الباحث القرآني

﴿ذَرْنِي ومَن خَلَقْتُ وحِيدًا﴾: لا خِلافَ أنَّها نَزَلَتْ في الوَلِيدِ بْنِ المُغِيرَةِ المَخْزُومِيِّ، فَرُوِيَ أنَّهُ كانَ يُلَقَّبُ بِالوَحِيدِ، أيْ: لِأنَّهُ لا نَظِيرَ (p-٣٧٣)لَهُ في مالِهِ وشَرَفِهِ في بَيْتِهِ. والظّاهِرُ انْتِصابُ (وحِيدًا) عَلى الحالِ مِنَ الضَّمِيرِ المَحْذُوفِ العائِدِ عَلى (مَن)، أيْ: خَلَقْتُهُ مُنْفَرِدًا ذَلِيلًا قَلِيلًا لا مالٌ لَهُ ولا ولَدٌ، فَآتاهُ اللَّهُ تَعالى المالَ والوَلَدَ، فَكَفَرَ نِعْمَتَهُ وأشْرَكَ بِهِ واسْتَهْزَأ بِدِينِهِ. وقِيلَ: حالٌ مِن ضَمِيرِ النَّصْبِ في (ذَرْنِي)، قالَهُ مُجاهِدٌ، أيْ: ذَرْنِي وحْدِي مَعَهُ، فَأنا أجْزِيكَ في الِانْتِقامِ مِنهُ. أوْ حالٌ مِنَ التّاءِ في خَلَقْتُ، أيْ: خَلَقْتُهُ وحْدِي لَمْ يُشْرِكْنِي في خَلْقِي أحَدٌ، فَأنا أُهْلِكُهُ لا أحْتاجُ إلى ناصِرٍ في إهْلاكِهِ. وقِيلَ: وحِيدًا لا يُتَبَيَّنُ أبُوهُ. وكانَ الوَلِيدُ مَعْرُوفًا بِأنَّهُ دَعِيٌّ، كَما تَقَدَّمَ في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ﴾ [القلم: ١٣] وإذا كانَ يُدْعى وحِيدًا، فَلا يَجُوزُ أنْ يَنْتَصِبَ عَلى الذَّمِّ؛ لِأنَّهُ لا يَجُوزُ أنْ يُصَدِّقَهُ اللَّهُ تَعالى في أنَّهُ وحِيدًا لا نَظِيرَ لَهُ. ورُدَّ ذَلِكَ بِأنَّهُ لَمّا لُقِّبَ بِذَلِكَ صارَ عَلَمًا، والعَلَمُ لا يُفِيدُ في المُسَمّى صِفَةً، وأيْضًا فَيُمْكِنُ حَمْلُهُ عَلى أنَّهُ وحِيدٌ في الكُفْرِ والخُبْثِ والدَّناءَةِ. ﴿وجَعَلْتُ لَهُ مالًا مَمْدُودًا﴾ قالَ ابْنُ عَبّاسٍ: كانَ لَهُ بَيْنَ مَكَّةَ والطّائِفِ إبِلٌ وحُجُورٌ ونِعَمٌ وجِنانٌ وعَبِيدٌ وجَوارٍ. وقِيلَ: كانَ صاحِبَ زَرْعٍ وضَرْعٍ وتِجارَةٍ. وقالَ النُّعْمانُ بْنُ بَشِيرٍ: المالُ المُدُودُ هو الأرْضُ لِأنَّها مُدَّتْ. وقالَ عُمَرُ بْنُ الخَطّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: هو الرَّيْعُ المُسْتَغَلُّ مُشاهَرَةً، فَهو مَدٌّ في الزَّمانِ لا يَنْقَطِعُ. وقِيلَ: هو مِقْدارٌ مُعَيَّنٌ، واضْطَرَبُوا في تَعْيِينِهِ. فَمِمّا قِيلَ: ألْفُ دِينارٍ، وقِيلَ: ألْفُ ألْفِ دِينارٍ، وكُلُّ هَذا تَحَكُّمٌ. ﴿وبَنِينَ شُهُودًا﴾ أيْ: حُضُورًا مَعَهُ بِـ مَكَّةَ لا يَظْعَنُونَ عَنْهُ لِغِناهم فَهو مُسْتَأْنِسٌ بِهِمْ، أوْ شُهُودًا أيْ: رِجالًا يَشْهَدُونَ مَعَهُ المَجامِعَ والمَحافِلَ، أوْ تُسْمَعُ شَهادَتُهم فِيما يُتَحاكَمُ فِيهِ. واخْتُلِفَ في عَدَدِهِمْ، فَذُكِرَ مِنهم: خالِدٌ وهِشامٌ وعِمارَةُ، وقَدْ أسْلَمُوا. والوَلِيدُ والعاصِي وقَيْسٌ وعَبْدُ شَمْسٍ. قالَ مُقاتِلٌ: فَما زالَ الوَلِيدُ بَعْدَ هَذِهِ الآيَةِ وبَعْدَ نُزُولِها في نَقْصٍ في مالِهِ ووَلَدِهِ حَتّى هَلَكَ. ﴿ومَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيدًا﴾ أيْ: وطَّأْتُ وهَيَّأْتُ وبَسَطْتُ لَهُ بِساطًا حَتّى أقامَ بِبَلْدَتِهِ مُطْمَئِنًّا يُرْجَعُ إلى رَأْيِهِ. وقالَ ابْنُ عَبّاسٍ: وسَّعْتُ لَهُ ما بَيْنَ اليَمَنِ إلى الشّامِ. وقالَ مُجاهِدٌ: مَهَّدْتُ لَهُ المالَ بَعْضُهُ فَوْقَ بَعْضٍ، كَما يُمَهَّدُ الفِراشُ. ﴿ثُمَّ يَطْمَعُ أنْ أزِيدَ﴾ أيْ: عَلى ما أعْطَيْتُهُ مِنَ المالِ والوَلَدِ. (كَلّا) أيْ: لَيْسَ يَكُونُ كَذَلِكَ مَعَ كُفْرِهِ بِالنِّعَمِ. وقالَ الحَسَنُ وغَيْرُهُ: ثُمَّ يَطْمَعُ أنْ أُدْخِلَهُ الجَنَّةَ؛ لِأنَّهُ كانَ يَقُولُ: إنْ كانَ مُحَمَّدٌ صادِقًا فَما خُلِقَتِ الجَنَّةُ إلّا لِي. ﴿ثُمَّ يَطْمَعُ﴾ قالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: اسْتِبْعادٌ لِطَمَعِهِ واسْتِنْكارٌ، أيْ: لا مَزِيدَ عَلى ما أُوتِيَ كَثْرَةً وسَعَةً (كَلّا): قَطْعٌ لِرَجائِهِ ورَدْعٌ. انْتَهى. وطَمَعُهُ في الزِّيادَةِ دَلِيلٌ عَلى مَبْشَعِهِ وحُبِّهِ لِلدُّنْيا. ﴿إنَّهُ كانَ لِآياتِنا عَنِيدًا﴾: تَعْلِيلٌ لِلرَّدْعِ عَلى وجْهِ الِاسْتِئْنافِ، كَأنَّ قائِلًا قالَ: لِمَ لا يُزادُ ؟ فَقالَ إنَّهُ كانَ يُعانِدُ آياتِ المُنْعِمِ وكَفَرَ بِذَلِكَ، والكافِرُ لا يَسْتَحِقُّ المَزِيدَ. وإنَّما جُعِلَتِ الآياتُ بِالنِّسْبَةِ إلى الأنْعامِ لِمُناسَبَةِ قَوْلِهِ: ﴿وجَعَلْتُ لَهُ مالًا مَمْدُودًا﴾ إلى آخِرِ ما آتاهُ اللَّهُ، والأحْسَنُ أنْ يُحْمَلَ عَلى آياتِ القُرْآنِ؛ لِحَدِيثِهِ في القُرْآنِ وزَعْمِهِ أنَّهُ سِحْرٌ. (سَأُرْهِقُهُ) أيْ: سَأُكَلِّفُهُ وأُعْنِتُهُ بِمَشَقَّةٍ وعُسْرٍ (صَعُودًا): عَقَبَةً في جَهَنَّمَ، كُلَّما وُضِعَ عَلَيْها شَيْءٌ مِنَ الإنْسانِ ذابَ ثُمَّ يَعُودُ، والصَّعُودُ في اللُّغَةِ: العَقَبَةُ الشّاقَّةُ، وتَقَدَّمَ شَرْحُ ”عَنِيدٍ“ في سُورَةِ إبْراهِيمَ عَلَيْهِ السَّلامُ. ﴿إنَّهُ فَكَّرَ وقَدَّرَ﴾: رُوِيَ أنَّ الوَلِيدَ حاجَّ أبا جَهْلٍ وجَماعَةٍ مِن قُرَيْشٍ في أمْرِ القُرْآنِ، وقالَ: إنَّ لَهُ لَحَلاوَةً، وإنَّ أسْفَلَهُ لَمُغْدِقٌ، وإنَّ فَرْعَهُ لَجَناةٌ، وإنَّهُ لَيَحْطِمُ ما تَحْتَهُ، وإنَّهُ لَيَعْلُو وما يُعْلى، ونَحْوُ هَذا مِنَ الكَلامِ، فَخالَفُوهُ وقالُوا: هو شِعْرٌ، فَقالَ: واللَّهِ ما هو بِشِعْرٍ، قَدْ عَرَفْنا الشِّعْرَ هَزَجَهُ وبَسِيطَهُ، قالُوا: فَهو كاهِنٌ، قالَ: واللَّهِ ما هو بِكاهِنٍ، لَقَدْ رَأيْنا الكُهّانَ، قالُوا: هو مَجْنُونٌ، قالَ: واللَّهِ ما هو بِمَجْنُونٍ، لَقَدْ رَأيْنا المَجْنُونَ وخَنْقَهُ، قالُوا: هو سِحْرٌ، قالَ: أمّا هَذا فَيُشْبِهُ أنَّهُ سِحْرٌ، ويَقُولُ أقْوالَ نَفْسِهِ. ورُوِيَ هَذا بِألْفاظٍ غَيْرِ هَذِهِ ويَقْرُبُ مِن حَيْثُ المَعْنى، وفِيهِ: وتَزْعُمُونَ أنَّهُ كَذِبٌ، فَهَلْ جَرَّبْتُمْ عَلَيْهِ شَيْئًا مِنَ الكَذِبِ ؟ فَقالُوا: في كُلِّ ذَلِكَ اللَّهُمَّ لا، ثُمَّ قالُوا: فَما هو ؟ فَفَكَّرَ ثُمَّ قالَ: ما هو إلّا ساحِرٌ. أما رَأيْتُمُوهُ يُفَرِّقُ بَيْنَ الرَّجُلِ وأهْلِهِ، ووَلَدِهِ ومَوالِيهِ ؟ وما الَّذِي يَقُولُهُ إلّا سِحْرٌ يُؤْثِرُهُ عَنْ مِثْلِ (p-٣٧٤)مُسَيْلِمَةَ وعَنْ أهْلِ بابِلَ، فارْتَجَّ النّادِي فَرَحًا وتَفَرَّقُوا مُتَعَجِّبِينَ مِنهُ. ورُوِيَ أنَّ الوَلِيدَ سَمِعَ مِنَ القُرْآنِ ما أعْجَبَهُ ومَدَحَهُ، ثُمَّ سَمِعَ كَذَلِكَ مِرارًا حَتّى كادَ أنْ يُقارِبَ الإسْلامَ. ودَخَلَ إلى أبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ - رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُ - مِرارًا، فَجاءَهُ أبُو جَهْلٍ، فَقالَ: يا ولِيدُ ! أشَعَرْتَ أنَّ قُرَيْشًا قَدْ ذَمَّتْكَ بِدُخُولِكَ إلى ابْنِ أبِي قُحافَةَ، وزَعَمَتْ أنَّكَ إنَّما تَقْصِدُ أنْ تَأْكُلَ طَعامَهُ ؟ وقَدْ أبْغَضَتْكَ لِمُقارَبَتِكَ أمْرَ مُحَمَّدٍ، وما يُخَلِّصُكَ عِنْدَهم إلّا أنْ تَقُولَ في هَذا الكَلامِ قَوْلًا يُرْضِيهِمْ، فَفَتَنَهُ أبُو جَهْلٍ فافْتَتَنَ، وقالَ: أفْعَلُ. ﴿إنَّهُ فَكَّرَ﴾: تَعْلِيلٌ لِلْوَعِيدِ في قَوْلِهِ: ﴿سَأُرْهِقُهُ صَعُودًا﴾ . قِيلَ: ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ ﴿إنَّهُ فَكَّرَ﴾ بَدَلًا مِن قَوْلِهِ: ﴿إنَّهُ كانَ لِآياتِنا عَنِيدًا﴾ بَيانًا لِكُنْهِ عِنادُهُ، وفَكَّرَ، أيْ: في القُرْآنِ ومَن أتى بِهِ (وقَدَّرَ) أيْ: في نَفْسِهِ ما يَقُولُ فِيهِ. ﴿فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ﴾ قِيلَ: قُتِلَ لُعِنَ، وقِيلَ: غُلِبَ وقُهِرَ، وذَلِكَ مِن قَوْلِهِ: ؎لِسَهْمَيْكِ في أعْشارِ قَلْبٍ مُقَتَّلِ أيْ: مُذَلَّلٌ مَقْهُورٌ بِالحُبِّ، فَلُعِنَ دُعاءٌ عَلَيْهِ بِالطَّرْدِ والإبْعادِ، وغُلِبَ وذَلِكَ إخْبارٌ بِقَهْرِهِ وذِلَّتِهِ، و(كَيْفَ قَدَّرَ) مَعْناهُ: كَيْفَ قَدَّرَ ما لا يَصِحُّ تَقْدِيرُهُ وما لا يَسُوغُ أنْ يُقَدِّرَهُ عاقِلٌ ؟ وقِيلَ: دُعاءٌ مُقْتَضاهُ الِاسْتِحْسانُ والتَّعَجُّبُ. فَقِيلَ ذَلِكَ لِمَنزَعِهِ الأوَّلِ في مَدْحِهِ القُرْآنَ، وفي نَفْيِهِ الشِّعْرَ والكَهانَةَ والجُنُونَ عَنْهُ، فَيَجْرِي مَجْرى قَوْلِ عَبْدِ المَلِكِ بْنِ مَرْوانَ: قاتَلَ اللَّهُ كُثَيِّرًا، كَأنَّهُ رَآنا حِينَ قالَ كَذا. وقِيلَ: ذَلِكَ لِإصابَتِهِ ما طَلَبَتْ قُرَيْشٌ مِنهُ. وقِيلَ: ذَلِكَ ثَناءٌ عَلَيْهِ عَلى جِهَةِ الِاسْتِهْزاءِ. وقِيلَ: ذَلِكَ حِكايَةٌ لِما كَرَّرُوهُ مِن قَوْلِهِمْ: قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ، تَهَكُّمًا بِهِمْ وبِإعْجابِهِمْ بِتَقْدِيرِهِ واسْتِعْظامِهِمْ لِقَوْلِهِ، وهَذا فِيهِ بَعْدُ. وقَوْلُهم: قاتَلَهُمُ اللَّهُ، مَشْهُورٌ في كَلامِ العَرَبِ أنَّهُ يُقالُ عِنْدَ اسْتِعْظامِ الأمْرِ والتَّعَجُّبِ مِنهُ، ومَعْناهُ: أنَّهُ قَدْ بَلَغَ المَبْلَغَ الَّذِي يُحْسَدُ عَلَيْهِ، ويُدْعى عَلَيْهِ مِن حُسّادِهِ، والِاسْتِفْهامُ في (كَيْفَ قَدَّرَ) في مَعْنى: ما أعْجَبَ تَقْدِيرَهُ وما أغْرَبَهُ، كَقَوْلِهِمْ أيُّ رَجُلٍ زَيْدٌ ؟ أيْ: ما أعْظَمَهُ. وجاءَ التَّكْرارُ بِثُمَّ لِيَدُلَّ عَلى أنَّ الثّانِيَةَ أبْلَغُ مِنَ الأُولى؛ لِلتَّراخِي الَّذِي بَيْنَهُما، كَأنَّهُ دَعى عَلَيْهِ أوَّلًا ورَجى أنْ يُقْلِعَ عَنْ ما كانَ يَرُومُهُ فَلَمْ يَفْعَلْ، فَدَعى عَلَيْهِ ثانِيًا ﴿ثُمَّ نَظَرَ﴾ أيْ: فَكَّرَ ثانِيًا. وقِيلَ: نَظَرَ إلى وُجُوهِ النّاسِ ﴿ثُمَّ عَبَسَ وبَسَرَ﴾ أيْ: قَطَّبَ وكَلَحَ لَمّا ضاقَتْ عَلَيْهِ الحِيَلُ ولَمْ يَدْرِ ما يَقُولُ. وقِيلَ: قَطَّبَ في وجْهِ رَسُولِ اللَّهِ، ﷺ . (ثُمَّ أدْبَرَ): رَجَعَ مُدْبِرًا، وقِيلَ: أدْبَرَ عَنِ الحَقِّ (واسْتَكْبَرَ) قِيلَ: تَشارَسَ مُسْتَكْبِرًا، وقِيلَ: اسْتَكْبَرَ عَنِ الحَقِّ، وصَفَهُ بِالهَيْئاتِ الَّتِي تُشْكِلُ بِها حِينَ أرادَ أنْ يَقُولَ: ما قالَ كُلَّ ذَلِكَ عَلى سَبِيلِ الِاسْتِهْزاءِ، وأنَّ ما يَقُولُهُ كَذِبٌ وافْتِراءٌ، إذْ لَوْ كانَ مُمْكِنًا، لَكانَ لَهُ هَيْئاتٌ غَيْرُ هَذِهِ مِن فَرَحِ القَلْبِ وظُهُورِ السُّرُورِ والجَذَلِ والبِشْرِ في وجْهِهِ، ولَوْ كانَ حَقًّا لَمْ يَحْتَجْ إلى هَذا الفِكْرِ؛ لِأنَّ الحَقَّ أبْلَجُ يَتَّضِحُ بِنَفْسِهِ مِن غَيْرِ إكْدادِ فِكْرٍ ولا إبْطاءِ تَأمُّلٍ. ألا تَرى إلى ذَلِكَ الرَّجُلِ وقَوْلِهِ حِينَ رَأى رَسُولَ اللَّهِ ﷺ فَعَلِمْتُ أنَّ وجْهَهُ لَيْسَ بِوَجْهِ كَذّابٍ، وأسْلَمَ مِن فَوْرِهِ. وقِيلَ: ثُمَّ نَظَرَ فِيما يَحْتَجُّ بِهِ لِلْقُرْآنِ، فَرَأى ما فِيهِ مِنَ الإعْجازِ والإعْلامِ بِمَرْتَبَةِ الرَّسُولِ ﷺ ودامَ نَظَرُهُ في ذَلِكَ. ﴿ثُمَّ عَبَسَ وبَسَرَ﴾ دَلالَةً عَلى تَأنِّيهِ وتَمَهُّلِهِ في تَأمُّلِهِ، إذْ بَيْنَ ذَلِكَ تَراخٍ وتَباعُدٌ. وكانَ العَطْفُ في (وبَسَرَ) وفي (واسْتَكْبَرَ) لِأنَّ البُسُورَ قَرِيبٌ مِنَ العُبُوسِ، فَهو كَأنَّهُ عَلى سَبِيلِ التَّوْكِيدِ والِاسْتِكْبارِ يَظْهَرُ أنَّهُ سَبَبٌ لِلْإدْبارِ، إذِ الِاسْتِكْبارُ مَعْنًى في القَلْبِ، والإدْبارُ حَقِيقَةٌ مِن فِعْلِ الجِسْمِ، فَهُما سَبَبٌ ومُسَبِّبٌ، فَلا يُعْطَفُ بِثُمَّ، وقَدَّمَ المُسَبِّبَ عَلى السَّبَبِ لِأنَّهُ الظّاهِرُ لِلَعَيْنِ، وناسَبَ العَطْفَ بِالواوِ. وكانَ العَطْفُ في (فَقالَ) بِالفاءِ دَلالَةً عَلى التَّعْقِيبِ؛ لِأنَّهُ لَمّا خَطَرَ بِبالِهِ هَذا القَوْلُ بَعْدَ تَطَلُّبِهِ، لَمْ يَتَمالَكْ أنْ نَطَقَ بِهِ مِن غَيْرِ تَمَهُّلٍ. ومَعْنى (يُؤْثَرُ): يُرْوى ويُنْقَلُ، قالَ الشّاعِرُ: ؎لَقُلْتُ مِنَ القَوْلِ ما لا يَزا ∗∗∗ لُ يُؤْثَرُ عَنِّي بِهِ المُسْنَدُ (p-٣٧٥)وقِيلَ: (يُؤْثَرُ) أيْ: يُخْتارُ ويُرَجَّحُ عَلى غَيْرِهِ مِنَ السِّحْرِ فَيَكُونُ مِنَ الإيثارِ، ومَعْنى (إلّا سِحْرٌ) أيْ: شَبِيهٌ بِالسِّحْرِ. ﴿إنْ هَذا إلّا قَوْلُ البَشَرِ﴾: تَأْكِيدٌ لِما قَبْلَهُ، أيْ: يُلْتَقَطُ مِن أقْوالِ النّاسِ، ويَظْهَرُ أنَّ كُفْرَ الوَلِيدِ إنَّما هو عِنادً. ألا تَرى ثَناءَهُ عَلى القُرْآنِ، ونَفْيَهُ عَنْهُ جَمِيعَ ما نَسَبُوا إلَيْهِ مِنَ الشِّعْرِ والكَهانَةِ والجُنُونِ، وقِصَّتُهُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ حِينَ قَرَأ عَلَيْهِ أوائِلَ سُورَةِ فُصِّلَتْ إلى قَوْلِهِ تَعالى: ﴿فَإنْ أعْرَضُوا فَقُلْ أنْذَرْتُكم صاعِقَةً مِثْلَ صاعِقَةِ عادٍ وثَمُودَ﴾ [فصلت: ١٣] وكَيْفَ ناشَدَهُ اللَّهَ بِالرَّحِمِ أنْ يَسْكُتَ ؟ ﴿سَأُصْلِيهِ سَقَرَ﴾ قالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: بَدَلٌ مِن ﴿سَأُرْهِقُهُ صَعُودًا﴾ . انْتَهى. ويَظْهَرُ أنَّهُما جُمْلَتانِ اعْتَقَبَتْ كُلُّ واحِدَةٍ مِنهُما، فَتَوَعَّدَ عَلى سَبِيلِ التَّوَعُّدِ العِصْيانَ الَّذِي قَبْلَ كُلِّ واحِدَةٍ مِنهُما، فَتَوَعَّدَ عَلى كَوْنِهِ عَنِيدًا لِآياتِ اللَّهِ بِإرْهاقِ صَعُودٍ، وعَلى قَوْلِهِ بِأنَّ القُرْآنَ سِحْرٌ يُؤْثَرُ بِإصْلائِهِ سَقَرَ، وتَقَدَّمَ الكَلامُ عَلى سَقَرَ في أواخِرِ سُورَةِ القَمَرِ. ﴿وما أدْراكَ ما سَقَرُ﴾: تَعْظِيمٌ لِهَوْلِها وشِدَّتِها ﴿لا تُبْقِي ولا تَذَرُ﴾ أيْ: لا تُبْقِي عَلى مَن أُلْقِيَ فِيها، ولا تَذْرُ غايَةً مِنَ العَذابِ إلّا أوْصَلَتْهُ إلَيْهِ. ﴿لَوّاحَةٌ لِلْبَشَرِ﴾ قالَ ابْنُ عَبّاسٍ ومُجاهِدٌ وأبُو رَزِينٍ والجُمْهُورُ: مَعْناهُ مُغَيِّرَةٌ لِلْبَشَراتِ، مُحْرِقَةٌ لِلْجُلُودِ مُسَوِّدَةً لَها، والبَشَرُ جَمْعُ بَشَرَةٍ، وتَقُولُ العَرَبُ: لاحَتِ النّارُ الشَّيْءَ إذا أحْرَقَتْهُ وسَوَّدَتْهُ. وقالَ الحَسَنُ وابْنُ كَيْسانَ: لَوّاحَةٌ بِناءُ مُبالِغَةٍ مِن لاحَ إذا ظَهَرَ، والمَعْنى أنَّها تَظْهَرُ لِلنّاسِ، وهُمُ البَشَرُ، مِن مَسِيرَةِ خَمْسِمِائَةِ عامٍ، وذَلِكَ لِعِظَمِها وهَوْلِها وزَجْرِها، كَقَوْلِهِ تَعالى: ﴿لَتَرَوُنَّ الجَحِيمَ﴾ [التكاثر: ٦] وقَوْلِهِ: ﴿وبُرِّزَتِ الجَحِيمُ لِمَن يَرى﴾ [النازعات: ٣٦] . وقَرَأ الجُمْهُورُ: (لَوّاحَةٌ) بِالرَّفْعِ، أيْ: هي لَوّاحَةٌ. وقَرَأ العَوْفِيُّ وزَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ، والحَسَنُ وابْنُ أبِي عَبْلَةَ: (لِواحَةً) بِالنَّصْبِ عَلى الحالِ المُؤَكَّدَةِ؛ لِأنَّ النّارَ الَّتِي لا تُبْقِي ولا تَذْرُ لا تَكُونُ إلّا مُغَيِّرَةً لِلْأبْشارِ. وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: نَصْبًا عَلى الِاخْتِصاصِ لِلتَّهْوِيلِ. ﴿عَلَيْها تِسْعَةَ عَشَرَ﴾: التَّمْيِيزُ مَحْذُوفٌ، والمُتَبادَرُ إلى الذِّهْنِ أنَّهُ مَلَكٌ. ألا تَرى العَرَبَ وهُمُ الفُصَحاءُ كَيْفَ فَهِمُوا مِنهُ أنَّ المُرادَ مَلَكٌ حِينَ سَمِعُوا ذَلِكَ ؟ فَقالَ أبُو جَهْلٍ لِقُرَيْشٍ: ثَكِلَتْكم أُمَّهاتُكم، أسْمَعُ ابْنُ أبِي كَبْشَةَ يُخْبِرُكم أنَّ خَزَنَةَ النّارِ تِسْعَةَ عَشَرَ وأنْتُمُ الدُّهْمُ، أيَعْجِزُ كُلُّ عَشْرَةٍ مِنكم أنْ يَبْطِشُوا بِرَجُلٍ مِنهم ؟ فَقالَ أبُو الأشَدِّ بْنُ أُسَيْدٍ بْنِ كَلْدَةَ الجُمَحِيُّ، وكانَ شَدِيدَ البَطْشِ: أنا أكْفِيكم سَبْعَةَ عَشَرَ فاكْفُونِي أنْتُمُ اثْنَيْنِ. فَأنْزَلَ اللَّهُ تَعالى: ﴿وما جَعَلْنا أصْحابَ النّارِ إلّا مَلائِكَةً﴾ [المدثر: ٣١] أيْ: ما جَعَلْناهم رِجالًا مِن جِنْسِكم يُطاقُونَ، وأنْزَلَ اللَّهُ تَعالى في أبِي جَهْلٍ ﴿أوْلى لَكَ فَأوْلى﴾ [القيامة: ٣٤] . وقِيلَ: التَّمْيِيزُ المَحْذُوفُ صِنْفًا مِنَ المَلائِكَةِ، وقِيلَ: نَقِيبًا، ومَعْنى عَلَيْها يَتَوَلَّوْنَ أمْرَها، وإلَيْهِمْ جِماعُ زَبانِيَتها، فالَّذِي يَظْهَرُ مِنَ العَدَدِ ومِنَ الآيَةِ بَعْدَ ذَلِكَ ومِنَ الحَدِيثِ، أنَّ هَؤُلاءِ هُمُ النُّقَباءُ. ألا تَرى إلى قَوْلِهِ تَعالى: ﴿وما يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إلّا هُوَ﴾ [المدثر: ٣١] وقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ: «يُؤْتى بِجَهَنَّمَ يَوْمئِذٍ لَها سَبْعُونَ ألْفَ زِمامٍ مَعَ كُلِّ زِمامٍ سَبْعُونَ ألْفَ مَلَكٍ يَجُرُّونَها» ؟ وقَدْ ذَكَرَ المُفَسِّرُونَ مِن نُعُوتِ هَؤُلاءِ المَلائِكَةِ وخَلْقِهِمْ وقُوَّتِهِمْ، وما أقْدَرَهُمُ اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ مِنَ الأفْعالِ ما اللَّهُ أعْلَمُ بِصِحَّتِهِ، وكَذَلِكَ ذَكَرَ أبُو عَبْدِ اللَّهِ الرّازِيُّ حُكْمًا عَلى زَعْمِهِ في كَوْنِ هَؤُلاءِ المَلائِكَةِ عَلى هَذا العَدَدِ المَخْصُوصِ يُوقَفُ عَلَيْها في تَفْسِيرِهِ. وقَرَأ الجُمْهُورُ: ﴿تِسْعَةَ عَشَرَ﴾ مَبْنِيَّيْنِ عَلى الفَتْحِ عَلى مَشْهُورِ اللُّغَةِ في هَذا العَدَدِ. وقَرَأ أبُو جَعْفَرٍ وطَلْحَةُ بْنُ سُلَيْمانَ: بِإسْكانِ العَيْنِ، كَراهَةَ تَوالِي الحَرَكاتِ. وقَرَأ أنَسُ بْنُ مالِكٍ وابْنُ عَبّاسٍ وابْنُ قُطَيْبٍ وإبْراهِيمُ بْنُ قُنَّةَ: بِضَمِّ التّاءِ، وهي حَرَكَةُ بِناءٍ عُدِلَ إلَيْها عَنِ الفَتْحِ؛ لِتَوالِي خَمْسِ فَتَحاتٍ، ولا يُتَوَهَّمُ أنَّها حَرَكَةُ إعْرابٍ؛ لِأنَّها لَوْ كانَتْ حَرَكَةَ إعْرابٍ لَأعْرَبَ (عَشَرَ) . وقَرَأ أنَسٌ أيْضًا: تِسْعَةُ بِالضَّمِّ (أعْشُرَ) بِالفَتْحِ. وقالَ صاحِبُ اللَّوامِحِ: فَيَجُوزُ أنَّهُ جَمَعَ العَشْرَةَ عَلى أعْشُرٍ، ثُمَّ أجْراهُ مَجْرى تِسْعَةَ عَشَرَ، وعَنْهُ أيْضًا تِسْعَةٌ وعَشْرٌ بِالضَّمِّ، وقَلَبَ الهَمْزَةَ مِن أعْشُرٍ واوًا خالِصَةً تَخْفِيفًا، والباءُ فِيهِما مَضْمُومَةٌ ضَمَّةُ بِناءٍ؛ لِأنَّها مُعاقِبَةٌ لِلْفَتْحَةِ فِرارًا مِنَ الجَمْعِ بَيْنَ خَمْسِ (p-٣٧٦)حَرَكاتٍ عَلى جِهَةٍ واحِدَةٍ. وعَنْ سُلَيْمانَ بْنِ قُنَّةَ، وهو أخُو إبْراهِيمَ: أنَّهُ قَرَأ (تِسْعَةُ أعْشُرٍ) بِضَمِّ التّاءِ ضَمَّةَ إعْرابٍ وإضافَتِهِ إلى أعْشُرٍ، و(أعْشُرٍ) مَجْرُورٌ مُنَوَّنٌ، وذَلِكَ عَلى فَكِّ التَّرْكِيبِ. قالَ صاحِبُ اللَّوامِحِ: ويَجِيءُ عَلى هَذِهِ القِراءَةِ، وهي قِراءَةُ مَن قَرَأ (أعْشُرٍ) مَبْنِيًّا أوْ مُعْرَبًا مِن حَيْثُ هو جَمْعٌ، أنَّ المَلائِكَةَ الَّذِينَ هم عَلى النّارِ تِسْعُونَ مَلَكًا. انْتَهى، وفِيهِ بَعْضُ تَلْخِيصٍ. قالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وقُرِئَ (تِسْعَةُ أعْشُرٍ) جَمْعُ عَشِيرٍ، مِثْلُ يَمِينٍ وأيْمُنٍ. انْتَهى. وسُلَيْمانُ بْنُ قُنَّةَ هَذا هو الَّذِي مَدَحَ أهْلَ بَيْتِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ وهو القائِلُ: ؎مَرَرْتُ عَلى أبْياتِ آلِ مُحَمَّدٍ ∗∗∗ فَلَمْ أرَ أمْثالًا لَها يَوْمَ حَلَّتِ ؎وكانُوا ثِمالًا ثُمَّ عادُوا رَزِيَّةً ∗∗∗ لَقَدْ عَظُمَتْ تِلْكَ الرَّزايا وجَلَّتِ ﴿وما جَعَلْنا أصْحابَ النّارِ إلّا مَلائِكَةً﴾ [المدثر: ٣١] أيْ: جَعَلْناهم خَلْقًا لا قِبَلَ لِأحَدٍ مِنَ النّاسِ بِهِمْ ﴿وما جَعَلْنا عِدَّتَهم إلّا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا﴾ [المدثر: ٣١] أيْ: سَبَبُ فِتْنَةٍ، و(فِتْنَةً) مَفْعُولٌ ثانٍ لِجَعَلْنا، أيْ: جَعَلْنا تِلْكَ العِدَّةَ، وهي تِسْعَةَ عَشَرَ سَبَبًا لِفِتْنَةِ الكُفّارِ، فَلَيْسَ فِتْنَةٌ مَفْعُولًا مِن أجْلِهِ، وفَتْنُهم هي كَوْنُهم أظْهَرُوا مُقاوَمَتَهم في مُغالَبَتِهِمْ، وذَلِكَ عَلى سَبِيلِ الِاسْتِهْزاءِ. فَإنَّهم يُكَذِّبُونَ بِالبَعْثِ وبِالنّارِ وبِخَزَنَتِها. (لِيَسْتَيْقِنَ): هَذا مَفْعُولٌ مِن أجْلِهِ، وهو مُتَعَلِّقٌ بِجَعَلْنا لا بِفِتْنَةٍ. فَلَيْسَتِ الفِتْنَةُ مَعْلُولَةً لِلِاسْتِيقانِ، بَلِ المَعْلُولُ جَعَلَ العِدَّةَ سَبَبًا لِـ (فِتْنَةً) (الَّذِينَ أُوتُوا الكِتابَ) وهُمُاليَهُودُ والنَّصارى. إنَّ هَذا القُرْآنَ هو مِن عِنْدِ اللَّهِ، إذْ هم يَجِدُونَ هَذِهِ العِدَّةَ في كُتُبِهِمُ المُنَزَّلَةِ، ويَعْلَمُونَ أنَّ الرَّسُولَ لَمْ يَقْرَأْها ولا قَرَأها عَلَيْهِ أحَدٌ، ولَكِنَّ كِتابَهُ يُصَدِّقُ كُتُبَ الأنْبِياءِ، إذْ كُلُّ ذَلِكَ حَقٌّ يَتَعاضَدُ مِن عِنْدِ اللَّهِ تَعالى. قالَ هَذا المَعْنى ابْنُ عَبّاسٍ ومُجاهِدٌ، وبِوُرُودِ الحَقائِقِ مِن عِنْدِ اللَّهِ تَعالى يَزْدادُ كُلُّ ذِي إيمانٍ إيمانًا، ويَزُولُ الرَّيْبُ عَنِ المُصَدِّقِينَ مِن أهْلِ الكِتابِ وعَنِ المُؤْمِنِينَ. وقِيلَ: إنَّما صارَ جَعْلُها فِتْنَةً؛ لِأنَّهم يَسْتَهْزِئُونَ ويَقُولُونَ لِمَ لَمْ يَكُونُوا عِشْرِينَ ؟ وما المُقْتَضى لِتَخْصِيصِ هَذا العَدَدِ بِالوُجُودِ ؟ ويَقُولُونَ هَذا العَدَدُ القَلِيلُ، يَقْوُونَ بِتَعْذِيبِ أكْثَرِ العالَمِ مِنَ الجِنِّ والإنْسِ مِن أوَّلِ ما خَلَقَ اللَّهُ تَعالى إلى قِيامِ السّاعَةِ. وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: (فَإنْ قُلْتَ) قَدْ جَعَلَ افْتِتانَ الكافِرِينَ بِعِدَّةِ الزَّبانِيَةِ سَبَبًا لِاسْتِيقانِ أهْلِ الكِتابِ وزِيادَةِ إيمانِ المُؤْمِنِينَ واسْتِهْزاءِ الكافِرِينَ والمُنافِقِينَ، فَما وجْهُ صِحَّةِ ذَلِكَ ؟ (قُلْتُ): ما جَعَلَ افْتِتانِهم بِالعِدَّةِ سَبَبًا لِذَلِكَ، وإنَّما العِدَّةُ نَفْسُها هي الَّتِي جُعِلَتْ سَبَبًا، وذَلِكَ أنَّ المُرادَ بِقَوْلِهِ: ﴿وما جَعَلْنا عِدَّتَهم إلّا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا﴾ [المدثر: ٣١]: وما جَعَلْنا عِدَّتَهم إلّا تِسْعَةَ عَشَرَ. فَوَضَعَ (فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا) مَوْضِعَ تِسْعَةَ عَشَرَ؛ لِأنَّ حالَ هَذِهِ العِدَّةِ النّاقِصَةِ واحِدًا مِن عَقْدِ العِشْرِينَ، أنْ يَفْتَتِنَ بِها مَن لا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وبِحِكْمَتِهِ، ويَعْتَرِضُ ويَسْتَهْزِئُ ولا يُذْعِنُ إذْعانَ المُؤْمِنِ، وإنْ خَفِيَ عَلَيْهِ وجْهُ الحِكْمَةِ، كَأنَّهُ قِيلَ: ولَقَدْ جَعَلْنا عِدَّتَهم عِدَّةً مِن شَأْنِها أنْ يُفْتَتَنَ بِها؛ لِأجْلِ اسْتِيقانِ المُؤْمِنِينَ وحَيْرَةِ الكافِرِينَ. انْتَهى، وهو سُؤالٌ عَجِيبٌ وجَوابٌ فِيهِ تَحْرِيفُ كِتابِ اللَّهِ تَعالى، إذْ زَعَمَ أنَّ مَعْنى ﴿إلّا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا﴾ [المدثر: ٣١]: إلّا تِسْعَةَ عَشَرَ، وهَذا لا يَذْهَبُ إلَيْهِ عاقِلٌ ولا مِن لَهُ أدْنى ذَكاءٍ. وكَفى ردًّا عَلَيْهِ تَحْرِيفُ كِتابِ اللَّهِ ووَضْعِ ألْفاظٍ مُخالِفَةٍ لِألْفاظٍ ومَعْنًى مُخالِفٍ لِمَعْنًى. وقِيلَ: (لِيَسْتَيْقِنَ) مُتَعَلِّقٌ بِفِعْلٍ مُضْمَرٍ، أيْ: فَعَلْنا ذَلِكَ لِيَسْتَيْقِنَ. ﴿ولا يَرْتابَ﴾ [المدثر: ٣١]: تَوْكِيدٌ لِقَوْلِهِ (لِيَسْتَيْقِنَ) إذْ إثْباتُ اليَقِينِ ونَفْيُ الِارْتِيابِ أبْلَغُ وآكَدُ في الوَصْفِ لِسُكُونِ النَّفْسِ السُّكُونِ التّامِّ. و(الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ) قالَ الحُسَيْنُ بْنُ الفَضْلِ: السُّورَةُ مَكِّيَّةٌ، ولَمْ يَكُنْ بِـ مَكَّةَ نِفاقٌ، وإنَّما المَرَضُ في الآيَةِ: الِاضْطِرابُ وضَعْفُ الإيمانِ. وقِيلَ: هو إخْبارٌ بِالغَيْبِ، أيْ: ولِيَقُولَ المُنافِقُونَ الَّذِينَ يُنَجِّمُونَ في مُسْتَقْبَلِ الزَّمانِ بِـ المَدِينَةِ بَعْدَ الهِجْرَةِ: ﴿ماذا أرادَ اللَّهُ بِهَذا مَثَلًا﴾ [المدثر: ٣١] . لَمّا سَمِعُوا هَذا العَدَدَ لَمْ يَهْتَدُوا وحارُوا، فاسْتَفْهَمَ بَعْضُهم بَعْضًا عَنْ ذَلِكَ (p-٣٧٧)اسْتِبْعادًا أنْ يَكُونَ هَذا مِن عِنْدِ اللَّهِ، وسَمَّوْهُ مَثَلًا اسْتِعارَةً مِنَ المَثَلِ المَضْرُوبِ؛ اسْتِغْرابًا مِنهم لِهَذا العَدَدِ، والمَعْنى: أيُّ شَيْءٍ أرادَ اللَّهُ بِهَذا العَدَدِ العَجِيبِ ؟ ومُرادُهم إنْكارُ أصْلِهِ، وأنَّهُ لَيْسَ مِن عِنْدِ اللَّهِ، وتَقَدَّمَ إعْرابُ مِثْلِ هَذِهِ الجُمْلَةِ في أوائِلِ البَقَرَةِ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب