الباحث القرآني

﴿لَقَدْ خَلَقْنا الإنْسانَ في كَبَدٍ﴾ هَذِهِ الجُمْلَةُ المُقْسَمُ عَلَيْها، والجُمْهُورُ: عَلى أنَّ الإنْسانَ اسْمُ جِنْسٍ، وفي كَبَدٍ: يُكابِدُ مَشاقَّ الدُّنْيا والآخِرَةِ، ومَشاقُّهُ لا تَكادُ تَنْحَصِرُ مِن أوَّلِ قَطْعِ سُرَّتِهِ إلى أنْ يَسْتَقِرَّ قَرارَهُ إمّا في جَنَّةٍ فَتَزُولُ عَنْهُ المَشَقّاتُ، وإمّا في نارٍ فَتَتَضاعَفُ مَشَقّاتُهُ وشَدائِدُهُ، وقالَ ابْنُ عَبّاسٍ، وعَبْدُ اللَّهِ بْنُ شَدّادٍ، وأبُو صالِحٍ، والضَّحّاكُ، ومُجاهِدٌ: ﴿فِي كَبَدٍ﴾ مَعْناهُ: مُنْتَصِبَ القامَةِ واقِفًا، ولَمْ يُخْلَقْ مُنْكَبًّا عَلى وجْهِهِ، وهَذا امْتِنانٌ عَلَيْهِ، وقالَ ابْنُ كَيْسانَ: مُنْتَصِبًا رَأْسُهُ في بَطْنِ أُمِّهِ، فَإذا أذِنَ لَهُ بِالخُرُوجِ، قَلَبَ رَأْسَهُ إلى قَدَمَيْ أُمِّهِ. وعَنِ ابْنِ عُمَرَ: يُكابِدُ الشُّكْرَ عَلى السَّرّاءِ، ويُكابِدُ الصَّبْرَ عَلى الضَّرّاءِ. وقالَ ابْنُ زَيْدٍ: (الإنْسانَ) آدَمُ ﴿فِي كَبَدٍ﴾ في السَّماءِ سَمّاها كَبَدًا، وهَذِهِ الأقْوالُ ضَعِيفَةٌ، والأوَّلُ هو الظّاهِرُ، والظّاهِرُ أنَّ الضَّمِيرَ في (أيَحْسَبُ) عائِدٌ عَلى (الإنْسانَ) أيْ هو لِشِدَّةِ شَكِيمَتِهِ وعِزَّتِهِ وقُوَّتِهِ يَحْسَبُ أنْ لا يُقاوِمَهُ أحَدٌ، ولا يَقْدِرَ عَلَيْهِ أحَدٌ لِاسْتِعْصامِهِ بِعَدَدِهِ وعُدَدِهِ، يَقُولُ عَلى سَبِيلِ الفَخْرِ: ﴿أهْلَكْتُ مالًا لُبَدًا﴾ أيْ في المَكارِمِ وما يَحْصُلُ بِهِ الثَّناءُ، أيَحْسَبُ أنَّ أعْمالَهُ تَخْفى، وأنَّهُ لا يَراهُ أحَدٌ، ولا يَطَّلِعُ عَلَيْهِ في إنْفاقِهِ ومَقْصِدِ ما يَبْتَغِيهِ مِمّا لَيْسَ لِوَجْهِ اللَّهِ مِنهُ شَيْءٌ ؟ بَلْ عَلَيْهِ حَفَظَةٌ يَكْتُبُونَ ما يَصْدُرُ مِنهُ مِن عَمَلٍ في حَياتِهِ ويُحْصُونَهُ إلى يَوْمِ الجَزاءِ، وقِيلَ: الضَّمِيرُ في (أيَحْسَبُ) لِبَعْضِ صَنادِيدِ قُرَيْشٍ، وقِيلَ: هو أبُو الأسَدِ أُسَيْدُ بْنُ كَلَدَةَ، كانَ يُبْسَطُ لَهُ الأدِيمُ العُكاظِيُّ، فَيَقُومُ عَلَيْهِ ويَقُولُ: مَن أزالَنِي عَنْهُ فَلَهُ كَذا، فَلا يُنْزَعُ إلّا قِطَعًا، ويَبْقى مَوْضِعُ قَدَمَيْهِ، وقِيلَ: الوَلِيدُ بْنُ المُغِيرَةِ. وقِيلَ: الحَرْثُ بْنُ عامِرِ بْنِ نَوْفَلٍ، وكانَ إذا أذْنَبَ اسْتَفْتى النَّبِيَّ، ﷺ، فَيَأْمُرُهُ بِالكَفّارَةِ، فَقالَ: لَقَدْ أهْلَكْتُ مالًا لُبَدًا في الكَفّاراتِ والتَّبِعاتِ مُنْذُ تَبِعْتُ مُحَمَّدًا ﷺ، وقَرَأ (p-٤٧٦)الجُمْهُورُ: لُبَدًا، بِضَمِّ اللّامِ وفَتْحِ الباءِ، وأبُو جَعْفَرٍ: بِشَدِّ الباءِ، وعَنْهُ وعَنْ زَيْدِ بْنِ عَلِيٍّ: (لُبْدًا) بِسُكُونِ الباءِ، ومُجاهِدٌ وابْنُ أبِي الزِّنادِ: بِضَمِّهِما. ثُمَّ عَدَّدَ تَعالى عَلى الإنْسانِ نِعَمَهُ فَقالَ: ﴿ألَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ﴾ يُبْصِرُ بِهِما (ولِسانًا) يُفْصِحُ عَمّا في باطِنِهِ (وشَفَتَيْنِ) يُطْبِقُهُما عَلى فِيهِ ويَسْتَعِينُ بِهِما عَلى الأكْلِ والشُّرْبِ والنَّفْخِ وغَيْرِ ذَلِكَ. ﴿وهَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ﴾ قالَ ابْنُ مَسْعُودٍ، وابْنُ عَبّاسٍ والجُمْهُورُ: طَرِيقَ الخَيْرِ والشَّرِّ، وقالَ ابْنُ عَبّاسٍ أيْضًا، وعَلِيٌّ، وابْنُ المُسَيَّبِ والضَّحّاكُ: الثَّدْيَيْنِ، لِأنَّهُما كالطَّرِيقَيْنِ لِحَياةِ الوَلَدِ ورِزْقِهِ. ﴿فَلا اقْتَحَمَ العَقَبَةَ﴾ أيْ لَمْ يَشْكُرْ تِلْكَ النِّعَمَ السّابِقَةَ، والعَقَبَةُ اسْتِعارَةٌ لِهَذا العَمَلِ الشّاقِّ عَلى النَّفْسِ مِن حَيْثُ هو بَذْلُ مالٍ، تَشْبِيهٌ بِعَقَبَةِ الجَبَلِ، وهو ما صَعُبَ مِنهُ، وكانَ صَعُودًا، فَإنَّهُ يَلْحَقُهُ مَشَقَّةٌ في سُلُوكِها. واقْتَحَمَها: دَخَلَها بِسُرْعَةٍ وضَغْطٍ وشِدَّةٍ، والقُحْمَةُ: الشِّدَّةُ والسَّنَةُ الشَّدِيدَةُ. ويُقالُ: قَحَمَ في الأمْرِ قُحُومًا: رَمى نَفْسَهُ فِيهِ مِن غَيْرِ رَوِيَّةٍ، والظّاهِرُ أنَّ لا لِلنَّفْيِ، وهو قَوْلُ أبِي عُبَيْدَةَ، والفَرّاءِ، والزَّجّاجِ كَأنَّهُ قالَ: وهَبْنا لَهُ الجَوارِحَ ودَلَلْناهُ عَلى السَّبِيلِ، فَما فَعَلَ خَيْرًا، أيْ فَلَمْ يَقْتَحِمْ، قالَ الفَرّاءُ والزَّجّاجُ: ذَكَرَ لا مَرَّةً واحِدَةً، والعَرَبُ لا تَكادُ تُفْرِدُ لا مَعَ الفِعْلِ الماضِي حَتّى تُعِيدَ، كَقَوْلِهِ تَعالى: ﴿فَلا صَدَّقَ ولا صَلّى﴾ [القيامة: ٣١]، وإنَّما أفْرَدَها لِدَلالَةِ آخِرِ الكَلامِ عَلى مَعْناهُ، فَيَجُوزُ أنْ يَكُونَ قَوْلُهُ: ﴿ثُمَّ كانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا﴾، قائِمًا مَقامَ التَّكْرِيرِ، كَأنَّهُ قالَ: فَلا اقْتَحَمَ العَقَبَةَ ولا آمَنَ، وقِيلَ: هو جارٍ مَجْرى الدُّعاءِ، كَقَوْلِهِ: لا نَجا ولا سَلِمَ، دُعاءٌ عَلَيْهِ أنْ لا يَفْعَلَ خَيْرًا. وقِيلَ: هو تَحْضِيضٌ بِلا، ولا نَعْرِفُ أنَّ لا وحْدَها تَكُونُ لِلتَّحْضِيضِ، ولَيْسَ مَعَها الهَمْزَةُ، وقِيلَ: العَقَبَةُ: جَهَنَّمُ، لا يُنْجِي مِنها إلّا هَذِهِ الأعْمالُ، قالَهُ الحَسَنُ، وقالَ ابْنُ عَبّاسٍ، ومُجاهِدٌ وكَعْبٌ: جَبَلٌ في جَهَنَّمَ، وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ بَعْدَ أنْ تَنَحَّلَ مُقالَةَ الفَرّاءِ والزَّجّاجِ: هي بِمَعْنى لا مُتَكَرِّرَةً في المَعْنى، لِأنَّ مَعْنى ﴿فَلا اقْتَحَمَ العَقَبَةَ﴾ فَلا فَكَّ رَقَبَةً ولا أطْعَمَ مِسْكِينًا، ألا تَرى أنَّهُ فَسَّرَ اقْتِحامَ العَقَبَةِ بِذَلِكَ ؟ انْتَهى. ولا يَتِمُّ لَهُ هَذا إلّا عَلى قِراءَةِ مَن قَرَأ فَكَّ فِعْلًا ماضِيًا. وقَرَأ ابْنُ كَثِيرٍ والنَّحْوِيّانِ (فَكَّ) فِعْلًا ماضِيًا، (رَقَبَةً) نُصِبَ، أوْ أطْعَمَ فِعْلًا ماضِيًا، وباقِي السَّبْعَةِ: (فَكُّ) مَرْفُوعًا، (رَقَبَةٍ) مَجْرُورًا، و(إطْعامٌ) مَصْدَرٌ مُنَوَّنٌ مَعْطُوفٌ عَلى (فَكُّ)، وقَرَأ عَلِيٌّ وأبُو رَجاءٍ كَقِراءَةِ ابْنِ كَثِيرٍ، إلّا أنَّهُما قَرَآ: ذا مَسْغَبَةٍ بِالألِفِ، وقَرَأ الحَسَنُ وأبُو رَجاءٍ أيْضًا: (أوْ إطْعامٌ في يَوْمٍ ذا) بِالألِفِ، ونَصْبِ (ذا) عَلى المَفْعُولِ، أيْ إنْسانًا ذا مَسْغَبَةٍ، ”ويَتِيمًا“ بَدَلٌ مِنهُ أوْ صِفَةٌ، وقَرَأ بَعْضُ التّابِعِينَ: (فَكُّ رَقَبَةٍ) بِالإضافَةِ (أوْ أطْعَمَ) فِعْلًا ماضِيًا، ومَن قَرَأ (فَكُّ) بِالرَّفْعِ، فَهو تَفْسِيرٌ لِاقْتِحامِ العَقَبَةِ، والتَّقْدِيرُ: وما أدْراكَ ما اقْتِحامُ العَقَبَةِ، ومَن قَرَأ فِعْلًا ماضِيًا، فَلا يَحْتاجُ إلى تَقْدِيرِ مُضافٍ، بَلْ يَكُونُ التَّعْظِيمُ لِلْعَقَبَةِ نَفْسِها، ويَجِيءُ ”فَكَّ“ بَدَلًا مِنِ اقْتَحَمَ، قالَهُ ابْنُ عَطِيَّةَ، وفَكُّ الرَّقَبَةِ: تَخْلِيصُها مِنَ الأسْرِ والرِّقِّ ﴿ذا مَقْرَبَةٍ﴾ لِيَجْتَمِعَ صَدَقَةٌ وصِلَةٌ، وأوْ هُنا لِلتَّنْوِيعِ، ووَصْفُ يَوْمٍ بِذِي مَسْغَبَةٍ عَلى الِاتِّساعِ. ﴿ذا مَتْرَبَةٍ﴾ قالَ: هُمُ المَطْرُوحُونَ عَلى ظَهْرِ الطَّرِيقِ قُعُودًا عَلى التُّرابِ، لا بُيُوتَ لَهم، وقالَ ابْنُ عَبّاسٍ: هو الَّذِي يَخْرُجُ مِن بَيْتِهِ، ثُمَّ يُقَلِّبُ وجْهَهُ إلَيْهِ مُسْتَيْقِنًا أنَّهُ لَيْسَ فِيهِ إلّا التُّرابُ ﴿ثُمَّ كانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا﴾ هَذا مَعْطُوفٌ عَلى قَوْلِهِ: ﴿فَلا اقْتَحَمَ﴾، ودَخَلَتْ ثُمَّ لِتَراخِي الإيمانِ والفَضِيلَةِ، لا لِلتَّراخِي في الزَّمانِ؛ لِأنَّهُ لا بُدَّ أنْ يَسْبِقَ تِلْكَ الأعْمالَ الحَسَنَةَ الإيمانُ، إذْ هو شَرْطٌ في صِحَّةِ وُقُوعِها مِنَ الطّائِعِ، أوْ يَكُونُ المَعْنى: ثُمَّ كانَ في عاقِبَةِ أمْرِهِ مِنَ الَّذِينَ وافَوُا المَوْتَ عَلى الإيمانِ، إذِ المُوافاةُ عَلَيْهِ شَرْطٌ في الِانْتِفاعِ بِالطّاعاتِ، أوْ يَكُونُ التَّراخِي في الذِّكْرِ كَأنَّهُ قِيلَ: ثُمَّ اذْكُرْ أنَّهُ كانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا ﴿وتَواصَوْا بِالصَّبْرِ﴾ أيْ أوْصى بَعْضُهم بَعْضًا بِالصَّبْرِ عَلى الإيمانِ والطّاعاتِ وعَنِ المَعاصِي ﴿وتَواصَوْا بِالمَرْحَمَةِ﴾ أيْ بِالتَّعاطُفِ والتَّراحُمِ، أوْ بِما يُؤَدِّي إلى رَحْمَةِ اللَّهِ، والمَيْمَنَةُ والمَشْأمَةُ تَقَدَّمَ القَوْلِ فِيهِما في الواقِعَةِ، وقَرَأ أبُو عَمْرٍو، وحَمْزَةُ، وحَفْصٌ: (مُؤْصَدَةٌ) بِالهَمْزِ هُنا وفي الهُمَزَةِ، فَيَظْهَرُ أنَّهُ مِن آصَدْتُ (p-٤٧٧)قِيلَ: ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ مِن أوْصَدْتُ، وهَمَزَ عَلى حَدِّ مَن قَرَأ بِالسُّؤْقِ مَهْمُوزًا. وقَرَأ باقِي السَّبْعَةِ بِغَيْرِ هَمْزٍ، فَيَظْهَرُ أنَّهُ مِن أوْصَدْتُ، وقِيلَ: يَجُوزُ أنْ يَكُونَ مِن آصَدْتُ، وسَهَّلَ الهَمْزَةَ، وقالَ الشّاعِرُ: قَوْمًا تُعالِجُ قُمَّلًا أبْناؤُهم وسَلاسِلًا حِلَقًا وبابًا مُؤْصَدا
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب