الباحث القرآني

وأخْرَجَ ابْنُ الضُّرَيْسِ، والنَّحّاسُ، وابْنُ مَرْدَوَيْهِ، والبَيْهَقِيُّ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ قالَ: نَزَلَتْ سُورَةُ المُدَّثِّرِ بِمَكَّةَ. وأخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ الزُّبَيْرِ مِثْلَهُ، وسَيَأْتِي أنَّ أوَّلَ هَذِهِ السُّورَةِ أوَّلُ ما نَزَلَ مِنَ القُرْآنِ. بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ قالَ الواحِدِيُّ: قالَ المُفَسِّرُونَ: لَمّا بُدِئَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ بِالوَحْيِ أتاهُ جِبْرِيلُ، فَرَآهُ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ عَلى سَرِيرٍ بَيْنَ السَّماءِ والأرْضِ كالنُّورِ المُتَلَأْلِئِ، فَفَزِعَ ووَقَعَ مَغْشِيًّا عَلَيْهِ، فَلَمّا أفاقَ دَخَلَ عَلى خَدِيجَةَ ودَعا بِماءٍ فَصَبَّهُ عَلَيْهِ، وقالَ: دَثِّرُونِي دَثِّرُونِي، فَدَثَّرُوهُ بِقَطِيفَةٍ، فَقالَ: ﴿ياأيُّها المُدَّثِّرُ﴾ ﴿قُمْ فَأنْذِرْ﴾ . ومَعْنى ﴿ياأيُّها المُدَّثِّرُ﴾: يا أيُّها الَّذِي قَدْ تَدَثَّرَ بِثِيابِهِ: أيْ تَغَشّى بِها، وأصْلُهُ المُتَدَثِّرُ، فَأُدْغِمَتِ التّاءُ في الدّالِ لِتَجانُسِهِما. وقَدْ قَرَأ الجُمْهُورُ بِالإدْغامِ، وقَرَأ أُبَيٌّ " المُتَدَثِّرُ " عَلى الأصْلِ، والدِّثارِ: هو ما يُلْبَسُ فَوْقَ الشِّعارِ، والشِّعارُ: هو الَّذِي يَلِي الجَسَدَ، وقالَ عِكْرِمَةُ: المَعْنى يا أيُّها المُدَّثِّرُ بِالنُّبُوَّةِ وأثْقالِها. قالَ ابْنُ العَرَبِيِّ: وهَذا مَجازٌ بَعِيدٌ لِأنَّهُ لَمْ يَكُنْ نَبِيًّا إذْ ذاكَ. ﴿قُمْ فَأنْذِرْ﴾ أيِ انْهَضْ فَخَوِّفَ أهْلَ مَكَّةَ وحَذِّرْهُمُ العَذابَ إنْ لَمْ يُسْلِمُوا، أوْ قُمْ مِن مَضْجَعِكَ، أوْ قُمْ قِيامَ عَزْمٍ وتَصْمِيمٍ، وقِيلَ الإنْذارُ هُنا هو إعْلامُهم بِنُبُوَّتِهِ، وقِيلَ إعْلامُهم بِالتَّوْحِيدِ. وقالَ الفَرّاءُ: المَعْنى قُمْ فَصَلِّ وأْمُرْ بِالصَّلاةِ. ﴿ورَبَّكَ فَكَبِّرْ﴾ أيْ واخْتَصَّ سَيِّدَكَ ومالِكَكَ ومُصْلِحَ أُمُورِكَ بِالتَّكْبِيرِ، وهو وصْفُهُ سُبْحانَهُ بِالكِبْرِياءِ والعَظَمَةِ، وأنَّهُ أكْبَرُ مِن أنْ يَكُونَ لَهُ شَرِيكٌ كَما يَعْتَقِدُهُ الكُفّارُ، وأعْظَمُ مِن أنْ يَكُونَ لَهُ صاحِبَةٌ، أوْ ولَدٌ. قالَ ابْنُ العَرَبِيِّ: المُرادُ بِهِ تَكْبِيرُ التَّقْدِيسِ والتَّنْزِيهُ بِخَلْعِ الأضْدادِ والأنْدادِ والأصْنامِ ولا يَتَّخِذُ ولِيًّا غَيْرَهُ ولا يَعْبُدُ سِواهُ، ولا يَرى لِغَيْرِهِ فِعْلًا إلّا لَهُ ولا نِعْمَةً إلّا مِنهُ. قالَ الزَّجّاجُ: إنَّ الفاءَ في ﴿فَكَبِّرْ﴾ دَخَلَتْ عَلى مَعْنى الجَزاءِ كَما دَخَلَتْ في ﴿فَأنْذِرْ﴾ . وقالَ ابْنُ جِنِّي: هو كَقَوْلِكَ: زَيْدًا فاضْرِبْ: أيْ زَيْدًا اضْرِبْ، فالفاءُ زائِدَةٌ. ﴿وثِيابَكَ فَطَهِّرْ﴾ المُرادُ بِها الثِّيابُ المَلْبُوسَةُ عَلى ما هو المَعْنى اللُّغَوِيُّ، أمَرَهُ اللَّهُ سُبْحانَهُ بِتَطْهِيرِ ثِيابِهِ وحِفْظِها عَنِ النَّجاساتِ، وإزالَةِ ما وقَعَ فِيها مِنها، وقِيلَ المُرادُ بِالثِّيابِ العَمَلُ، وقِيلَ القَلْبُ، وقِيلَ النَّفْسُ، وقِيلَ الجِسْمُ، وقِيلَ الأهْلُ، وقِيلَ الدِّينُ، وقِيلَ الأخْلاقُ. قالَ مُجاهِدٌ، وابْنُ زَيْدٍ، وأبُو رَزِينٍ: أيْ عَمَلَكَ فَأصْلِحْ. وقالَ قَتادَةُ: نَفْسَكَ فَطَهِّرْ مِنَ الذَّنَبِ، والثِّيابُ عِبارَةٌ عَنِ النَّفْسِ. وقالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: قَلْبَكَ فَطَهِّرْ، ومِن هَذا قَوْلُ امْرِئِ القَيْسِ: ؎فَسُلِّي ثِيابِي مِن ثِيابِكِ تَنْسُلِ وقالَ عِكْرِمَةُ: المَعْنى البِسُها عَلى غَيْرِ غَدْرٍ وغَيْرِ فَجْرَةٍ. وقالَ: أما سَمِعْتُ قَوْلَ الشّاعِرِ: ؎وإنِّي بِحَمْدِ اللَّهِ لا ثَوْبَ فاجِرٌ ∗∗∗ لَبِسْتُ ولا مِن غَدْرَةٍ أتَقَنَّعُ والشّاعِرُ هو غَيْلانُ بْنُ سَلَمَةَ الثَّقَفِيُّ، ومِن إطْلاقِ الثِّيابِ عَلى النَّفْسِ قَوْلُ عَنْتَرَةَ: ؎فَشَكَكْتُ بِالرُّمْحِ الطَّوِيلِ ثِيابَهُ ∗∗∗ لَيْسَ الكَرِيمُ عَلى القَنا بِمُحَرَّمِ وقَوْلُ الآخَرِ: ؎ثِيابُ بَنِي عَوْفٍ طَهارى نَقِيَّةٌ وقالَ الحَسَنُ، والقُرَظِيُّ: إنَّ المَعْنى: وأخْلاقَكَ فَطَهِّرْ لِأنَّ خُلُقَ الإنْسانِ مُشْتَمِلٌ عَلى أحْوالِهِ اشْتِمالَ ثِيابِهِ عَلى نَفْسِهِ، ومِنهُ قَوْلُ الشّاعِرِ: ؎ويَحْيى لا يُلامُ بِسُوءِ خُلْقٍ ∗∗∗ ويَحْيى طاهِرُ الأثْوابِ حُرُّ وقالَ الزَّجّاجُ: المَعْنى: وثِيابَكَ فَقَصِّرْ؛ لِأنَّ تَقْصِيرَ الثَّوْبِ أبْعَدُ مِنَ النَّجاساتِ إذا انْجَرَّ عَلى الأرْضِ، وبِهِ قالَ طاوُسٌ، والأوَّلُ أوْلى لِأنَّهُ المَعْنى الحَقِيقِيُّ. ولَيْسَ في اسْتِعْمالِ الثِّيابِ مَجازٌ عَنْ غَيْرِها لِعَلاقَةٍ مَعَ قَرِينَةِ ما يَدُلُّ عَلى أنَّهُ المُرادُ عِنْدَ الإطْلاقِ، ولَيْسَ في مِثْلِ هَذا الأصْلِ: أعْنِي الحَمْلَ عَلى الحَقِيقَةِ عِنْدَ الإطْلاقِ خِلافٌ. وفي الآيَةِ دَلِيلٌ عَلى وُجُوبِ طَهارَةِ الثِّيابِ في الصَّلاةِ. ﴿والرُّجْزَ فاهْجُرْ﴾ الرُّجْزَ مَعْناهُ في اللُّغَةِ: العَذابُ، وفِيهِ لُغَتانِ: كَسْرُ الرّاءَ وضَمُّها، وسُمِّيَ الشِّرْكُ وعِبادَةُ الأوْثانِ رِجْزًا لِأنَّها سَبَبُ الرِّجْزِ. قَرَأ الجُمْهُورُ الرِّجْزُ بِكَسْرِ الرّاءِ. وقَرَأ الحَسَنُ، ومُجاهِدٌ، وعِكْرِمَةُ، وحَفْصٌ، وابْنُ مُحَيْصِنٍ بِضَمِّها. وقالَ مُجاهِدٌ، وعِكْرِمَةُ: الرُّجْزُ: الأوْثانُ كَما في قَوْلِهِ: ﴿فاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الأوْثانِ﴾ [الحج: ٣٠] وبِهِ قالَ ابْنُ زَيْدٍ. وقالَ إبْراهِيمُ النَّخَعِيُّ: الرِّجْزُ: المَأْثَمُ، والهَجْرُ: التَّرْكُ. وقالَ قَتادَةُ: الرِّجْزُ: إسافٌ ونائِلَةُ، (p-١٥٥١)وهُما صَنَمانِ كانا عِنْدَ البَيْتِ. وقالَ أبُو العالِيَةِ، والرَّبِيعُ، والكِسائِيُّ: الرُّجْزُ بِالضَّمِّ الوَثَنُ وبِالكَسْرِ العَذابُ. وقالَ السُّدِّيُّ: الرِّجْزُ بِضَمِّ الرّاءِ الوَعِيدُ، والأوَّلُ أوْلى. ﴿ولا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ﴾ قَرَأ الجُمْهُورُ لا تَمْنُنْ بِفَكِّ الإدْغامِ، وقَرَأ الحَسَنُ، وأبُو اليَمانِ، والأشْهَبُ العُقَيْلِيُّ بِالإدْغامِ، وقَرَأ الجُمْهُورُ ﴿تَسْتَكْثِرُ﴾ بِالرَّفْعِ عَلى أنَّهُ حالٌ: أيْ ولا تَمْنُنْ حالَ كَوْنِكَ مُسْتَكْثِرًا، وقِيلَ عَلى حَذْفِ ( أنْ )، والأصْلُ ولا تَمْنُنْ أنْ تَسْتَكْثِرَ، فَلَمّا حُذِفَتْ رُفِعَ. قالَ الكِسائِيُّ: فَإذا حُذِفَتْ " أنْ " رُفِعَ الفِعْلُ. وقَرَأ يَحْيى بْنُ وثّابٍ، والأعْمَشُ تَسْتَكْثِرْ بِزِيادَةِ ( أنْ ) . وقَرَأ الحَسَنُ أيْضًا وابْنُ أبِي عَبْلَةَ " تَسْتَكْثِرْ " بِالجَزْمِ عَلى أنَّهُ بَدَلٌ مِن تَمْنُنْ كَما في قَوْلِهِ: ﴿يَلْقَ أثامًا﴾ ﴿يُضاعَفْ لَهُ﴾ [الفرقان: ٦٨] وقَوْلُ الشّاعِرِ: ؎مَتى تَأْتِنا تُلْمِمْ بِنا في دِيارِنا ∗∗∗ تَجِدْ حَطَبًا جَزْلًا ونارًا تَأجَّجا أوِ الجَزْمُ لِإجْراءِ الوَصْلِ مَجْرى الوَقْفِ: كَما في قَوْلِ امْرِئِ القَيْسِ: ؎فاليَوْمَ أشْرَبْ غَيْرَ مُسْتَحْقِبٍ ∗∗∗ إثْمًا مِنَ اللَّهِ ولا واغِلِ بِتَسْكِينِ " أشْرَبْ " . وقَدِ اعْتَرَضَ عَلى هَذِهِ القِراءَةِ؛ لِأنَّ قَوْلَهُ ( تَسْتَكْثِرُ ) لا يَصِحُّ أنْ يَكُونَ بَدَلًا مِن ( تَمْنُنْ )؛ لِأنَّ المَنَّ غَيْرُ الِاسْتِكْثارِ، ولا يَصِحُّ أنْ يَكُونَ جَوابًا لِلنَّهْيِ. واخْتَلَفَ السَّلَفُ في مَعْنى الآيَةِ، فَقِيلَ: المَعْنى: لا تَمْنُنْ عَلى رَبِّكَ بِما تَتَحَمَّلُهُ مِن أعْباءِ النُّبُوَّةِ كالَّذِي يَسْتَكْثِرُ ما يَتَحَمَّلُهُ بِسَبَبِ الغَيْرِ، وقِيلَ لا تُعْطِ عَطِيَّةً تَلْتَمِسُ فِيها أفْضَلَ مِنها قالَهُ عِكْرِمَةُ، وقَتادَةُ. قالَ الضَّحّاكُ: هَذا حَرَّمَهُ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ؛ لِأنَّهُ مَأْمُورٌ بِأشْرَفِ الآدابِ وأجَلِّ الأخْلاقِ، وأباحَهُ لِأُمَّتِهِ. وقالَ مُجاهِدٌ: لا تَضْعُفْ أنْ تَسْتَكْثِرَ مِنَ الخَيْرِ، مِن قَوْلِكَ حَبْلٌ مَتِينٌ: إذا كانَ ضَعِيفًا. وقالَ الرَّبِيعُ بْنُ أنَسٍ: لا تُعَظِّمُ عَمَلَكَ في عَيْنِكِ أنْ تَسْتَكْثِرَ مِنَ الخَيْرِ. وقالَ ابْنُ كَيْسانَ: لا تَسْتَكْثِرْ عَمَلًا فَتَراهُ مِن نَفْسِكَ، إنَّما عَمَلُكَ مِنَّةٌ مِنَ اللَّهِ عَلَيْكَ إذْ جَعَلَ لَكَ سَبِيلًا إلى عِبادَتِهِ. وقِيلَ لا تَمْنُنْ بِالنُّبُوَّةِ والقُرْآنِ عَلى النّاسِ فَتَأْخُذَ مِنهم أجْرًا تَسْتَكْثِرُهُ. وقالَ مُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ: لا تُعْطِ مالَكَ مُصانَعَةً. وقالَ زَيْدُ بْنُ أسْلَمَ: إذا أعْطَيْتَ عَطِيَّةً فَأعْطِها لِرَبِّكَ. ﴿ولِرَبِّكَ فاصْبِرْ﴾ أيْ لِوَجْهِ رَبِّكَ فاصْبِرْ عَلى طاعَتِهِ وفَرائِضِهِ، والمَعْنى: لِأجْلِ رَبِّكَ وثَوابِهِ. وقالَ مُقاتِلٌ، ومُجاهِدٌ: اصْبِرْ عَلى الأذى والتَّكْذِيبِ. وقالَ ابْنُ زَيْدٍ: حَمَلْتَ أمْرًا عَظِيمًا فَحارَبَتْكَ العَرَبُ والعَجَمُ فاصْبِرْ عَلَيْهِ لِلَّهِ. وقِيلَ اصْبِرْ تَحْتَ مَوارِدِ القَضاءِ لِلَّهِ، وقِيلَ فاصْبِرْ عَلى البَلْوى، وقِيلَ عَلى الأوامِرِ والنَّواهِي. ﴿فَإذا نُقِرَ في النّاقُورِ﴾ النّاقُورُ فاعُولٌ مِنَ النَّقْرِ كَأنَّهُ مِن شَأْنِهِ أنْ يُنْقَرَ فِيهِ لِلتَّصْوِيتِ، والنَّقْرُ في كَلامِ العَرَبِ الصَّوْتُ، ومِنهُ قَوْلُ امْرِئِ القَيْسِ: ؎أُخَفِّضُهُ بِالنَّقْرِ لَمّا عَلَوْتُهُ ويَقُولُونَ: نَقَرَ بِاسْمِ الرَّجُلِ: إذا دَعاهُ، والمُرادُ هُنا النَّفْخُ في الصُّورِ، والمُرادُ النَّفْخَةُ الثّانِيَةُ، وقِيلَ الأُولى، وقَدْ تَقَدَّمَ الكَلامُ في هَذا في سُورَةِ الأنْعامِ وسُورَةِ النَّحْلِ. والفاءُ لِلسَّبَبِيَّةِ، كَأنَّهُ قِيلَ: اصْبِرْ عَلى أذاهم، فَبَيْنَ أيْدِيهِمْ يَوْمٌ هائِلٌ يَلْقَوْنَ فِيهِ عاقِبَةَ أمْرِهِمْ. والعامِلُ في إذًا ما دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: ﴿فَذَلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ﴾ ﴿عَلى الكافِرِينَ﴾ فَإنَّ مَعْناهُ عَسُرَ الأمْرُ عَلَيْهِمْ، وقِيلَ العامِلُ فِيهِ ما دَلَّ عَلَيْهِ فَذَلِكَ لِأنَّهُ إشارَةٌ إلى النَّقْرِ، ويَوْمَئِذٍ بَدَلٌ مَن إذا، أوْ مُبْتَدَأٌ وخَبَرُهُ ﴿يَوْمٌ عَسِيرٌ﴾ والجُمْلَةُ خَبَرٌ فَذَلِكَ وقِيلَ هو ظَرْفٌ لِلْخَبَرِ؛ لِأنَّ التَّقْدِيرَ وُقُوعُ يَوْمٍ عَسِيرٍ. وقَوْلُهُ: ﴿غَيْرُ يَسِيرٍ﴾ تَأْكِيدٌ لِعُسْرِهِ عَلَيْهِمْ لِأنَّ كَوْنَهُ غَيْرَ يَسِيرٍ، قَدْ فُهِمَ مِن قَوْلِهِ ﴿يَوْمٌ عَسِيرٌ﴾ . ﴿ذَرْنِي ومَن خَلَقْتُ وحِيدًا﴾ أيْ دَعْنِي، وهي كَلِمَةُ تَهْدِيدٍ ووَعِيدٍ، والمَعْنى: دَعْنِي والَّذِي خَلَقْتُهُ حالَ كَوْنِهِ وحِيدًا في بَطْنِ أُمِّهِ لا مالَ لَهُ ولا ولَدَ، هَذا عَلى أنَّ ﴿وحِيدًا﴾ مُنْتَصِبٌ عَلى الحالِ مِنَ المَوْصُولِ أوْ مِنَ الضَّمِيرِ العائِدِ إلَيْهِ المَحْذُوفِ، ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ حالًا مِنَ الياءِ في ذَرْنِي أيْ: دَعْنِي وحْدِي مَعَهُ، فَإنِّي أكْفِيكَ في الِانْتِقامِ مِنهُ، والأوَّلُ أوْلى. قالَ المُفَسِّرُونَ: وهو الوَلِيدُ بْنُ المُغِيرَةِ. قالَ مُقاتِلٌ: يَقُولُ خَلِّ بَيْنِي وبَيْنَهُ فَأنا أنْفَرِدُ بِهَلَكَتِهِ، وإنَّما خُصَّ بِالذِّكْرِ لِمَزِيدِ كُفْرِهِ وعَظِيمِ جُحُودِهِ لِنِعَمِ اللَّهِ عَلَيْهِ، وقِيلَ أرادَ بِالوَحِيدِ الَّذِي لا يَعْرِفُ أبُوهُ، وكانَ يُقالُ في الوَلِيدِ بْنِ المُغِيرَةِ أنَّهُ دُعِيَ. ﴿وجَعَلْتُ لَهُ مالًا مَمْدُودًا﴾ أيْ كَثِيرًا، أوْ يَمُدُّ بِالزِّيادَةِ والنَّماءِ شَيْئًا بَعْدَ شَيْءٍ. قالَ الزَّجّاجُ: مالًا غَيْرَ مُنْقَطِعٍ عَنْهُ، وقَدْ كانَ الوَلِيدُ بْنُ المُغِيرَةِ مَشْهُورًا بِكَثْرَةِ المالِ عَلى اخْتِلافِ أنْواعِهِ، قِيلَ كانَ يُحَصَّلُ لَهُ مِن غَلَّةِ أمْوالِهِ ألْفُ ألْفِ دِينارٍ، وقِيلَ أرْبَعَةُ آلافِ دِينارٍ، وقِيلَ ألْفُ دِينارٍ. ﴿وبَنِينَ شُهُودًا﴾ أيْ وجَعَلْتُ لَهُ بَنَيْنَ حُضُورًا بِمَكَّةَ مَعَهُ لا يُسافِرُونَ ولا يَحْتاجُونَ إلى التَّفَرُّقِ في طَلَبِ الرِّزْقِ لِكَثْرَةِ مالِ أبِيهِمْ. قالَ الضَّحّاكُ: كانُوا سَبْعَةً وُلِدُوا بِمَكَّةَ، وخَمْسَةً وُلِدُوا بِالطّائِفِ. وقالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: كانُوا ثَلاثَةَ عَشَرَ ولَدًا. وقالَ مُقاتِلٌ: كانُوا سَبْعَةً كُلُّهم رِجالٌ، أسْلَمَ مِنهم ثَلاثَةٌ خالِدٌ وهُشامٌ والوَلِيدُ بْنُ الوَلِيدِ، فَما زالَ الوَلِيدُ بَعْدَ نُزُولِ هَذِهِ الآيَةِ في نُقْصانٍ مِن مالِهِ ووَلَدِهِ حَتّى هَلَكَ. وقِيلَ مَعْنى شُهُودًا أنَّهُ إذا ذُكِرَ ذُكِرُوا مَعَهُ، وقِيلَ كانُوا يَشْهَدُونَ مَعَهُ ما كانَ يَشْهَدُهُ ويَقُومُونَ بِما كانَ يُباشِرُهُ. ﴿ومَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيدًا﴾ أيْ بَسَطْتُ لَهُ في العَيْشِ وطُولَ العُمْرِ والرِّياسَةَ في قُرَيْشٍ، والتَّمْهِيدُ عِنْدَ العَرَبِ التَّوْطِئَةُ، ومِنهُ مَهْدُ الصَّبِيِّ. وقالَ مُجاهِدٌ: إنَّهُ المالُ بَعْضُهُ فَوْقَ بَعْضٍ كَما يُمَهَّدُ الفِراشُ. ﴿ثُمَّ يَطْمَعُ أنْ أزِيدَ﴾ أيْ يَطْمَعُ بَعْدَ هَذا كُلِّهِ في الزِّيادَةِ لِكَثْرَةِ حِرْصِهِ وشِدَّةِ طَمَعِهِ مَعَ كُفْرانِهِ لِلنِّعَمِ وإشْراكِهِ بِاللَّهِ. قالَ الحَسَنُ: ثُمَّ يَطْمَعُ أنْ أُدْخِلَهُ الجَنَّةَ، وكانَ يَقُولُ: إنْ كانَ مُحَمَّدٌ صادِقًا فَما خُلِقَتِ الجَنَّةُ إلّا لِي. ثُمَّ رَدَعَهُ اللَّهُ سُبْحانَهُ وزَجَرَهُ فَقالَ: كَلّا أيْ لَسْتُ أزِيدُهُ. ثُمَّ عَلَّلَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: ﴿إنَّهُ كانَ لِآياتِنا عَنِيدًا﴾ أيْ مُعانِدًا لَها كافِرًا بِما أنْزَلْناهُ مِنها عَلى رَسُولِنا، يُقالُ: عَنَدَ يَعْنِدُ بِالكَسْرِ: إذا خالَفَ الحَقَّ ورَدَّهُ، وهو يَعْرِفُهُ فَهو عَنِيدٌ وعانِدٌ، والعانِدُ الَّذِي يَجُورُ عَنِ الطَّرِيقِ ويَعْدِلُ عَنِ القَصْدِ، ومِنهُ قَوْلُ الحارِثِيِّ:(p-١٥٥٢) ؎إذا رَكِبْتُ فاجْعَلانِي وسَطا ∗∗∗ إنِّي كَبِيرٌ لا أُطِيقُ العُنَّدا قالَ أبُو صالِحٍ: عَنِيدًا مَعْناهُ مُباعِدًا. وقالَ قَتادَةُ: جاحِدًا. وقالَ مُقاتِلٌ: مُعْرِضًا. ﴿سَأُرْهِقُهُ صَعُودًا﴾ أيْ سَأُكَلِّفُهُ مَشَقَّةً مِنَ العَذابِ وهو مَثَلٌ لِما يَلْقاهُ مِنَ العَذابِ الصَّعْبِ الَّذِي لا يُطاقُ، وقِيلَ المَعْنى: إنَّهُ يُكَلَّفُ أنَّهُ يَصْعَدُ جَبَلًا مِن نارٍ، والإرْهاقُ في كَلامِ العَرَبِ: أنْ يَحْمِلَ الإنْسانُ الشَّيْءَ الثَّقِيلَ. وجُمْلَةُ ﴿إنَّهُ فَكَّرَ وقَدَّرَ﴾ تَعْلِيلٌ لِما تَقَدَّمَ مِنَ الوَعِيدِ: أيْ إنَّهُ فَكَّرَ في شَأْنِ النَّبِيِّ ﷺ، وما أُنْزِلَ عَلَيْهِ مِنَ القُرْآنِ وقَدَّرَ في نَفْسِهِ: أيْ هَيَّأ الكَلامَ في نَفْسِهِ، والعَرَبُ تَقُولُ: هَيَّأْتُ الشَّيْءَ إذا قَدَّرْتُهُ، وقَدَّرْتُ الشَّيْءَ إذا هَيَّأْتُهُ؛ وذَلِكَ أنَّهُ لَمّا سَمِعَ القُرْآنَ لَمْ يَزَلْ يُفَكِّرُ ماذا يَقُولُ فِيهِ وقَدَّرَ في نَفْسِهِ ما يَقُولُ. فَذَمَّهُ اللَّهُ وقالَ: ﴿فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ﴾ أيْ لُعِنَ وعُذِّبَ كَيْفَ قَدَّرَ: أيْ عَلى أيِّ حالٍ قَدَّرَ ما قَدَّرَ مِنَ الكَلامِ كَما يُقالُ في الكَلامِ: لِأضْرِبَنَّهُ كَيْفَ صَنَعَ: أيْ عَلى أيِّ حالٍ كانَتْ مِنهُ، وقِيلَ المَعْنى: قُهِرَ وغُلِبَ كَيْفَ قَدَّرَ، ومِنهُ قَوْلُ الشّاعِرِ: ؎وما ذَرَفَتْ عَيْناكِ إلّا لِتَضْرِبِي ∗∗∗ بِسَهْمَيْكِ في أعْشارِ قَلْبٍ مُقَتَّلِ وقالَ الزُّهْرِيُّ: عُذِّبَ، وهو مِن بابِ الدُّعاءِ عَلَيْهِ. والتَّكْرِيرُ في قَوْلِهِ: ﴿ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ﴾ لِلْمُبالَغَةِ والتَّأْكِيدِ. ﴿ثُمَّ نَظَرَ﴾ أيْ بِأيِّ شَيْءٍ يَدْفَعُ القُرْآنَ ويَقْدَحُ فِيهِ، أوْ فَكَّرَ في القُرْآنِ وتَدَبَّرَ ما هو. ﴿ثُمَّ عَبَسَ﴾ أيْ قَطَّبَ وجْهَهُ لَمّا لَمْ يَجِدْ مَطْعَنًا يَطْعَنُ بِهِ في القُرْآنِ، والعَبْسُ مَصْدَرُ عَبَسَ مُخَفَّفًا يَعْبِسُ عَبْسًا وعُبُوسًا إذا قَطَّبَ، وقِيلَ عَبَسَ في وُجُوهِ المُؤْمِنِينَ، وقِيلَ عَبَسَ في وجْهِ النَّبِيِّ ﷺ ﴿وبَسَرَ﴾ أيْ كَلَّحَ وجْهَهُ وتَغَيَّرَ، ومِنهُ قَوْلُ الشّاعِرِ: ؎صَبَّحْنا تَمِيمًا غَداةَ الحَفارِ ∗∗∗ بِشَهْباءَ مَلْمُوسَةٍ باسِرَهْ وقَوْلُ الآخَرِ: ؎وقَدْ رابَنِي مِنها صُدُودٌ رَأيْتُهُ ∗∗∗ وإعْراضُها عَنْ حاجَتِي وبُسُورُها وقِيلَ إنَّ ظُهُورَ العُبُوسِ في الوَجْهِ يَكُونُ بَعْدَ المُحاوَرَةِ، وظُهُورَ البُسُورِ في الوَجْهِ قَبْلَها، والعَرَبُ تَقُولُ: وجْهٌ باسِرٌ: إذا تَغَيَّرَ واسْوَدَّ. وقالَ الرّاغِبُ: البُسْرُ: اسْتِعْجالُ الشَّرِّ قَبْلَ أوانِهِ نَحْوَ بَسَرَ الرَّجُلُ حاجَتَهُ: أيْ طَلَبَها في غَيْرِ أوانِها. قالَ: ومِنهُ قَوْلُهُ: ﴿عَبَسَ وبَسَرَ﴾ أيْ أظْهَرَ العُبُوسَ قَبْلَ أوانِهِ وقَبْلَ وقْتِهِ، وأهْلُ اليَمَنِ يَقُولُونَ: بَسَرَ المَرْكَبُ وأبْسَرَ: أيْ وقَفَ لا يَتَقَدَّمُ ولا يَتَأخَّرُ، وقَدْ أُبْسِرْنا: أيْ صِرْنا إلى البُسُورِ. ﴿ثُمَّ أدْبَرَ واسْتَكْبَرَ﴾ أيْ أعْرَضَ عَنِ الحَقِّ، وذَهَبَ إلى أهْلِهِ، وتَعَظَّمَ عَنْ أنْ يُؤْمِنَ. ﴿فَقالَ إنْ هَذا إلّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ﴾ أيْ يَأْثَرُهُ عَنْ غَيْرِهِ ويُرِيهِ عَنْهُ. والسِّحْرُ: إظْهارُ الباطِلِ في صُورَةِ الحَقِّ، أوِ الخَدِيعَةِ عَلى ما تَقَدَّمَ بَيانُهُ في سُورَةِ البَقَرَةِ، يُقالُ أثَرْتُ الحَدِيثَ بِأثَرِهِ: إذا ذَكَرْتُهُ عَنْ غَيْرِكَ، ومِنهُ قَوْلُ الأعْشى: ؎إنَّ الَّذِي فِيهِ تَحارَبْتُما ∗∗∗ بَيِّنٌ لِلسّامِعِ والأثَرْ ﴿إنْ هَذا إلّا قَوْلُ البَشَرِ﴾ يَعْنِي أنَّهُ كَلامُ الإنْسِ، ولَيْسَ بِكَلامِ اللَّهِ، وهو تَأْكِيدٌ لِما قَبْلَهُ، وسَيَأْتِي أنَّ الوَلِيدَ بْنَ المُغِيرَةِ إنَّما قالَ هَذا القَوْلَ إرْضاءً لِقَوْمِهِ بَعْدَ اعْتِرافِهِ أنَّ لَهُ حَلاوَةً، وأنَّ عَلَيْهِ طَلاوَةً إلى آخِرِ كَلامِهِ. ولَمّا قالَ هَذا القَوْلَ الَّذِي حَكاهُ اللَّهُ عَنْهُ قالَ اللَّهُ عَزَّ وجَلَّ: ﴿سَأُصْلِيهِ سَقَرَ﴾ أيْ سَأُدْخِلُهُ النّارَ، وسَقَرُ مِن أسْماءِ النّارِ، ومِن دِرْكاتِ جَهَنَّمَ، وقِيلَ إنَّ هَذِهِ الجُمْلَةَ بَدَلٌ مِن قَوْلِهِ ﴿سَأُرْهِقُهُ صَعُودًا﴾ . ثُمَّ بالَغَ سُبْحانَهُ في وصْفِ النّارِ وشِدَّةِ أمْرِها فَقالَ: ﴿وما أدْراكَ ما سَقَرُ﴾ أيْ وما أعْلَمَكَ أيُّ شَيْءٍ هي، والعَرَبُ تَقُولُ: وما أدْراكَ ما كَذا: إذا أرادُوا المُبالَغَةَ في أمْرِهِ وتَعْظِيمِ شَأْنِهِ وتَهْوِيلِ خَطْبِهِ، و" ما " الأُولى مُبْتَدَأٌ، وجُمْلَةُ ﴿ما سَقَرُ﴾ خَبَرُ المُبْتَدَأِ. ثُمَّ فَسَّرَ حالَها فَقالَ: ﴿لا تُبْقِي ولا تَذَرُ﴾ والجُمْلَةُ مُسْتَأْنَفَةٌ لِبَيانِ حالَ سَقَرَ، والكَشْفِ عَنْ وصْفِها، وقِيلَ هي في مَحَلِّ نَصْبٍ عَلى الحالِ، والعامِلُ فِيها مَعْنى التَّعْظِيمُ؛ لِأنَّ قَوْلَهُ: ﴿وما أدْراكَ ما سَقَرُ﴾ يَدُلُّ عَلى التَّعْظِيمِ، فَكَأنَّهُ قالَ: اسْتَعْظِمُوا سَقَرَ في هَذِهِ الحالِ، والأوَّلُ أوْلى، ومَفْعُولُ الفِعْلَيْنِ مَحْذُوفٌ. قالَ السُّدِّيُّ: لا تُبْقِي لَهم لَحْمًا ولا تَذْرُ لَهم عَظْمًا. وقالَ عَطاءٌ: لا تُبْقِي مَن فِيها حَيًّا ولا تَذْرُهُ مَيْتًا، وقِيلَ هُما لَفْظانِ بِمَعْنًى واحِدٍ، كُرِّرا لِلتَّأْكِيدِ كَقَوْلِكَ: صَدَّ عَنِّي، وأعْرَضَ عَنِّي. ﴿لَوّاحَةٌ لِلْبَشَرِ﴾ قَرَأ الجُمْهُورُ ﴿لَوّاحَةٌ﴾ بِالرَّفْعِ عَلى أنَّهُ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، وقِيلَ عَلى أنَّهُ نَعْتٌ لِسَقَرَ، والأوَّلُ أوْلى. وقَرَأ الحَسَنُ، وعَطِيَّةُ العَوْفِيُّ، ونَصْرُ بْنُ عاصِمٍ، وعِيسى بْنُ عُمَرَ، وابْنُ أبِي عَبْلَةَ، وزَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ بِالنَّصْبِ عَلى الحالِ أوِ الِاخْتِصاصِ لِلتَّهْوِيلِ، يُقالُ: لاحَ يَلُوحُ: أيْ ظَهَرَ، والمَعْنى: أنَّها تَظْهَرُ لِلْبَشَرِ. قالَ الحَسَنُ: تَلُوحُ لَهم جَهَنَّمُ حَتّى يَرَوْنَها عَيانًا كَقَوْلِهِ: ﴿وبُرِّزَتِ الجَحِيمُ لِمَن يَرى﴾ [النازعات: ٣٦] وقِيلَ مَعْنى ﴿لَوّاحَةٌ لِلْبَشَرِ﴾ أيْ مُغَيِّرَةٌ لَهم ومُسَوِّدَةٌ. قالَ مُجاهِدٌ: والعَرَبُ تَقُولُ: لاحَهُ الحَرُّ والبَرْدُ والسَّقَمُ والحُزْنُ: إذا غَيَّرَهُ، وهَذا أرْجَحُ مِنَ الأوَّلِ، وإلَيْهِ ذَهَبَ جُمْهُورُ المُفَسِّرِينَ، ومِنهُ قَوْلُ الشّاعِرِ: ؎وتَعْجَبُ هِنْدٌ أنْ رَأتْنِي شاحِبًا ∗∗∗ تَقُولُ لَشَيْءٌ لَوَّحَتْهُ السَّمايِمُ أيْ غَيَّرَتْهُ، ومِنهُ قَوْلُ رُؤْبَةَ بْنِ العَجّاجِ: ؎لَوَّحَ مِنهُ بَعْدَ بُدْنٍ وشَبَقْ ∗∗∗ تَلْوِيحَكَ الضّامِرَ يُطْوى لِلسَّبَقْ وقالَ الأخْفَشُ: المَعْنى أنَّها مُعَطِّشَةٌ لِلْبَشَرِ، وأنْشَدَ: ؎سَقَتْنِي عَلى لَوْحٍ مِنَ الماءِ شَرْبَةً ∗∗∗ سَقاها بِهِ اللَّهُ الرِّهامُ الغَوادِيا والمُرادُ بِـ البَشَرِ إمّا جِلْدَةُ الإنْسانِ الظّاهِرَةُ كَما قالَهُ الأكْثَرُ، أوِ المُرادُ بِهِ أهْلُ النّارِ مِنَ الإنْسِ كَما قالالأخْفَشُ. ﴿عَلَيْها تِسْعَةَ عَشَرَ﴾ قالَ المُفَسِّرُونَ: يَقُولُ عَلى النّارِ تِسْعَةَ عَشَرَ مِنَ المَلائِكَةِ هم خَزَنَتُها، وقِيلَ تِسْعَةَ عَشَرَ صِنْفًا مِن أصْنافِ المَلائِكَةِ، وقِيلَ تِسْعَةَ عَشَرَ صَفًّا مِن صُفُوفِهِمْ، وقِيلَ تِسْعَةَ عَشَرَ نَقِيبًا مَعَ كُلِّ نَقِيبٍ جَماعَةٌ مِنَ المَلائِكَةِ، والأوَّلُ أوْلى. قالَ الثَّعْلَبِيُّ: ولا يُنْكَرُ هَذا؛ فَإذا كانَ مَلَكٌ واحِدٌ يَقْبِضُ أرْواحَ جَمِيعِ الخَلائِقِ كانَ أحْرى أنْ يَكُونُوا تِسْعَةَ عَشَرَ عَلى عَذابِ بَعْضِ الخَلْقِ. قَرَأ الجُمْهُورُ ﴿تِسْعَةَ عَشَرَ﴾ بِفَتْحِ الشِّينِ مِن ( عَشَرَ ) . وقَرَأ أبُو جَعْفَرِ بْنُ القَعْقاعِ، وطَلْحَةُ بْنُ سُلَيْمانَ بِإسْكانِها. وقَدْ أخْرَجَ البُخارِيُّ، ومُسْلِمٌ وغَيْرُهُما عَنْ جابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ أنَّ أبا سَلَمَةَ بْنَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ قالَ: إنَّ أوَّلَ ما نَزَلَ مِنَ القُرْآنِ ﴿ياأيُّها المُدَّثِّرُ﴾ فَقالَ لَهُ يَحْيى بْنُ أبِي كَثِيرٍ: (p-١٥٥٣)يَقُولُونَ إنَّ أوَّلَ ما نَزَلَ ﴿اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ﴾ [ أيْ سُورَةُ العَلَقِ ] فَقالَ أبُو سَلَمَةَ: سَألْتُ جابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ ذَلِكَ، قُلْتُ لَهُ مِثْلَ ما قُلْتُ، فَقالَ جابِرٌ: لا أُحَدِّثُنَّكَ إلّا ما حَدَّثَنا رَسُولُ اللَّهِ ﷺ قالَ: «جاوَرْتُ بِحِراءٍ فَلَمّا قَضَيْتُ جِوارِي هَبَطْتُ، فَنُودِيتُ فَنَظَرْتُ عَنْ يَمِينِي فَلَمْ أرَ شَيْئًا، ونَظَرْتُ عَنْ شِمالِي فَلَمْ أرَ شَيْئًا، ونَظَرْتُ خَلْفِي فَلَمْ أرَ شَيْئًا، فَرَفَعْتُ رَأْسِي فَإذا المَلَكُ الَّذِي جاءَنِي بِحِراءٍ جالَسٌ عَلى كُرْسِيٍّ بَيْنَ السَّماءِ والأرْضِ، فَحَثَيْتُ مِنهُ رُعْبًا، فَرَجَعْتُ فَقُلْتُ دَثِّرُونِي فَدَثَّرُونِي، فَنَزَلَتْ ﴿ياأيُّها المُدَّثِّرُ﴾ ﴿قُمْ فَأنْذِرْ﴾ إلى قَوْلِهِ: ﴿والرُّجْزَ فاهْجُرْ﴾» وسَيَأْتِي في سُورَةِ " اقْرَأْ " ما يَدُلُّ عَلى أنَّها أوَّلُ سُورَةٍ أُنْزِلَتْ، والجَمْعُ مُمْكِنٌ. وأخْرَجَ الحاكِمُ وصَحَّحَهُ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ ﴿ياأيُّها المُدَّثِّرُ﴾ فَقالَ: دَثِّرْ هَذا الأمْرَ، فَقُمْ بِهِ. وأخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وابْنُ المُنْذِرِ، وابْنُ أبِي حاتِمٍ، وابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْهُ ﴿ياأيُّها المُدَّثِّرُ﴾ قالَ: النّائِمُ ﴿وثِيابَكَ فَطَهِّرْ﴾ قالَ: لا تَكُنْ ثِيابَكَ الَّتِي تَلْبَسُ مِن مَكْسَبٍ باطِلٍ ﴿والرُّجْزَ فاهْجُرْ﴾ قالَ: الأصْنامُ ﴿ولا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ﴾ قالَ: لا تُعْطِ تَلْتَمِسُ بِها أفْضَلَ مِنها. وأخْرَجَ الفِرْيابِيُّ، وعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وابْنُ جَرِيرٍ، وابْنُ المُنْذِرِ، وابْنُ أبِي حاتِمٍ، والحاكِمُ وصَحَّحَهُ عَنْهُ أيْضًا ﴿وثِيابَكَ فَطَهِّرْ﴾ قالَ: مِنَ الإثْمِ. قالَ: وهي في كَلامِ العَرَبِ نَقِيُّ الثِّيابِ. وأخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْهُ أيْضًا ﴿وثِيابَكَ فَطَهِّرْ﴾ قالَ: مِنَ الغَدْرِ، لا تَكُنْ غَدّارًا. وأخْرَجَ سَعِيدُ بْنُ مَنصُورٍ، وعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وابْنُ جَرِيرٍ، وابْنُ المُنْذِرِ، وابْنُ أبِي حاتِمٍ، وابْنُ الأنْبارِيِّ، وابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنْهُ أيْضًا أنَّهُ سُئِلَ عَنْ قَوْلِهِ: ﴿وثِيابَكَ فَطَهِّرْ﴾ قالَ: لا تَلْبَسْها عَلى غَدْرَةٍ، ثُمَّ قالَ: ألا تَسْمَعُونَ قَوْلَ غَيْلانَ بْنِ سَلَمَةَ: ؎وإنِّي بِحَمْدِ اللَّهِ لا ثَوْبَ فاجِرٍ ∗∗∗ لَبِسْتُ ولا مِن غَدْرَةٍ أتَقَنَّعُ وأخْرَجَ الطَّبَرانِيُّ، والبَيْهَقِيُّ في سُنَنِهِ عَنْهُ أيْضًا ﴿ولا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ﴾ قالَ: لا تُعْطِ الرَّجُلَ عَطاءَ رَجاءٍ أنْ يُعْطِيَكَ أكْثَرَ مِنهُ. وأخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وابْنُ المُنْذِرِ، وابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْهُ أيْضًا ﴿فَإذا نُقِرَ في النّاقُورِ﴾ قالَ: الصُّورِ ﴿يَوْمٌ عَسِيرٌ﴾ قالَ: شَدِيدٌ. وأخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْهُ أيْضًا ﴿ذَرْنِي ومَن خَلَقْتُ وحِيدًا﴾ قالَ الوَلِيدُ بْنُ المُغِيرَةِ. وأخْرَجَ الحاكِمُ وصَحَّحَهُ والبَيْهَقِيُّ في الدَّلائِلِ عَنْهُ أيْضًا: «أنَّ الوَلِيدَ بْنَ المُغِيرَةِ جاءَ إلى النَّبِيِّ ﷺ فَقَرَأ عَلَيْهِ القُرْآنَ، فَكَأنَّهُ رَقَّ لَهُ، فَبَلَغَ ذَلِكَ أبا جَهْلٍ، فَأتاهُ فَقالَ: يا عَمُّ إنَّ قَوْمَكَ يُرِيدُونَ أنْ يَجْمَعُوا لَكَ مالًا لِيُعْطُوكَهُ، فَإنَّكَ أتَيْتَ مُحَمَّدًا لِتَعْرِضَ لِما قَبِلَهُ، قالَ: قَدْ عَلِمَتْ قُرَيْشٌ أنِّي مِن أكْثَرِها مالًا، قالَ: فَقُلْ فِيهِ قَوْلًا يَبْلُغُ قَوْمُكَ أنَّكَ مُنْكِرٌ لَهُ، وأنَّكَ كارِهٌ لَهُ، قالَ: وماذا أقُولُ ؟ فَواللَّهِ ما فِيكم رَجُلٌ أعْلَمَ بِالشِّعْرِ مِنِّي لا بِرَجَزِهِ ولا بِقَصِيدِهِ ولا بِأشْعارِ الجِنِّ، واللَّهِ ما يُشْبِهُ هَذا الَّذِي يَقُولُ شَيْئًا مِن هَذا، وواللَّهِ إنَّ لِقَوْلِهِ الَّذِي يَقُولُ لَحَلاوَةً، وإنَّ عَلَيْهِ لَطَلاوَةً وإنَّهُ لَمُثْمِرٌ أعْلاهُ، مُغْدِقٌ أسْفَلَهُ، وإنَّهُ لَيَعْلُو وما يُعْلى، وإنَّهُ لَيَحْطِمُ ما تَحْتَهُ. قالَ: واللَّهِ لا يَرْضى قَوْمُكَ حَتّى تَقُولَ فِيهِ، قالَ: فَدَعْنِي حَتّى أُفَكِّرَ، فَلَمّا فَكَّرَ قالَ: هَذا سِحْرٌ يُؤْثِرُ، يَأْثَرُهُ عَنْ غَيْرِهِ، فَنَزَلَتْ ﴿ذَرْنِي ومَن خَلَقْتُ وحِيدًا﴾» . وأخْرَجَ هَذا عَبْدُ الرَّزّاقِ عَنْ عِكْرِمَةَ مُرْسَلًا، وكَذا أخْرَجَهُ ابْنُ جَرِيرٍ، وابْنُ إسْحاقَ، وابْنُ المُنْذِرِ وغَيْرُ واحِدٍ. وأخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وابْنُ أبِي حاتِمٍ، وابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ عُمَرَ بْنِ الخَطّابِ أنَّهُ سُئِلَ عَنْ قَوْلِهِ: ﴿وجَعَلْتُ لَهُ مالًا مَمْدُودًا﴾ قالَ: غَلَّةُ شَهْرٍ بِشَهْرٍ. وأخْرَجَ ابْنُ المُنْذِرِ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ ﴿وجَعَلْتُ لَهُ مالًا مَمْدُودًا﴾ قالَ: ألْفَ دِينارٍ. وأخْرَجَ هَنّادٌ عَنْ أبِي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ في قَوْلِهِ: ﴿سَأُرْهِقُهُ صَعُودًا﴾ قالَ: هو جَبَلٌ في النّارِ يُكَلِّفُونَ أنْ يَصْعَدُوا فِيهِ، فَكُلَّما وضَعُوا أيْدِيَهم عَلَيْهِ ذابَتْ، فَإذا رَفَعُوها عادَتْ كَما كانَتْ. وأخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وابْنُ المُنْذِرِ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ ﴿عَنِيدًا﴾ قالَ: جَحُودًا. وأخْرَجَ أحْمَدُ، والتِّرْمِذِيُّ، وابْنُ جَرِيرٍ، وابْنُ المُنْذِرِ، وابْنُ أبِي حاتِمٍ، وابْنُ حِبّانَ، والحاكِمُ وصَحَّحَهُ وابْنُ مَرْدَوَيْهِ، والبَيْهَقِيُّ عَنْ أبِي سَعِيدٍ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قالَ: «الصَّعُودُ جَبَلٌ في النّارِ يَصْعَدُ فِيهِ الكافِرُ سَبْعِينَ خَرِيفًا، ثُمَّ يَهْوِي وهو كَذَلِكَ فِيهِ أبَدًا» . قالَ التِّرْمِذِيُّ بَعْدَ إخْراجِهِ: غَرِيبٌ لا نَعْرِفُهُ إلّا مِن حَدِيثِ ابْنِ لَهِيعَةَ عَنْ دَرّاجٍ. قالَ ابْنُ كَثِيرٍ: وفِيهِ غَرابَةٌ ونَكارَةٌ. انْتَهى، وقَدْ أخْرَجَهُ جَماعَةٌ مِن قَوْلِ أبِي سَعِيدٍ، وأخْرَجَ ابْنُ أبِي حاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ قالَ: ﴿صَعُودًا﴾ صَخْرَةٌ في جَهَنَّمَ يُسْحَبُ عَلَيْها الكافِرُ عَلى وجْهِهِ. وأخْرَجَ ابْنُ المُنْذِرِ عَنْهُ قالَ: جَبَلٌ في النّارِ. وأخْرَجَ ابْنُ المُنْذِرِ عَنْهُ أيْضًا في قَوْلِهِ: ﴿لا تُبْقِي ولا تَذَرُ﴾ قالَ: لا تُبْقِي مِنهم شَيْئًا، وإذا بَدَّلُوا خَلْقًا آخَرَ لَمْ تَذَرْ أنْ تُعاوِدَهم سَبِيلَ العَذابِ الأوَّلِ. وأخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ عَنْهُ أيْضًا ﴿لَوّاحَةٌ لِلْبَشَرِ﴾ قالَ: تَلُوحُ الجِلْدَ فَتُحْرِقَهُ وتُغَيِّرَ لَوْنَهُ، فَيَصِيرُ أسْوَدَ مِنَ اللَّيْلِ. وأخْرَجَ ابْنُ المُنْذِرِ، وابْنُ أبِي حاتِمٍ عَنْهُ أيْضًا ﴿لَوّاحَةٌ﴾ قالَ: مُحْرِقَةٌ. وأخْرَجَ ابْنُ أبِي حاتِمٍ، وابْنُ مَرْدَوَيْهِ، والبَيْهَقِيُّ في البَعْثِ عَنِ البَراءِ: أنَّ رَهْطًا مِنَ اليَهُودِ سَألُوا بَعْضَ أصْحابِ النَّبِيِّ ﷺ عَنْ خَزَنَةِ جَهَنَّمَ، فَقالَ: اللَّهُ ورَسُولُهُ أعْلَمُ، فَجاءَ جِبْرِيلُ، فَأخْبَرَ النَّبِيَّ ﷺ، فَنَزَلَتْ عَلَيْهِ ساعَتَئِذٍ ﴿عَلَيْها تِسْعَةَ عَشَرَ﴾ .
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب