الباحث القرآني

قوله تعالى: ﴿خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ﴾، الأكثرون من أهل المعاني والتفسير على أن قوله: ﴿مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ﴾ للتأبيد [[الطبري 12/ 117، البغوي 4/ 200، "زاد المسير" 4/ 159، ابن عطية 7/ 401، القرطبي 9/ 99.]] والمراد به خالدين فيها أبدًا. قال الضحاك [[الثعلبي 7/ 56 ب، البغوي 4/ 200، القرطبي 9/ 99.]]: ما دامت سموات الجنة والنار وأرضهما، وكل ما علاك وأظلك فهو سماء، وكل ما استقرت عليه قدمك وثبت فهو أرض. وقال الحسن [[الثعلبي 7/ 56 ب. وأخرج ابن أبي حاتم 6/ 2086، وأبو الشيخ عن الحسن قال: "تبدل سماء غير هذه السماء وأرض غير هذه الأرض، فما دامت تلك السموات وتلك الأرض" "الدر" 3/ 634.]] أراد: ما دامت الآخرة كدوام السماء والأرض في الدنيا. وقال ابن قتيبه [["مشكل القرآن وغريبه" 1/ 213.]]: للعرب في معنى الأبد ألفاظ يستعملونها في كلامهم، يقولون: لا أفعل ذلك ما اختلف الليل والنهار، وما طما البحر، وما أقام الجبل، وما دامت السماء والأرض، في أشباه كثيرة لهذا، يريدون: لا أفعله أبدًا، فخاطبهم الله بما يستعملون. وقال ابن الأنباري [["زاد المسير" 4/ 159.]]: إن الله تعالى خاطب العرب على ما تعقل، ومن ألفاظهم في التأبيد أن يقولوا: لا أفعل ذلك ما دامت السموات والأرض، وما أن السماء سماء، وما بلَّ بحر صوفة [["البيان والتبيين" 3/ 7.]]، وما ناحت الحمام وتغنت، وما أطت الإبل، وما اجترت الناب [[في (ب): (النار).]]، وما لألأت الفور [[في الثعلبي 7/ 57 أ "وما لألأت العُفْر بأذنابها". ويقال "ما لألأت الفوز بأذنابها" أي لا أفعل ذلك ما حركت الظباء أذنابها. انظر: "جمهرة الأمثال" 2/ 281، "اللسان" (لأ لأ، فور)، "سمط اللآلئ" ص 5، وفيه (ما لألأت العفر).]] فلما كانوا يستعملون هذه الألفاظ ظنًّا منهم أن هذه الأشياء لا تتغير، خاطبهم الله على سبيل ذلك فقال تعالى: ﴿خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ﴾ عندكم وليست عندنا دائمة، كما قال -يعني أبا جهل-: ﴿ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ﴾ [الدخان: 49] أي عند نفسك، فأما عندنا فلا. فعلى هذا القول معنى الاستثناء في قوله: ﴿إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ﴾؛ قال الفراء: [["معاني القرآن" 2/ 28.]] هذا استثناء استثناه الله تعالى ولا يفعله، كقولك: والله لأضربنك إلا أن أرى غير ذلك، وعزيمتك على ضربه، فكذلك قال: ﴿خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ﴾، ولا يشاؤه. هذا كلامه وزاده أبو بكر بيانا فقال: يجوز أن يكون الاستثناء ذكره الله تعالى وهو لا يريد أن ينقصهم من الخلود شيئًا، كما يقول الرجل لغلامه: والله لأضربنك إلا أن أرى غير ذلك، وهو لا ينوي إلا ضربه، فمعنى الاستثناء منه أني لو شئت أني لا أضربك لقدرت، غير أني مجمع على ضربك، وكذلك معنى الآية خالدين فيها أبدًا إلا أن يشاء ربك، وهو لا يشاء إلا تخليدهم، فوقع الاستثناء على معنى لو شاء أن لا يخلدهم لقدر، والدليل على أن الاستثناء هاهنا لا يعود إلى [[في (ي): (على).]] نقص الخلود أن الله تعالى بين في مواضع من كتابه أنه يخلد الكافرين في النار، والمؤمنين في الجنة، فإذا ذكر في هذه الآية الاستثناء، كان ذلك استثناء لا يكون ولا يوجد، فجرى مجرى قول العرب: والله لأهجرنك أبدًا [[ساقط من (ب).]] إلا أن يشيب الغراب [[هذا المثل يضرب في الاستحالة، انظر: "المستقصى" 2/ 59، "فصل المقال" 474، 482، "تمثال الأمثال" 422.]]، وهذا الاستثناء لا يفيد نقص شيء من التأبيد؛ لأن الغراب لا يشيب، كذلك الله تعالى [لا يريد أن ينقصهم من الخلود شيئًا بعد أن أخبر به. وهذا القول ذكره أبو إسحاق [["معاني القرآن وإعرابه" 3/ 79.]] في أحد قولي أهل اللغة، وحكى قولا آخر، قال بعضهم]: [[ما بين المعقوفين مطموس في (ب).]] الاستثناء وقع من الخلود بمقدار موقفهم للحساب، المعنى: خالدين فيها أبدًا إلا مقدار موقفهم للحساب. وقال ابن كيسان: الاستثناء وقع بمقدار تعميرهم في الدنيا قبل مصيرهم إلى الجنة والنار، واختاره ابن قتيبة [["مشكل القرآن وغريبه" (1/ 214، "تأويل مشكل القرآن" / 76.]] فقال: خالدين في النار إلا ما شاء ربك من تعميرهم في الدنيا قبل ذلك. وقيل: الاستثناء يعود إلى حبس الفريقين في البرزخ، وهذه الأقوال قريبة من السواء؛ لأنه يمكنك الجمع بينها فتقول: خالدين فيها أبدًا إلا مقدار مكثهم في الدنيا والبرزخ والوقوف للحساب، ثم يصيرون إلى النار أبدًا أو إلى الجنة أبدًا. وقال جماعة [[ذكره الطبري 12/ 120 عن قتادة وأبي سنان، والضحاك، وخالد بن معدان. الثعلبي 7/ 57 أ، البغوي 4/ 250، "زاد المسير" 4/ 160 وعزاه لابن عباس والضحاك.]] من المفسرين: هذا الاستثناء يعود إلى إخراج أهل التوحيد [من النار] [[ساقط من (ي).]] وقدر مدة إدخال مذنبي المسلمين النار، وكأنه قال: خالدين في النار أبدًا إلا ما شاء ربك من [إخراج المذنبين إلى الجنة، وخالدين في الجنة أبدًا إلا ما شاء ربك من] [[ما بين المعقوفين ساقط من (ي).]] إدخال المذنبين النار مدة من المدد ثم يصيرون إلى الجنة، وهذا معنى قول ابن عباس [[الثعلبي 7/ 57 أ، وأخرجه ابن أبي حاتم 6/ 2086، وأبو الشيخ وابن مردويه عن ابن عباس كما في "الدر" 6/ 634، "زاد المسير" 4/ 160.]]، وعلى هذا الاستثناء وقع من الخلود، ولهذا قال: ﴿مَا شَاءَ﴾ ولم يقل من شاء؛ لأن المذنبين من المؤمنين لا يكونون أشقياء، والأشقياء هم الكافرون. قال أبو إسحاق [["معاني القرآن وإعرابه" 3/ 80.]]: ويجوز أن يكون الاستثناء من الزفير والشهيق على أن لهم فيها زفيرًا وشهيقًا إلا ما شاء ربك [من أنواع العذاب الذي لم يذكر، وكذلك لأهل الجنة نعيم مما ذكر ولهم ما لم يذكر ما شاء ربك] [[ما بين المعقوفين ساقط من (ب).]]. هذا كله إذا قلنا إن المراد بقوله ما دامت السموات والأرض التأبيد، [فإذا قلنا ليس المراد به التأبيد، وهو قول ابن عباس؛ لأنه قال في قوله ﴿مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ﴾ [[ما بين المعقوفين ساقط من (ب).]]: من ابتداء كونهما إلى وقت فنائهما [["تنوير المقباس" ص 145، والثعلبي 7/ 56 ب.]]، وهذا لا يدل على التأبيد، لكنه يتبين بما قد حصل طول مدته وتصورت حالة مشاهدته، فكأنه قال: خالدين فيها مدة العالم، وسَهُلَ أمر الاستثناء لأن للسموات والأرضِ وقتا تتغيران فيه عن هيئتهما، يقول الله تعالى: ﴿يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ﴾ [إبراهيم: 48]، فأراد أنهم خالدون فيها مدة العالم، إلا ما شاء ربك من الزيادة المضاعفة لا إلى نهاية، و (إلا) هاهنا تكون بمعنى سوى أو (الواو) كما تقول في الكلام: لك عندي ألف إلا ألفين؛ أي سوى الألفين الذين لك عندي، والمعنى على هذا: خالدين فيها مقدار دوام السموات والأرض سوى ما شاء ربك أن يزيدهم من الخلود على مدة العالم، وهذا أحد قولي الفراء [["معاني القرآن" 2/ 28.]]، واحد قولي أهل اللغة فيما حكاه الزجاج [["معاني القرآن وإعرابه" 3/ 79.]]، وذكرنا في مواضع من هذا الكتاب كون (إلا) بمعنى الواو وبمعنى سوى [[ذهب الكوفيون وعلى رأسهم الفراء وثعلب -كما ذكر أبو حيان- ومن تبعهم كأبي عبيدة والأخفش والهروي وابن فارس والجرجاني وبعض أصحاب المعاجم كالجوهري وابن منظور والفيروزآبادي إلى أن (إلا) تأتي بمعنى الواو العاطفة، واحتجوا بكثرة مجيئه في كتاب الله وكلام العرب. وذهب البصريون ومن تبعهم كالطبري ومكي القيسي وأبي البركات الأنباري وابن مالك والمالقي والمرادي وابن عقيل وابن القيم إلى أن (إلا) لا تأتي بمعنى الواو، وعللوا صحة ما ذهبوا إليه بأمرين: أحدهما: أن الأصل أن ينفرد كل حرف بمعنى، ولا يقع حرف بمعنيين؛ لما في ذلك من الاشتراك الملبس، وما صح منه عن العرب يقتصر عليه، ولا يقاس. الثاني: أن (إلا) للاستثناء، وهو إخراج الثاني من حكم الأول، والواو للجميع، وهو يقتضي إدخال الثاني في حكم الأول، فلا يكون أحدهما بمعنى الآخر؛ لأن المعنيين متباينان. وأجابوا عما احتج به الكوفيون من الآيات والأبيات بأنها جميعًا محمولة على الاستثناء المنقطع. == ورجح أبو حيان مذهب البصريين، قال: وإثبات (إلا) بمعنى الواو لا يقوم عليه دليل والاستثناء سائغ فيما ادُّعي فيه أن (إلا) بمعنى (الواو). راجع: "الإنصاف" 1/ 266 - 272، "البيان في غريب إعراب القرآن" 2/ 219، "معاني القرآن" للفراء 1/ 89 - 90، 2/ 287 - 288، "مجاز القرآن" 1/ 60، "البحر المحيط" 1/ 442، "معاني القرآن" للأخفش 1/ 152، "التبيين" 403، "الصحاح" (إلا) 6/ 2545، "لسان العرب" (إلا) 1/ 104، "القاموس المحيط" (إلا) 962، "معاني الحروف" / 128، "سر صناعة الإعراب" 1/ 303، "بدائع الفوائد" 3/ 70 - 71.]]. قال النحويون: إذا استثنينا [[في (ي): (استثنى).]] زائدًا من ناقص لحق بالأول، كما لو قال: لك عندي ألف إلا الألفين، فقد أقر بثلاثة الآلاف لأنه استثنى زائدًا من ناقص، ومعنى (إلا) هاهنا كمعنى الواو، وكذلك في الآية، الذي يشاؤه [[في (ب): (يشاء).]] الله من الخلود أكثر من مدة كون السموات والأرض، وكأن المعنى ما دامت السموات والأرض وما شاء ربك مما يريد إلى ما لا يتناهى [[قال القرافي -بعد أن ذكر الأقوال الذي الاستثناء في هذه الآية-: وهذه كلها أقوال لا حاجة إليها ولا ضرورة، بل الاستثناء صحيح على بابه لمقتضى ظاهر اللفظ، وأنه ما تقدم من الدوام قبل الدخول هذا كله إذا قلنا سموات الدنيا وأرضها، وإن قلنا سموات الجنة وأرضها وسماء النار وأرضها فهي تدوم لا إشكاك في الدوام. أ. هـ "الاستغناء في معنى الاستثناء" /420.]]، وقوله تعالى: ﴿إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ﴾، قال ابن عباس في رواية عطاء: يريد من إخراج أهل التوحيد من النار.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب