الباحث القرآني

. قَوْلُهُ: ﴿أمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ﴾ أنْكَرَ سُبْحانَهُ عَلَيْهِمْ قَوْلَهم: إنَّ ما أُوحِيَ إلى نُوحٍ مُفْتَرًى، فَقالَ: ﴿أمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ﴾ ثُمَّ أمَرَهُ أنْ يُجِيبَ بِكَلامٍ مُنْصِفٍ، فَقالَ: ﴿قُلْ إنِ افْتَرَيْتُهُ فَعَلَيَّ إجْرامِي﴾ بِكَسْرِ الهَمْزَةِ عَلى قِراءَةِ الجُمْهُورِ، مَصْدَرُ أجْرَمَ: أيْ فِعْلُ ما يُوجِبُ الإثْمَ، وجَرَمَ وأجْرَمَ بِمَعْنًى، قالَهُ النَّحّاسُ، والمَعْنى: فَعَلَيَّ إثْمِي أوْ جَزاءُ كَسْبِي. ومَن قَرَأ بِفَتْحِ الهَمْزَةِ، قالَ: هو جَمْعٌ ذَكَرَهُ النَّحّاسُ ﴿وأنا بَرِيءٌ مِمّا تُجْرِمُونَ﴾ أيْ مِن إجْرامِكم بِسَبَبِ ما تَنْسُبُونَهُ إلَيَّ مِنَ الِافْتِراءِ، قِيلَ: وفي الكَلامِ حَذْفٌ والتَّقْدِيرُ: لَكِنْ ما افْتَرَيْتُهُ، فالإجْرامُ وعِقابُهُ لَيْسَ إلّا عَلَيْكم وأنا بَرِيءٌ مِنهُ. وقَدِ اخْتَلَفَ المُفَسِّرُونَ في هَذِهِ الآيَةِ، فَقِيلَ: إنَّها حِكايَةٌ عَنْ نُوحٍ وما قالَهُ لِقَوْمِهِ، وقِيلَ: هي حِكايَةٌ عَنِ المُحاوَرَةِ الواقِعَةِ بَيْنَ نَبِيِّنا مُحَمَّدٍ صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ وكُفّارِ مَكَّةَ. والأوَّلُ أوْلى، لِأنَّ الكَلامَ قَبْلَها وبَعْدَها مَعَ نُوحٍ عَلَيْهِ السَّلامُ. قَوْلُهُ: ﴿وأُوحِيَ إلى نُوحٍ أنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِن قَوْمِكَ إلّا مَن قَدْ آمَنَ﴾ أنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ في مَحَلِّ رَفْعٍ عَلى أنَّهُ نائِبُ الفاعِلِ الَّذِي لَمْ يُسَمَّ. ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ في مَوْضِعِ نَصْبٍ بِتَقْدِيرِ الباءِ: أيْ بِأنَّهُ، وفي الكَلامِ تَأْيِيسٌ لَهُ مِن إيمانِهِمْ، وأنَّهم مُسْتَمِرُّونَ عَلى كُفْرِهِمْ، مُصَمِّمُونَ عَلَيْهِ، لا يُؤْمِنُ أحَدٌ مِنهم إلّا مَن قَدْ سَبَقَ إيمانُهُ ﴿فَلا تَبْتَئِسْ بِما كانُوا يَفْعَلُونَ﴾ البُؤْسُ: الحُزْنُ، أيْ (p-٦٥٧)فَلا تَحْزَنْ، والبائِسُ: المُسْتَكِينُ، فَنَهاهُ اللَّهُ سُبْحانَهُ عَنْ أنْ يَحْزَنَ حُزْنَ مُسْتَكِينٍ لِأنَّ الِابْتِئاسَ حُزْنٌ في اسْتِكانَةٍ. ومِنهُ قَوْلُ الشّاعِرِ: ؎وكَمْ مِن خَلِيلٍ أوْ حَمِيمٍ رُزِئْتُهُ فَلَمْ أبْتَئِسْ والرُّزْءُ فِيهِ جَلِيلُ ثُمَّ إنَّ اللَّهَ سُبْحانَهُ لَمّا أخْبَرَهُ أنَّهم لا يُؤْمِنُونَ ألْبَتَّةَ عَرَّفَهُ وجْهَ إهْلاكِهِمْ، وألْهَمَهُ الأمْرَ الَّذِي يَكُونُ بِهِ خَلاصُهُ وخَلاصُ مَن آمَنَ مَعَهُ، فَقالَ: ﴿واصْنَعِ الفُلْكَ بِأعْيُنِنا ووَحْيِنا﴾ أيِ اعْمَلِ السَّفِينَةَ مُتَلَبِّسًا بِأعْيُنِنا: أيْ بِمَرْأًى مِنّا، والمُرادُ بِحِراسَتِنا لَكَ وحِفْظِنا لَكَ، وعَبَّرَ عَنْ ذَلِكَ بِالأعْيُنِ لِأنَّها آلَةُ الرُّؤْيَةِ، والرُّؤْيَةُ هي الَّتِي تَكُونُ بِها الحِراسَةُ والحِفْظُ في الغالِبِ، وجَمَعَ الأعْيُنَ لِلتَّعْظِيمِ لا لِلتَّكْثِيرِ، وقِيلَ المَعْنى: ﴿بِأعْيُنِنا﴾ أيْ بِأعْيُنِ مَلائِكَتِنا الَّذِينَ جَعَلْناهم عُيُونًا عَلى حِفْظِكَ، وقِيلَ: ﴿بِأعْيُنِنا﴾ بِعِلْمِنا، وقِيلَ بِأمْرِنا. ومَعْنى بِوَحْيِنا: بِما أوْحَيْنا إلَيْكَ مِن كَيْفِيَّةِ صَنْعَتِها ﴿ولا تُخاطِبْنِي في الَّذِينَ ظَلَمُوا﴾ أيْ لا تَطْلُبُ إمْهالَهم، فَقَدْ حانَ وقْتُ الِانْتِقامِ مِنهم، وجُمْلَةُ ﴿إنَّهم مُغْرَقُونَ﴾ لِلتَّعْلِيلِ: أيْ لا تَطْلُبُ مِنّا إمْهالَهم، فَإنَّهُ مَحْكُومٌ مِنّا عَلَيْهِمْ بِالغَرَقِ وقَدْ مَضى بِهِ القَضاءُ فَلا سَبِيلَ إلى دَفْعِهِ ولا تَأْخِيرِهِ، وقِيلَ: المَعْنى ولا تُخاطِبْنِي في تَعْجِيلِ عِقابِهِمْ فَإنَّهم مُغْرَقُونَ في الوَقْتِ المَضْرُوبِ لِذَلِكَ، لا يَتَأخَّرُ إغْراقُهم عَنْهُ، وقِيلَ: المُرادُ بِالَّذِينِ ظَلَمُوا امْرَأتُهُ وابْنُهُ. ﴿ويَصْنَعُ الفُلْكَ﴾ أيْ وطَفِقَ يَصْنَعُ الفُلْكَ، أوْ وأخَذَ يَصْنَعُ الفُلْكَ، وقِيلَ: هو حِكايَةُ حالٍ ماضِيَةٍ لِاسْتِحْضارِ الصُّورَةِ، وجُمْلَةُ ﴿وكُلَّما مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ مِن قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنهُ﴾ في مَحَلِّ نَصْبٍ عَلى الحالِ: أيْ اسْتَهْزَءُوا بِهِ لِعَمَلِهِ السَّفِينَةَ. قالَ الأخْفَشُ والكِسائِيُّ: يُقالُ: سَخِرَتْ بِهِ ومِنهُ. وفِي وجْهِ سُخْرِيَتِهِمْ مِنهُ قَوْلانِ: أحَدُهُما: أنَّهم كانُوا يَرَوْنَهُ يَعْمَلُ السَّفِينَةَ، فَيَقُولُونَ: يا نُوحُ صِرْتَ بَعْدَ النُّبُوَّةِ نَجّارًا. والثّانِي: أنَّهم لَمّا شاهَدُوهُ يَعْمَلُ السَّفِينَةَ، وكانُوا لا يَعْرِفُونَها قَبْلَ ذَلِكَ، قالُوا: يا نُوحُ ما تَصْنَعُ ؟ قالَ: أمْشِي بِها عَلى الماءِ فَعَجِبُوا مِن قَوْلِهِ، وسَخِرُوا بِهِ. ثُمَّ أجابَ عَلَيْهِمْ بِقَوْلِهِ: ﴿إنْ تَسْخَرُوا مِنّا فَإنّا نَسْخَرُ مِنكم كَما تَسْخَرُونَ﴾ وهَذا الكَلامُ مُسْتَأْنَفٌ عَلى تَقْدِيرِ سُؤالٍ كَأنَّهُ قِيلَ: فَماذا قالَ لَهم ؟ والمَعْنى: إنْ تَسْخَرُوا مِنّا بِسَبَبِ عَمَلِنا لِلسَّفِينَةِ اليَوْمَ فَإنّا نَسْخَرُ مِنكم غَدًا عِنْدَ الغَرَقِ. ومَعْنى السُّخْرِيَةِ هُنا: الِاسْتِجْهالُ، أيْ إنْ تَسْتَجْهِلُونا فَإنّا نَسْتَجْهِلُكم كَما تَسْتَجْهِلُونَ، واسْتِجْهالُهُ لَهم بِاعْتِبارِ إظْهارِهِ لَهم ومُشافَهَتِهِمْ، وإلّا فَهم عِنْدَهُ جُهّالٌ قَبْلَ هَذا وبَعْدَهُ، والتَّشْبِيهُ في قَوْلِهِ: ﴿كَما تَسْخَرُونَ﴾ لِمُجَرَّدِ التَّحَقُّقِ والوُقُوعِ، أوِ التَّجَدُّدِ والتَّكَرُّرِ، والمَعْنى: إنّا نَسْخَرُ مِنكم سُخْرِيَةً مُتَحَقِّقَةً واقِعَةً كَما تَسْخَرُونَ مِنّا كَذَلِكَ، أوْ مُتَجَدِّدَةً مُتَكَرِّرَةً كَما تَسْخَرُونَ مِنّا كَذَلِكَ، وقِيلَ مَعْناهُ: نَسْخَرُ مِنكم في المُسْتَقْبَلِ سُخْرِيَةً مِثْلَ سُخْرِيَتِكم إذا وقَعَ عَلَيْكُمُ الغَرَقُ، وفِيهِ نَظَرٌ فَإنَّ حالَهم إذْ ذاكَ لا تُناسِبُهُ السُّخْرِيَةُ إذْ هم في شُغْلٍ شاغِلٍ عَنْها. ثُمَّ هَدَّدَهم بِقَوْلِهِ: ﴿فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَن يَأْتِيهِ عَذابٌ يُخْزِيهِ﴾ وهو عَذابُ الغَرَقِ في الدُّنْيا ﴿ويَحِلُّ عَلَيْهِ عَذابٌ مُقِيمٌ﴾ وهو عَذابُ النّارِ الدّائِمُ، ومَعْنى يَحِلُّ: يَجْعَلُ المُؤَجَّلَ حالًّا، مَأْخُوذٌ مِن حُلُولِ الدَّيْنِ المُؤَجَّلِ، ومَن مَوْصُولَةٌ في مَحَلِّ نَصْبٍ، ويَجُوزُ أنْ تَكُونَ اسْتِفْهامِيَّةً في مَحَلِّ رَفْعٍ: أيْ أيُّنا يَأْتِيهِ عَذابٌ يُخْزِيهِ، وقِيلَ: في مَوْضِعِ رَفْعٍ بِالِابْتِداءِ، ويَأْتِيهِ الخَبَرُ، ويُخْزِيهِ صِفَةٌ لِعَذابٌ. قالَ الكِسائِيُّ: إنَّ ناسًا مِن أهْلِ الحِجازِ يَقُولُونَ سَوْفَ تَعْلَمُونَ، قالَ: ومَن قالَ سَتَعْلَمُونَ أسْقَطَ الواوَ والفاءَ جَمِيعًا، وجَوَّزَ الكُوفِيُّونَ سَوْفَ تَعْلَمُونَ ومَنَعَهُ البَصْرِيُّونَ، والمُرادُ بِعَذابِ الخِزْيِ: العَذابُ الَّذِي يُخْزِي صاحِبَهُ ويَحِلُّ عَلَيْهِ العارُ. قَوْلُهُ: ﴿حَتّى إذا جاءَ أمْرُنا وفارَ التَّنُّورُ﴾ حَتّى هي الِابْتِدائِيَّةُ دَخَلَتْ عَلى الجُمْلَةِ الشَّرْطِيَّةِ وجُعِلَتْ غايَةً لِقَوْلِهِ: ﴿واصْنَعِ الفُلْكَ بِأعْيُنِنا﴾ . والتَّنُّورُ اخْتُلِفَ في تَفْسِيرِها عَلى أحْوالٍ: الأوَّلُ: أنَّها وجْهُ الأرْضِ والعَرَبُ تُسَمِّي وجْهَ الأرْضِ تَنُّورًا، رُوِيَ ذَلِكَ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ وعِكْرِمَةَ والزُّهْرِيِّ وابْنِ عُيَيْنَةَ. الثّانِي: أنَّهُ تَنُّورُ الخُبْزِ الَّذِي يَخْبِزُونَهُ فِيهِ، وبِهِ قالَ مُجاهِدٌ وعَطِيَّةُ والحَسَنُ، ورُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ أيْضًا. الثّالِثُ: أنَّهُ مَوْضِعُ اجْتِماعِ الماءِ في السَّفِينَةِ، رُوِيَ عَنِ الحَسَنِ. الرّابِعُ: أنَّهُ طُلُوعُ الفَجْرِ، مِن قَوْلِهِمْ تَنُّورُ الفَجْرِ، رُوِيَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أبِي طالِبٍ. الخامِسُ: أنَّهُ مَسْجِدُ الكُوفَةِ، رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ أيْضًا ومُجاهِدٍ، قالَ مُجاهِدٌ: كانَ ناحِيَةُ التَّنُّورِ بِالكُوفَةِ. السّادِسُ: أنَّهُ أعالِي الأرْضِ والمَواضِعُ المُرْتَفِعَةُ، قالَهُ قَتادَةُ. السّابِعُ: أنَّهُ العَيْنُ الَّتِي بِالجَزِيرَةِ المُسَمّاةِ عَيْنَ الوَرْدَةِ، رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عِكْرِمَةَ. الثّامِنُ: أنَّهُ مَوْضِعٌ بِالهِنْدِ، قالَ ابْنُ عَبّاسٍ: كانَ تَنَّوُرُ آدَمَ بِالهِنْدِ. قالَ النَّحّاسُ: وهَذِهِ الأقْوالُ لَيْسَتْ بِمُتَناقِضَةٍ، لِأنَّ اللَّهَ سُبْحانَهُ قَدْ أخْبَرَ بِأنَّ الماءَ قَدْ جاءَ مِنَ السَّماءِ والأرْضِ، قالَ: ﴿فَفَتَحْنا أبْوابَ السَّماءِ بِماءٍ مُنْهَمِرٍ﴾ ﴿وفَجَّرْنا الأرْضَ عُيُونًا﴾ [القمر: ١١، ١٢] فَهَذِهِ الأقْوالُ تَجْتَمِعُ في أنَّ ذَلِكَ كانَ عَلامَةً، هَكَذا قالَ، وفِيهِ نَظَرٌ، فَإنَّ القَوْلَ الرّابِعَ يُنافِي هَذا الجَمْعَ، ولا يَسْتَقِيمُ عَلَيْهِ التَّفْسِيرُ بِنَبْعِ الماءِ. إلّا إذا كانَ المُرادُ مُجَرَّدَ العَلامَةِ كَما ذَكَرَهُ آخِرًا. وقَدْ ذَكَرَ أهْلُ اللُّغَةِ أنَّ الفَوْرَ: الغَلَيانُ، والتَّنُّورَ: اسْمٌ عَجَمِيٌّ عَرَّبَتْهُ العَرَبُ، وقِيلَ: مَعْنى ﴿وفارَ التَّنُّورُ﴾: التَّمْثِيلُ بِحُضُورِ العَذابِ كَقَوْلِهِمْ: حَمِيَ الوَطِيسُ: إذا اشْتَدَّ الحَرْبُ، ومِنهُ قَوْلُ الشّاعِرِ: تَرَكْتُمْ قِدْرَكم لا شَيْءَ فِيها ∗∗∗ وقِدْرُ القَوْمِ حامِيَةٌ تَفُورُيُرِيدُ الحَرْبَ. قَوْلُهُ: ﴿قُلْنا احْمِلْ فِيها مِن كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ﴾ أيْ قُلْنا: يا نُوحُ احْمِلْ في السَّفِينَةِ مِن كُلِّ زَوْجَيْنِ مِمّا في الأرْضِ مِنَ الحَيَواناتِ اثْنَيْنِ ذَكَرًا وأُنْثى. وقَرَأ حَفْصٌ ﴿مِن كُلٍّ﴾ بِتَنْوِينِ كُلٍّ: أيْ مِن كُلِّ شَيْءٍ زَوْجَيْنِ، والزَّوْجانِ لِلِاثْنَيْنِ اللَّذَيْنِ لا يَسْتَغْنِي أحَدُهُما عَنِ الآخَرِ، ويُطْلَقُ عَلى كُلِّ واحِدٍ مِنهُما زَوْجٌ كَما يُقالُ لِلرَّجُلِ زَوْجٌ ولِلْمَرْأةِ زَوْجٌ، ويُطْلَقُ الزَّوْجُ عَلى الِاثْنَيْنِ إذا اسْتُعْمِلَ مُقابِلًا لِلْفَرْدِ، ويُطْلَقُ الزَّوْجُ عَلى الضَّرْبِ والصِّنْفِ، ومِثْلُهُ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وأنْبَتَتْ مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ﴾ [الحج: ٥]، ومِثْلُهُ قَوْلُ الأعْشى: وكُلُّ ضَرْبٍ مِنَ الدِّيباجِ يَلْبَسُهُ أبُو حُذافَةَ مَخْبُوٌّ بِذاكَ مَعا (p-٦٥٨)أرادَ كُلَّ صِنْفٍ مِنَ الدِّيباجِ ﴿وأهْلَكَ﴾ عَطْفٌ عَلى زَوْجَيْنِ، أوْ عَلى اثْنَيْنِ عَلى قِراءَةِ حَفْصٍ، وعَلى مَحَلِّ ﴿كُلٍّ زَوْجَيْنِ﴾، فَإنَّهُ في مَحَلِّ نَصْبٍ بِاحْمِلْ، أوْ عَلى ﴿اثْنَيْنِ﴾ عَلى قِراءَةِ الجُمْهُورِ، والمُرادُ: امْرَأتُهُ وبَنُوهُ ونِساؤُهم ﴿إلّا مَن سَبَقَ عَلَيْهِ القَوْلُ﴾ أيْ مَن تَقَدَّمَ الحُكْمُ عَلَيْهِ بِأنَّهُ مِنَ المُغْرَقِينَ في قَوْلِهِ: ﴿ولا تُخاطِبْنِي في الَّذِينَ ظَلَمُوا إنَّهم مُغْرَقُونَ﴾ عَلى الِاخْتِلافِ السّابِقِ فِيهِمْ، فَمَن جَعَلَهم جَمِيعَ الكُفّارِ مِن أهْلِهِ وغَيْرِهِمْ كانَ هَذا الِاسْتِثْناءُ مِن جُمْلَةِ ﴿احْمِلْ فِيها مِن كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وأهْلَكَ﴾ ومَن قالَ: المُرادُ بِهِمْ ولَدُهُ كَنْعانُ وامْرَأتُهُ واعِلَةُ أُمُّ كَنْعانَ جَعَلَ الِاسْتِثْناءَ مِن أهْلَكَ، ويَكُونُ مُتَّصِلًا إنْ أُرِيدَ بِالأهْلِ ما هو أعَمُّ مِنَ المُسْلِمِ والكافِرِ مِنهم، ومُنْقَطِعًا إنْ أُرِيدَ بِالأهْلِ المُسْلِمُونَ مِنهم فَقَطْ. قَوْلُهُ: ﴿ومَن آمَنَ﴾ مَعْطُوفٌ عَلى ( أهْلَكَ ): أيْ واحْمِلْ في السَّفِينَةِ مَن آمَنَ مِن قَوْمِكَ، وأفْرَدَ الأهْلَ مِنهم لِمَزِيدِ العِنايَةِ بِهِمْ، أوْ لِلِاسْتِثْناءِ مِنهم عَلى القَوْلِ الآخَرِ. ثُمَّ وصَفَ اللَّهُ سُبْحانَهُ قِلَّةَ المُؤْمِنِينَ مَعَ نُوحٍ بِالنِّسْبَةِ إلى مَن كَفَرَ بِهِ فَقالَ: ﴿وما آمَنَ مَعَهُ إلّا قَلِيلٌ﴾ قِيلَ: هم ثَمانُونَ إنْسانًا: مِنهم ثَلاثَةٌ مِن بَنِيهِ، وهو سامٌ، وحامٌ، ويافِثُ، وزَوْجاتُهم، ولَمّا خَرَجُوا مِنَ السَّفِينَةِ بَنَوْا قَرْيَةً يُقالُ لَها قَرْيَةُ الثَّمانِينَ، وهي مَوْجُودَةٌ بِناحِيَةِ المَوْصِلِ، وقِيلَ كانُوا عَشَرَةً، وقِيلَ سَبْعَةً، وقِيلَ كانُوا اثْنَيْنِ وسَبْعِينَ، وقِيلَ غَيْرُ ذَلِكَ. قَوْلُهُ: ﴿وقالَ ارْكَبُوا فِيها﴾ القائِلُ نُوحٌ، وقِيلَ اللَّهُ سُبْحانَهُ. والأوَّلُ أوْلى لِقَوْلِهِ: ﴿إنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ والرُّكُوبُ: العُلُوُّ عَلى ظَهْرِ الشَّيْءِ حَقِيقَةً نَحْوَ رَكِبَ الدّابَّةَ، أوْ مَجازًا نَحْوَ رَكِبَهُ الدَّيْنُ، وفي الكَلامِ حَذْفٌ: أيِ ارْكَبُوا الماءَ في السَّفِينَةِ فَلا يَرِدُ أنَّ رَكِبَ يَتَعَدّى بِنَفْسِهِ، وقِيلَ: إنَّ الفائِدَةَ في زِيادَةِ في أنَّهُ أمَرَهم بِأنْ يَكُونُوا في جَوْفِ السَّفِينَةِ لا عَلى ظَهْرِها، وقِيلَ: إنَّها زِيدَتْ لِرِعايَةِ جانِبِ المَحَلِّيَّةِ في السَّفِينَةِ كَما في قَوْلِهِ: ﴿فَإذا رَكِبُوا في الفُلْكِ﴾ [العنكبوت: ٦٥]، وقَوْلِهِ: ﴿حَتّى إذا رَكِبا في السَّفِينَةِ﴾ [الكهف: ٧١] قِيلَ: ولَعَلَّ نُوحًا قالَ هَذِهِ المَقالَةَ بَعْدَ إدْخالِ ما أُمِرَ بِحَمْلِهِ مِنَ الأزْواجِ، كَأنَّهُ قِيلَ: فَحَمَلَ الأزْواجَ وأدْخَلَها في الفُلْكِ، وقالَ لِلْمُؤْمِنِينَ، ويُمْكِنُ أنْ يُقالَ: إنَّهُ أمَرَ بِالرُّكُوبِ كُلَّ مَن أُمِرَ بِحَمْلِهِ مِنَ الأزْواجِ والأهْلِ والمُؤْمِنِينَ، ولا يَمْتَنِعُ أنْ يَفْهَمَ خِطابَهُ مَن لا يَعْقِلُ مِنَ الحَيَواناتِ، أوْ يَكُونَ هَذا عَلى طَرِيقَةِ التَّغْلِيبِ. قَوْلُهُ: ﴿بِسْمِ اللَّهِ﴾ مُتَعَلِّقٌ بِـ ارْكَبُوا، أوْ حالٌ مِن فاعِلِهِ: أيْ مُسَمِّينَ اللَّهَ، أوْ قائِلِينَ: ﴿بِسْمِ اللَّهِ مَجْراها ومُرْساها﴾ . قَرَأ أهْلُ الحَرَمَيْنِ وأهْلُ البَصْرَةِ بِضَمِّ المِيمِ فِيهِما إلّا مَن شَذَّ مِنهم عَلى أنَّهُما اسْما زَمانٍ، وهُما في مَوْضِعِ نَصْبٍ عَلى الظَّرْفِيَّةِ: أيْ وقْتَ مَجْراها ومُرْساها، ويَجُوزُ أنْ يَكُونا مَصْدَرَيْنِ: أيْ وقْتَ إجْرائِها وإرْسائِها. وقَرَأ الأعْمَشُ وحَمْزَةُ والكِسائِيُّ وحَفْصٌ مَجْراها بِفَتْحِ المِيمِ، ومُرْساها بِضَمِّها، وقَرَأ يَحْيى بْنُ وثّابٍ بِفَتْحِها فِيهِما. وقَرَأ مُجاهِدٌ وسُلَيْمانُ بْنُ جُنْدُبٍ وعاصِمٌ الجَحْدَرِيُّ وأبُو رَجاءٍ العُطارِدِيُّ مُجْرِيها ومُرْسِيها عَلى أنَّهُما وصْفانِ لِلَّهِ، ويَجُوزُ أنْ يَكُونا في مَوْضِعِ رَفْعٍ بِإضْمارِ مُبْتَدَأٍ: أيْ هو مُجْرِيها ومُرْسِيها ﴿إنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ﴾ لِلذُّنُوبِ رَحِيمٌ بِعِبادِهِ، ومِن رَحْمَتِهِ إنْجاءُ هَذِهِ الطّائِفَةِ تَفَضُّلًا مِنهُ لِبَقاءِ هَذا الجِنْسِ الحَيَوانِيِّ، وعَدَمِ اسْتِئْصالِهِ بِالغَرَقِ. قَوْلُهُ: ﴿وهي تَجْرِي بِهِمْ في مَوْجٍ كالجِبالِ﴾ هَذِهِ الجُمْلَةُ مُتَّصِلَةٌ بِجُمْلَةٍ مَحْذُوفَةٍ دَلَّ عَلَيْها الأمْرُ بِالرُّكُوبِ، والتَّقْدِيرُ: فَرَكِبُوا مُسَمِّينَ وهي تَجْرِي بِهِمْ، والمَوْجُ جَمْعُ مَوْجَةٍ، وهي ما ارْتَفَعَ عَنْ جُمْلَةِ الماءِ الكَثِيرِ عِنْدَ اشْتِدادِ الرِّيحِ، وشَبَّهَها بِالجِبالِ المُرْتَفِعَةِ عَلى الأرْضِ. قَوْلُهُ: ﴿ونادى نُوحٌ ابْنَهُ﴾ هو كَنْعانُ، قِيلَ: وكانَ كافِرًا، واسْتُبْعِدَ كَوْنُ نُوحٍ يُنادِي مَن كانَ كافِرًا مَعَ قَوْلِهِ: ﴿رَبِّ لا تَذَرْ عَلى الأرْضِ مِنَ الكافِرِينَ دَيّارًا﴾ [نوح: ٢٦] وأُجِيبُ بِأنَّهُ كانَ مُنافِقًا فَظَنَّ نُوحٌ أنَّهُ مُؤْمِنٌ، وقِيلَ: حَمَلَتْهُ شَفَقَةُ الأُبُوَّةِ عَلى ذَلِكَ، وقِيلَ: إنَّهُ كانَ ابْنُ امْرَأتِهِ ولَمْ يَكُنْ بِابْنِهِ، ويُؤَيِّدُهُ ما رُوِيَ أنَّ عَلِيًّا قَرَأ ونادى نُوحٌ ابْنَها، وقِيلَ: إنَّهُ كانَ لِغَيْرِ رَشْدَةٍ، ووُلِدَ عَلى فِراشِ نُوحٍ. ورُدَّ بِأنَّ قَوْلَهُ: ﴿ونادى نُوحٌ ابْنَهُ﴾، وقَوْلَهُ: ﴿إنَّ ابْنِي مِن أهْلِي﴾ يَدْفَعُ ذَلِكَ عَلى ما فِيهِ مِن عَدَمِ صِيانَةِ مَنصِبِ النُّبُوَّةِ ﴿وكانَ في مَعْزِلٍ﴾ أيْ في مَكانٍ عَزَلَ فِيهِ نَفْسَهُ عَنْ قَوْمِهِ وقَرابَتِهِ بِحَيْثُ لَمْ يَبْلُغْهُ قَوْلُ نُوحٍ: ارْكَبُوا فِيها، وقِيلَ في مَعْزِلٍ مِن دِينِ أبِيهِ، وقِيلَ مِنَ السَّفِينَةِ، قِيلَ: وكانَ هَذا النِّداءُ قَبْلَ أنْ يَسْتَيْقِنَ النّاسُ الغَرَقَ، بَلْ كانَ في أوَّلِ فَوْرِ التَّنُّورِ. قَوْلُهُ: ﴿يابُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنا﴾ . قَرَأ عاصِمٌ بِفَتْحِ الياءِ، والباقُونَ بِكَسْرِها، فَأمّا الكَسْرُ فَلِجَعْلِهِ بَدَلًا مِن ياءِ الإضافَةِ، لِأنَّ الأصْلَ يا بُنَيَّ، وأمّا الفَتْحُ فَلِقَلْبِ ياءِ الإضافَةِ ألِفًا لِخِفَّةِ الألِفِ، ثُمَّ حُذِفَ الألِفُ وبَقِيَتِ الفَتْحَةُ لِتَدُلَّ عَلَيْهِ. قالَ النَّحّاسُ: وقِراءَةُ عاصِمٍ مُشْكِلَةٌ. وقالَ أبُو حاتِمٍ: أصْلُهُ يا بُنَيّاهُ ثُمَّ تُحْذَفُ، وقَدْ جَعَلَ الزَّجّاجُ لِلْفَتْحِ وجْهَيْنِ، ولِلْكَسْرِ وجْهَيْنِ. أمّا الفَتْحُ بِالوَجْهِ الأوَّلِ ما ذَكَرْناهُ، والوَجْهُ الثّانِي: أنْ تُحْذَفَ الألِفُ لِالتِقاءِ السّاكِنَيْنِ. وأمّا الكَسْرُ فالوَجْهُ الأوَّلُ كَما ذَكَرْناهُ، والثّانِي: أنْ تُحْذَفَ لِالتِقاءِ السّاكِنَيْنِ كَذا حَكى عَنْهُ النَّحّاسُ. وقَرَأ أبُو عَمْرٍو والكِسائِيُّ وحَفْصٌ ﴿ارْكَبْ مَعَنا﴾ بِإدْغامِ الباءِ في المِيمِ لِتَقارُبِهِما في المَخْرَجِ. وقَرَأ الباقُونَ بِعَدَمِ الإدْغامِ. ﴿ولا تَكُنْ مَعَ الكافِرِينَ﴾ نَهاهُ عَنِ الكَوْنِ مَعَ الكافِرِينَ: أيْ خارِجَ السَّفِينَةِ، ويُمْكِنُ أنْ يُرادَ بِالكَوْنِ مَعَهُمُ الكَوْنُ عَلى دِينِهِمْ. ثُمَّ حَكى اللَّهُ سُبْحانَهُ ما أجابَ بِهِ ابْنُ نُوحٍ عَلى أبِيهِ فَقالَ: ﴿قالَ سَآوِي إلى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الماءِ﴾ أيْ يَمْنَعُنِي بِارْتِفاعِهِ مِن وُصُولِ الماءِ إلَيَّ، فَأجابَ عَنْهُ نُوحٌ بِقَوْلِهِ: ﴿لا عاصِمَ اليَوْمَ مِن أمْرِ اللَّهِ﴾ أيْ لا مانِعَ فَإنَّهُ يَوْمٌ قَدْ حَقَّ فِيهِ العَذابُ وجَفَّ القَلَمُ بِما هو كائِنٌ فِيهِ، نَفى جِنْسَ العاصِمِ فَيَنْدَرِجُ تَحْتَهُ العاصِمُ مِنَ الغَرَقِ في ذَلِكَ اليَوْمِ انْدِراجًا أوَّلِيًّا، وعَبَّرَ عَنِ الماءِ أوْ عَنِ الغَرَقِ بِأمْرِ اللَّهِ سُبْحانَهُ تَفْخِيمًا لِشَأْنِهِ وتَهْوِيلًا لِأمْرِهِ. والِاسْتِثْناءُ، قالَ الزَّجّاجُ: هو مُنْقَطِعٌ: أيْ لَكِنْ مَن رَحِمَهُ اللَّهُ فَهو يَعْصِمُهُ، فَيَكُونُ ﴿مَن رَحِمَ﴾ في مَوْضِعِ نَصْبٍ، ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ الِاسْتِثْناءُ مُتَّصِلًا عَلى أنْ يَكُونَ عاصِمَ بِمَعْنى مَعْصُومٍ: أيْ لا مَعْصُومَ اليَوْمَ مِن أمْرِ اللَّهِ إلّا (p-٦٥٩)مَن رَحِمَهُ اللَّهُ: مِثْلَ ﴿ماءٍ دافِقٍ﴾ [الطارق: ٦] ﴿عِيشَةٍ راضِيَةٍ﴾ [الحاقة: ٢١] ومِنهُ قَوْلُ الشّاعِرِ: ؎دَعِ المَكارِمَ لا تَنْهَضْ لِبُغْيَتِها ∗∗∗ واقْعُدْ فَإنَّكَ أنْتَ الطّاعِمُ الكاسِي أيْ المُطْعَمُ المَكْسُوُّ، واخْتارَ هَذا الوَجْهَ ابْنُ جَرِيرٍ، وقِيلَ: العاصِمُ بِمَعْنى ذِي العِصْمَةِ، كَلابِنٍ وتامِرٍ، والتَّقْدِيرُ: لا عاصِمَ قَطُّ إلّا مَكانَ مَن رَحِمَ اللَّهُ وهو السَّفِينَةُ، وحِينَئِذٍ فَلا يُرَدُّ ما يُقالُ: إنَّ مَعْنى مَن رَحِمَ مَن رَحِمَهُ اللَّهُ، ومَن رَحِمَهُ اللَّهُ هو مَعْصُومٌ، فَكَيْفَ يَصِحُّ اسْتِثْناؤُهُ عَنِ العاصِمِ ؟ لِأنَّ في كُلِّ وجْهٍ مِن هَذِهِ الوُجُوهِ دَفْعًا لِلْإشْكالِ. وقُرِئَ إلّا مَن رُحِمَ عَلى البِناءِ لِلْمَفْعُولِ ﴿وحالَ بَيْنَهُما المَوْجُ﴾ أيْ حالَ بَيْنَ نُوحٍ وابْنِهِ فَتَعَذَّرَ خَلاصُهُ مِنَ الغَرَقِ، وقِيلَ: بَيْنَ ابْنِ نُوحٍ وبَيْنَ الجَبَلِ، والأوَّلُ أوْلى، لِأنَّ تَفَرُّعَ ﴿فَكانَ مِنَ المُغْرَقِينَ﴾ عَلَيْهِ يَدُلُّ عَلى الأوَّلِ لا عَلى الثّانِي، لِأنَّ الجَبَلَ لَيْسَ بِعاصِمٍ. قَوْلُهُ: ﴿وقِيلَ يا أرْضُ ابْلَعِي ماءَكِ﴾ يُقالُ: بَلَعَ الماءُ يَبْلَعُهُ مِثْلَ مَنَعَ يَمْنَعُ، وبَلِعَ يَبْلَعُ مِثْلَ حَمِدَ يَحْمَدُ لُغَتانِ حَكاهُما الكِسائِيُّ والفَرّاءُ: والبَلْعُ الشُّرْبُ، ومِنهُ البالُوعَةُ، وهي المَوْضِعُ الَّذِي يَشْرَبُ الماءَ، والِازْدِرادُ، يُقالُ: بَلَعَ ما في فَمِهِ مِنَ الطَّعامِ إذا ازْدَرَدَهُ، واسْتُعِيرَ البَلْعُ الَّذِي هو مِن فِعْلِ الحَيَوانِ لِلنَّشَفِ دَلالَةً عَلى أنَّ ذَلِكَ لَيْسَ كالنَّشَفِ المُعْتادِ الكائِنِ عَلى سَبِيلِ التَّدْرِيجِ ﴿ويا سَماءُ أقْلِعِي﴾ الإقْلاعُ الإمْساكُ، يُقالُ: أقْلَعَ المَطَرُ إذا انْقَطَعَ. والمَعْنى: أمَرَ السَّماءَ بِإمْساكِ الماءِ عَنِ الإرْسالِ، وقَدَّمَ نِداءَ الأرْضِ عَلى السَّماءِ لِكَوْنِ ابْتِداءِ الطُّوفانِ مِنها ﴿وغِيضَ الماءُ﴾ أيْ نَقَصَ، يُقالُ: غاضَ الماءُ وغُضْتُهُ أنا ﴿وقُضِيَ الأمْرُ﴾ أيْ أُحْكِمَ وفُرِغَ مِنهُ: يَعْنِي أهْلَكَ اللَّهُ قَوْمَ نُوحٍ عَلى تَمامٍ وإحْكامٍ ﴿واسْتَوَتْ عَلى الجُودِيِّ﴾ أيِ اسْتَقَرَّتِ السَّفِينَةُ عَلى الجَبَلِ المَعْرُوفِ بِالجُودِيِّ، وهو جَبَلٌ بِقُرْبِ المَوْصِلِ، وقِيلَ: إنَّ الجُودِيَّ اسْمٌ لِكُلِّ جَبَلٍ، ومِنهُ قَوْلُ زَيْدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ نُفَيْلٍ: سُبْحانَهُ ثُمَّ سُبْحانًا نَعُوذُ بِهِ وقَبْلَنا سَبَّحَ الجُودِيُّ والجُمُدُ ويُقالُ: إنَّهُ مِن جِبالِ الجَنَّةِ فَلِذا اسْتَوَتْ عَلَيْهِ ﴿وقِيلَ بُعْدًا لِلْقَوْمِ الظّالِمِينَ﴾ القائِلُ هو اللَّهُ سُبْحانَهُ لِيُناسِبَ صَدْرَ الآيَةِ، وقِيلَ: هو نُوحٌ وأصْحابُهُ. والمَعْنى: وقِيلَ هَلاكًا لِلْقَوْمِ الظّالِمِينَ، وهو مِنَ الكَلِماتِ الَّتِي تَخْتَصُّ بِدُعاءِ السُّوءِ، ووَصَفَهم بِالظُّلْمِ لِلْإشْعارِ بِأنَّهُ عِلَّةُ الهَلاكِ، ولِلْإيماءِ إلى قَوْلِهِ: ﴿ولا تُخاطِبْنِي في الَّذِينَ ظَلَمُوا﴾ [هود: ٣٧] . وقَدْ أطْبَقَ عُلَماءُ البَلاغَةِ عَلى أنَّ هَذِهِ الآيَةَ الشَّرِيفَةَ بالِغَةٌ مِنَ الفَصاحَةِ والبَلاغَةِ إلى مَحَلٍّ يَتَقاصَرُ عَنْهُ الوَصْفُ، وتَضْعُفُ عَنِ الإتْيانِ بِما يُقارِبُهُ قُدْرَةُ القادِرِينَ عَلى فُنُونِ البَلاغَةِ، الثّابِتِينَ الأقْدامَ في عِلْمِ البَيانِ، الرّاسِخِينَ في عِلْمِ اللُّغَةِ، المُطَّلِعِينَ عَلى ما هو مُدَوَّنٌ مِن خُطَبِ مَصاقِعِ خُطَباءِ العَرَبِ وأشْعارِ بَواقِعِ شُعَرائِهِمْ، المُرْتاضِينَ بِدَقائِقِ عُلُومِ العَرَبِيَّةِ وأسْرارِها. وقَدْ تَعَرَّضَ لِبَيانِ بَعْضِ ما اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ مِن ذَلِكَ جَماعَةٌ مِنهم فَأطالُوا وأطابُوا، رَحِمْنا اللَّهُ وإيّاهم بِرَحْمَتِهِ الواسِعَةِ. وقَدْ أخْرَجَ ابْنُ أبِي حاتِمٍ عَنْ قَتادَةَ في قَوْلِهِ: ﴿فَعَلَيَّ إجْرامِي﴾ قالَ: عَمَلِي ﴿وأنا بَرِيءٌ مِمّا تُجْرِمُونَ﴾ أيْ مِمّا تَعْمَلُونَ. وأخْرَجَ ابْنُ أبِي حاتِمٍ وأبُو الشَّيْخِ عَنْ قَتادَةَ في قَوْلِهِ: ﴿وأُوحِيَ إلى نُوحٍ أنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِن قَوْمِكَ إلّا مَن قَدْ آمَنَ﴾ وذَلِكَ حِينَ دَعا عَلَيْهِمْ نُوحٌ قالَ: ﴿لا تَذَرْ عَلى الأرْضِ مِنَ الكافِرِينَ دَيّارًا﴾ [نوح: ٢٦] . وأخْرَجَ أحْمَدُ في الزُّهْدِ وابْنُ المُنْذِرِ وأبُو الشَّيْخِ عَنِ الحَسَنِ قالَ: إنَّ نُوحًا لَمْ يَدْعُ عَلى قَوْمِهِ حَتّى نَزَلَتِ الآيَةُ هَذِهِ، فانْقَطَعَ عِنْدَ ذَلِكَ رَجاؤُهُ مِنهم فَدَعا عَلَيْهِمْ. وأخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ في قَوْلِهِ: ﴿فَلا تَبْتَئِسْ﴾ قالَ: فَلا تَحْزَنْ. وأخْرَجَ ابْنُ أبِي حاتِمٍ وأبُو الشَّيْخِ والبَيْهَقِيُّ عَنْهُ في قَوْلِهِ: ﴿واصْنَعِ الفُلْكَ بِأعْيُنِنا ووَحْيِنا﴾ قالَ: بِعَيْنِ اللَّهِ ووَحْيِهِ. وأخْرَجَ ابْنُ أبِي حاتِمٍ عَنْهُ أيْضًا قالَ: لَمْ يَعْلَمْ نُوحٌ كَيْفَ يَصْنَعُ الفُلْكَ، فَأوْحى اللَّهُ إلَيْهِ أنْ يَصْنَعَها مِثْلَ جُؤْجُؤِ الطّائِرِ. وأخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وابْنُ أبِي حاتِمٍ وأبُو الشَّيْخِ والحاكِمُ وابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ عائِشَةَ قالَتْ: قالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ: «كانَ نُوحٌ مَكَثَ في قَوْمِهِ ألْفَ سَنَةٍ إلّا خَمْسِينَ عامًا يَدْعُوهم، حَتّى كانَ آخِرَ زَمانِهِ غَرَسَ شَجَرَةً فَعَظُمَتْ وذَهَبَتْ كُلَّ مَذْهَبٍ، ثُمَّ قَطَعَها ثُمَّ جَعَلَ يَعْمَلُها سَفِينَةً ويَمُرُّونَ فَيَسْألُونَهُ فَيَقُولُ أعْمَلُها سَفِينَةً فَيَسْخَرُونَ مِنهُ ويَقُولُونَ يَعْمَلُ سَفِينَةً في البَرِّ، وكَيْفَ تَجْرِي ؟ قالَ: سَوْفَ تَعْلَمُونَ، فَلَمّا فَرَغَ مِنها وفارَ التَّنُّورُ وكَثُرَ الماءُ في السِّكَكِ خَشِيَتْهُ أُمُّ الصَّبِيِّ عَلَيْهِ، وكانَتْ تُحِبُّهُ حُبًّا شَدِيدًا، فَخَرَجَتْ إلى الجَبَلِ حَتّى بَلَغَتْ ثُلُثَهُ، فَلَمّا بَلَغَها الماءُ خَرَجَتْ حَتّى اسْتَوَتْ عَلى الجَبَلِ، فَلَمّا بَلَغَ الماءُ رَقَبَتَهُ رَفَعَتْهُ بَيْنَ يَدَيْها حَتّى ذَهَبَ بِها الماءُ، فَلَوْ رَحِمَ اللَّهُ مِنهم أحَدًا لَرَحِمَ أُمَّ الصَّبِيِّ» . وقَدْ ضَعَّفَهُ الذَّهَبِيُّ في مُسْتَدْرَكِهِ عَلى مُسْتَدْرَكِ الحاكِمِ. وقَدْ رُوِيَ في صِفَةِ السَّفِينَةِ وقَدْرِها أحادِيثُ وآثارٌ لَيْسَ في ذِكْرِها هَنا كَثِيرُ فائِدَةٍ. وأخْرَجَ ابْنُ المُنْذِرِ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ في قَوْلِهِ: ﴿مَن يَأْتِيهِ عَذابٌ يُخْزِيهِ﴾ قالَ: هو الغَرَقُ ﴿ويَحِلُّ عَلَيْهِ عَذابٌ مُقِيمٌ﴾ قالَ: هو الخُلُودُ في النّارِ. وأخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وابْنُ المُنْذِرِ وابْنُ أبِي حاتِمٍ وأبُو الشَّيْخِ والحاكِمُ وصَحَّحَهُ عَنْهُ قالَ: كانَ بَيْنَ دَعْوَةِ نُوحٍ وبَيْنَ هَلاكِ قَوْمِهِ ثَلاثُمِائَةِ سَنَةٍ، وكانَ فارَ التَّنُّورُ بِالهِنْدِ وطافَتْ سَفِينَةُ نُوحٍ بِالبَيْتِ أُسْبُوعًا. وأخْرَجَ ابْنُ أبِي حاتِمٍ عَنْهُ أيْضًا قالَ: التَّنُّورُ العَيْنُ الَّتِي بِالجَزِيرَةِ عَيْنُ الوَرْدَةِ. وأخْرَجَ ابْنُ المُنْذِرِ وابْنُ أبِي حاتِمٍ وأبُو الشَّيْخِ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أبِي طالِبٍ قالَ: فارَ التَّنُّورُ مِن مَسْجِدِ الكُوفَةِ مِن قِبَلِ أبْوابِ كِنْدَةَ. وقَدْ رُوِيَ عَنْهُ نَحْوُ هَذا مِن طُرُقٍ. وأخْرَجَ سَعِيدُ بْنُ مَنصُورٍ وابْنُ جَرِيرٍ وابْنُ المُنْذِرِ وابْنُ أبِي حاتِمٍ وأبُو الشَّيْخِ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ قالَ: التَّنُّورُ وجْهُ الأرْضِ، قِيلَ لَهُ: إذا رَأيْتَ الماءَ عَلى وجْهِ الأرْضِ فارْكَبْ أنْتَ ومَن مَعَكَ. والعَرَبُ تُسَمِّي وجْهَ الأرْضِ تَنُّورَ الأرْضِ. وأخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وابْنُ المُنْذِرِ عَنْ عَلِيِّ ﴿وفارَ التَّنُّورُ﴾ قالَ: طَلَعَ الفَجْرُ قِيلَ لَهُ: إذا طَلَعَ الفَجْرُ فارْكَبْ أنْتَ وأصْحابُكَ. وقَدْ رُوِيَ في تَفْسِيرِ التَّنُّورِ غَيْرُ هَذا، وقَدْ قَدَّمْنا الإشارَةَ إلى ذَلِكَ. ورُوِيَ في صِفَةِ القِصَّةِ وما حَمَلَهُ نُوحٌ في السَّفِينَةِ، وكَيْفَ كانَ (p-٦٦٠)الغَرَقُ، وكَمْ بَقِيَتِ السَّفِينَةُ عَلى ظَهْرِ الماءِ رِواياتٌ كَثِيرَةٌ لا مَدْخَلَ لَها في تَفْسِيرِ كَلامِ اللَّهِ سُبْحانَهُ. وأخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ مُجاهِدٍ في قَوْلِهِ: ﴿بِسْمِ اللَّهِ مَجْراها ومُرْساها﴾ قالَ: حِينَ يَرْكَبُونَ ويَجْرُونَ ويُرْسُونَ. وأخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ الضَّحّاكِ قالَ: كانَ إذا أرادَ أنْ تَرْسِيَ قالَ: بِسْمِ اللَّهِ فَأرْسَتْ، وإذا أرادَ أنْ تَجْرِيَ قالَ: بِسْمِ اللَّهِ فَجَرَتْ. وأخْرَجَ أبُو يَعْلى والطَّبَرانِيُّ وابْنُ السُّنِّيِّ وابْنُ عَدِيٍّ وأبُو الشَّيْخِ وابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ الحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ قالَ: قالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ: «أمانٌ لِأُمَّتِي مِنَ الغَرَقِ إذا رَكِبُوا الفُلْكَ أنْ يَقُولُوا: بِسْمِ اللَّهِ المَلِكِ الرَّحْمَنِ، ﴿بِسْمِ اللَّهِ مَجْراها ومُرْساها إنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ ﴿وما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ﴾ إلى آخَرِ الآيَةِ» . وأخْرَجَهُ ابْنُ أبِي حاتِمٍ والطَّبَرانِيُّ وابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ. وأخْرَجَهُ أيْضًا أبُو الشَّيْخِ عَنْهُ مَرْفُوعًا مِن طَرِيقٍ أُخْرى. وأخْرَجَ ابْنُ أبِي حاتِمٍ عَنْ قَتادَةَ قالَ: كانَ اسْمُ ابْنِ نُوحٍ الَّذِي غَرِقَ كَنْعانَ. وأخْرَجَ عَبْدُ الرَّزّاقِ وسَعِيدُ بْنُ مَنصُورٍ وابْنُ جَرِيرٍ وابْنُ المُنْذِرِ وابْنُ أبِي حاتِمٍ وأبُو الشَّيْخِ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ قالَ: هو ابْنُهُ غَيْرَ أنَّهُ خالَفَهُ في النِّيَّةِ والعَمَلِ. وأخْرَجَ ابْنُ أبِي حاتِمٍ وأبُو الشَّيْخِ عَنْ عِكْرِمَةَ في قَوْلِهِ: ﴿لا عاصِمَ اليَوْمَ مِن أمْرِ اللَّهِ إلّا مَن رَحِمَ﴾ قالَ: لا ناجٍ إلّا أهْلُ السَّفِينَةِ. وأخْرَجَ ابْنُ أبِي حاتِمٍ وأبُو الشَّيْخِ عَنِ القاسِمِ بْنِ أبِي بَرَّةَ في قَوْلِهِ: ﴿وحالَ بَيْنَهُما المَوْجُ﴾ قالَ: بَيْنَ ابْنِ نُوحٍ والجَبَلِ. وأخْرَجَ ابْنُ المُنْذِرِ عَنْ عِكْرِمَةَ في قَوْلِهِ: ﴿ياأرْضُ ابْلَعِي﴾ قالَ: هو بِالحَبَشِيَّةِ. وأخْرَجَ ابْنُ المُنْذِرِ وابْنُ أبِي حاتِمٍ وأبُو الشَّيْخِ عَنْ وهْبِ بْنِ مُنَبِّهٍ في ابْلَعِي قالَ بِالحَبَشِيَّةِ: أيِ ازْدَرِدِيهِ. وأخْرَجَ أبُو الشَّيْخِ عَنْ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنْ أبِيهِ قالَ: مَعْناهُ اشْرَبِي بِلُغَةِ الهِنْدِ. وأخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وابْنُ المُنْذِرِ وابْنُ أبِي حاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ مِثْلَهُ. أقُولُ: وثُبُوتُ لَفْظِ البَلْعِ وما يُشْتَقُّ مِنهُ في لُغَةِ العَرَبِ ظاهِرٌ مَكْشُوفٌ، فَما لَنا ولِلْحَبَشَةِ والهِنْدِ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب