الباحث القرآني

قوله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا﴾، قد مضى تفسير هذه الآية مشروحًا مستقصًى في البقرة [[عند تفسير قوله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ﴾ الآية (62) البقرة.]]. وقوله تعالى: ﴿وَالصَّابِئُونَ﴾، اختلفوا في وجه ارتفاعه، فقال الكسائي: هو نسق على ما في ﴿هَادُوا﴾ كأنه قيل: هادوا هم والصابئون [["معاني القرآن وإعرابه" 2/ 194.]]، قال الزجاج: وهذا خطأ من جهتين: إحداهما أن الصابىء على هذا القول يشارك اليهودي في اليهودية، وليس كذلك، فإن الصابىء غير اليهودي، وإن جعل ﴿هَادُوا﴾ بمعنى: تابوا، من قوله: ﴿إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ﴾ [الأعراف: 156] لا من اليهودية، ويكون المعنى: تابوا هم والصابئون، فالتفسير قد جاء بغير ذلك، لأن معنى ﴿الَّذِينَ آمَنُوا﴾ في هذه الآية إنما هو إيمان بأفواهم، لأنه يعني به المنافقون؛ لأنه وصف الذين آمنوا بأفواههم ولم تؤمن قلوبهم، ثم ذكر اليهود والنصارى فقال: من آمن منهم بالله فله كذا، فجعلهم يهودًا ونصارى، فلو كانوا مؤمنين لم يُحتج أن يقال: (من آمن منهم فلهم أجرهم) [["معاني القرآن وإعرابه" 2/ 194 بتصرف.]]، وهذا قول الفراء [[انظر: "معاني القرآن وإعرابه" 2/ 192 ، 193]] والزجاج في الإنكار عليه، وقال الفراء: ارتفع الصابئون بالنسق على الذين، وإنما نُسِقَ على المنصوب بالمرفوع؛ لأن (إن) ضعيفة العمل، وضعفه أنه يقع على الاسم ولا يقع على خبره، يعني أنها تغير الاسم ولا تغير الخبر، وأيضًا فإن (الذين) حرف على جهة واحدة في الرفع والنصب والخفض، فلما لم يبين فيه عَملُ (إن) وكان عملها أيضًا ضعيفًا [[في (ج): (ضعيف).]] رفع الصابئين بأن يرجع إلى أصل الكلام وهو الرفع قبل دخول (إن). أجاز الكسائي: "إنّ عبد الله وزيد قائمان" لضعف إن [[انظر: "معاني القرآن وإعرابه" 2/ 192، 193.]]. قال الفراء: ولا أستحب ذلك لتبيين الإعراب في عبد الله، وأجازا معًا: (أنك نفسُك عالم)، (وأنا أنفسنا عالمان)، (وأنه نفسه متكلم)، (وأنهم أجمعون منطلقون)، (وأنك ومحمد في الدار)، وعند الفراء إذا دخلت (إن) على اسم لم يتبين عملها فيه يجوز أن ينسق عليه بالرفع والنصب جميعًا، وكذلك التوكيد، من ذلك أن تقول: إن قطام وهندٌ عندنا، وإن هؤلاء وإخوتُك يكرموننا، وإن هذا نفسه عالم، وذلك أن هذه الأسماء لا يتغير إعرابهنَّ ولا يظهر فيها عمل (إن)، فإذا دخلت إن على اسم يتبين عملها فيه وولي الاسم التوكيد والنعت والنسق، لم يكن فيها إلا النصب عند الفراء، كقولك: (إن زيدًا نفسه عالم)، (وإن محمدًا وأخاك منطلقان)، (وإن القوم وعبد الله عندنا)، ويجوز الرفع عند الكسائي، ومما جاء في أشعار العرب يشهد لمذهب الفراء قول بشر بن أبي خازم [[هو: بشر بن أبي خازم عمرو بن عوف الأسدي، شاعر جاهلي شجاع من أهل نجد، توفي سنة 22 قبل الهجرة. "الأعلام" 2/ 54.]]: وإلا فاعلموا أنَّا وأنتم ... بُغاةٌ ما حيينا في شِقَاقِ [[البيت في الكتاب 2/ 156، "معاني الزجاج" 2/ 193.]] رفع أنتم بالنسق على النون والألف، إذ لم يتبين عمل (إن) فيهما، ولو نصب لقال: وإياكم. وقال آخر: يا ليتني وأنتِ بالميسُ ... ببلدةٍ ليس بها أنيسُ [[لم أقف عليه.]] رفع (أنتِ) وهو نسق على الياء إذ لم يتبين فيها الإعراب، وقال آخر: يا ليتنا وهما نخلوا بمنزلة ... حتى يرى بعضنا بعضًا ويأتلف [[لم أقف عليه.]] وأنشدوا أيضًا لضابىء البرجُمي [[هو ضابئ بن الحارث بن أرطأة التميمي البُرجمي شاعر جاهلي أدرك الإسلام ، حبسه عثمان - رضي الله عنه - حتى مات نحو سنة 30 هـ "الأعلام" 3/ 212.]] على هذا المذهب: فمن يكُ أمسى بالمدينة رحلُهُ ... فإني وقَيَّارٌ بها لغريبُ [[البيت في الكتاب 1/ 75، "الإنصاف" لابن الأنباري ص 85.]] هذا كله مذهب الكوفيين، وأنكر البصريون جميع ذلك، أما قول الكسائي فقد ذكرنا وجه بطلانه، وأما قول الفراء: نصب (إن) ضعيف، لأنها إنما تغير الاسم ولا تغير الخبر "فقال أبو إسحاق: هذا غلط، لأن (إن) قد عملت عملين: النصب والرفع، وليس في العربية ناصب ليس معه مرفوع؛ لأن كل منصوب مشبه بالمفعول، والمفعول لا يكون بغير فاعل إلا فيما لم يُسَمَّ فاعله، وكيف يكون نصب (إن) ضعيفًا وهي تتخطى الظروف فتنصب ما بعدها نحو قولك: إن أمامك زيدًا، وإن عندك عمروًا، قال الله تعالى: ﴿إِنَّ فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ﴾ [المائدة: 22] ونصب (إنَّ) من أقوى المنصوبات [["معاني القرآن وإعرابه" 2/ 193.]]، ومذهب الخليل وسيبويه في هذا التقديم والتأخير، ويكون (الصابئون) مرتفعًا بالابتداء، المعنى: "إن الذين آمنوا والذين هادوا من آمن منهم بالله" إلى آخر الآية، والصابئون والنصارى كذلك أيضًا [["معاني القرآن وإعرابه" 2/ 193.]]. إن عبد الله ومحمد قائم، تريد: إن عبد الله قائم ومحمد كذلك أيضًا [[هذا تمثيل، وليس عند الزجاج.]]، وأنشدوا: عقاب عقبناه كأن وظيفها ... وخرطومُها الأعلى بنار مُلَوّح [[لم أقف على قائله.]] أراد كأنَّ وظيفها مُلوِّح وخرطومها كذلك أيضاً، وعلى هذا حملوا أيضًا ما أنشده الكوفيون، أما قول بشر فالمعنى فيه: فاعلموا أنا بغاة ما بغينا في شقاق وأنتم أيضًا كذلك، وكذلك سائر الأبيات. وأما قوله: فإني وقيَّارٌ فإن رواية البصريين: "وقَيَّارًا" بالنصب، وإن رفع كان محمولًا على التقدير الذي ذكرنا، وأما ما أجازه الفراء من قولهم: إنهم أجمعون ذاهبون، فحمله سيبويه على الغلط، وقال: إن قومًا من العرب يغلطون فيقولون إنك وزيدٌ ذاهبان، وإنهم أجمعون منطلقون، فجعله غلطًا [["معاني القرآن وإعرابه" 2/ 193.]]. وحكى أبو بكر بن الأنباري في الآية قولًا رابعًا لأبي عبد الله هشام بن معاوية [[هو أبو عبد الله هشام بن معاوية الكوفي الضرير، نحوي، صحب الكسائي وأخذ عنه كثيرًا من النحو، وله تصانيف، توفي سنة 209 هـ انظر: "الفهرست" ص 105، "معجم المؤلفين" 4/ 64.]]، وهو أن يضمر خبر (إن) ويبتدأ (الصابئون) والتقدير: إن الذين آمنوا والذين هادوا يُرحَمون على قول من قال هم مسلمون، ويعذبون على قول من قال هم كفار، فيحذف الخبر إذا عرف موضعه، كما حذف من قوله: ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جَاءَهُمْ﴾ [فصلت: 41] (والمعنى: إن الذين كفروا بالذكر لما جاءهم) [[ما بين القوسين متكرر في النسختين.]] يعذبون ويعرضون على ربهم، فحذف استغناء بمعرفة المخاطبين به. ثم يرتفع (الصابئون) بمن وما بعدها، ومن حرف جزاء يرتفع بما عاد إليه (من آمن) والفاء جواب الجزاء، وهذا القول قريب من قول البصريين، غير أنهم يضمرون خبر الابتداء، ويجعلون (من آمن) خبر (إن)، وهذا على العكس من ذلك؛ لأنه جعل (من آمن) خبرًا للابتداء وأضمر خبر (إن) [[انظر: "البحر المحيط" 3/ 531 - 533.]].
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب