ اللَّهُ تَعالى عَذابَ الِاسْتِئْصالِ عَلى قَوْمٍ كانَ في المَعْلُومِ أنَّ فِيهِمْ مَن يُؤْمِنُ أوْ كانَ في أوْلادِهِمْ مَن يُؤْمِنُ، فَقالَ قَوْمٌ: إنَّهُ لا يَجُوزُ. واحْتَجُّوا بِما حَكى اللَّهُ تَعالى عَنْ نُوحٍ عَلَيْهِ السَّلامُ أنَّهُ قالَ: ﴿رَبِّ لا تَذَرْ عَلى الأرْضِ مِنَ الكافِرِينَ دَيّارًا﴾ ﴿إنَّكَ إنْ تَذَرْهم يُضِلُّوا عِبادَكَ ولا يَلِدُوا إلّا فاجِرًا كَفّارًا﴾ [نُوحٍ: ٢٦، ٢٧]، وهَذا يَدُلُّ عَلى أنَّهُ إنَّما حَسُنَ مِنهُ تَعالى إنْزالُ عَذابِ الِاسْتِئْصالِ عَلَيْهِمْ؛ لِأجْلِ أنَّهُ تَعالى عَلِمَ أنَّهُ لَيْسَ مَن يُؤْمِنُ، ولا في أوْلادِهِمْ أحَدٌ يُؤْمِنُ. قالَ القاضِي وقالَ كَثِيرٌ مِن عُلَمائِنا: إنَّ ذَلِكَ مِنَ اللَّهِ تَعالى جائِزٌ، وإنْ كانَ مِنهم مَن يُؤْمِنُ. وأمّا قَوْلُ نُوحٍ عَلَيْهِ السَّلامُ: ﴿رَبِّ لا تَذَرْ عَلى الأرْضِ مِنَ الكافِرِينَ دَيّارًا﴾ [نُوحٍ: ٢٦] فَذَلِكَ يَدُلُّ عَلى أنَّهُ إنَّما سَألَ ذَلِكَ مِن حَيْثُ إنَّهُ كانَ في المَعْلُومِ أنَّهم يُضِلُّونَ عِبادَهُ ولا يَلِدُونَ إلّا فاجِرًا كَفّارًا، وذَلِكَ يَدُلُّ عَلى أنَّ ذَلِكَ الحُكْمَ كانَ قَوْلًا بِمَجْمُوعِ هاتَيْنِ العِلَّتَيْنِ، وأيْضًا فَلا دَلِيلَ فِيهِ عَلى أنَّهُما لَوْ لَمْ يَحْصُلا لَما جازَ إنْزالُ الإهْلاكِ، والأقْرَبُ أنْ يُقالَ: إنَّ نُوحًا عَلَيْهِ السَّلامُ لِشِدَّةِ مَحَبَّتِهِ لِإيمانِهِمْ كانَ سَألَ رَبَّهُ أنْ يُبْقِيَهم، فَأعْلَمَهُ أنَّهُ لا يُؤْمِنُ مِنهم أحَدٌ لِيَزُولَ عَنْ قَلْبِهِ ما كانَ قَدْ حَصَلَ فِيهِ مِن تِلْكَ المَحَبَّةِ؛ ولِذَلِكَ قالَ تَعالى مِن بَعْدُ: ﴿فَلا تَبْتَئِسْ بِما كانُوا يَفْعَلُونَ﴾ أيْ: لا تَحْزَنْ مِن ذَلِكَ ولا تَغْتَمَّ، ولا تَظُنَّ أنَّ في ذَلِكَ مَذَلَّةً؛ فَإنَّ الدِّينَ عَزِيزٌ، وإنْ قَلَّ عَدَدُ مَن يَتَمَسَّكُ بِهِ، والباطِلَ ذَلِيلٌ وإنْ كَثُرَ عَدَدُ مَن يَقُولُ بِهِ.
{"ayahs_start":35,"ayahs":["أَمۡ یَقُولُونَ ٱفۡتَرَىٰهُۖ قُلۡ إِنِ ٱفۡتَرَیۡتُهُۥ فَعَلَیَّ إِجۡرَامِی وَأَنَا۠ بَرِیۤءࣱ مِّمَّا تُجۡرِمُونَ","وَأُوحِیَ إِلَىٰ نُوحٍ أَنَّهُۥ لَن یُؤۡمِنَ مِن قَوۡمِكَ إِلَّا مَن قَدۡ ءَامَنَ فَلَا تَبۡتَىِٕسۡ بِمَا كَانُوا۟ یَفۡعَلُونَ"],"ayah":"وَأُوحِیَ إِلَىٰ نُوحٍ أَنَّهُۥ لَن یُؤۡمِنَ مِن قَوۡمِكَ إِلَّا مَن قَدۡ ءَامَنَ فَلَا تَبۡتَىِٕسۡ بِمَا كَانُوا۟ یَفۡعَلُونَ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق