الباحث القرآني

﴿ذَرْنِي ومَن خَلَقْتُ وحِيدًا﴾ قالَ المُفَسِّرُونَ يَعْنِي الوَلِيدَ بْنَ المُغِيرَةِ المَخْزُومِيَّ وإنْ كانَ النّاسُ خُلِقُوا مِثْلَ خَلْقِهِ، وإنَّما خُصَّ بِالذِّكْرِ لِاخْتِصاصِهِ بِكُفْرِ النِّعْمَةِ لِأذى الرَّسُولِ. وَفي قَوْلِهِ تَعالى: (وَحِيدًا) تَأْوِيلانِ: أحَدُهُما: أنَّ اللَّهَ تَفَرَّدَ بِخَلْقِهِ وحْدَهُ. الثّانِي: خَلَقَهُ وحِيدًا في بَطْنِ أُمِّهِ لا مالَ لَهُ ولا ولَدَ، قالَهُ مُجاهِدٌ، فَعَلى هَذا الوَجْهِ في المُرادِ بِخَلْقِهِ وحِيدًا وجْهانِ: أحَدُهُما: أنْ يَعْلَمَ بِهِ قَدْرَ النِّعْمَةِ عَلَيْهِ فِيما أُعْطِي مِنَ المالِ والوَلَدِ. الثّانِي: أنْ يَدُلَّهُ بِذَلِكَ عَلى أنَّهُ يُبْعَثُ وحِيدًا كَما خُلِقَ وحِيدًا. ﴿وَجَعَلْتُ لَهُ مالا مَمْدُودًا﴾ فِيهِ ثَمانِيَةُ أقاوِيلَ: أحَدُها: ألْفُ دِينارٍ، قالَهُ ابْنُ عَبّاسٍ. الثّانِي: أرْبَعَةُ آلافِ دِينارٍ، قالَهُ سُفْيانُ. الثّالِثُ: سِتَّةُ آلافِ دِينارٍ، قالَهُ قَتادَةُ. الرّابِعُ: مِائَةُ ألْفِ دِينارٍ، قالَهُ مُجاهِدٌ. الخامِسُ: أنَّها أرْضٌ يُقالُ لَها مِيثاقٌ، وهَذا مَرْوِيٌّ عَنْ مُجاهِدٍ أيْضًا. السّادِسُ: أنَّها غَلَّةُ شَهْرٍ بِشَهْرٍ، قالَهُ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ. السّابِعُ: أنَّهُ الَّذِي لا يَنْقَطِعُ شِتاءً ولا صَيْفًا، قالَهُ السُّدِّيُّ. الثّامِنُ: أنَّها الأنْعامُ الَّتِي يَمْتَدُّ سَيْرُها في أقْطارِ الأرْضِ لِلْمَرْعى والسِّعَةِ، قالَهُ ابْنُ بَحْرٍ.(p-١٤٠) وَيَحْتَمِلُ تاسِعًا: أنْ يَسْتَوْعِبَ وُجُوهَ المَكاسِبِ فَيَجْمَعُ بَيْنَ زِيادَةِ الزِّراعَةِ وكَسْبِ التِّجارَةِ ونِتاجِ المَواشِي فَيَمُدُّ بَعْضَها بِبَعْضٍ لِأنَّ لِكُلِّ مَكْسَبٍ وقْتًا. وَيَحْتَمِلُ عاشِرًا: أنَّهُ الَّذِي يَتَكَوَّنُ نَماؤُهُ مِن أصْلِهِ كالنَّخْلِ والشَّجَرِ. ﴿وَبَنِينَ شُهُودًا﴾ اخْتُلِفَ في عَدَدِهِمْ عَلى ثَلاثَةِ أقاوِيلَ: أحَدُها: أنَّهم كانُوا عَشَرَةً، قالَهُ السُّدِّيُّ. الثّانِي: قالَ الضَّحّاكُ: كانَ لَهُ سَبْعَةٌ وُلِدُوا بِمَكَّةَ، وخَمْسَةٌ وُلِدُوا بِالطّائِفِ. الثّالِثُ: أنَّهم كانُوا ثَلاثَةَ عَشَرَ رَجُلًا، قالَهُ ابْنُ جُبَيْرٍ. وَفي قَوْلِهِ ﴿شُهُودًا﴾ ثَلاثَةُ تَأْوِيلاتٍ: أحَدُها: أنَّهم حُضُورٌ مَعَهُ لا يَغِيبُونَ عَنْهُ، قالَهُ السُّدِّيُّ. الثّانِي: أنَّهُ إذا ذُكِرَ ذُكِرُوا مَعَهُ، قالَهُ ابْنُ عَبّاسٍ. الثّالِثُ: أنَّهم كُلُّهم رَبُّ بَيْتٍ، قالَهُ ابْنُ جُبَيْرٍ. وَيَحْتَمِلُ رابِعًا: أنَّهم قَدْ صارُوا مِثْلَهُ مِن شُهُودِ ما كانَ يَشْهَدُهُ، والقِيامِ بِما كانَ يُباشِرُهُ. ﴿وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيدًا﴾ فِيهِ وجْهانِ: أحَدُها: مَهَّدْتُ لَهُ مِنَ المالِ والوَلَدِ، قالَهُ مُجاهِدٌ. الثّانِي: مَهَّدْتُ لَهُ الرِّياسَةَ في قَوْمِهِ، قالَهُ ابْنُ شَجَرَةَ. وَيَحْتَمِلُ ثالِثًا: أنَّهُ مَهَّدَ لَهُ الأمْرَ في وطَنِهِ حَتّى لا يَنْزَعِجَ عَنْهُ بِخَوْفٍ ولا حاجَةٍ. ﴿ثُمَّ يَطْمَعُ أنْ أزِيدَ﴾ فِيهِ وجْهانِ: أحَدُهُما: ثُمَّ يَطْمَعُ أنْ أُدْخِلَهُ الجَنَّةَ، كَلّا، قالَهُ الحَسَنُ. الثّانِي: أنْ أزِيدَهُ مِنَ المالِ والوَلَدِ (كَلّا) قالَ ابْنُ عَبّاسٍ: فَلَمْ يَزَلِ النُّقْصانُ في مالِهِ ووَلَدِهِ. وَيَحْتَمِلُ وجْهًا ثالِثًا: ثُمَّ يَطْمَعُ أنْ أنْصُرَهُ عَلى كُفْرِهِ. ﴿كَلا إنَّهُ كانَ لآياتِنا عَنِيدًا﴾ في المُرادِ (بِآياتِنا) ثَلاثَةُ أقاوِيلَ: أحَدُها: القُرْآنُ، قالَهُ ابْنُ جُبَيْرٍ. الثّانِي: مُحَمَّدٌ ﷺ، قالَهُ السُّدِّيُّ.(p-١٤١) الثّالِثُ: الحَقُّ، قالَهُ مُجاهِدٌ. وَفي قَوْلِهِ (عَنِيدًا) أرْبَعَةُ تَأْوِيلاتٍ: أحَدُها: مُعانِدٌ، قالَهُ مُجاهِدٌ وأبُو عُبَيْدَةَ، وأنْشَدَ قَوْلَ الحارِثِيِّ ؎ إذا نَزَلْتُ فاجْعَلانِي وسَطًا إنِّي كَبِيرٌ لا أُطِيقُ العُنَّدا الثّانِي: مُباعِدٌ، قالَهُ أبُو صالِحٍ، ومِنهُ قَوْلُ الشّاعِرِ ؎ أرانا عَلى حالٍ تُفَرِّقُ بَيْنَنا ∗∗∗ نَوى غُرْبَةٍ إنَّ الفِراقَ عُنُودُ. الثّالِثُ: جاحِدٌ، قالَهُ قَتادَةُ. الرّابِعُ: مُعْرِضٌ، قالَهُ مُقاتِلٌ. وَيَحْتَمِلُ تَأْوِيلًا خامِسًا: أنَّهُ المُجاهِرُ بِعَداوَتِهِ. ﴿سَأُرْهِقُهُ صَعُودًا﴾ فِيهِ أرْبَعَةُ أقاوِيلَ: أحَدُها: مَشَقَّةٌ مِنَ العَذابِ، قالَهُ قَتادَةُ. الثّانِي: أنَّهُ عَذابٌ لا راحَةَ فِيهِ، قالَهُ الحَسَنُ. الثّالِثُ: أنَّها صَخْرَةٌ في النّارِ مَلْساءُ يُكَلَّفُ أنْ يَصْعَدَها، فَإذا صَعِدَها زَلَقَ مِنها، وهَذا قَوْلُ السُّدِّيِّ. الرّابِعُ: ما رَواهُ عَطِيَّةُ العُوفِيُّ عَنْ أبِي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ «عَنِ النَّبِيِّ ﷺ ﴿سَأُرْهِقُهُ صَعُودًا﴾ قالَ: (هُوَ جَبَلٌ في النّارِ مِن نارٍ يُكَلَّفُ أنْ يَصْعَدَهُ، فَإذا وضَعَ يَدَهُ عَلَيْهِ ذابَتْ، وإذا رَفَعَها عادَتْ، وإذا وضَعَ رِجْلَهُ ذابَتْ، وإذا رَفَعَها عادَتْ)» . ويَحْتَمِلُ إنْ لَمْ يَثْبُتْ هَذا النَّقْلُ قَوْلًا خامِسًا: أنَّهُ تَصاعُدُ نَفْسِهِ لِلنَّزْعِ وإنْ لَمْ يَتَعَقَّبْهُ مَوْتٌ لِيُعَذَّبَ مِن داخِلِ جَسَدِهِ كَما يُعَذَّبُ مِن خارِجِهِ. ﴿إنَّهُ فَكَّرَ وقَدَّرَ﴾ قالَ قَتادَةُ: زَعَمُوا أنَّ الوَلِيدَ بْنَ المُغِيرَةِ قالَ: لَقَدْ نَظَرْتُ فِيما قالَ هَذا الرَّجُلُ فَإذا هو لَيْسَ بِشِعْرٍ، وإنَّ لَهُ لَحَلاوَةً، وإنَّ عَلَيْهِ لَطَلاوَةً، وإنَّهُ لِيَعْلُوَ وما يُعْلى، وما أشُكُّ أنَّهُ سِحْرٌ، فَهو مَعْنى قَوْلِهِ ﴿فَكَّرَ وقَدَّرَ﴾ أيْ فَكَّرَ في القُرْآنِ فِيما إنَّهُ سِحْرٌ ولَيْسَ بِشِعْرٍ.(p-١٤٢) وَيَحْتَمِلُ وجْهًا ثالِثًا: أنْ يَكُونَ فَكَّرَ في العَداوَةِ وقَدَّرَ في المُجاهَدَةِ. ﴿فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ﴾ فِيهِ وجْهانِ: أحَدُهُما: أيْ عُوقِبَ ثُمَّ عُوقِبَ، فَيَكُونُ العِقابُ تَكَرَّرَ عَلَيْهِ مَرَّةً بَعْدَ أُخْرى. الثّانِي: أيْ لُعِنَ ثُمَّ لُعِنَ كَيْفَ قَدَّرَ أنَّهُ لَيْسَ بِشِعْرٍ ولا كِهانَةٍ، وأنَّهُ سِحْرٌ. ﴿ثُمَّ نَظَرَ﴾ يَعْنِي الوَلِيدَ بْنَ المُغِيرَةِ، وفي ما نَظَرَ فِيهِ وجْهانِ: أحَدُهُما: أنَّهُ نَظَرَ في الوَحْيِ المُنَزَّلِ مِنَ القُرْآنِ، قالَهُ مُقاتِلٌ. الثّانِي: أنَّهُ نَظَرَ إلى بَنِي هاشِمٍ حِينَ قالَ في النَّبِيِّ ﷺ إنَّهُ ساحِرٌ، لِيَعْلَمَ ما عِنْدَهم. وَيَحْتَمِلُ ثالِثًا: ثُمَّ نَظَرَ إلى نَفْسِهِ فِيما أُعْطِيَ مِنَ المالِ والوَلَدِ فَطَغى وتَجَبَّرَ. ﴿ثُمَّ عَبَسَ وبَسَرَ﴾ أمّا عَبَسَ فَهو قَبْضُ ما بَيْنَ عَيْنَيْهِ، وبَسَرَ فِيهِ وجْهانِ: أحَدُهُما: كَلَحَ وجْهُهُ، قالَهُ قَتادَةُ، ومِنهُ قَوْلُ بِشْرُ بْنُ أبِي خازِمٍ ؎ صَبَّحْنا تَمِيمًا غَداةَ الجِفارِ ∗∗∗ بِشَهْباءَ مَلْمُومَةٍ باسِرَةٍ الثّانِي: تَغَيَّرَ، قالَهُ السُّدِّيُّ، ومِنهُ قَوْلُ تَوْبَةَ ؎ وقَدْ رابَنِي مِنها صُدُودٌ رَأيْتُهُ ∗∗∗ وإعْراضُها عَنْ حاجَتِي وبُسُورِها. واحْتَمَلَ أنْ يَكُونَ قَدْ عَبَسَ وبَسَرَ عَلى النَّبِيِّ ﷺ حِينَ دَعاهُ. واحْتَمَلَ أنْ يَكُونَ عَلى مَن آمَنَ بِهِ ونَصَرَهُ. وَقِيلَ إنَّ ظُهُورَ العَبُوسِ في الوَجْهِ يَكُونُ بَعْدَ المُحاوَرَةِ، وظُهُورَ البُسُورِ في الوَجْهِ قَبْلَ المُحاوَرَةِ. ﴿ثُمَّ أدْبَرَ واسْتَكْبَرَ﴾ يَحْتَمِلُ وجْهَيْنِ: أحَدُهُما: أدْبَرَ عَنِ الحَقِّ واسْتَكْبَرَ عَنِ الطّاعَةِ. الثّانِي: أدْبَرَ عَنْ مَقامِهِ واسْتَكْبَرَ في مَقالِهِ. ﴿فَقالَ إنْ هَذا إلا سِحْرٌ يُؤْثَرُ﴾ قالَ ابْنُ زَيْدٍ: إنَّ الوَلِيدَ بْنَ المُغِيرَةِ قالَ: إنْ هَذا القُرْآنَ إلّا سِحْرٌ يَأْثِرُهُ مُحَمَّدٌ عَنْ غَيْرِهِ فَأخَذَهُ عَمَّنْ تَقَدَّمُهُ. وَيَحْتَمِلُ وجْهًا آخَرَ: أنْ يَكُونَ مَعْناهُ أنَّ النُّفُوسَ تُؤْثَّرُ لِحَلاوَتِهِ فِيها كالسِّحْرِ.(p-١٤٣) ﴿إنْ هَذا إلا قَوْلُ البَشَرِ﴾ أيْ لَيْسَ مِن كَلامِ اللَّهِ تَعالى، قالَ السُّدِّيُّ: يَعْنُونَ أنَّهُ مِن قَوْلِ أبِي اليُسْرِ عَبْدٌ لَبَنِي الحَضْرَمِيِّ كانَ يُجالِسُ النَّبِيَّ ﷺ، فَنَسَبُوهُ إلى أنَّهُ تَعَلَّمَ مِنهُ ذَلِكَ. ﴿سَأُصْلِيهِ سَقَرَ﴾ فِيهِ وجْهانِ: أحَدُهُما: أنَّهُ اسْمٌ مِن أسْماءِ جَهَنَّمَ مَأْخُوذٌ مِن قَوْلِهِمْ: سَقَرَتْهُ الشَّمْسُ إذا آلَمَتْ دِماغَهُ، فَسُمِّيَتْ جَهَنَّمُ بِذَلِكَ لِشِدَّةِ إيلامِها. ﴿وَما أدْراكَ ما سَقَرُ﴾ ﴿لا تُبْقِي ولا تَذَرُ﴾ فِيهِ وجْهانِ: أحَدُهُما: لا تُبْقِي مَن فِيها حَيًّا، ولا تَذَرُهُ مَيِّتًا، قالَهُ مُجاهِدٌ. الثّانِي: لا تُبْقِي أحَدًا مِن أهْلِها أنْ تَتَناوَلَهُ، ولا تَذَرُهُ مِنَ العَذابِ، حَكاهُ ابْنُ عِيسى. وَيَحْتَمِلُ وجْهًا ثالِثًا: لا تُبْقِيهِ صَحِيحًا، ولا تَذَرُهُ مُسْتَرِيحًا. ﴿لَوّاحَةٌ لِلْبَشَرِ﴾ فِيهِ أرْبَعَةُ أوْجُهٍ: أحَدُها: مُغَيِّرَةٌ لِألْوانِهِمْ، قالَ أبُو رُزَيْنٍ تَلْفَحُ وُجُوهَهم لَفْحَةً تَدَعُهم أشَدَّ سَوادًا مِنَ اللَّيْلِ. الثّانِي: تَحْرِقُ البَشَرَ حَتّى تَلُوحَ العَظْمُ، قالَهُ عَطِيَّةُ. الثّالِثُ: أنَّ بَشَرَةَ أجْسادِهِمْ تَلُوحُ عَلى النّارِ، قالَهُ مُجاهِدٌ. الرّابِعُ: أنَّ اللَّواحَ شَدَّةُ العَطَشِ، والمَعْنى أنَّها مُعَطِّشَةٌ لِلْبَشَرِ، أيْ لِأهْلِها، قالَهُ الأخْفَشُ، وأنْشَدَ ؎ سَقَتْنِي عَلى لَوْحٍ مِنَ الماءِ شَرْبَةً ∗∗∗ سَقاها بِهِ اللَّهُ الرِّهامَ الغَوادِيا. يَعْنِي بِاللَّوَحِ شِدَّةَ العَطَشِ: ويَحْتَمِلُ خامِسًا: أنَّها تَلُوحُ لِلْبَشَرِ بِهَوْلِها حَتّى تَكُونَ أشَدَّ عَلى مَن سَبَقَ إلَيْها، وأسَرَّ لِمَن سَلِمَ مِنها. وَفي البَشَرِ وجْهانِ: أحَدُهُما: أنَّهُمُ الإنْسُ مِن أهْلِ النّارِ، قالَهُ الأخْفَشُ والأكْثَرُونَ. الثّانِي: أنَّهُ جَمْعُ بَشَرَةٍ، وهي جِلْدَةُ الإنْسانِ الظّاهِرَةُ، قالَهُ مُجاهِدٌ وقَتادَةُ.(p-١٤٤) ﴿عَلَيْها تِسْعَةَ عَشَرَ﴾ هَؤُلاءِ خَزَنَةُ جَهَنَّمَ وهُمُ الزَّبانِيَةُ، وعَدَدُهم هَذا الَّذِي ذَكَرَهُ اللَّهُ تَعالى، ورَوى عامِرٌ عَنِ البَراءِ «أنَّ رَهْطًا مِنَ اليَهُودِ سَألُوا رَسُولَ اللَّهِ ﷺ عَنْ خَزَنَةِ جَهَنَّمَ، فَأهْوى بِأصابِعِ كَفَّيْهِ مَرَّتَيْنِ، فَأمْسَكَ الإبْهامَ في الثّانِيَةِ»، وأخْبَرَ اللَّهُ عَنْهم بِهَذا العَدَدِ، وكانَ الِاقْتِصارُ عَلَيْهِ دُونَ غَيْرِهِ مِنَ الأعْدادِ إخْبارًا عَمَّنْ وُكِّلَ بِها وهو هَذا العَدَدُ، ومُوافَقَةً لَما نَزَلَ بِهِ التَّوْراةُ والإنْجِيلُ مِن قَبْلُ. وَقَدْ يَلُوحُ لِي في الِاقْتِصارِ عَلى هَذا العَدَدِ مَعْنًى خَفِيٌّ يَجُوزُ أنْ يَكُونَ مُرادًا، وهو أنَّ تِسْعَةَ عَشَرَ عَدَدٌ يَجْمَعُ أكْثَرَ القَلِيلِ مِنَ العَدَدِ وأقَلَّ الكَثِيرِ، لِأنَّ العَدَدَ آحادٌ وعَشَراتٌ ومِئُونٌ وأُلُوفٌ، والآحادُ أقَلُّ الأعْدادِ، وأكْثَرُ الآحادِ تِسْعَةٌ، وما سِوى الآحادِ كَثِيرٌ وأقَلُّ الكَثِيرِ عَشَرَةٌ، فَصارَتِ التِّسْعَةَ عَشَرَ عَدَدًا يَجْمَعُ مِنَ الأعْدادِ أكْثَرَ قَلِيلِها، وأقَلَّ كَثِيرِها، فَلِذَلِكَ ما وقَعَ عَلَيْها الِاقْتِصارُ واَللَّهُ أعْلَمُ لِلنُّزُولِ عَنْ أقَلِّ القَلِيلِ وأكْثَرِ الكَثِيرِ فَلَمْ يَبْقَ إلّا ما وصَفْتُ. وَيَحْتَمِلُ وجْهًا ثانِيًا: أنْ يَكُونَ اللَّهُ حَفِظَ جَهَنَّمَ حَتّى ضُبِطَتْ وحُفِظَتْ بِمِثْلِ ما ضُبِطَتْ بِهِ الأرْضُ وحُفِظَتْ بِهِ مِنَ الجِبالِ حَتّى رَسَتْ وثَبَتَتْ، وجِبالُ الأرْضِ الَّتِي أُرْسِيَتْ بِها واسْتَقَرَّتْ عَلَيْها تِسْعَةَ عَشَرَ جَبَلًا، وإنَّ شُعَبَ فُرُوعِها تَحْفَظُ جَهَنَّمَ بِمِثْلِ هَذا العَدَدِ، لِأنَّها قَرارٌ لِعُصاةِ الأرْضِ مِنَ الإنْسِ والجِنِّ، فَحَفِظَتْ مُسْتَقَرَّهم في النّارِ بِمِثْلِ العَدَدِ الَّذِي حَفِظَ مُسْتَقَرَّهم في الأرْضِ، وحَدُّ الجَبَلِ ما أحاطَتْ بِهِ أرْضٌ تَتَشَعَّبُ فِيها عُرُوقُهُ ظاهِرُهُ ولا باطِنُهُ، وقَدْ عَدَّ قَوْمٌ جِبالَ الأرْضِ فَإذا هي مِائَةٌ وتِسْعُونَ جَبَلًا، واعْتَبَرُوا انْقِطاعَ عُرُوقِها رَواسِيَ وأوْتادًا، فَهَذانَ وجْهانِ يَحْتَمِلُهُما الِاسْتِنْباطُ، واَللَّهُ أعْلَمُ بِصَوابِ ما اسْتَأْثَرَ بِعِلْمِهِ. وَذَكَرَ مَن يَتَعاطى العُلُومَ العَقْلِيَّةَ وجْهًا ثالِثًا: أنَّ اللَّهَ تَعالى حَفِظَ نِظامَ خَلْقِهِ ودَبَّرَ ما قَضاهُ في عِبادِهِ بِتِسْعَةَ عَشَرَ جَعَلَها المُدَبِّراتِ أمْرًا وهي سَبْعَةُ كَواكِبَ واثْنا عَشَرَ (p-١٤٥) بُرْجًا، فَصارَ هَذا العَدَدُ أصْلًا في المَحْفُوظاتِ العامَّةِ، فَلِذَلِكَ حَفِظَ جَهَنَّمَ، وهَذا مَدْفُوعٌ بِالشَّرْعِ وإنْ راقَ ظاهِرُهُ. ثُمَّ نَعُودُ إلى تَفْسِيرِ الآيَةِ، رَوى قَتادَةُ أنَّ اللَّهَ تَعالى لَمّا قالَ: ﴿عَلَيْها تِسْعَةَ عَشَرَ﴾ قالَ أبُو جَهْلٍ: يا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ أما يَسْتَطِيعُ كُلُّ عَشَرَةٍ مِنكم أنْ يَأْخُذُوا واحِدًا مِنهم وأنْتُمْ أكْثَرُ مِنهم. قالَ السُّدِّيُّ: وقالَ أبُو الأشَدِّ بْنُ الجُمَحِيِّ: لا يَهُولَنَّكُمُ التِّسْعَةَ عَشَرَ أنا أدْفَعُ عَنْكم بِمَنكِبِي الأيْمَنِ عَشَرَةً مِنَ المَلائِكَةِ، وبِمَنكِبِي الأيْسَرِ التِّسْعَةَ ثُمَّ تَمُرُّونَ إلى الجَنَّةِ، يَقُولُها مُسْتَهْزِئًا.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب