الباحث القرآني

﴿اشْتَرَوْا بِآياتِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِهِ إنَّهم ساءَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ﴾ (p-١٤)الظّاهِرُ عَوْدُ الضَّمِيرِ عَلى مَن قَبْلَهُ مِنَ المُشْرِكِينَ المَأْمُورِ بِقَتْلِهِمْ، ويَكُونُ المَعْنى: اشْتَرَوْا بِالقُرْآنِ وما يَدْعُو إلَيْهِ مِنَ الإسْلامِ ثَمَنًا قَلِيلًا، وهو اتِّباعُ الشَّهَواتِ والأهْواءِ لَمّا تَرَكَتْ دِينَ اللَّهِ وآثَرَتِ الكُفْرَ، كانَ ذَلِكَ كالشِّراءِ والبَيْعِ. وقالَ مُجاهِدٌ: هُمُ الأعْرابُ الَّذِينَ جَمَعَهم أبُو سُفْيانَ عَلى طَعامِهِ. وقالَ أبُو صالِحٍ: هم قَوْمٌ مِنَ اليَهُودِ، وآياتُ اللَّهِ التَّوْراةُ. وقالَ ابْنُ عَبّاسٍ: هم أهْلُ الطّائِفِ كانُوا يَمُدُّونَ النّاسَ بِالأمْوالِ يَمْنَعُونَهم مِنَ الدُّخُولِ في الإسْلامِ، فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِهِ؛ أيْ صَرَفُوا أنْفُسَهم عَنْ دِينِ اللَّهِ وعَدَلُوا عَنْهُ. والظّاهِرُ أنَّ (ساءَ) هُنا مُحَوَّلَةٌ إلى فِعْلٍ. ومَذْهَبُ بابِها مَذْهَبُ بِئْسَ، ويَجُوزُ إقْرارُها عَلى وصْفِها الأوَّلِ، فَتَكُونُ مُتَعَدِّيَةً؛ أيْ: أنَّهم ساءَهم ما كانُوا يَعْمَلُونَ، فَحُذِفَ المَفْهُومُ لِفَهْمِ المَعْنى. ﴿لا يَرْقُبُونَ في مُؤْمِنٍ إلًّا ولا ذِمَّةً وأُولَئِكَ هُمُ المُعْتَدُونَ﴾ هَذا تَنْبِيهٌ عَلى الوَصْفِ المُوجِبِ لِلْعَداوَةِ وهو الإيمانُ، ولَمّا كانَ قَوْلُهُ: ﴿لا يَرْقُبُوا فِيكُمْ﴾ [التوبة: ٨] يُتَوَهَّمُ أنَّ ذَلِكَ مَخْصُوصٌ بِالمُخاطَبِينَ، نَبَّهَ عَلى عِلَّةِ ذَلِكَ، وأنَّ سَبَبَ المُنافاةِ هو الإيمانُ، (وأُولَئِكَ)؛ أيِ الجامِعُونَ لِتِلْكَ الأوْصافِ الذَّمِيمَةِ (هُمُ المُعْتَدُونَ)؛ المُجاوِزُونَ الحَدَّ في الظُّلْمِ والشَّرِّ ونَقْضِ العَهْدِ. ﴿فَإنْ تابُوا وأقامُوا الصَّلاةَ وآتَوُا الزَّكاةَ فَإخْوانُكم في الدِّينِ﴾ أيْ فَإنْ تابُوا عَنِ الكُفْرِ ونَقْضِ العَهْدِ، والتَزَمُوا أحْكامَ الإسْلامِ فَإخْوانُكم، أيْ: فَهم إخْوانُكم، والإخْوانُ، والإخْوَةُ جَمْعُ أخٍ مِن نَسَبٍ أوْ دِينٍ. ومَن زَعَمَ أنَّ الإخْوَةَ تَكُونُ في النَّسَبِ، والإخْوانَ في الصَّداقَةِ، فَقَدْ غَلَطَ. قالَ تَعالى: ﴿إنَّما المُؤْمِنُونَ إخْوَةٌ﴾ [الحجرات: ١٠] وقالَ: ﴿أوْ بُيُوتِ إخْوانِكُمْ﴾ [النور: ٦١]، وعَلَّقَ حُصُولَ الأُخُوَّةِ في الدِّينِ عَلى الِالتِباسِ بِمَجْمُوعِ الثَّلاثَةِ، ويَظْهَرُ أنَّ مَفْهُومَ الشَّرْطِ غَيْرُ مُرادٍ. ﴿ونُفَصِّلُ الآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ﴾ أيْ نُبَيِّنُها ونُوَضِّحُها. وهَذِهِ الجُمْلَةُ اعْتِراضٌ بَيْنَ الشَّرْطَيْنِ، بَيْنَ قَوْلِهِ: ﴿فَإنْ تابُوا﴾، وقَوْلِهِ: (وإنْ نَكَثُوا)، بَعْثًا وتَحْرِيضًا عَلى تَأمُّلِ ما فَصَّلَ تَعالى مِنَ الأحْكامِ، وقالَ: ﴿لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ﴾؛ لِأنَّهُ لا يَتَأمَّلُ تَفْصِيلَها إلّا مَن كانَ مِن أهْلِ العِلْمِ والفَهْمِ. ﴿وإنْ نَكَثُوا أيْمانَهم مِن بَعْدِ عَهْدِهِمْ وطَعَنُوا في دِينِكم فَقاتِلُوا أئِمَّةَ الكُفْرِ إنَّهم لا أيْمانَ لَهم لَعَلَّهم يَنْتَهُونَ﴾ أيْ: وإنْ نَقَضُوا أقْسامَهم مِن بَعْدَما تَعاهَدُوا وتَحالَفُوا عَلى أنْ لا يَنْكُثُوا. (وطَعَنُوا): أيْ عابُوهُ وثَلَبُوهُ واسْتَنْقَصُوهُ، والطَّعْنُ هُنا مَجازٌ، وأصْلُهُ الإصابَةُ بِالرُّمْحِ أوِ العُودِ وشَبَهِهِ، وهو هُنا بِمَعْنى العَيْبِ كَما جاءَ في حَدِيثِ إمارَةِ أُسامَةَ: «إنْ تَطْعَنُوا في إمارَتِهِ فَقَدْ طَعَنْتُمْ في إمارَةِ أبِيهِ مِن قَبْلُ»؛ أيْ عِبْتُمُوها واسْتَنْقَصْتُمُوها. والظّاهِرُ أنَّ هَذا التَّرْدِيدَ في الشَّرْطَيْنِ هو في حَقِّ الكُفّارِ أصْلًا؛ لِأنَّ مَن أسْلَمَ ثُمَّ ارْتَدَّ فَيَكُونُ قَوْلُهُ: فَقاتِلُوا أئِمَّةَ الكُفْرِ؛ أيْ رُؤَساءَ الكُفْرِ وزُعَماءَهُ. والمَعْنى: فَقاتِلُوا الكُفّارَ، وخَصَّ الأئِمَّةَ بِالذِّكْرِ؛ لِأنَّهم هُمُ الَّذِينَ يُحَرِّضُونَ الأتْباعَ عَلى البَقاءِ عَلى الكُفْرِ. وقالَ الكَرْمانِيُّ: كُلُّ كافِرٍ إمّامُ نَفْسِهِ، فالمَعْنى: فَقاتِلُوا كُلَّ كافِرٍ. وقِيلَ: مَن أقْدَمَ عَلى نَكْثِ العَهْدِ والطَّعْنِ في الدِّينِ صارَ رَأْسًا في الكُفْرِ، فَهو مِن أئِمَّةِ الكُفْرِ. وقالَ ابْنُ عَبّاسٍ: أئِمَّةُ الكُفْرِ زُعَماءُ قُرَيْشٍ. وقالَ القُرْطُبِيُّ: هو بَعِيدٌ؛ لِأنَّ الآيَةَ في سُورَةِ (بَراءَةٌ)، وحِينَ نَزَلَتْ كانَ اللَّهُ قَدِ اسْتَأْصَلَ شَأْفَةَ قُرَيْشٍ ولَمْ يَبْقَ مِنهم إلّا مُسْلِمٌ أوْ مُسالِمٌ. وقالَ قَتادَةُ: المُرادُ أبُو جَهْلِ بْنُ هِشامٍ وعُتْبَةُ بْنُ رَبِيعَةَ وغَيْرُهم، وهَذا ضَعِيفٌ إنْ لَمْ يُؤْخَذْ عَلى جِهَةِ المِثالِ؛ لِأنَّ الآيَةَ نَزَلَتْ بَعْدَ بَدْرٍ بِكَثِيرٍ. ورُوِيَ عَنْ حُذَيْفَةَ أنَّهُ قالَ: لَمْ يَجِئْ هَؤُلاءِ بَعْدُ، يُرِيدُ لَمْ يَنْقَرِضُوا، فَهم يَجِيئُونَ أبَدًا ويُقاتِلُونَ. وقالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: أصْوَبُ ما في هَذا أنْ يُقالَ: إنَّهُ لا يُعْنى بِها مُعَيَّنٌ، وإنَّما دَفَعَ الأمْرَ بِقِتالِ أئِمَّةِ النّاكِثِينَ العُهُودَ مِنَ الكَفَرَةِ إلى يَوْمِ القِيامَةِ دُونَ تَعْيِينٍ، واقْتَضَتْ حالُ كُفّارِ العَرَبِ ومُحارِبِي رَسُولِ اللَّهِ ﷺ أنْ يَكُونَ الإشارَةُ إلَيْهِمْ أوَّلًا بِقَوْلِهِ: (أئِمَّةَ الكُفْرِ)، وهم حَصَلُوا حِينَئِذٍ تَحْتَ اللَّفْظَةِ؛ إذِ الَّذِي يَتَوَلّى قِتالَ النَّبِيِّ صَلّى (p-١٥)اللَّهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ والدَّفْعَ في صَدْرِ شَرِيعَتِهِ هو إمامُ كُلِّ مَن يَكْفُرُ بِذَلِكَ الشَّرْعِ إلى يَوْمِ القِيامَةِ، ثُمَّ يَأْتِي في كُلِّ جِيلٍ مِنَ الكُفّارِ أئِمَّةٌ خاصَّةٌ بِجِيلٍ جِيلٍ انْتَهى. وقِيلَ: المُرادُ بِالعَهْدِ الإسْلامُ، فَمَعْناهُ كَفَرُوا بَعْدَ إسْلامِهِمْ. ولِذَلِكَ قَرَأ بَعْضُهم: وإنْ نَكَثُوا إيمانَهم بِالكَسْرِ، وهو قَوْلُ الزَّمَخْشَرِيِّ، قالَ: ﴿فَقاتِلُوا أئِمَّةَ الكُفْرِ﴾: فَقاتِلُوهم، فَوَضَعَ أئِمَّةَ الكُفْرِ مَوْضِعَ ضَمِيرِهِمْ، إشْعارًا بِأنَّهم إذا نَكَثُوا في حالَةِ الشِّرْكِ تَمَرُّدًا وطُغْيانًا وطَرْحًا لِعاداتِ الكِرامِ الأوْفِياءِ مِنَ العَرَبِ، ثُمَّ آمَنُوا وأقامُوا الصَّلاةَ وآتَوُا الزَّكاةَ وصارُوا إخْوانًا لِلْمُسْلِمِينَ في الدِّينِ، ثُمَّ رَجَعُوا فارْتَدُّوا عَنِ الإسْلامِ ونَكَثُوا ما بايَعُوا عَلَيْهِ مِنَ الإيمانِ والوَفاءِ بِالعَهْدِ، وقَعَدُوا يَطْعَنُونَ في دِينِ اللَّهِ تَعالى، ويَقُولُونَ لَيْسَ دِينُ مُحَمَّدٍ بِشَيْءٍ، فَهم أئِمَّةُ الكُفْرِ وذَوُو الرِّئاسَةِ والتَّقَدُّمِ فِيهِ، لا يَشُقُّ كافِرٌ غُبارَهم. والمَشْهُورُ مِن مَذْهَب مالِكٍ أنَّ الذِّمِّيَّ إذا طَعَنَ في الدِّينِ فَفَعَلَ شَيْئًا مِثْلَ تَكْذِيبِ الشَّرِيعَةِ والسَّبِّ لِلنَّبِيِّ ﷺ ونَحْوَهُ قُتِلَ. وقِيلَ: إنْ أعْلَنَ بِشَيْءٍ مِمّا هو مَعْهُودٌ مِن مُعْتَقَدِهِ وكُفْرِهِ أُدِّبَ عَلى الإعْلانِ وتُرِكَ، وإنْ كَفَرَ بِما هو لَيْسَ مِن مُعْتَقَدِهِ كالسَّبِّ ونَحْوِهِ قُتِلَ. وقالَ أبُو حَنِيفَةَ: يُسْتَتابُ، واخْتُلِفَ إذا سَبَّ الذِّمِّيُّ ثُمَّ أسْلَمَ تَقِيَّةَ القَتْلِ: فالمَشْهُورُ مِن مَذْهَبِ مالِكٍ أنَّهُ يُتْرَكُ؛ لِأنَّ الإسْلامَ يَجُبُّ ما قَبْلَهُ، وفي العُتْبِيَّةِ أنَّهُ يُقْتَلُ، ولا يَكُونُ أحْسَنَ حالًا مِنَ المُسْلِمِ. وقَرَأ الحَرَمِيّانِ وأبُو عَمْرٍو: بِإبْدالِ الهَمْزَةِ الثّانِيَةِ ياءً، ورُوِيَ عَنْ نافِعٍ مَدُّ الهَمْزَةِ، وقَرَأ باقِي السَّبْعَةِ وابْنُ أبِي أُوَيْسٍ عَنْ نافِعٍ: بِهَمْزَتَيْنِ، وأدْخَلَ هِشامٌ بَيْنَهُما ألِفًا، وأصْلُهُ أأْمِمَةٌ عَلى وزْنِ ”أفْعِلَةٌ“، جَمْعُ إمامٍ، أدْغَمُوا المِيمَ في المِيمِ فَنُقِلَتْ حَرَكَتُها إلى الهَمْزَةِ قَبْلَها. وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فَإنْ قُلْتُ: كَيْفَ لَفْظُ أئِمَّةٍ ؟ قُلْتُ: هَمْزَةٌ بَعْدَها هَمْزَةٌ بَيْنَ بَيْنَ؛ أيْ بَيْنَ مَخْرَجِ الهَمْزَةِ والياءِ. وتَحْقِيقُ الهَمْزِ هي قِراءَةٌ مَشْهُورَةٌ، وإنْ لَمْ تَكُنْ مَقْبُولَةً عِنْدَ البَصْرِيِّينَ، وأمّا التَّصْرِيحُ بِالياءِ فَلَيْسَ بِقِراءَةٍ، ولا يَجُوزُ أنْ تَكُونَ. ومَن صَرَّحَ بِها فَهو لاحِنٌ مُحَرِّفٌ انْتَهى. وذَلِكَ دَأْبُهُ في تَلْحِينِ المُقْرِئِينَ. وكَيْفَ يَكُونُ ذَلِكَ لَحْنًا وقَدْ قَرَأ بِهِ رَأْسُ البَصْرِيِّينَ النُّحاةِ: أبُو عَمْرِو بْنُ العَلاءِ، وقارِئُ مَكَّةَ ابْنُ كَثِيرٍ، وقارِئُ مَدِينَةِ الرَّسُولِ نافِعٌ، ونَفى إيمانَهم لَمّا لَمْ يَثْبُتُوا عَلَيْها ولا وفَّوْا بِها جُعِلُوا لا أيْمانَ لَهم، أوْ يَكُونُ عَلى حَذْفِ الوَصْفِ أيْ: لا أيْمانَ لَهم يُوَفُّونَ بِها. وقَرَأ الجُمْهُورُ: بِفَتْحِ الهَمْزَةِ، وقَرَأ الحَسَنُ، وعَطاءٌ، وزَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ، وابْنُ عامِرٍ: لا إيمانَ لَهم أيْ لا إسْلامَ ولا تَصْدِيقَ. قالَ أبُو عَلِيٍّ: وهَذا غَيْرُ قَوِيٍّ؛ لِأنَّهُ تَكْرارٌ، وذَلِكَ لِأنَّهُ وصَفَ أئِمَّةَ الكُفْرِ بِأنَّهم لا إيمانَ لَهم، فالوَجْهُ في كَسْرِ الألِفِ أنَّهُ مَصْدَرُ أمَنَهُ إيمانًا، ومِنهُ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وآمَنَهم مِن خَوْفٍ﴾ [قريش: ٤] فالمَعْنى أنَّهم لا يُؤَمِّنُونَ أهْلَ الذِّمَّةِ، إذِ المُشْرِكُونَ لَمْ يَكُنْ لَهم إلّا الإسْلامُ أوِ السَّيْفُ. قالَ أبُو حاتِمٍ: فَسَّرَ الحَسَنُ قِراءَتَهُ لا إسْلامَ لَهُمُ انْتَهى. وكَذا تَبِعَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ، فَقالَ: وقُرِئَ لا إيمانَ لَهم، أيْ لا إسْلامَ لَهم، ولا يُعْطَوْنَ الأمانَ بَعْدَ الرِّدَّةِ والنَّكْثِ، ولا سَبِيلَ إلَيْهِ. وبِقِراءَةِ الفَتْحِ اسْتَشْهَدَ أبُو حَنِيفَةَ عَلى أنَّ يَمِينَ الكافِرِ لا يَكُونُ يَمِينًا، وعِنْدَ الشّافِعِيِّ يَمِينُهم يَمِينٌ، وقالَ: مَعْناهُ أنَّهم لا يُوَفُّونَ بِها بِدَلِيلِ أنَّهُ تَعالى وصَفَها بِالنَّكْثِ. ﴿لَعَلَّهم يَنْتَهُونَ﴾ مُتَعَلِّقٌ بِقَوْلِهِ: ﴿فَقاتِلُوا أئِمَّةَ الكُفْرِ﴾؛ أيْ لِيَكُنْ غَرَضُكم في مُقاتَلَتِهِمْ بَعْدَما وُجِدَ مِنهم مَنِ العَظائِمِ ما وُجِدَ انْتِهاءَهم عَمّا هم فِيهِ، وهَذا مِن كَرَمِهِ سُبْحانَهُ وفَضْلِهِ وعَوْدِهِ عَلى المُسِيءِ بِالرَّحْمَةِ. ﴿ألا تُقاتِلُونَ قَوْمًا نَكَثُوا أيْمانَهم وهَمُّوا بِإخْراجِ الرَّسُولِ وهم بَدَءُوكم أوَّلَ مَرَّةٍ أتَخْشَوْنَهم فاللَّهُ أحَقُّ أنْ تَخْشَوْهُ إنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾ (p-١٦)(ألا) حَرْفُ عَرْضٍ، ومَعْناهُ هُنا الحَضُّ عَلى قِتالِهِمْ. وزَعَمُوا أنَّها مُرَكَّبَةٌ مِن هَمْزَةِ الِاسْتِفْهامِ ولا النّافِيَةِ، فَصارَ فِيها مَعْنى التَّخْصِيصِ. وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: دَخَلَتِ الهَمْزَةُ عَلى تَقْرِيرٍ عَلى انْتِفاءِ المُقاتَلَةِ، ومَعْناها: الحَضُّ عَلَيْها عَلى سَبِيلِ المُبالَغَةِ. ولَمّا أمَرَ تَعالى بِقَتْلِ أهْلِ الكُفْرِ أتْبَعَ ذَلِكَ بِالسَّبَبِ الَّذِي يَبْعَثُ عَلى مُقاتَلَتِهِمْ وهو ثَلاثَةُ أشْياءَ جَمَعُوها، وكُلُّ واحِدٍ مِنها عَلى انْفِرادِهِ كافٍ في الحَضِّ عَلى مُقاتَلَتِهِمْ. ومَعْنى نَكَثُوا أيْمانَهم: نَقَضَ العَهْدَ. قالَ السُّدِّيُّ، وابْنُ إسْحاقَ، والكَلْبِيُّ: نَزَلَتْ في كُفّارِ مَكَّةَ، نَكَثُوا أيْمانَهم بَعْدَ عَهْدِ الحُدَيْبِيَةَ، وأعانُوا بَنِي بَكْرٍ عَلى خُزاعَةَ انْتَهى. وهَمُّهم هو هَمُّ قُرَيْشٍ بِإخْراجِ الرَّسُولِ مِن مَكَّةَ حِينَ تَشاوَرُوا بِدارِ النَّدْوَةِ، فَأذِنَ اللَّهُ في الهِجْرَةِ، فَخَرَجَ بِنَفْسِهِ، أوْ بَنُو بَكْرٍ بِإخْراجِهِ مِنَ المَدِينَةِ لِما أقْدَمُوا عَلَيْهِ مِنَ المُشاوَرَةِ والِاجْتِماعِ، أوِ اليَهُودُ هَمُّوا بِغَدْرِ الرَّسُولِ ﷺ ونَقَضُوا عَهْدَهُ، وأعانُوا المُنافِقِينَ عَلى إخْراجِهِ مِنَ المَدِينَةِ، ثَلاثَةُ أقْوالٍ أوَّلُها لِلسُّدِّيِّ. وقالَ الحَسَنُ: مِنَ المَدِينَةِ. قالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وهَذا مُسْتَقِيمٌ لِغَزْوَةِ أُحُدٍ والأحْزابِ وغَيْرِهِما، وهُمُ الَّذِينَ كانَتْ مِنهُمُ البُداءَةُ بِالمُقاتَلَةِ؛ لِأنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ جاءَهم أوَّلًا بِالكِتابِ المُبِينِ وتَحَدّاهم بِهِ، فَعَدَلُوا عَنِ المُعارَضَةِ لِعَجْزِهِمْ عَنْها إلى القِتالِ، فَهُمُ البادِئُونَ، والبادِئُ أظْلَمُ، فَما يَمْنَعُكم مِن أنْ تُقاتِلُوهم بِمِثْلِهِ؛ تَصْدِمُونَهم بِالشَّرِّ كَما صَدَمُوكم ؟ وبَّخَهم بِتَرْكِ مُقاتَلَتِهِمْ، وحَضَّهم عَلَيْها، ثُمَّ وصَفَهم بِما يُوجِبُ الحَضَّ عَلَيْها. وتَقَرَّرَ أنَّ مَن كانَ في مِثْلِ صِفاتِهِمْ مِن نَكْثِ العُهُودِ وإخْراجِ الرَّسُولِ والبَدْءِ بِالقِتالِ مِن غَيْرِ مُوجِبٍ حَقِيقٌ بِأنْ لا تُتْرَكَ مُصادَمَتُهُ، وأنْ يُوَبَّخَ مَن فَرَّطَ فِيها، قالَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ، وهو تَكْثِيرٌ. وقالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: (أوَّلَ مَرَّةٍ)، قِيلَ: يُرِيدُ أفْعالَهم بِمَكَّةَ بِالنَّبِيِّ ﷺ وبِالمُؤْمِنِينَ. وقالَ مُجاهِدٌ: ما بَدَأتْ بِهِ قُرَيْشٌ مِن مَعُونَةِ بَنِي بَكْرٍ حُلَفائَهم عَلى خُزاعَةَ حُلَفاءِ النَّبِيِّ، فَكانَ هَذا بَدْءَ النَّقْضِ. وقالَ الطَّبَرِيُّ: يَعْنِي فِعْلَهم يَوْمَ بَدْرٍ انْتَهى. وقَرَأ زَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ: بَدَوْكم بِغَيْرِ هَمْزٍ، ووَجْهُهُ أنَّهُ سَهَّلَ الهَمْزَةَ مِن بَدَأْتُ، بِإبْدالِها ياءً، كَما قالُوا في قَرَأْتُ: قَرَيْتُ، فَصارَ كَرَمَيْتُ. فَلَمّا أُسْنِدَ الفِعْلُ إلى واوِ الضَّمِيرِ سَقَطَتْ، فَصارَ بَدَوْكم، كَما تَقُولُ: رَمَوْكم. (أتَخْشَوْنَهم) تَقْرِيرٌ لِلْخَشْيَةِ مِنهم، وتَوْبِيخٌ عَلَيْها. ﴿فاللَّهُ أحَقُّ أنْ تَخْشَوْهُ﴾ فَتَقْتُلُوا أعْداءَهُ. ولَفْظُ الجَلالَةِ مُبْتَدَأٌ وخَبَرُهُ (أحَقُّ)، و(أنْ تَخْشَوْهُ) بَدَلٌ مِنَ اللَّهِ؛ أيْ: وخَشْيَةُ اللَّهِ أحَقُّ مِن خَشْيَتِهِمْ، (وأنْ تَخْشَوْهُ) في مَوْضِعِ رَفْعٍ، ويَجُوزُ أنْ تَكُونَ في مَوْضِعِ نَصْبٍ أوْ جَرٍّ عَلى الخِلافِ إذا حُذِفَ حَرْفُ الجَرِّ، وتَقْدِيرُهُ: بِأنْ تَخْشَوْهُ؛ أيْ أحَقُّ مِن غَيْرِهِ بِأنْ تَخْشَوْهُ. وجَوَّزَ أبُو البَقاءِ أنْ يَكُونَ (أنْ تَخْشَوْهُ) مُبْتَدَأً، وأحَقُّ خَبَرُهُ قُدِّمَ عَلَيْهِ. وأجازَ ابْنُ عَطِيَّةَ أنْ يَكُونَ (أحَقُّ) مُبْتَدَأً وخَبَرُهُ (أنْ تَخْشَوْهُ)، والجُمْلَةُ خَبَرٌ عَنِ الأوَّلِ. وحَسُنَ الِابْتِداءُ بِالنَّكِرَةِ؛ لِأنَّها أفْعَلُ التَّفْضِيلِ، وقَدْ أجازَ سِيبَوَيْهِ أنْ تَكُونَ المَعْرِفَةُ خَبَرًا لِلنَّكِرَةِ في نَحْوِ: اقْصِدْ رَجُلًا خَيْرٌ مِنهُ أبُوهُ. ﴿إنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾؛ أيْ كامِلِي الإيمانِ؛ لِأنَّهم كانُوا مُؤْمِنِينَ. وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: يَعْنِي أنَّ قَضِيَّةَ الإيمانِ الصَّحِيحِ أنْ لا يَخْشى المُؤْمِنُ إلّا رَبَّهُ ولا يُبالِي بِمَن سِواهُ كَقَوْلِهِ تَعالى: ﴿ولا يَخْشَوْنَ أحَدًا إلّا اللَّهَ﴾ [الأحزاب: ٣٩] . ﴿قاتِلُوهم يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأيْدِيكم ويُخْزِهِمْ ويَنْصُرْكم عَلَيْهِمْ ويَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ﴾ ﴿ويُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ ويَتُوبُ اللَّهُ عَلى مَن يَشاءُ واللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ﴾ قَرَّرَتِ الآياتُ قَبْلَ هَذا أفْعالَ (p-١٧)الكَفَرَةِ المُقْتَضِيَةَ لِقِتالِهِمْ، والحَضَّ عَلى القِتالِ، وحَرُمَ الأمْرُ بِالقِتالِ في هَذِهِ، وتَعْذِيبُهم بِأيْدِي المُؤْمِنِينَ هو في الدُّنْيا بِالقَتْلِ والأسْرِ والنَّهْبِ، وهَذِهِ وُعُودٌ ثَبَّتَتْ قُلُوبَهم وصَحَّحَتْ نِيّاتِهِمْ، وخِزْيُهم هو إهانَتُهم وذُلُّهم، (ويَنْصُرْكم) يُظْفِرُكم بِهِمْ، وشِفاءُ الصُّدُورِ بِإعْلاءِ دِينِ اللَّهِ وتَعْذِيبِ الكُفّارِ وخِزْيِهِمْ. وقَرَأ زَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ: ونَشْفِ بِالنُّونِ عَلى الِالتِفاتِ، وجاءَ التَّرْكِيبُ (صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ) لِيَشْمَلَ المُخاطَبِينَ وكُلَّ مُؤْمِنٍ؛ لِأنَّ ما يُصِيبُ أهْلَ الكُفْرِ مِنَ العَذابِ والخِزْيِ هو شِفاءٌ لِصَدْرِ كُلِّ مُؤْمِنٍ. وقِيلَ: المُرادُ قَوْمٌ مُعَيَّنُونَ، «قالَ ابْنُ عَبّاسٍ: هم بُطُونٌ مِنَ اليَمَنِ وسَبَأٍ قَدِمُوا مَكَّةَ فَأسْلَمُوا، فَلَقُوا مِن أهْلِها أذًى شَدِيدًا، فَبَعَثُوا إلى رَسُولِ اللَّهِ يَشْكُونَ إلَيْهِ فَقالَ: ”أبْشِرُوا فَإنَّ الفَرَجَ قَرِيبٌ“» وقالَ مُجاهِدٌ والسُّدِّيُّ: هم خُزاعَةُ. ووَجْهُ تَخْصِيصِهِمْ أنَّهم هُمُ الَّذِينَ نُقِضَ فِيهِمُ العَهْدُ ونالَتْهُمُ الحَرْبُ، وكانَ يَوْمَئِذٍ في خُزاعَةَ مُؤْمِنُونَ كَثِيرٌ. ألا تَرى إلى قَوْلِ الخُزاعِيِّ المُسْتَنْصِرِ بِالنَّبِيِّ ﷺ: ؎ثَمَّتَ أسْلَمْنا فَلَمْ نَنْزِعْ يَدا وفِي آخِرِ الرَّجَزِ: ؎وقَتَلُونا رُكَّعًا وسُجَّدا وإذْهابُ الغَيْظِ بِما نالَ الكُفّارَ مِنَ المَكْرُوهِ، وهَذِهِ الجُمْلَةُ كالتَّأْكِيدِ لِلَّتِي قَبْلَها؛ لِأنَّ شِفاءَ الصَّدْرِ مِن آلَةِ الغَيْظِ هو إذْهابُ الغَيْظِ. وقَرَأتْ فِرْقَةٌ: (ويَذْهَبُ) فِعْلًا لازِمًا (غَيْظُ) فاعِلٌ بِهِ. وقَرَأ زَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ كَذَلِكَ إلّا أنَّهُ رَفَعَ الباءَ. وهَذِهِ المَواعِيدُ كُلُّها وُجِدَتْ، فَكانَ ذَلِكَ دَلِيلًا عَلى صِدْقِ الرَّسُولِ وصِحَّةِ نُبُوَّتِهِ، وبُدِئَ أوَّلًا فِيها بِما تَسَبَّبَ عَنِ النَّصْرِ، وهو تَعْذِيبُ اللَّهِ الكُفّارَ، وبِأيْدِي المُؤْمِنِينَ وإخْزاؤُهم، إذا كانَتِ البُداءَةُ بِما يَنالُ الكُفّارَ مِنَ الشَّرِّ هي الَّتِي يُسَرُّ بِها المُؤْمِنُونَ، ثُمَّ ذَكَرَ ما السَّبَبُ؛ وهو نَصْرُ اللَّهِ المُؤْمِنِينَ عَلى الكافِرِينَ، ثُمَّ ذَكَرَ ما تَسَبَّبَ أيْضًا عَنِ النَّصْرِ مِن شِفاءِ صُدُورِ المُؤْمِنِينَ وإذْهابِ غَيْظِهِمْ تَتْمِيمًا لِلنِّعَمِ، فَذَكَرَ ما تَسَبَّبَ عَنِ النَّصْرِ بِالنِّسْبَةِ لِلْكُفّارِ، وذَكَرَ ما تَسَبَّبَ لِلْمُسْلِمِينَ مِنَ الفَرَحِ والسُّرُورِ بِإدْراكِ الثَّأْرِ، ولَمْ يَذْكُرْ ما نالُوهُ مِنَ المَغانِمِ والمَطاعِمِ، إذِ العَرَبُ قَوْمٌ جُبِلُوا عَلى الحَمِيَّةِ والأنَفَةِ، فَرَغْبَتُهم في إدْراكِ الثَّأْرِ وقَتْلِ الأعْداءِ هي اللّائِقَةُ بِطِباعِهِمْ. ؎إنَّ الأُسُودَ أُسُودَ الغابِ هِمَّتُها ∗∗∗ يَوْمَ الكَرِيهَةِ في المَسْلُوبِ لا السَّلَبِ وقَرَأ الجُمْهُورُ: ويَتُوبُ اللَّهُ رَفْعًا، وهو اسْتِئْنافُ إخْبارٍ بِأنَّ بَعْضَ أهْلِ مَكَّةَ وغَيْرِهِمْ يَتُوبُ عَنْ كُفْرِهِ، وكانَ ذَلِكَ عالَمٌ كَثِيرُونَ وحَسُنَ إسْلامُهم. قالَ الفَرّاءُ والزَّجّاجُ وأبُو الفَتْحِ: وهَذا أمْرٌ مَوْجُودٌ سَواءٌ قُوتِلُوا أوْ لَمْ يُقاتَلُوا، فَلا وجْهَ لِإدْخالِ اليَوْمَ في جَوابِ الشَّرْطِ الَّذِي في (قاتِلُوهم) انْتَهى. وقَرَأ زَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ، والأعْرَجُ، وابْنُ أبِي إسْحاقَ، وعِيسى الثَّقَفِيُّ، وعَمْرُو بْنُ عُبَيْدٍ، وعُمَرُ بْنُ قائِدٍ، وأبُو عَمْرٍو، ويَعْقُوبُ فِيما رُوِيَ عَنْهُما: ويَتُوبَ اللَّهُ بِنَصْبِ الباءِ، جَعَلَهُ داخِلًا في جَوابِ الأمْرِ مِن طَرِيقِ المَعْنى. قِيلَ: ويُمْكِنُ أنْ تَكُونَ التَّوْبَةُ داخِلَةً في الجَزاءِ. قالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: ويَتَوَجَّهُ ذَلِكَ عِنْدِي إذا ذُهِبَ إلى أنَّ التَّوْبَةَ يُرادُ بِها أنَّ قَتْلَ الكافِرِينَ والجِهادَ في سَبِيلِ اللَّهِ هو تَوْبَةٌ لَكم أيُّها المُؤْمِنُونَ وكَمالٌ لِإيمانِكم، فَتَدْخُلُ التَّوْبَةُ عَلى هَذا في شَرْطِ القِتالِ. وقالَ غَيْرُهُ: لَمّا أمَرَهم بِالمُقاتَلَةِ شَقَّ ذَلِكَ عَلى بَعْضِهِمْ، فَإذا أقْدَمُوا عَلى المُقاتَلَةِ صارَ ذَلِكَ العَمَلُ جارِيًا مَجْرى التَّوْبَةِ مِن تِلْكَ الكَراهَةِ. وقِيلَ: حُصُولُ الكُفْرِ وكَثْرَةُ الأمْوالِ لَذَّةٌ تُطْلَبُ بِطَرِيقٍ حَرامٍ، فَلَمّا حَصَلَتْ لَهم طَرِيقٌ حَلالٌ كانَ ذَلِكَ داعِيًا لَهم إلى التَّوْبَةِ مِمّا تَقَدَّمَ، فَصارَتِ التَّوْبَةُ مُتَعَلِّقَةً بِتِلْكَ المُقاتَلَةِ انْتَهى. وهَذا الَّذِي قَرَّرُوهُ مِن كَوْنِ التَّوْبَةِ تَدْخُلُ تَحْتَ جَوابِ الأمْرِ هو بِالنِّسْبَةِ لِلْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ أُمِرُوا بِقِتالِ الكُفّارِ، والَّذِي يَظْهَرُ أنَّ ذَلِكَ بِالنِّسْبَةِ إلى الكُفّارِ، فالمَعْنى عَلى مَن يَشاءُ مِنَ الكُفّارِ، وذَلِكَ أنَّ قِتالَ الكُفّارِ وغَلَبَةَ المُسْلِمِينَ إيّاهم قَدْ يَنْشَأُ عَنْها إسْلامُ كَثِيرٍ مِنَ النّاسِ، وإنْ لَمْ يَكُنْ لَهم رَغْبَةٌ في الإسْلامِ، ولا داعِيَةٌ قَبْلَ القِتالِ. ألا تَرى إلى قِتالِ (p-١٨)رَسُولِ اللَّهِ ﷺ أهْلَ مَكَّةَ كَيْفَ كانَ سَبَبًا لِإسْلامِهِمْ؛ لِأنَّ الدّاخِلَ في الإسْلامِ قَدْ يَدْخُلُ فِيهِ عَلى بَصِيرَةٍ، وقَدْ يَدْخُلُ عَلى كُرْهٍ واضْطِرارٍ، ثُمَّ قَدْ تَحْسُنُ حالُهُ في الإسْلامِ. ألا تَرى إلى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أبِي سَرْحٍ كَيْفَ كانَ حالُهُ أوَّلًا في الإسْلامِ، ثُمَّ صارَ أمْرُهُ إلى أحْسَنِ حالٍ وماتَ أحْسَنَ مَيْتَةٍ في السُّجُودِ في صِلاتِهِ، وكانَ مِن خِيارِ الصَّحابَةِ ؟ (واللَّهُ عَلِيمٌ) يَعْلَمُ ما سَيَكُونُ مِثْلَ ما يَعْلَمُ ما قَدْ كانَ، وفي ذَلِكَ تَقْرِيرٌ لِما رَتَّبَ مِن تِلْكَ المَواعِيدِ، وأنَّها كائِنَةٌ لا مَحالَةَ. (حَكِيمٌ) في تَصْرِيفِ عِبادِهِ مِن حالٍ إلى حالٍ عَلى ما تَقْتَضِيهِ حِكْمَتُهُ تَعالى. ﴿أمْ حَسِبْتُمْ أنْ تُتْرَكُوا ولَمّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جاهَدُوا مِنكُمْ﴾ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ نَظِيرِ هَذِهِ الجُمْلَةِ، والمَعْنى: أنَّكم لا تُتْرَكُونَ عَلى ما أنْتُمْ عَلَيْهِ حَتّى يَتَبَيَّنَ الخُلَّصُ مِنكم وهُمُ المُجاهِدُونَ في سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ لَمْ يَتَّخِذُوا بِطانَةً مَن دُونِ اللَّهِ مِن غَيْرِهِمْ. ﴿ولَمْ يَتَّخِذُوا مِن دُونِ اللَّهِ ولا رَسُولِهِ ولا المُؤْمِنِينَ ولِيجَةً﴾ (ولَمْ يَتَّخِذُوا) مَعْطُوفٌ عَلى (جاهَدُوا) . غَيْرَ مُتَّخِذِينَ ولِيجَةً، والوَلِيجَةُ فَعَيْلَةٌ مِن ولَجَ كالدَّخِيلَةِ مِن دَخَلَ، وهي البِطانَةُ والمُدْخَلُ يُدْخَلُ فِيهِ عَلى سَبِيلِ الِاسْتِسْرارِ، شُبِّهَ النِّفاقُ بِهِ. وقالَ قَتادَةُ: الوَلِيجَةُ الخِيانَةُ، وقالَ الضَّحّاكُ: الخَدِيعَةُ، وقالَ عَطاءٌ: الأوْداءُ، وقالَ الحَسَنُ: الكُفْرُ والنِّفاقُ، وقالَ أبُو عُبَيْدَةَ: كُلُّ شَيْءٍ أدْخَلْتَهُ في شَيْءٍ ولَيْسَ مِنهُ فَهو ولِيجَةٌ، والرَّجُلُ يَكُونُ في القَوْمِ ولَيْسَ مِنهم ولِيجَةٌ، يَكُونُ لِلْواحِدِ والِاثْنَيْنِ والجَمْعِ بِلَفْظٍ واحِدٍ. ولِيجَةُ الرَّجُلِ مَن يَخْتَصُّ بِدَخِيلَةِ أمْرِهِ مِنَ النّاسِ، وجَمْعُها ولائِجُ ووُلُجٌ، كَصَحِيفَةٍ وصَحائِفَ وصُحُفٍ. وقالَ عُبادَةُ بْنُ صَفْوانَ الغَنَوِيُّ: ؎ولائِجُهم في كُلِّ مَبْدًى ومَحْضَرٍ ∗∗∗ إلى كُلِّ مَن يُرْجى ومَن يَتَخَوَّفُ وفِي هَذِهِ الآيَةِ طَعْنٌ عَلى المُنافِقِينَ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الوَلائِجَ لا سِيَّما عِنْدَ فَرْضِ القِتالِ، والمَعْنى: لا بُدَّ مِنِ اخْتِبارِكم أيُّها المُؤْمِنُونَ كَقَوْلِهِ: ﴿أحَسِبَ النّاسُ أنْ يُتْرَكُوا أنْ يَقُولُوا آمَنّا وهم لا يُفْتَنُونَ﴾ [العنكبوت: ٢]، ولَمّا كانَ الرَّجُلُ قَدْ يُجاهِدُ وهو مُنافِقٌ نَفى هَذا الوَصْفَ عَنْهُ، فَبَيَّنَ أنَّهُ لا بُدَّ لِلْجِهادِ مِنَ الإخْلاصِ خالِيًا عَنِ النِّفاقِ والرِّياءِ والتَّوَدُّدِ إلى الكُفّارِ. ﴿واللَّهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ﴾ قَرَأ الجُمْهُورُ بِالتّاءِ عَلى الخِطابِ مُناسَبَةً لِقَوْلِهِ: أمْ حَسِبْتُمْ، وقَرَأ الحَسَنُ، ويَعْقُوبُ في رِوايَةٍ رُوَيْسٍ، وسَلّامٌ بِالياءِ عَلى الغَيْبَةِ التِفاتًا.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب