الباحث القرآني

قَوْلُهُ: ﴿ويَوْمَ نَحْشُرُهُمْ﴾ قَرَأ الجُمْهُورُ بِالنُّونِ في الفِعْلَيْنِ، وقُرِئَ بِالياءِ فِيهِما، وناصِبُ الظَّرْفِ مَحْذُوفٌ مُقَدَّرٌ مُتَأخِّرٌ: أيْ: يَوْمَ نَحْشُرُهم كانَ كَيْتَ وكَيْتَ، والِاسْتِفْهامُ في ﴿أيْنَ شُرَكاؤُكُمُ﴾ لِلتَّقْرِيعِ والتَّوْبِيخِ لِلْمُشْرِكِينَ. وأضافَ الشُّرَكاءَ إلَيْهِمْ، لِأنَّها لَمْ تَكُنْ شُرَكاءُ لِلَّهِ في الحَقِيقَةِ بَلْ لَمّا سَمَّوْها شُرَكاءَ أُضِيفَتْ إلَيْهِمْ، وهي ما كانُوا يَعْبُدُونَهُ مِن دُونِ اللَّهِ أوْ يَعْبُدُونَهُ مَعَ اللَّهِ. قَوْلُهُ: ﴿الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ﴾ أيْ تَزْعُمُونَها شُرَكاءَ، فَحَذَفَ المَفْعُولانِ مَعًا، ووَجْهُ التَّوْبِيخِ بِهَذا الِاسْتِفْهامِ أنَّ مَعْبُوداتِهِمْ غابَتْ عَنْهم في تِلْكَ الحالِ أوْ كانَتْ حاضِرَةً ولَكِنْ لا يَنْتَفِعُونَ بِها بِوَجْهٍ مِنَ الوُجُوهِ، فَكانَ وُجُودُها كَعَدَمِها. قَوْلُهُ: ﴿ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهم إلّا أنْ قالُوا واللَّهِ رَبِّنا ما كُنّا مُشْرِكِينَ﴾ . قالَ الزَّجّاجُ: تَأْوِيلُ هَذِهِ الآيَةِ أنَّ اللَّهَ عَزَّ وجَلَّ أخْبَرَ بِقَصَصِ المُشْرِكِينَ وافْتِتانِهِمْ بِشِرْكِهِمْ، ثُمَّ أخْبَرَ أنَّ فِتْنَتَهم لَمْ تَكُنْ حَتّى رَأوُا الحَقائِقَ إلّا أنِ انْتَفَوْا مِنَ الشِّرْكِ، ونَظِيرُ هَذا في اللُّغَةِ أنْ تَرى إنْسانًا يُحِبُّ غاوِيًا فَإذا وقَعَ في هَلَكَةٍ تَبَرَّأ مِنهُ فَتَقُولُ: ما كانَتْ مَحَبَّتُكَ إيّاهُ إلّا أنْ تَبْرَأ مِنهُ انْتَهى. فالمُرادُ بِالفِتْنَةِ عَلى هَذا كُفْرُهم: أيْ لَمْ تَكُنْ عاقِبَةُ كُفْرِهِمُ الَّذِي افْتَخَرُوا بِهِ وقاتَلُوا عَلَيْهِ إلّا ما وقَعَ مِنهم مِنَ الجُحُودِ والحَلِفِ عَلى نَفْيِهِ بِقَوْلِهِ: ﴿واللَّهِ رَبِّنا ما كُنّا مُشْرِكِينَ﴾ وقِيلَ: المُرادُ بِالفِتْنَةِ هُنا جَوابُهم: أيْ لَمْ يَكُنْ جَوابُهم إلّا الجُحُودَ والتَّبَرُّئَ، فَكانَ هَذا الجَوابُ فِتْنَةً لِكَوْنِهِ كَذِبًا، وجُمْلَةُ ﴿ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ﴾ مَعْطُوفَةٌ عَلى عامِلِ الظَّرْفِ المُقَدَّرِ كَما مَرَّ والِاسْتِثْناءُ مُفْرَغٌ، وقُرِئَ " فِتْنَتُهم " بِالرَّفْعِ والنَّصْبِ، و" يَكُنْ " و" تَكُنْ " والوَجْهُ ظاهِرٌ. وقُرِئَ " وما كانَ فِتْنَتُهم " وقُرِئَ " رَبَّنا " بِالنَّصْبِ عَلى النِّداءِ. ﴿انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلى أنْفُسِهِمْ﴾ بِإنْكارِ ما وقَعَ مِنهم في الدُّنْيا مِنَ الشِّرْكِ ﴿وضَلَّ عَنْهم ما كانُوا يَفْتَرُونَ﴾ أيْ زالَ وذَهَبَ افْتِراؤُهم وتَلاشى وبَطَلَ ما كانُوا يَظُنُّونَهُ مِن أنَّ الشُّرَكاءَ يُقَرِّبُوهم إلى اللَّهِ، هَذا عَلى أنَّ ما مَصْدَرِيَّةٌ، وقِيلَ: هي مَوْصُولَةٌ عِبارَةٌ عَنِ الآلِهَةِ: أيْ فارَقَهم ما كانُوا يَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ فَلَمْ يُغْنِ عَنْهم شَيْئًا، وهَذا تَعْجِيبٌ لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ - مِن حالِهِمُ المُخْتَلِفَةِ ودَعْواهُمُ المُتَناقِضَةِ، وقِيلَ: لا يَجُوزُ أنْ يَقَعَ مِنهم كَذِبٌ في الآخِرَةِ لِأنَّها دارٌ لا يَجْرِي فِيها غَيْرُ (p-٤١٥)الصِّدْقِ، فَمَعْنى ﴿واللَّهِ رَبِّنا ما كُنّا مُشْرِكِينَ﴾ نَفْيُ شِرْكِهِمْ عِنْدَ أنْفُسِهِمْ، وفي اعْتِقادِهِمْ ويُؤَيِّدُ هَذا قَوْلُهُ تَعالى: ﴿ولا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا﴾ [النساء: ٤٢] . قَوْلُهُ: ﴿ومِنهم مَن يَسْتَمِعُ إلَيْكَ﴾ هَذا كَلامٌ مُبْتَدَأٌ لِبَيانِ ما كانَ يَصْنَعُهُ بَعْضُ المُشْرِكِينَ في الدُّنْيا، والضَّمِيرُ عائِدٌ إلى الَّذِينَ أشْرَكُوا: أيْ وبَعْضُ الَّذِينَ أشْرَكُوا يَسْتَمِعُ إلَيْكَ حِينَ تَتْلُو القُرْآنَ ﴿وجَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أكِنَّةً﴾ أيْ فَعَلْنا ذَلِكَ بِهِمْ مُجازاةً عَلى كُفْرِهِمْ، والأكِنَّةُ: الأغْطِيَةُ جَمْعُ كِنانٍ مِثْلَ الأسِنَّةِ والسِّنانِ، كَنَنْتُ الشَّيْءَ في كُنْهٍ: إذا جَعَلْتُهُ فِيهِ، وأكْنَنْتُهُ أخْفَيْتُهُ، وجُمْلَةُ ﴿جَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أكِنَّةً﴾ مُسْتَأْنَفَةٌ لِلْإخْبارِ بِمَضْمُونِها، أوْ في مَحَلِّ نَصْبٍ عَلى الحالِ: أيْ وقَدْ جَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أغْطِيَةً كَراهَةَ أنْ يَفْقَهُوا القُرْآنَ، أوْ لِئَلّا يَفْقَهُوهُ، والوَقْرُ: الصَّمَمُ، يُقالُ: وُقِرَتْ أُذُنَهُ تَقِرُ وقْرًا: أيْ صُمَّتْ. وقَرَأ طَلْحَةُ بْنُ مُصَرِّفٍ " وِقْرًا " بِكَسْرِ الواوِ: أيْ جَعَلَ في آذانِهِمْ ما سَدَّها عَنِ اسْتِماعِ القَوْلِ عَلى التَّشْبِيهِ بِوِقْرِ البَعِيرِ، وهو مِقْدارُ ما يُطِيقُ أنْ يَحْمِلَهُ، وذِكْرُ الأكِنَّةَ والوَقْرَ تَمْثِيلٌ لِفَرْطِ بُعْدِهِمْ عَنْ فَهْمِ الحَقِّ وسَماعِهِ كَأنَّ قُلُوبَهم لا تَعْقِلُ وأسْماعَهم لا تُدْرِكُ ﴿وإنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِها﴾ أيْ لا يُؤْمِنُوا بِشَيْءٍ مِنَ الآياتِ الَّتِي يَرَوْنَها مِنَ المُعْجِزاتِ ونَحْوَها لِعِنادِهِمْ وتَمَرُّدِهِمْ. قَوْلُهُ: ﴿حَتّى إذا جاءُوكَ يُجادِلُونَكَ يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا إنْ هَذا إلّا أساطِيرُ الأوَّلِينَ﴾ حَتّى هُنا هي الِابْتِدائِيَّةُ الَّتِي تَقَعُ بَعْدَها الجُمَلُ، وجُمْلَةُ يُجادِلُونَكَ في مَحَلِّ نَصْبٍ عَلى الحالِ، والمَعْنى: أنَّهم بَلَغُوا مِنَ الكُفْرِ والعِنادِ أنَّهم إذا جاءُوكَ مُجادِلِينَ لَمْ يَكْتَفُوا بِمُجَرَّدِ عَدَمِ الإيمانِ، بَلْ يَقُولُونَ إنْ هَذا إلّا أساطِيرُ الأوَّلِينَ، وقِيلَ: حَتّى هي الجارَّةُ وما بَعْدَها في مَحَلِّ جَرٍّ، والمَعْنى: حَتّى وقْتِ مَجِيئِهِمْ مُجادِلِينَ يَقُولُونَ إنْ هَذا إلّا أساطِيرُ الأوَّلِينَ، وهَذا غايَةُ التَّكْذِيبِ ونِهايَةُ العِنادِ، والأساطِيرُ. قالَ الزَّجّاجُ: واحِدُها أسْطارٌ. وقالَ الأخْفَشُ: أُسْطُورَةٌ. وقالَ أبُو عُبَيْدَةَ: أسْطارَةٌ. وقالَ النَّحّاسُ: أُسْطُورٌ. وقالَ القُشَيْرِيُّ: أُسْطِيرٌ. وقِيلَ: هو جَمْعٌ لا واحِدَ لَهُ كَعَبادِيدَ وأبابِيلَ، والمَعْنى: ما سَطَّرَهُ الأوَّلُونَ في الكُتُبِ مِنَ القِصَصِ والأحادِيثِ. قالَ الجَوْهَرِيُّ: الأساطِيرُ الأباطِيلُ والتُّرَّهاتُ. قَوْلُهُ: ﴿وهم يَنْهَوْنَ عَنْهُ ويَنْأوْنَ عَنْهُ﴾ أيْ يَنْهى المُشْرِكُونَ النّاسَ عَنِ الإيمانِ بِالقُرْآنِ أوْ بِمُحَمَّدٍ - صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ - ويَبْعُدُونَ هم في أنْفُسِهِمْ عَنْهُ. وقِيلَ: إنَّها نَزَلَتْ في أبِي طالِبٍ فَإنَّهُ كانَ يَنْهى الكُفّارَ عَنْ أذِيَّةِ النَّبِيِّ - صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ - ويَبْعُدُ هو عَنْ إجابَتِهِ ﴿وإنْ يُهْلِكُونَ إلّا أنْفُسَهم وما يَشْعُرُونَ﴾ أيْ ما يُهْلِكُونَ بِما يَقَعُ مِنهم مِنَ النَّهْيِ والنَّأْيِ إلّا أنْفُسَهم بِتَعْرِيضِها لِعَذابِ اللَّهِ وسُخْطِهِ، والحالُ أنَّهم ما يَشْعُرُونَ بِهَذا البَلاءِ الَّذِي جَلَبُوهُ عَلى أنْفُسِهِمْ. قَوْلُهُ: ﴿ولَوْ تَرى إذْ وُقِفُوا عَلى النّارِ﴾ الخِطابُ لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ - أوْ لِكُلِّ مَن تَتَأتّى مِنهُ الرُّؤْيَةُ، وعَبَّرَ عَنِ المُسْتَقْبَلِ يَوْمَ القِيامَةِ بِلَفْظِ الماضِي تَنْبِيهًا عَلى تَحَقُّقِ وُقُوعِهِ كَما ذَكَرَهُ عُلَماءُ المَعانِي، ووُقِفُوا مَعْناهُ حُبِسُوا، يُقالُ: وقَفْتُهُ وقْفًا ووَقَفَ وُقُوفًا، وقِيلَ: مَعْنى: ﴿وُقِفُوا عَلى النّارِ﴾ أُدْخِلُوها فَتَكُونُ عَلى بِمَعْنى في، وقِيلَ: هي بِمَعْنى الباءِ: أيْ وُقِفُوا بِالنّارِ أيْ بِقُرْبِها مُعايِنِينَ لَها، ومَفْعُولُ تُرى مَحْذُوفٌ، وجَوابُ لَوْ مَحْذُوفٌ لِيَذْهَبَ السّامِعُ كُلَّ مَذْهَبٍ، والتَّقْدِيرُ: لَوْ تَراهم إذْ وُقِفُوا عَلى النّارِ لَرَأيْتَ مَنظَرًا هائِلًا وحالًا فَظِيعًا ﴿فَقالُوا يالَيْتَنا نُرَدُّ﴾ أيْ إلى الدُّنْيا ﴿ولا نُكَذِّبَ بِآياتِ رَبِّنا﴾ أيِ الَّتِي جاءَنا بِها رَسُولُهُ - صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ - ﴿ونَكُونَ مِنَ المُؤْمِنِينَ﴾ بِها العامِلِينَ بِما فِيها، والأفْعالُ الثَّلاثَةُ داخِلَةٌ تَحْتَ التَّمَنِّي: أيْ تَمَنَّوُا الرَّدَّ، وأنْ لا يُكَذِّبُوا، وأنْ يَكُونُوا مِنَ المُؤْمِنِينَ بِرَفْعِ الأفْعالِ الثَّلاثَةِ كَما هي قِراءَةُ الكِسائِيِّ وأهْلِ المَدِينَةِ وشُعْبَةَ وابْنِ كَثِيرٍ وأبِي عَمْرٍو. وقَرَأ حَفْصٌ وحَمْزَةُ بِنَصْبِ نَكْذِبَ ونَكُونَ بِإضْمارِ أنْ بَعْدَ الواوِ عَلى جَوابِ التَّمَنِّي، واخْتارَ سِيبَوَيْهِ القَطْعَ في " ولا نَكْذِبُ " فَيَكُونُ غَيْرَ داخِلٍ في التَّمَنِّي، والتَّقْدِيرُ: ونَحْنُ لا نَكْذِبُ عَلى مَعْنى الثَّباتِ عَلى تَرْكِ التَّكْذِيبِ: أيْ لا نَكْذِبْ رَدَدْنا أوْ لَمْ نُرَدُّ، قالَ: وهو مِثْلُ دَعْنِي ولا أعُودُ: أيْ لا أعُودُ عَلى كُلِّ حالٍ تَرَكْتَنِي أوْ لَمْ تَتْرُكْنِي. واسْتَدَلَّ أبُو عَمْرِو بْنُ العَلاءِ عَلى خُرُوجِهِ مِنَ التَّمَنِّي بِقَوْلِهِ: ﴿وإنَّهم لَكاذِبُونَ﴾ لِأنَّ الكَذِبَ لا يَكُونُ في التَّمَنِّي. وقَرَأ ابْنُ عامِرٍ " ونَكُونَ " بِالنَّصْبِ وأدْخَلَ الفِعْلَيْنِ الأوَّلَيْنِ في التَّمَنِّي. وقَرَأ أُبَيٌّ " ولا نُكَذِّبُ بِآياتِ رَبِّنا أبَدًا " . وقَرَأ هو وابْنُ مَسْعُودٍ " يا لَيْتَنا نُرَدُّ فَلا نُكَذِّبَ " بِالفاءِ والنَّصْبِ، والفاءُ يُنْصَبُ بِها في جَوابِ التَّمَنِّي كَما يُنْصَبُ بِالواوِ كَما قالَ الزَّجّاجُ، وقالَ أكْثَرُ البَصْرِيِّينَ: لا يَجُوزُ الجَوابُ إلّا بِالفاءِ. قَوْلُهُ: ﴿بَلْ بَدا لَهم ما كانُوا يُخْفُونَ مِن قَبْلُ﴾ هَذا إضْرابٌ عَمّا يَدُلُّ عَلَيْهِ التَّمَنِّي مِنَ الوَعْدِ بِالإيمانِ والتَّصْدِيقِ: أيْ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ التَّمَنِّي مِنهم عَنْ صِدْقِ نِيَّةٍ وخُلُوصِ اعْتِقادٍ بَلْ هو لِسَبَبٍ آخَرَ، وهو أنَّهُ بَدا لَهم ما كانُوا يُخْفُونَ: أيْ يَجْحَدُونَ مِنَ الشِّرْكِ وعَرَفُوا أنَّهم هالِكُونَ بِشِرْكِهِمْ فَعَدَلُوا إلى التَّمَنِّي والمَواعِيدِ الكاذِبَةِ، وقِيلَ: بَدا لَهم ما كانُوا يُخْفُونَ مِنَ النِّفاقِ والكُفْرِ بِشَهادَةِ جَوارِحِهِمْ عَلَيْهِمْ، وقِيلَ: بَدا لَهم ما كانُوا يَكْتُمُونَ مِن أعْمالِهِمُ القَبِيحَةِ كَما قالَ تَعالى: وبَدا لَهم مِنَ اللَّهِ ما لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ [الزمر: ٤٧] . وقالَ المُبَرِّدُ: بَدا لَهم جَزاءَ كُفْرِهِمُ الَّذِي كانُوا يُخْفُونَهُ وهو مِثْلُ القَوْلِ الأوَّلِ، وقِيلَ: المَعْنى: أنَّهُ ظَهَرَ لِلَّذِينَ اتَّبَعُوا الغُواةَ ما كانَ الغُواةُ يُخْفُونَ عَنْهم مِن أمْرِ البَعْثِ والقِيامَةِ ولَوْ رُدُّوا إلى الدُّنْيا حَسْبَما تَمَنَّوْا لَعادُوا لِفِعْلِ ما نُهُوا عَنْهُ مِنَ القَبائِحِ الَّتِي رَأْسُها الشِّرْكُ كَما عايَنَ إبْلِيسُ ما عايَنَ مِن آياتِ اللَّهِ ثُمَّ عانَدَ وإنَّهم لَكاذِبُونَ أيْ مُتَّصِفُونَ بِهَذِهِ الصِّفَةِ لا يَنْفَكُّونَ عَنْها بِحالٍ مِنَ الأحْوالِ ولَوْ شاهَدُوا ما شاهَدُوا، وقِيلَ: المَعْنى: وإنَّهم لَكاذِبُونَ فِيما أخْبَرُوا بِهِ عَنْ أنْفُسِهِمْ مِنَ الصِّدْقِ والإيمانِ. وقَرَأ يَحْيى بْنُ وثّابٍ " ولَوْ رِدُّوا " بِكَسْرِ الرّاءِ لِأنَّ الأصْلَ رَدِدُوا فَنُقِلَتْ كَسْرَةُ الدّالِ إلى الرّاءِ، وجُمْلَةُ " وإنَّهم لَكاذِبُونَ " مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَ المَعْطُوفِ وهو " وقالُوا "، وبَيْنَ المَعْطُوفِ عَلَيْهِ وهو " لَعادُوا ": أيْ لَعادُوا إلى ما نُهُوا عَنْهُ. ﴿وقالُوا إنْ هي إلّا حَياتُنا الدُّنْيا﴾ أيْ: ما هي إلّا حَياتُنا الدُّنْيا وما نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ بَعْدَ المَوْتِ، وهَذا مِن شِدَّةِ (p-٤١٥)تَمَرُّدِهِمْ وعِنادِهِمْ حَيْثُ يَقُولُونَ هَذِهِ المَقالَةَ عَلى تَقْدِيرِ أنَّهم رَجَعُوا إلى الدُّنْيا بَعْدَ مُشاهَدَتِهِمْ لِلْبَعْثِ. قَوْلُهُ: ﴿ولَوْ تَرى إذْ وُقِفُوا عَلى رَبِّهِمْ﴾ قَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُهُ في قَوْلِهِ: ﴿ولَوْ تَرى إذْ وُقِفُوا عَلى النّارِ﴾ [الأنعام: ٢٧] أيْ حُبِسُوا عَلى ما يَكُونُ مِن أمْرِ رَبِّهِمْ فِيهِمْ، وقِيلَ: عَلى بِمَعْنى عِنْدَ، وجَوابُ لَوْ مَحْذُوفٌ: أيْ لَشاهَدْتَ أمْرًا عَظِيمًا، والِاسْتِفْهامُ في ألَيْسَ هَذا بِالحَقِّ لِلتَّقْرِيعِ والتَّوْبِيخِ: أيْ ألَيْسَ هَذا البَعْثُ الَّذِي يُنْكِرُونَهُ كائِنًا مَوْجُودًا، وهَذا الجَزاءُ الَّذِي يَجْحَدُونَهُ حاضِرًا. قالُوا بَلى ورَبِّنا اعْتَرَفُوا بِما أنْكَرُوا وأكَّدُوا اعْتِرافَهم بِالقَسَمِ قالَ فَذُوقُوا العَذابَ الَّذِي تُشاهِدُونَهُ وهو عَذابُ النّارِ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ أيْ بِسَبَبِ كُفْرِكم بِهِ أوْ بِكُلِّ شَيْءٍ مِمّا أُمِرْتُمْ بِالإيمانِ بِهِ في دارِ الدُّنْيا. وقَدْ أخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وابْنُ أبِي حاتِمٍ، عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ، في قَوْلِهِ: ﴿ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ﴾ قالَ: مَعْذِرَتُهم. وأخْرَجَ ابْنُ أبِي حاتِمٍ، وأبُو الشَّيْخِ، عَنْهُ ﴿ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ﴾ قالَ: حُجَّتُهم ﴿إلّا أنْ قالُوا واللَّهِ رَبِّنا ما كُنّا مُشْرِكِينَ﴾ يَعْنِي المُنافِقِينَ والمُشْرِكِينَ قالُوا وهم في النّارِ: هَلُمَّ فَلْنَكْذِبْ فَلَعَلَّهُ أنْ يَنْفَعَنا، فَقالَ اللَّهُ: ﴿انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلى أنْفُسِهِمْ وضَلَّ عَنْهم﴾ في القِيامَةِ ﴿ما كانُوا يَفْتَرُونَ﴾ يَكْذِبُونَ في الدُّنْيا. وأخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وابْنُ المُنْذِرِ، عَنْهُ في قَوْلِهِ: ﴿واللَّهِ رَبِّنا ما كُنّا مُشْرِكِينَ﴾ ثُمَّ قالَ: ﴿ولا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا﴾ [النساء: ٤٢] قالَ: بِجَوارِحِهِمْ. وأخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، عَنْ قَتادَةَ،: ﴿انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلى أنْفُسِهِمْ﴾ قالَ: بِاعْتِذارِهِمُ الباطِلِ ﴿وضَلَّ عَنْهم ما كانُوا يَفْتَرُونَ﴾ قالَ: ما كانُوا يُشْرِكُونَ. وأخْرَجَ ابْنُ أبِي شَيْبَةَ، وعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وابْنُ جَرِيرٍ، وابْنُ المُنْذِرِ، وابْنُ أبِي حاتِمٍ، وأبُو الشَّيْخِ، عَنْ مُجاهِدٍ في قَوْلِهِ: ﴿ومِنهم مَن يَسْتَمِعُ إلَيْكَ﴾ قالَ: قُرَيْشٌ، وفي قَوْلِهِ: ﴿وجَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أكِنَّةً﴾ قالَ: كالجُعْبَةِ لِلنَّبْلِ. وأخْرَجَ عَبْدُ الرَّزّاقِ، وابْنُ جَرِيرٍ، وابْنُ أبِي حاتِمٍ، عَنْ قَتادَةَ، في قَوْلِهِ: ﴿وجَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أكِنَّةً أنْ يَفْقَهُوهُ وفي آذانِهِمْ وقْرًا﴾ قالَ: يَسْمَعُونَهُ بِآذانِهِمْ ولا يَعُونَ مِنهُ شَيْئًا، كَمَثَلِ البَهِيمَةِ الَّتِي لا تَسْمَعُ النِّداءَ ولا تَدْرِي ما يُقالُ لَها. وأخْرَجَ ابْنُ أبِي حاتِمٍ، وأبُو الشَّيْخِ، عَنِ السُّدِّيِّ، قالَ: الغِطاءُ أكَنَّ قُلُوبَهم أنْ يَفْقَهُوهُ، والوَقْرُ الصَّمَمُ، وأساطِيرُ الأوَّلِينَ أساجِيعُ الأوَّلِينَ. وأخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ، قالَ: أساطِيرُ الأوَّلِينَ: أحادِيثُ الأوَّلِينَ. وأخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وابْنُ المُنْذِرِ، وابْنُ أبِي حاتِمٍ، عَنْ قَتادَةَ، قالَ: أساطِيرُ الأوَّلِينَ: كَذِبُ الأوَّلِينَ وباطِلُهم. وأخْرَجَ عَبْدُ الرَّزّاقِ، والفِرْيابِيُّ وسَعِيدُ بْنُ مَنصُورٍ، وعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وابْنُ جَرِيرٍ، وابْنُ المُنْذِرِ، وابْنُ أبِي حاتِمٍ، والطَّبَرانِيُّ وأبُو الشَّيْخِ، والحاكِمُ وصَحَّحَهُ وابْنُ مَرْدَوَيْهِ، والبَيْهَقِيُّ في الدَّلائِلِ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ، في قَوْلِهِ ﴿وهم يَنْهَوْنَ عَنْهُ ويَنْأوْنَ عَنْهُ﴾ قالَ: نَزَلَتْ في أبِي طالِبٍ كانَ يَنْهى المُشْرِكِينَ أنْ يَرُدُّوا رَسُولَ اللَّهِ - صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ - ويَتَباعَدُ عَمّا جاءَ بِهِ. وأخْرَجَ ابْنُ أبِي شَيْبَةَ، وابْنُ جَرِيرٍ، وابْنُ المُنْذِرِ، وأبُو الشَّيْخِ، عَنِ القاسِمِ بْنِ مُخَيْمِرَةَ نَحْوَهُ. وأخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، عَنْ عَطاءٍ نَحْوَهُ أيْضًا. وأخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وابْنُ المُنْذِرِ، وابْنُ أبِي حاتِمٍ، وابْنُ مَرْدَوَيْهِ، عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ، في الآيَةِ قالَ: يَنْهَوْنَ عَنْهُ النّاسَ أنْ يُؤْمِنُوا بِهِ، ويَنْأوْنَ عَنْهُ: يَتَباعَدُونَ. وأخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، مِن طَرِيقِ العَوْفِيِّ عَنْهُ قالَ: لا يَلْقَوْنَهُ ولا يَدَعُونَ أحَدًا يَأْتِيهِ. وأخْرَجَ ابْنُ أبِي شَيْبَةَ، وابْنُ جَرِيرٍ، وابْنُ المُنْذِرِ، وابْنُ أبِي حاتِمٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الحَنَفِيَّةَ في الآيَةِ قالَ: كُفّارُ مَكَّةَ كانُوا يَدْفَعُونَ النّاسَ عَنْهُ ولا يُجِيبُونَهُ. وأخْرَجَ ابْنُ أبِي شَيْبَةَ، وعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وابْنُ جَرِيرٍ، وابْنُ المُنْذِرِ، وابْنُ أبِي حاتِمٍ، عَنْ مُجاهِدٍ نَحْوَهُ. وأخْرَجَ عَبْدُ الرَّزّاقِ، وابْنُ جَرِيرٍ، وابْنُ المُنْذِرِ، وابْنُ أبِي حاتِمٍ، وأبُو الشَّيْخِ، عَنْ قَتادَةَ، قالَ: يَنْهَوْنَ عَنِ القُرْآنِ وعَنِ النَّبِيِّ - صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ -، ويَنْأوْنَ عَنْهُ: يَتَباعَدُونَ عَنْهُ. وأخْرَجَ ابْنُ أبِي حاتِمٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ أبِي هِلالٍ في الآيَةِ قالَ: نَزَلَتْ في عُمُومَةِ النَّبِيِّ صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ وكانُوا عَشْرَةً، فَكانُوا أشَدَّ النّاسِ مَعَهُ في العَلانِيَةِ، وأشَدَّ النّاسِ عَلَيْهِ في السِّرِّ. وأخْرَجَ عَبْدُ الرَّزّاقِ، وعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وابْنُ جَرِيرٍ، وابْنُ المُنْذِرِ، وابْنُ أبِي حاتِمٍ، وأبُو الشَّيْخِ، عَنْ قَتادَةَ، في قَوْلِهِ ﴿بَلْ بَدا لَهم ما كانُوا يُخْفُونَ مِن قَبْلُ﴾ قالَ: مِن أعْمالِهِمْ ﴿ولَوْ رُدُّوا لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ﴾ يَقُولُ: ولَوْ وصَلَ اللَّهُ لَهم دُنْيا كَدُنْياهُمُ الَّتِي كانُوا فِيها لَعادُوا إلى أعْمالِهِمْ أعْمالِ السُّوءِ الَّتِي كانُوا نُهُوا عَنْها. وأخْرَجَ ابْنُ أبِي حاتِمٍ، عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ، قالَ: أخْبَرَ اللَّهُ سُبْحانَهُ أنَّهم لَوْ رُدُّوا لَمْ يَقْدِرُوا عَلى الهُدى، فَقالَ: ﴿ولَوْ رُدُّوا لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ﴾ أيْ: ولَوْ رُدُّوا إلى الدُّنْيا لَحِيلَ بَيْنَهم وبَيْنَ الهُدى كَما حِيلَ بَيْنَهم وبَيْنَهُ أوَّلَ مَرَّةٍ وهم في الدُّنْيا.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب