الباحث القرآني

وقوله تعالى: ﴿ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ﴾ [[في (أ): (ثم لم يكن فتنتهم) قرئ (تكن) الأولى بالياء والثاني بالتاء.]] قرئ ﴿يَكُنْ﴾ بالياء والتاء، و (فتنتهم) رفعًا ونصبًا [[قرأ حمزة والكسائي (يكن) بالياء على التذكير، وقرأ الباقون بالتاء على التأنيث، وقرأ ابن عامر وابن كثير وحفص عن عاصم (فتنتهم) برفع التاء، وقرأ الباقون == بالنصب. انظر: "السبعة" ص 254 - 255، و"المبسوط" ص 167، و"التذكرة" 2/ 395، و"التيسير" ص 101 - 102، و"النشر" 2/ 257]]. وجملة القول في هذا أنه يجوز تذكير الفتنة؛ لأنه بمعنى الافتتان، ويجوز تأنيث ﴿أَنْ قَالُوا﴾ لوجهين: أحدهما: أنه بمعنى المقالة، والثاني: أن قوله: ﴿إِلَّا أَنْ قَالُوا﴾ هو الفتنة في المعنى؛ لأن ذلك القول هو فتنتهم، فإذا أسند الكون إليه جاز تأنيثه، كقوله تعالى: ﴿فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا﴾ [الأنعام: 160]، فأنث الأمثال وواحدها مثل، حيث كانت الأمثال هاهنا في المعنى [[في (ش): (في معنى).]] الحسنات، ومثل هذا في الشعر قول لبيد: منهُ إذا هِيَ عَرَّدَتْ إقْدامُها [["ديوان لبيد بن ربيعة" ص 170، و"جمهرة أشعار العرب" 132، و"الخصائص" 2/ 415، و"سر صناعة الإعراب" 1/ 13، و"مقاييس اللغة" 4/ 305، و"أمالي ابن الشجري" 1/ 197، و"الإنصاف" 2/ 620، و"اللسان" 5/ 2872 (عرد)، و"الدر المصون" 4/ 573، وصدره: قمضى وقدمها كانت عادة وقوله: قمضى أي: حمار الوحشي، وقدمها أي: الآتان، وعردت: حادث عن الطريق، وأصل التعريد: الفرار، وإقدامها: تقدمها. والشاهد: وكانت عادة إقدامها، حيث أنث كانت مع أن المسند إليه إقدمها، وهو مذكر؛ لأنه ذهب إلى تأثيث العادة، أو لأن الإقدام بمعنى التقدمة. انظر: "شرح القصائد" للنحاس 1/ 392.]] فأنث الإقدام لما كان [[لفظ: (لما كان)، مكرر في (أ).]] العادة في المعنى، وإذا كانت الفتنة مؤنثة وجاز تذكيرها، وإن قالوا: مذكر وجاز تأنيثه، وهما [[انظر: "الكتاب" 1/ 51.]] معرفتان، كان لك أن تقرأ ﴿يَكُنْ﴾ بالتاء والياء، وتجعل أيهما شئت من الفتنة. و ﴿أَنْ قَالُوا﴾ الاسم أو الخبر، إلا أن الاختيار قرأه من جعل ﴿أَنْ قَالُوا﴾ الاسم دون الخبر؛ لأن ﴿أَنْ﴾ إذا وصلت بالفعل لم توصف، فأشبهت بامتناع وصفها المضمر، فكما أن المضمر إذا كان مع المظهر كان أن يكون الاسم أحسن، كقولك: كنت القائم، كذلك إذا كانت (أن) مع اسم غيرها كانت أن يكون الاسم أولى [[هذا معنى قول أبي علي الفارسي في "الحجة" 3/ 288 - 290. وانظر: "مجاز القرآن" لأبي عبيدة 15/ 188، و"معاني القرآن" للزجاج 2/ 235، و"تفسير الطبري" 7/ 167، و"إعراب القرآن" للنحاس 1/ 540، و"معاني القراءات" 1/ 347، و"إعراب القراءات" 1/ 153، و"الحجة" لابن خالويه ص 136، ولابن زنجلة ص 243، و"الكشف" 1/ 426، و"المشكل" 1/ 248، و"الدر المصون" 4/ 572.]]. واختلفوا في معنى الفتنة هاهنا، فالأكثرون على أن معناه: ثم لم يكن جوابهم، وذلك لأنهم حين سئلوا اختبر ما عندهم بالسؤال فلم يكن الجواب عن ذلك الاختبار [[في (ش): (الاختيار) بالياء، وهو تصحيف.]] إلا هذا القول، وهذا قول أبي العالية والقرظي [[ذكره أبو حيان في "البحر" 4/ 95 عن أبي العالية ومحمد بن كعب القرظي.]] واختيار عبد الله بن مسلم [["تفسير غريب القرآن" ص 152، و"تأويل مشكل القرآن" ص 472.]]. قال أبو العالية: ﴿فِتْنَتُهُمْ﴾: مقالتهم، وقال القرظي: (إجابتهم)، وقال قتادة [[أخرجه الطبرى في "تفسيره" 7/ 167، من طرق جيدة، وأخرج عبد الرزاق في "تفسيره" 1/ 2/ 206، والطبري في "تفسيره" بسند جيد عنه قال: (مقالتهم).]]: ﴿ثُمَّ لَمْ تَكُنْ﴾ معذرتهم ﴿إِلَّا أَنْ قَالُوا﴾، وهذا راجع إلى معنى الجواب، وروي هذا القول عن ابن عباس، [ثم قال] [[(ثم قال): ساقط من (ش)، ولعل الصواب: قال.]]: ﴿لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ﴾ (يعني معذرتهم حين يسألون عن آلهتهم ﴿إِلَّا أَنْ قَالُوا وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ﴾) [[ذكره البخاري في "صحيحه" كتاب التفسير: 8/ 286 "الفتح". في تفسير سورة الأنعام. وأخرجه ابن أبي حاتم في "تفسيره" 4/ 1273 بسند ضعيف، وفي رواية أخرى ضعيفة قال: (حجتهم). وأخرج الطبري في "تفسيره" 7/ 166 بسند ضعيف عنه قال: (قولهم)، وفي أخرى ضعيفة قال: (كلامهم).]]. وقال أبو إسحاق: (تأويل هذه الآية تأويل حسن في اللغة لطيف، لا يعرفه إلا من عرف معاني الكلام وتصرف العرب في ذلك، وذلك أن الله تعالى ذكر في هذه الأقاصيص التي جرت [من] [[(لفظ): (من) ساقط من (أ).]] أمر المشركين، وأنهم مفتنون بشركهم، ثم أعلم أنه لم يكن افتتانهم بشركهم وإقامتهم عليه إلا أن تبرأوا منه وانتفوا منه، فحلفوا [[في (ش): (فحلوا)، وهو تحريف.]] أنهم ما كانوا مشركين. قال: ومثل ذلك أن ترى إنسانًا يحب غاويًا فإذا وقع في هلكة بسببه تبرأ منه، فيقال له: ما كانت محبتك لفلان إلا أن انتفيت منه) [["معاني الزجاج" 2/ 235 - 236.]]. فالفتنة هاهنا بمعنى: الشرك والافتتان بالأوثان، ويؤيد هذا الوجه ما روى عطاء عن ابن عباس في هذه الآية في قوله: ﴿ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ﴾ قال: (يريد شركهم في الدنيا) [[ذكره الرازي في "تفسيره" 12/ 182، وقال ابن القيم كما في "بدائع التفسير" 2/ 144: (أي: لم تكن عاقبة شركهم إلا أن تبرأوا منه وأنكروه) ا. هـ.]] وهذا القول في التأويل راجع إلى حذف المضاف؛ لأن المعنى: لم تكن عاقبة فتنتهم إلا البراءة، ومثله قولك: ما كانت محبتك لفلان إلا أن انتفيت منه، أي: عاقبة محبتك [[انظر: "تفسير الرازي" 12/ 182.]]. واختلفوا في قوله تعالى: ﴿وَاللَّهِ رَبِّنَا﴾ فقرئ ﴿رَبِّنَا﴾ بالنصب والخفض [[قرأ حمزة والكسائي (ربنا) بنصب الباء، والباقون بجرها. انظر: "السبعة" ص 255، و"المبسوط" ص 167، و"التذكرة" 2/ 396، و"التيسير" ص 102، و"النشر" 2/ 257.]]، فمن خفض جعل الاسم المضاف وصفًا للمفرد، كقولك: رأيت زيدًا صاحبنا، وبكرًا جاركم؛ ومن نصب جعله منادى مضافًا، وفصل به بين القسم والمقسم عليه، والفصل بالنداء كثير في كلامهم، وذلك لكثرة النداء في الكلام، ومثله قوله تعالى: ﴿إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوَالًا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا رَبَّنَا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ﴾ [يونس: 88]. والمعنى: آتيتهم أموالاً ليضلوا فلا يؤمنوا، ففصل بالمنادي بين فعله ومفعوله [[هذا معنى قول الفارسي في "الحجة" 3/ 291، وانظر: "معاني الفراء" 1/ 330، والأخفش 2/ 270، والزجاج 2/ 236، و"إعراب النحاس" 1/ 541، و"معاني القراءات" 1/ 347، و"إعراب القراءات" 1/ 153، و"الحجة" لابن خالوية ص 137. ولابن زنجلة ص 244، و"الكشف" 1/ 427، و"التبيان" 1/ 328، و"الدر المصون" 4/ 574.]]. قوله تعالى: ﴿انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ﴾ [الأنعام: 24] قال قتادة: (باعتذارهم بالباطل) [[أخرجه الطبري في "تفسيره" 7/ 168، بسند جيد.]]. وقال عطاء: (بجحد شركهم في الآخرة) [[ذكره الواحدي في "الوسيط" 1/ 22.]]. وقوله تعالى: ﴿وَضَلَّ عَنْهُمْ﴾ عطف على قوله: ﴿انْظُرْ﴾ تقديره: وكيف، ﴿وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ﴾ [[أكثرهم على أن (وضل عنهم) معطوف على جملة (كذبوا)، فيكون داخلًا في حيز النظر، ويجوز أن يكون استئنافًا فلا يندرج في حيز المنظور إليه. انظر: الرازي == في "تفسيره" 12/ 185، والقرطبي في "تفسيره" 6/ 402، و"البحر" 4/ 96، و"الدر المصون" 4/ 575.]] بعبادته من الأجسام والأوثان فلم تغن عنهم شيئًا، وذلك أنهم كانوا يرجون شفاعتها ونصرتها لهم.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب