الباحث القرآني

﴿ومَن أظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلى اللَّهِ كَذِبًا أوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ إنَّهُ لا يُفْلِحُ الظّالِمُونَ﴾ تَقَدَّمَ الكَلامُ عَلى ﴿ومَن أظْلَمُ﴾ . والِافْتِراءُ الِاخْتِلافُ، والمَعْنى لا أحَدَ أظْلَمُ مِمَّنْ كَذَبَ عَلى اللَّهِ، أوْ كَذَّبَ بِآياتِ اللَّهِ. قالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: جَمَعُوا بَيْنَ أمْرَيْنِ مُتَناقِضَيْنِ، فَكَذَبُوا عَلى اللَّهِ بِما لا حُجَّةَ عَلَيْهِ، وكَذَّبُوا بِما ثَبَتَ بِالحُجَّةِ البَيِّنَةِ والبُرْهانِ الصَّحِيحِ، حَيْثُ قالُوا: ﴿لَوْ شاءَ اللَّهُ ما أشْرَكْنا ولا آباؤُنا﴾ [الأنعام: ١٤٨]، وقالُوا: واللَّهِ أُمِرْنا بِها، وقالُوا: المَلائِكَةُ بَناتُ اللَّهِ، وهَؤُلاءِ شُفَعاؤُنا عِنْدَ اللَّهِ، ونَسَبُوا إلَيْهِ تَحْرِيمَ السَّوائِبِ والبَحائِرِ، وكَذَّبُوا القُرْآنَ والمُعْجِزاتِ، وسَمُّوها سِحْرًا، ولَمْ يُؤْمِنُوا بِالرَّسُولِ ﷺ انْتَهى. وفِيهِ دَسِيسَةُ الِاعْتِزالِ بِقَوْلِهِ: حَيْثُ قالُوا: ﴿لَوْ شاءَ اللَّهُ ما أشْرَكْنا ولا آباؤُنا﴾ [الأنعام: ١٤٨] . وقالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: مِمَّنِ افْتَرى؛ اخْتَلَقَ، والمُكَذِّبُ بِالآياتِ مُفْتَرِي كَذِبٍ، ولَكِنَّهُما مِنَ الكُفْرِ، فَلِذَلِكَ نُصّا مُفَسَّرَيْنِ انْتَهى. ومَعْنى ﴿لا يُفْلِحُ الظّالِمُونَ﴾ لا يَظْفَرُونَ بِمَطالِبِهِمْ في الدُّنْيا والآخِرَةِ، بَلْ يَبْقَوْنَ في الحِرْمانِ والخِذْلانِ. ونَفى الفَلاحَ عَنِ الظّالِمِ، فَدَخَلَ فِيهِ الأظْلَمُ. والظّالِمُ غَيْرُ الأظْلَمِ، وإذا كانَ هَذا لا يُفْلِحُ، فَكَيْفَ يُفْلِحُ الأظْلَمُ ؟ ﴿ويَوْمَ نَحْشُرُهم جَمِيعًا ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أشْرَكُوا أيْنَ شُرَكاؤُكُمُ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ﴾ . قِيلَ: (يَوْمَ) مَعْمُولٌ لِـ (اذْكُرْ) (p-٩٤)مَحْذُوفَةٍ عَلى أنَّهُ مَفْعُولٌ بِهِ، قالَهُ ابْنُ عَطِيَّةَ وأبُو البَقاءِ. وقِيلَ: المَحْذُوفُ مُتَأخِّرٌ تَقْدِيرُهُ: ﴿ويَوْمَ نَحْشُرُهُمْ﴾، كانَ كَيْتُ وكَيْتُ، فَتُرِكَ لِيَبْقى عَلى الإبْهامِ الَّذِي هو أدْخَلُ في التَّخْوِيفِ، قالَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ. وقِيلَ: العامِلُ انْظُرْ كَيْفَ كَذَّبُوا يَوْمَ نَحْشُرُهم. وقِيلَ: هو مَفْعُولٌ بِهِ لِمَحْذُوفٍ تَقْدِيرُهُ: ولْيَحْذَرُوا يَوْمَ نَحْشُرُهم. وقِيلَ: هو مَعْطُوفٌ عَلى ظَرْفٍ مَحْذُوفٍ، والعامِلُ فِيهِ العامِلُ في ذَلِكَ الظَّرْفِ، والتَّقْدِيرُ أنَّهُ لا يُفْلِحُ الظّالِمُونَ اليَوْمَ في الدُّنْيا، ويَوْمَ نَحْشُرُهم، قالَهُ الطَّبَرِيُّ. وقَرَأ الجُمْهُورُ (نَحْشُرُهم ثُمَّ نَقُولُ) بِالنُّونِ فِيهِما. وقَرَأ حُمَيْدٌ ويَعْقُوبُ فِيهِما بِالياءِ. وقَرَأ أبُو هُرَيْرَةَ (نَحْشِرُهم)، بِكَسْرِ الشِّينِ. والظّاهِرُ أنَّ الضَّمِيرَ في (نَحْشُرُهم) عائِدٌ عَلى الَّذِينَ افْتَرَوْا عَلى اللَّهِ الكَذِبَ، أوْ كَذَّبُوا بِآياتِهِ. وجاءَ ﴿ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أشْرَكُوا﴾ بِمَعْنى ثُمَّ نَقُولُ لَهم، ولَكِنَّهُ نَبَّهَ عَلى الوَصْفِ المُتَرَتِّبِ عَلَيْهِ تَوْبِيخُهم، ويُحْتَمَلُ أنْ يَعُودَ عَلى النّاسِ كُلِّهِمْ، وهم مُنْدَرِجُونَ في هَذا العُمُومِ، ثُمَّ تَفَرَّدَ بِالتَّوْبِيخِ المُشْرِكُونَ. وقِيلَ: الضَّمِيرُ عائِدٌ عَلى المُشْرِكِينَ وأصْنامِهِمْ، ألا تَرى إلى قَوْلِهِمْ ﴿احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وأزْواجَهم وما كانُوا يَعْبُدُونَ﴾ [الصافات: ٢٢] مِن دُونِ اللَّهِ، وعُطِفَ بِـ (بِثُمَّ) لِلتَّراخِي الحاصِلِ بَيْنَ مَقاماتِ يَوْمِ القِيامَةِ في المَواقِفِ، فَإنَّ فِيهِ مَواقِفَ بَيْنَ كُلِّ مَوْقِفٍ ومَوْقِفٍ تَراخٍ عَلى حَسَبِ طُولِ ذَلِكَ اليَوْمِ. و﴿أيْنَ شُرَكاؤُكُمُ﴾ سُؤالُ تَوْبِيخٍ وتَقْرِيعٍ. وظاهِرُ مَدْلُولِ ﴿أيْنَ شُرَكاؤُكُمُ﴾ غَيْبَةُ الشُّرَكاءِ عَنْهُمْ؛ أيْ تِلْكَ الأصْنامُ قَدِ اضْمَحَلَّتْ، فَلا وُجُودَ لَها. وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: ويَجُوزُ أنْ يُشاهِدُوهم، إلّا أنَّهم حِينَ لا يَنْفَعُونَهم، ولا يَكُونُ مِنهم ما رَجَوْا مِنَ الشَّفاعَةِ، فَكَأنَّهم غُيَّبٌ عَنْهم، وأنْ يُحالَ بَيْنَهم. وبَيْنَهم في وقْتِ التَّوْبِيخِ؛ لِيَفْقِدُوهم في السّاعَةِ الَّتِي عَلَّقُوا بِهِمُ الرَّجاءَ فِيها، فَيَرْوِ إمْكانَ خِزْيِهِمْ وحَسْرَتِهِمُ انْتَهى. والمَعْنى أيْنَ آلِهَتُكُمُ الَّتِي جَعَلْتُمُوها شُرَكاءَ لِلَّهِ ؟ وأُضِيفَ الشُّرَكاءُ إلَيْهِمْ؛ لِأنَّهُ لا شَرِكَةَ في الحَقِيقَةِ بَيْنَ الأصْنامِ، وبَيْنَ شَيْءٍ، وإنَّما أُوقِعَ عَلَيْها اسْمُ الشَّرِيكِ بِمُجَرَّدِ تَسْمِيَةِ الكَفَرَةِ، فَأُضِيفَتْ إلَيْهِمْ بِهَذِهِ النِّسْبَةِ. والزَّعْمُ: القَوْلُ الأمْيَلُ إلى الباطِلِ، والكَذِبِ في أكْثَرِ الكَلامِ، ولِذَلِكَ قالَ ابْنُ عَبّاسٍ: كُلُّ زَعْمٍ في القُرْآنِ، فَهو بِمَعْنى الكَذِبِ، وإنَّما خَصَّ القُرْآنَ؛ لِأنَّهُ يَنْطَلِقُ عَلى مُجَرَّدِ الذِّكْرِ والقَوْلِ؛ ومِنهُ قَوْلُ الشّاعِرِ: ؎تَقُولُ هَلَكْنا إنْ هَلَكْتَ وإنَّما عَلى اللَّهِ أرْزاقُ العِبادِ كَما زَعَمَ وقالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وعَلى هَذا الحَدِّ يَقُولُ سِيبَوَيْهِ: بِزَعْمِ الخَلِيلِ، ولَكِنَّ ذَلِكَ يُسْتَعْمَلُ في الشَّيْءِ الغَرِيبِ الَّذِي تَبْقى عُهْدَتُهُ عَلى قائِلِهِ انْتَهى. وحُذِفَ مَفْعُولا (يَزْعُمُونَ) اخْتِصارًا، إذْ دَلَّ ما قَبْلَهُ عَلى حَذْفِهِما، والتَّقْدِيرُ تَزْعُمُونَهم شُرَكاءَ، ويَحْسُنُ أنْ يَكُونَ التَّقْدِيرُ كَما قالَ بَعْضُهم: ﴿أيْنَ شُرَكاؤُكُمُ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ﴾ إنَّها تَشْفَعُ لَكم عِنْدَ اللَّهِ عَزَّ وجَلَّ. ﴿ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهم إلّا أنْ قالُوا واللَّهِ رَبِّنا ما كُنّا مُشْرِكِينَ﴾ . تَقَدَّمَ مَدْلُولُ الفِتْنَةِ، وشُرِحَتْ هُنا بِحُبِّ الشَّيْءِ والإعْجابِ بِهِ، كَما تَقُولُ: فُتِنْتُ بِزَيْدٍ، فَعَلى هَذا يَكُونُ المَعْنى؛ ثُمَّ لَمْ يَكُنْ حُبُّهم لِلْأصْنامِ، وإعْجابُهم بِها واتِّباعُهم لَها، لَمّا سُئِلُوا عَنْها، ووَقَفُوا عَلى عَجْزِها، إلّا التَّبَرُّؤَ مِنها والإنْكارَ لَها، وفي هَذا تَوْبِيخٌ لَهم، كَما تَقُولُ لِرَجُلٍ كانَ يَدَّعِي مَوَدَّةَ آخَرَ ثُمَّ انْحَرَفَ عَنْهُ وعاداهُ: يا فُلانُ لَمْ تَكُنْ مَوَدَّتُكَ لِفُلانٍ إلّا أنْ عادَيْتَهُ وبايَنْتَهُ، والمَعْنى عَلى ﴿ثُمَّ لَمْ تَكُنْ﴾ بِمَعْنى مَوَدَّتِهِمْ وإعْجابِهِمْ بِالأصْنامِ، إلّا البَراءَةَ مِنهم بِاليَمِينِ المُؤَكِّدَةِ لِبَراءَتِهِمْ، وتَكُونُ الفِتْنَةُ واقِعَةً في الدُّنْيا، وشُرِحَتْ أيْضًا بِالِاخْتِبارِ، والمَعْنى: ثُمَّ لَمْ يَكُنِ اخْتِبارُنا إيّاهم، إذِ السُّؤالُ عَنِ الشُّرَكاءِ وتَوْقِيفُهم، اخْتِبارًا لِإنْكارِهِمُ الإشْراكَ (p-٩٥)وتَكُونُ الفِتْنَةُ هُنا واقِعَةً في القِيامَةِ؛ أيْ: ثُمَّ لَمْ يَكُنْ جَوابُ اخْتِبارٍ نالَهم بِالسُّؤالِ عَنْ شُرَكائِهِمْ إلّا إنْكارَ التَّشْرِيكِ انْتَهى، مُلَخَّصًا مِن كَلامِ ابْنِ عَطِيَّةَ، مَعَ بَعْضِ زِيادَةٍ. وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: (فِتْنَتُهم) كُفْرُهم، والمَعْنى ثُمَّ لَمْ تَكُنْ عاقِبَةُ كُفْرِهِمُ الَّذِي لَزِمُوهُ أعْمارَهم، وقاتَلُوا عَلَيْهِ، وافْتَخَرُوا بِهِ، وقالُوا: دِينُ آبائِنا، إلّا جُحُودَهُ، والتَّبَرُّؤَ مِنهُ، والحَلِفَ عَلى الِانْتِفاءِ مِنَ التَّدَيُّنِ بِهِ. ويَجُوزُ أنْ يُرادَ؛ ثُمَّ لَمْ يَكُنْ جَوابُهم، إلّا أنْ قالُوا: فَسُمِّيَ فِتْنَةً؛ لِأنَّهُ كَذِبٌ انْتَهى. والشَّرْحُ الأوَّلُ مِن شَرْحِ ابْنِ عَطِيَّةَ مَعْناهُ لِلزَّجّاجِ، والأوَّلُ مِن تَفْسِيرِ الزَّمَخْشَرِيِّ، لَفْظُهُ لِلْحَسَنِ، ومَعْناهُ لِابْنِ عَبّاسٍ، والثّانِي لِمُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ وغَيْرِهِ. قالَ: التَّقْدِيرُ ثُمَّ لَمْ يَكُنْ جَوابُهم ﴿إلّا أنْ قالُوا﴾، وسُمِّيَ هَذا القَوْلُ فِتْنَةً، لِكَوْنِهِ افْتِراءً وكَذِبًا. وقالَ الضَّحّاكُ: الفِتْنَةُ هُنا الإنْكارُ؛ أيْ ثُمَّ لَمْ يَكُنْ إنْكارُهم. وقالَ قَتادَةُ: عُذْرُهم. وقالَ أبُو العالِيَةِ: قَوْلُهم. وقالَ عَطاءٌ وأبُو عُبَيْدَةَ: بَيْنَهم. وزادَ أبُو عُبَيْدَةَ الَّتِي ألْزَمَتْهُمُ الحُجَّةَ، وزادَتْهم لائِمَةً. وقِيلَ: حُجَّتُهم. والظّاهِرُ أنَّ الضَّمِيرَ عائِدٌ عَلى المُشْرِكِينَ، وأنَّهُ عامٌّ فِيمَن أشَرَكَ. وقالَ الحَسَنُ: هَذا خاصٌّ بِالمُنافِقِينَ، جَرَوْا عَلى عادَتِهِمْ في الدُّنْيا. وقِيلَ: هم قَوْمٌ كانُوا مُشْرِكِينَ، ولَمْ يَعْلَمُوا أنَّهم مُشْرِكُونَ، فَيَحْلِفُونَ عَلى اعْتِقادِهِمْ في الدُّنْيا. وقَرَأ الجُمْهُورُ ﴿ثُمَّ لَمْ تَكُنْ﴾، وحَمْزَةُ والكِسائِيُّ بِالياءِ، وأُبَيٌّ وابْنُ مَسْعُودٍ والأعْمَشُ، وما كانَ فِتْنَتُهم، وطَلْحَةُ وابْنُ مُطَرِّفٍ، ثُمَّ ما كانَ، والِابْنانِ وحَفْصٌ (فِتْنَتُهم) بِالرَّفْعِ، وفِرْقَةٌ (ثُمَّ لَمْ يَكُنْ) بِالياءِ و(فِتْنَتُهم) بِالرَّفْعِ. وإعْرابُ هَذِهِ القِراءاتِ واضِحٌ، والجارِي مِنها عَلى الأشْهَرِ، قِراءَةُ (ثُمَّ لَمْ يَكُنْ فِتْنَتَهم) بِالياءِ بِالنَّصْبِ؛ لِأنَّ (أنْ) مَعَ ما بَعْدَها أُجْرِيَتْ في التَّعْرِيفِ مَجْرى المُضْمَرِ، وإذا اجْتَمَعَ الأعْرَفُ وما دُونَهُ في التَّعْرِيفِ، فَذَكَرُوا أنَّ الأشْهَرَ؛ جَعْلُ الأعْرَفِ هو الِاسْمُ، وما دُونَهُ هو الخَبَرُ، ولِذَلِكَ أجْمَعَتِ السَّبْعَةُ عَلى ذَلِكَ في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إلّا أنْ قالُوا﴾ [النمل: ٥٦]، و﴿ما كانَ حُجَّتَهم إلّا أنْ قالُوا﴾ [الجاثية: ٢٥] . ومَن قَرَأ بِالياءِ، ورَفَعَ الفِتْنَةَ، فَذَكَّرَ الفِعْلَ، لِكَوْنِ تَأْنِيثِ الفِتْنَةِ مَجازِيًّا أوْ لِوُقُوعِها مِن حَيْثُ المَعْنى عَلى مُذَكَّرٍ، والفِتْنَةُ اسْمُ يَكُنْ، والخَبَرُ ﴿إلّا أنْ قالُوا﴾ جَعَلَ غَيْرَ الأعْرَفِ الِاسْمَ، والأعْرَفَ الخَبَرَ، ومَن قَرَأ ﴿ثُمَّ لَمْ تَكُنْ﴾ بِالتّاءِ، ورَفَعَ الفِتْنَةَ، فَأنَّثَ لِتَأْنِيثِ الفِتْنَةِ، والإعْرابُ كَإعْرابِ ما تَقَدَّمَ قَبْلَهُ، ومَن قَرَأ ﴿ثُمَّ لَمْ تَكُنْ﴾ بِالتّاءِ (فِتْنَتَهم) بِالنَّصْبِ، فالأحْسَنُ أنْ يُقَدَّرَ ﴿إلّا أنْ قالُوا﴾ مُؤَنَّثًا؛ أيْ: ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتَهم إلّا مَقالَتُهم. وقِيلَ: ساغَ ذَلِكَ مِن حَيْثُ كانَ الفِتْنَةَ في المَعْنى. قالَ أبُو عَلِيٍّ: وهَذا كَقَوْلِهِ تَعالى: ﴿فَلَهُ عَشْرُ أمْثالِها﴾ [الأنعام: ١٦٠] فَأنَّثَ الأمْثالَ، لَمّا كانَتِ الحَسَناتِ في المَعْنى. وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وقُرِئَ (تَكُنْ) بِالتّاءِ. و(فِتْنَتَهم) بِالنَّصْبِ، وإنَّما أتَتْ (أنْ قالُوا) لِوُقُوعِ الخَبَرِ مُؤَنَّثًا، كَقَوْلِهِ: مَن كانَتْ أُمَّكَ انْتَهى. وتَقَدَّمَ لَنا أنَّ الأوْلى؛ أنْ يُقَدَّرَ (أنْ قالُوا) بِمُؤَنَّثٍ؛ أيْ إلّا مَقالَتُهم. وكَذا قَدَّرَهُ الزَّجّاجُ بِمُؤَنَّثٍ؛ أيْ مَقالَتُهم، وتَخْرِيجُ الزَّمَخْشَرِيِّ مُلَفَّقٌ مِن كَلامِ أبِي عَلِيٍّ. وأمّا مَن كانَتْ أُمَّكَ، فَإنَّهُ حَمَلَ اسْمَ كانَ عَلى مَعْنى (مَن)؛ لِأنَّ مَن لَها لَفْظٌ مُفْرَدٌ، ولَها مَعْنًى بِحَسَبِ ما تُرِيدُ مِن إفْرادٍ وتَثْنِيَةٍ وجَمْعٍ وتَذْكِيرٍ وتَأْنِيثٍ، ولَيْسَ الحَمْلُ عَلى المَعْنى لِمُراعاةِ الخَبَرِ، ألا تَرى أنَّهُ يَجِيءُ حَيْثُ لا خَبَرَ ؟ نَحْوَ ومِنهم مَن يَسْتَمِعُونَ إلَيْكَ. و(تَكُنْ) مِثْلُ مَن يا ذِئْبُ يَصْطَحِبانِ. ومَن تَقْنُتْ في قِراءَةِ التّاءِ، فَلَيْسَتْ تَأْنِيثُ كانَتْ لِتَأْنِيثِ الخَبَرِ، وإنَّما هو لِلْحَمْلِ عَلى مَعْنى (مَن) حَيْثُ أرَدْتَ بِهِ المُؤَنَّثَ، وكَأنَّكَ قُلْتَ: أيَّةُ امْرَأةٍ كانَتْ أُمَّكَ ؟ وقَرَأ الأخَوانِ ﴿واللَّهِ رَبِّنا﴾ بِنَصْبِ الباءِ عَلى النِّداءِ؛ أيْ يا رَبَّنا. وأجازَ ابْنُ عَطِيَّةَ فِيهِ النَّصْبَ عَلى المَدْحِ. وأجازَ أبُو البَقاءِ فِيهِ إضْمارَ أعْنِي. وباقِي السَّبْعَةِ بِخَفْضِها عَلى النَّعْتِ، وأجازُوا فِيهِ البَدَلَ وعَطْفَ البَيانِ. وقَرَأ عِكْرِمَةُ وسَلّامُ بْنُ مِسْكِينٍ (واللَّهُ رَبُّنا) بِرَفْعِ الِاسْمَيْنِ. قالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وهَذا عَلى تَقْدِيمِ وتَأْخِيرِ أنَّهم قالُوا: ﴿ما كُنّا مُشْرِكِينَ﴾، (واللَّهُ رَبُّنا)، ومَعْنى ﴿ما كُنّا مُشْرِكِينَ﴾ جَحَدُوا إشْراكَهم في الدُّنْيا. رُوِيَ أنَّهم إذا رَأوْا إخْراجَ مَن في النّارِ مِن أهْلِ الإيمانِ، ضَجُّوا، فَيُوقَفُونَ، ويُقالُ لَهم أيْنَ شُرَكاؤُكم ؟ فَيُنْكِرُونَ طَماعِيَةً مِنهم أنْ يُفْعَلَ (p-٩٦)بِهِمْ ما فُعِلَ بِأهْلِ الإيمانِ. وهَذا الَّذِي رُوِيَ مُخالِفٌ لِظاهِرِ الآيَةِ، وهو ﴿ويَوْمَ نَحْشُرُهم جَمِيعًا﴾، ثُمَّ نَقُولُ فَظاهِرُهُ أنَّهُ لا يَتَراخى القَوْلُ عَنِ الحَشْرِ هَذا التَّراخِيَ البَعِيدَ مِن دُخُولِ العُصاةِ المُؤْمِنِينَ النّارَ، وإقامَتِهِمْ فِيها ما شاءَ اللَّهُ، وإخْراجِهِمْ مِنها، ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ كُلِّهِ يُقالُ لَهم أيْنَ شُرَكاؤُكم ؟ وأتى رَجُلٌ إلى ابْنِ عَبّاسٍ فَقالَ: سَمِعْتُ اللَّهَ يَقُولُ: ﴿واللَّهِ رَبِّنا ما كُنّا مُشْرِكِينَ﴾، وفي أُخْرى ﴿ولا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا﴾ [النساء: ٤٢]، فَقالَ ابْنُ عَبّاسٍ: لَمّا رَأوْا أنَّهُ لا يَدْخُلُ الجَنَّةَ إلّا مُؤْمِنٌ قالُوا: تَعالَوْا، فَلْنَجْحَدْ، وقالُوا: ﴿ما كُنّا مُشْرِكِينَ﴾، فَخَتَمَ اللَّهُ عَلى أفْواهِهِمْ، وتَكَلَّمَتْ جَوارِحُهم، فَلا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب