الباحث القرآني

قَوْلُهُ تَعالى: ﴿أيَحْسَبُ أنْ لَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ أحَدٌ﴾ اعْلَمْ أنّا إنْ فَسَّرْنا الكَبَدَ بِالشِّدَّةِ في القُوَّةِ، فالمَعْنى أيَحْسَبُ ذَلِكَ الإنْسانُ الشَّدِيدُ أنَّهُ لِشِدَّتِهِ لا يَقْدِرُ عَلَيْهِ أحَدٌ، وإنْ فَسَّرْنا المِحْنَةَ والبَلاءَ كانَ المَعْنى تَسْهِيلَ ذَلِكَ عَلى القَلْبِ، كَأنَّهُ يَقُولُ: وهَبْ أنَّ الإنْسانَ كانَ في النِّعْمَةِ والقُدْرَةِ، أفَيَظُنُّ أنَّهُ في تِلْكَ الحالَةِ لا يَقْدِرُ عَلَيْهِ أحَدٌ ؟ ثُمَّ اخْتَلَفُوا فَقالَ بَعْضُهم: لَنْ يَقْدِرَ عَلى بَعْثِهِ ومُجازاتِهِ فَكَأنَّهُ خِطابٌ مَعَ مَن أنْكَرَ البَعْثَ، وقالَ آخَرُونَ: المُرادُ لَنْ يَقْدِرَ عَلى تَغْيِيرِ أحْوالِهِ ظَنًّا مِنهُ أنَّهُ قَوِيٌّ عَلى الأُمُورِ لا يُدافِعُ عَنْ مُرادِهِ، وقَوْلُهُ: ﴿أيَحْسَبُ﴾ اسْتِفْهامٌ عَلى سَبِيلِ الإنْكارِ. قَوْلُهُ تَعالى: ﴿يَقُولُ أهْلَكْتُ مالًا لُبَدًا﴾ قالَ أبُو عُبَيْدَةَ: لَبَدَ، فِعْلٌ مِنَ التَّلْبِيدِ وهو المالُ الكَثِيرُ بَعْضُهُ عَلى بَعْضٍ، قالَ الزَّجّاجُ: فِعْلٌ لِلْكَثْرَةِ يُقالُ رَجُلٌ حُطَمٌ إذا كانَ كَثِيرَ الحَطْمِ، قالَ الفَرّاءُ: واحِدَتُهُ لُبْدَةٌ، ولُبَدٌ جَمْعٌ وجَعَلَهُ بَعْضُهم واحِدًا، ونَظِيرُهُ قُسَمٌ وحُطَمٌ وهو في الوَجْهَيْنِ جَمِيعًا الكَثِيرُ، قالَ اللَّيْثَ: مالٌ لُبَدٌ لا يُخافُ فَناؤُهُ مِن كَثْرَتِهِ. وقَدْ ذَكَرْنا تَفْسِيرَ هَذا الحَرْفِ عِنْدَ قَوْلِهِ: ﴿يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَدًا﴾ [الجن: ١٩] والمَعْنى أنَّ هَذا الكافِرَ يَقُولُ: أهْلَكْتُ في عَداوَةِ مُحَمَّدٍ مالًا كَثِيرًا، والمُرادُ كَثْرَةُ ما أنْفَقَهُ فِيما كانَ أهْلُ الجاهِلِيَّةِ يُسَمُّونَهُ مَكارِمَ، ويَدَّعُونَهُ مَعالِيَ ومَفاخِرَ. * * * ثُمَّ قالَ تَعالى: ﴿أيَحْسَبُ أنْ لَمْ يَرَهُ أحَدٌ﴾ فِيهِ وجْهانِ: الأوَّلُ: قالَ قَتادَةُ: أيَظُنُّ أنَّ اللَّهَ لَمْ يَرَهُ ولَمْ يَسْألْهُ عَنْ مالِهِ مِن أيْنَ اكْتَسَبَهُ وفِيمَ أنْفَقَهُ. الثّانِي: قالَ الكَلْبِيُّ: كانَ كاذِبًا لَمْ يُنْفِقْ شَيْئًا، فَقالَ اللَّهُ تَعالى: أيَظُنُّ أنَّ اللَّهَ تَعالى ما رَأى ذَلِكَ مِنهُ، فَعَلَ أوْ لَمْ يَفْعَلْ، أنْفَقَ أوْ لَمْ يُنْفِقْ، بَلْ رَآهُ وعَلِمَ مِنهُ خِلافَ ما قالَ. واعْلَمْ أنَّهُ تَعالى لَمّا حَكى عَنْ ذَلِكَ الكافِرِ قَوْلَهُ: ﴿أيَحْسَبُ أنْ لَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ أحَدٌ﴾ أقامَ الدَّلالَةَ عَلى كَمالِ قُدْرَتِهِ فَقالَ تَعالى: ﴿ألَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ﴾ ﴿ولِسانًا وشَفَتَيْنِ﴾ ﴿وهَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ﴾ وعَجائِبُ هَذِهِ الأعْضاءِ مَذْكُورَةٌ في كُتُبِ التَّشْرِيحِ، قالَ أهْلُ العَرَبِيَّةِ: النَّجْدُ الطَّرِيقُ في ارْتِفاعٍ فَكَأنَّهُ لَمّا وضَحَتِ الدَّلائِلُ جُعِلَتْ كالطَّرِيقِ المُرْتَفِعَةِ العالِيَةِ بِسَبَبِ أنَّها واضِحَةٌ لِلْعُقُولِ كَوُضُوحِ الطَّرِيقِ العالِي لِلْأبْصارِ، وإلى هَذا التَّأْوِيلِ ذَهَبَ عامَّةُ المُفَسِّرِينَ في النَّجْدَيْنِ وهو أنَّهُما سَبِيلا الخَيْرِ والشَّرِّ، وعَنْ أبِي هُرَيْرَةَ أنَّهُ عَلَيْهِ السَّلامُ قالَ: «إنَّما هُما النَّجْدانِ، نَجْدُ الخَيْرِ ونَجْدُ الشَّرِّ، ولا يَكُونُ نَجْدُ الشَّرِّ أحَبَّ إلى أحَدِكم مَن نَجْدِ الخَيْرِ» ”وهَذِهِ الآيَةُ كالآيَةِ في: ﴿هَلْ أتى عَلى الإنْسانِ﴾ [الإنسان: ١] إلى قَوْلِهِ: ﴿فَجَعَلْناهُ سَمِيعًا بَصِيرًا﴾ ﴿إنّا هَدَيْناهُ السَّبِيلَ إمّا شاكِرًا﴾ (p-١٦٧)﴿وإمّا كَفُورًا﴾ [الإنسان: ١] . وقالَ الحَسَنُ: قالَ: ﴿أهْلَكْتُ مالًا لُبَدًا﴾ فَمَنِ الَّذِي يُحاسِبُنِي عَلَيْهِ ؟ فَقِيلَ: الَّذِي قَدَرَ عَلى أنْ يَخْلُقَ لَكَ هَذِهِ الأعْضاءَ قادِرٌ عَلى مُحاسَبَتِكَ، ورُوِي عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ وسَعِيدِ بْنِ المُسَيَّبِ، أنَّهُما الثَّدْيانِ، ومَن قالَ ذَلِكَ ذَهَبَ إلى أنَّهُما كالطَّرِيقَيْنِ لِحَياةِ الوَلَدِ ورِزْقِهِ، واللَّهُ تَعالى هَدى الطِّفْلَ الصَّغِيرَ حَتّى ارْتَضَعَها، قالَ القَفّالُ: والتَّأْوِيلُ هو الأوَّلُ، ثُمَّ قَرَّرَ وجْهَ الِاسْتِدْلالِ بِهِ فَقالَ: إنَّ مَن قَدَرَ عَلى أنْ يَخْلُقَ مِنَ الماءِ المَهِينِ قَلْبًا عَقُولًا ولِسانًا قَؤُولًا، فَهو عَلى إهْلاكِ ما خَلَقَ قادِرٌ، وبِما يُخْفِيهِ المَخْلُوقُ عالِمٌ، فَما العُذْرُ في الذَّهابِ عَنْ هَذا مَعَ وُضُوحِهِ وما الحُجَّةُ في الكُفْرِ بِاللَّهِ مِن تَظاهُرِ نِعَمِهِ، وما العِلَّةُ في التَّعْزِيزِ عَلى اللَّهِ وعَلى أنْصارِ دِينِهِ بِالمالِ وهو المُعْطِي لَهُ، وهو المُمْكِنُ مِنَ الِانْتِفاعِ بِهِ. ثُمَّ إنَّهُ سُبْحانَهُ وتَعالى دَلَّ عِبادَهُ عَلى الوُجُوهِ الفاضِلَةِ الَّتِي تُنْفَقُ فِيها الأمْوالُ، وعَرَّفَ هَذا الكافِرَ أنَّ إنْفاقَهُ كانَ فاسِدًا وغَيْرَ مُفِيدٍ، فَقالَ تَعالى: ﴿فَلا اقْتَحَمَ العَقَبَةَ﴾ وفِيهِ مَسائِلُ: * * * المَسْألَةُ الأُولى: الِاقْتِحامُ الدُّخُولُ في الأمْرِ الشَّدِيدِ يُقالُ: قَحَمَ يَقْحَمُ قُحُومًا، واقْتَحَمَ اقْتِحامًا وتَقَحَّمَ تَقَحُّمًا إذا رَكِبَ القُحَمَ، وهي المَهالِكُ والأُمُورُ العِظامُ والعَقَبَةُ طَرِيقٌ في الجَبَلِ وعْرٌ، الجَمْعُ العُقَبُ والعُقابُ، ثُمَّ ذَكَرَ المُفَسِّرُونَ في العَقَبَةِ هَهُنا وجْهَيْنِ: الأوَّلُ: أنَّها في الآخِرَةِ وقالَ عَطاءٌ: يُرِيدُ عَقَبَةَ جَهَنَّمَ، وقالَ الكَلْبِيُّ: هي عَقَبَةٌ بَيْنَ الجَنَّةِ والنّارِ، وقالَ ابْنُ عُمَرَ: هي جَبَلٌ زُلالٌ في جُهْنى وقالَ مُجاهِدٌ والضِّحاكُ: هي الصِّراطُ يُضْرَبُ عَلى جَهَنَّمَ، وهو مَعْنى قَوْلِ الكَلْبِيِّ: إنَّها عَقَبَةُ الجَنَّةِ والنّارِ، قالَ الواحِدِيُّ: وهَذا تَفْسِيرٌ فِيهِ نَظَرٌ لِأنَّ مِنَ المَعْلُومِ أنَّ [ بَنِي ] هَذا الإنْسانِ وغَيْرِهِ لَمْ يَقْتَحِمُوا عَقَبَةَ جَهَنَّمَ ولا جاوَزُوها، فَحَمْلُ الآيَةِ عَلَيْهِ يَكُونُ إيضاحًا لِلْواضِحاتِ، ويَدُلُّ عَلَيْهِ أنَّهُ لَمّا قالَ: ﴿وما أدْراكَ ما العَقَبَةُ﴾ فَسَّرَهُ بِفَكِّ الرَّقَبَةِ وبِالإطْعامِ. الوَجْهُ الثّانِي: في تَفْسِيرِ العَقَبَةِ هو أنَّ ذِكْرَ العَقَبَةِ هَهُنا مَثَلٌ ضَرَبَهُ اللَّهُ لِمُجاهَدَةِ النَّفْسِ والشَّيْطانِ في أعْمالِ البِرِّ، وهو قَوْلُ الحَسَنِ ومُقاتِلٍ: قالَ الحَسَنُ عَقَبَةُ اللَّهِ شَدِيدَةٌ وهي مُجاهَدَةُ الإنْسانِ نَفْسَهُ وهَواهُ وعَدُوَّهُ مِن شَياطِينِ الإنْسِ والجِنِّ، وأقُولُ هَذا التَّفْسِيرُ هو الحَقُّ لِأنَّ الإنْسانَ يُرِيدُ أنْ يَتَرَقّى مِن عالَمِ الحِسِّ والخَيالِ إلى يَفاعِ عالَمِ الأنْوارِ الإلَهِيَّةِ ولا شَكَّ أنَّ بَيْنَهُ وبَيْنَها عَقَباتٍ سامِيَةً دُونَها صَواعِقُ حامِيَةٌ، ومُجاوَزَتُها صَعْبَةٌ والتَّرَقِّي إلَيْها شَدِيدٌ. المَسْألَةُ الثّانِيَةُ: أنَّ في الآيَةِ إشْكالًا وهو أنَّهُ قَلَّما تُوجَدُ“ لا ”الدّاخِلَةُ عَلى المُضِيِّ إلّا مُكَرَّرَةً، تَقُولُ: لا جَنَّبَنِي ولا بَعَّدَنِيِّ قالَ تَعالى: ﴿فَلا صَدَّقَ ولا صَلّى﴾ [القيامة: ٣١] وفي هَذِهِ الآيَةِ ما جاءَ التَّكْرِيرُ فَما السَّبَبُ فِيهِ ؟ أُجِيبَ عَنْهُ مِن وُجُوهٍ: الأوَّلُ: قالَ الزَّجّاجُ: إنَّها مُتَكَرِّرَةٌ في المَعْنى لِأنَّ مَعْنى ﴿فَلا اقْتَحَمَ العَقَبَةَ﴾ فَلا فَكَّ رَقَبَةً ولا أطْعَمَ مِسْكِينًا، ألا تَرى أنَّهُ فَسَّرَ اقْتِحامَ العَقَبَةِ بِذَلِكَ، وقَوْلُهُ: ﴿ثُمَّ كانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا﴾ يَدُلُّ أيْضًا عَلى مَعْنى ﴿فَلا اقْتَحَمَ العَقَبَةَ﴾ ولا آمَنَ. الثّانِي: قالَ أبُو عَلِيٍّ الفارِسِيُّ: مَعْنى ﴿فَلا اقْتَحَمَ العَقَبَةَ﴾ لَمْ يَقْتَحِمْها، وإذا كانَتْ“ لا ”بِمَعْنى“ لَمْ ”كانَ التَّكْرِيرُ غَيْرَ واجِبٍ كَما لا يَجِبُ التَّكْرِيرُ مَعَ“ لَمْ ”، فَإنْ تَكَرَّرَتْ في مَوْضِعٍ نَحْوَ ﴿فَلا صَدَّقَ ولا صَلّى﴾ فَهو كَتَكَرُّرِ“ ولَمْ ": نَحْوَ ﴿لَمْ يُسْرِفُوا ولَمْ يَقْتُرُوا﴾ [الفرقان: ٦٧] . المَسْألَةُ الثّالِثَةُ: قالَ القَفّالُ: قَوْلُهُ: ﴿فَلا اقْتَحَمَ العَقَبَةَ﴾ أيْ هَلّا أنْفَقَ مالَهُ فِيما فِيهِ اقْتِحامُ العَقَبَةِ ؟ وأمّا الباقُونَ فَإنَّهم أجْرَوُا اللَّفْظَ عَلى ظاهِرِهِ وهو الإخْبارُ بِأنَّهُ ما اقْتَحَمَ العَقَبَةَ. (p-١٦٨)
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب