الباحث القرآني

* [فَصْلٌ لَيْسَ لِأهْلِ الذِّمَّةِ عَهْدٌ إلّا ما دامُوا مُسْتَقِيمِينَ لَنا] قَوْلُهُ تَعالى: ﴿كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِنْدَ اللَّهِ وعِنْدَ رَسُولِهِ﴾ [التوبة: ٧] إلى قَوْلِهِ: ﴿وَإنْ نَكَثُوا أيْمانَهم مِن بَعْدِ عَهْدِهِمْ وطَعَنُوا في دِينِكم فَقاتِلُوا أئِمَّةَ الكُفْرِ إنَّهم لا أيْمانَ لَهم لَعَلَّهم يَنْتَهُونَ﴾ [التوبة: ١٢] فَنَفى اللَّهُ أنْ يَكُونَ لِمُشْرِكٍ عَهْدٌ مِمَّنْ كانَ النَّبِيُّ ﷺ عاهَدَهم إلّا قَوْمًا ذَكَرَهم فَجَعَلَ لَهم عَهْدًا ما دامُوا مُسْتَقِيمِينَ لَنا، فَعُلِمَ أنَّ العَهْدَ لا يَبْقى لِلْمُشْرِكِ إلّا ما دامَ مُسْتَقِيمًا، ومَعْلُومٌ أنَّ مُجاهَرَتَنا بِتِلْكَ الأُمُورِ العِظامِ تَقْدَحُ في الِاسْتِقامَةِ كَما تَقْدَحُ مُجاهَرَتُنا بِالِاسْتِقامَةِ فِيها، بَلْ مُجاهَرَتُنا بِسَبِّ رَبِّنا ونَبِيِّنا وكِتابِهِ وإحْراقِ مَساجِدِنا ودُورِنا أشَدُّ عَلَيْنا مِن مُجاهَرَتِنا بِالمُحارَبَةِ إنْ كُنّا مُؤْمِنِينَ فَإنَّهُ يَجِبُ عَلَيْنا أنْ نَبْذُلَ دِماءَنا وأمْوالَنا حَتّى تَكُونَ كَلِمَةُ اللَّهِ هي العُلْيا ولا يُجْهَرَ بَيْنَ أظْهُرِنا بِشَيْءٍ مِن أذى اللَّهِ ورَسُولِهِ، فَإذا لَمْ يَكُونُوا مُسْتَقِيمِينَ لَنا مَعَ القَدْحِ في أهْوَنِ الأمْرَيْنِ فَكَيْفَ يَسْتَقِيمُونَ لَنا مَعَ القَدْحِ في أعْظَمِهِما؟ يُوَضِّحُ ذَلِكَ قَوْلُهُ: ﴿كَيْفَ وإنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكم لا يَرْقُبُوا فِيكم إلًّا ولا ذِمَّةً﴾ [التوبة: ٨] أيْ: كَيْفَ يَكُونُ لَهم عَهْدٌ ولَوْ ظَهَرُوا عَلَيْكم لَمْ يَرْقُبُوا الرَّحِمَ الَّتِي بَيْنَكم وبَيْنَهم ولا العَهْدَ، فَعُلِمَ أنَّ مَن كانَتْ حالَتُهُ أنَّهُ إذا ظَهَرَ لَمْ يَرْقُبْ ما بَيْنَنا وبَيْنَهُ مِنَ العَهْدِ لَمْ يَكُنْ لَهُ عَهْدٌ، ومَن جاهَرَنا بِالطَّعْنِ في دِينِنا وسَبِّ رَبِّنا ونَبِيِّنا كانَ ذَلِكَ مِن أعْظَمِ الأدِلَّةِ عَلى أنَّهُ لَوْ ظَهَرَ عَلَيْنا لَمْ يَرْقُبِ العَهْدَ الَّذِي بَيْنَنا وبَيْنَهُ، فَإنَّهُ إذا كانَ هَذا فِعْلُهُ مَعَ وُجُودِ العَهْدِ والذِّلَّةِ، فَكَيْفَ يَكُونُ مَعَ القُدْرَةِ والدَّوْلَةِ؟ وهَذا بِخِلافِ مَن لَمْ يُظْهِرْ لَنا شَيْئًا مِن ذَلِكَ، فَإنَّهُ يَجُوزُ أنْ يَفِيَ لَنا بِالعَهْدِ ولَوْ ظَهَرَ. فَإنْ قِيلَ: فالآيَةُ إنَّما هي في أهْلِ الهُدْنَةِ المُقِيمِينَ في دارِهِمْ، قِيلَ: الجَوابُ مِن وجْهَيْنِ: أحَدُهُما: أنَّ لَفْظَها أعَمُّ. والثّانِي: أنَّها إذا كانَ مَعْناها في أهْلِ الذِّمَّةِ المُقِيمِينَ بِدارِهِمْ فَثُبُوتُهُ في أهْلِ الذِّمَّةِ المُقِيمِينَ بِدارِنا أوْلى وأحْرى. * [فَصْلٌ انْتِقاضُ العَهْدِ بِنَكْثِهِمْ أيْمانَهُمْ] قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وَإنْ نَكَثُوا أيْمانَهم مِن بَعْدِ عَهْدِهِمْ وطَعَنُوا في دِينِكم فَقاتِلُوا أئِمَّةَ الكُفْرِ﴾ [التوبة: ١٢] فَأمَرَ سُبْحانَهُ بِقِتالِ مَن نَكَثَ يَمِينَهُ؛ أيْ: عَهْدَهُ الَّذِي عاهَدَنا عَلَيْهِ مِنَ الكَفِّ عَنْ أذانا والطَّعْنِ في دِينِنا، وجَعَلَ عِلَّةَ قِتالِهِ ذَلِكَ، وعَطَفَ الطَّعْنَ في الدِّينِ عَلى نَكْثِ العَهْدِ وخَصَّهُ بِالذِّكْرِ بَيانًا أنَّهُ مِن أقْوى الأسْبابِ المُوجِبَةِ لِلْقِتالِ، ولِهَذا تُغَلَّظُ عَلى صاحِبِهِ العُقُوبَةُ، وهَذِهِ كانَتْ سُنَّةَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ فَإنَّهُ كانَ يُهْدِرُ دِماءَ مَن آذى اللَّهَ ورَسُولَهُ وطَعَنَ في الدِّينِ ويُمْسِكُ عَنْ غَيْرِهِ. فَإنْ قِيلَ: فالآيَةُ تَدُلُّ عَلى أنَّ مَن نَقَضَ عَهْدَهُ وطَعَنَ في الدِّينِ فَإنَّهُ يُقاتَلُ، فَمِن أيْنَ لَكم أنَّ مَن طَعَنَ في الدِّينِ ولَمْ يَنْقُضِ العَهْدَ لَمْ يُقاتَلْ؟ ومَعْلُومٌ أنَّ الحُكْمَ المُعَلَّقَ بِوَصْفَيْنِ لا يَثْبُتُ إلّا بِوُجُودِ أحَدِهِما، فالجَوابُ مِن وُجُوهٍ: أحَدُها: أنَّ هَذا مِن بابِ تَعْلِيقِ الحُكْمِ بِالوَصْفَيْنِ المُتَلازِمَيْنِ الَّذِي لا يَنْفَكُّ أحَدُهُما عَنِ الآخَرِ، فَمَتى تَحَقَّقَ أحَدُهُما تَحَقَّقَ الآخَرُ وهَذا كَقَوْلِهِ تَعالى: ﴿وَمَن يُشاقِقِ الرَّسُولَ مِن بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُ الهُدى ويَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ المُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ ما تَوَلّى﴾ [النساء: ١١٥]، وكَقَوْلِهِ: ﴿وَلا تَلْبِسُوا الحَقَّ بِالباطِلِ وتَكْتُمُوا الحَقَّ﴾ [البقرة: ٤٢]، وقَوْلِهِ: ﴿وَمَن يَعْصِ اللَّهَ ورَسُولَهُ ويَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نارًا خالِدًا فِيها﴾ [النساء: ١٤] ونَظائِرُهُ كَثِيرَةٌ جِدًّا، فَلا يُتَصَوَّرُ بَقاؤُهُ عَلى العَهْدِ مَعَ الطَّعْنِ في دِينِنا بَلْ إمْكانُ بَقائِهِ عَلى العَهْدِ دِينًا أقْرَبُ مِن بَقائِهِ عَلى العَهْدِ مَعَ المُجاهَرَةِ بِالطَّعْنِ في الدِّينِ، بَلْ إنْ أمْكَنَ بَقاؤُهُ عَلى العَهْدِ مَعَ المُجاهَرَةِ بِالطَّعْنِ في الدِّينِ وسُنَّةِ اللَّهِ ورَسُولِهِ أمْكَنَ بَقاؤُهُ عَلَيْهِ مَعَ المُحارَبَةِ بِاليَدِ ومَنعِ إعْطاءِ الجِزْيَةِ، وهَذا واضِحٌ لا خَفاءَ بِهِ. الجَوابُ الثّانِي: أنَّهُ لا بُدَّ أنْ يَكُونَ لِكُلِّ صِفَةٍ مِن هاتَيْنِ الصِّفَتَيْنِ ما يُبَيَّنُ في الحُكْمِ، وإلّا فالوَصْفُ العَدِيمُ التَّأْثِيرِ لا يَتَعَلَّقُ بِهِ الحُكْمُ فَلا يَصِحُّ أنْ يُقالَ: مَن أكَلَ وزَنى حُدَّ، ثُمَّ قَدْ تَكُونُ كُلُّ صِفَةٍ مُسْتَقِلَّةٍ بِالتَّأْثِيرِ لَوِ انْفَرَدَتْ، كَما يُقالُ: يُقْتَلُ هَذا لِأنَّهُ زانٍ مُرْتَدٌّ. وقَدْ يَكُونُ مَجْمُوعُ الجَزاءِ مُرَتَّبًا عَلى المَجْمُوعِ، ولِكُلِّ وصْفٍ تَأْثِيرٌ في البَعْضِ كَما قالَ تَعالى: ﴿والَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إلَهًا آخَرَ ولا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إلّا بِالحَقِّ﴾ [الفرقان: ٦٨]. وَقَدْ تَكُونُ تِلْكَ الصِّفاتُ مُتَلازِمَةً، كُلٌّ مِنها لَوْ فُرِضَ تَجَرُّدُهُ لَكانَ مُؤَثِّرًا عَلى سَبِيلِ الِاسْتِقْلالِ، فَيُذْكَرُ إيضاحًا وبَيانًا لِلْمُوجِبِ. وَقَدْ تَكُونُ تِلْكَ الصِّفاتُ مُتَلازِمَةً، كُلٌّ مِنها لَوْ فُرِضَ تَجَرُّدُهُ لَكانَ مُؤَثِّرًا عَلى سَبِيلِ الِاسْتِقْلالِ، فَيُذْكَرُ إيضاحًا وبَيانًا لِلْمُوجِبِ. وَقَدْ يَكُونُ بَعْضُها مُسْتَلْزِمًا لِلْبَعْضِ مِن غَيْرِ عَكْسٍ كَما قالَ تَعالى: ﴿إنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ ويَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقِّ﴾ [آل عمران: ٢١] وهَذِهِ الآيَةُ مِن أيِّ الأقْسامِ فُرِضَتْ كانَتْ دَلِيلًا؛ لِأنَّ أقْصى ما يُقالُ: إنَّ نَقْضَ العَهْدِ هو المُبِيحُ لِلْقِتالِ والطَّعْنِ في الدِّينِ مُؤَكِّدٌ لَهُ مُوجِبٌ لَهُ، فَنَقُولُ إذا كانَ الطَّعْنُ يُغَلِّظُ قِتالَ مَن لَيْسَ بَيْنَنا وبَيْنَهُ عَهْدٌ ويُوجِبُهُ؛ فَلِأنْ يُوجِبَ قَتْلَ مَن بَيْنَنا وبَيْنَهُ ذِمَّةٌ - وهو مُلْتَزِمٌ لِلصَّغارِ - أوْلى، فَإنَّ المُعاهِدَ لَهُ أنْ يُظْهِرَ في دارِهِ ما شاءَ مِن أمْرِ دِينِهِ، والذِّمِّيُّ لَيْسَ لَهُ أنْ يُظْهِرَ في دارِ الإسْلامِ شَيْئًا مِن دِينِهِ الباطِلِ. الجَوابُ الثّالِثُ: أنَّ مُجَرَّدَ نَكْثِ الأيْمانِ مُقْتَضٍ لِلْمُقاتَلَةِ ولَوْ تَجَرَّدَ عَنِ الطَّعْنِ في الدِّينِ، وضَرَرُهُ أشَدُّ مِن ضَرَرِ الطَّعْنِ في الدِّينِ عَلَيْنا، فَإذا كانَ أيْسَرُ الأمْرَيْنِ مُقْتَضِيًا لِلْمُقاتَلَةِ فَكَيْفَ بِأشَدِّهِما؟ الجَوابُ الرّابِعُ: أنَّ الذِّمِّيَّ إذا سَبَّ اللَّهَ والرَّسُولَ أوْ عابَ الإسْلامَ عَلانِيَةً فَقَدْ نَكَثَ يَمِينَهُ وطَعَنَ في دِينِنا، ولا خِلافَ بَيْنَ المُسْلِمِينَ أنَّهُ يُعاقَبُ عَلى ذَلِكَ بِما يَرْدَعُهُ ويُنَكَّلُ بِهِ، فَعُلِمَ أنَّهُ لَمْ يُعاهِدْنا عَلَيْهِ؛ إذْ لَوْ كانَ مُعاهَدًا عَلَيْهِ لَمْ تَجُزْ عُقُوبَتُهُ عَلَيْهِ كَما لا يُعاقَبُ عَلى شُرْبِ الخَمْرِ وأكْلِ الخِنْزِيرِ ونَحْوِ ذَلِكَ، وإذا كُنّا عاهَدْناهُ عَلى ألّا يَطْعَنَ في دِينِنا ثُمَّ طَعَنَ فَقَدْ نَكَثَ يَمِينَهُ مِن بَعْدِ عَهْدِهِ، فَيَجِبُ قَتْلُهُ بِنَصِّ الآيَةِ. قالَ شَيْخُنا: وهَذِهِ دَلالَةٌ ظاهِرَةٌ جِدًّا؛ لِأنَّ المُنازِعَ سَلَّمَ لَنا أنَّهُ مَمْنُوعٌ مِن ذَلِكَ بِالعَهْدِ الَّذِي بَيْنَنا وبَيْنَهُ لَكِنَّهُ يَقُولُ: " لَيْسَ كُلُّ ما مُنِعَ مِنهُ يَنْقُضُ عَهْدَهُ كَإظْهارِ الخَمْرِ والخِنْزِيرِ ". ولَكِنَّ الفَرْقَ بَيْنَ مَن وُجِدَ مِنهُ فِعْلُ ما مَنَعَ مِنهُ العَهْدُ مِمّا لا يَضُرُّ بِنا ضَرَرًا بَيِّنًا، كَتَرْكِ الغِيارِ مَثَلًا وشُرْبِ الخَمْرِ وإظْهارِ الخِنْزِيرِ، وبَيْنَ مَن وُجِدَ مِنهُ فِعْلُ ما مُنِعَ مِنهُ العَهْدُ مِمّا فِيهِ غايَةُ الضَّرَرِ بِالمُسْلِمِينَ وبِالدِّينِ، فَإلْحاقُ أحَدِهِما بِالآخَرِ باطِلٌ. يُوَضِّحُ ذَلِكَ الجَوابُ الخامِسُ: أنَّ النَّكْثَ هو مُخالَفَةُ العَهْدِ، فَمَتى خالَفُوا شَيْئًا مِمّا صُولِحُوا عَلَيْهِ فَهو نَكْثٌ مَأْخُوذٌ مِن نَكْثِ الحَبْلِ وهو نَقْضُ قُواهُ، ونَكْثُ الحَبْلِ يَحْصُلُ بِنَقْضِ قُوَّةٍ واحِدَةٍ كَما يَحْصُلُ بِنَقْضِ جَمِيعِ القُوى، لَكِنْ قَدْ يَبْقى مِن [قُواهُ ما [يَتَمَسَّكُ بِهِ الحَبْلُ، وقَدْ يَهِنُ بِالكُلِّيَّةِ. وَهَذِهِ المُخالَفَةُ مِنَ المُعاهِدِ قَدْ تُبْطِلُ العَهْدَ بِالكُلِّيَّةِ حَتّى تَجْعَلَهُ حَرْبِيًّا، وقَدْ تُشَعِّثُ العَهْدَ حَتّى تُبِيحَ عُقُوبَتَهُمْ، كَما أنَّ فَقْدَ بَعْضِ الشُّرُوطِ في البَيْعِ والنِّكاحِ وغَيْرِهِما قَدْ يُبْطِلُهُ بِالكُلِّيَّةِ، وقَدْ يُبِيحُ الفَسْخَ والإمْساكَ. وَأمّا مَن قالَ: " يَنْتَقِضُ العَهْدُ بِجَمِيعِ المُخالَفاتِ ". فَظاهِرٌ عَلى قَوْلٍ قالَهُ القاضِي في " التَّعْلِيقِ ". واحْتَجَّ القاضِي بِأنَّهم لَوْ أظْهَرُوا مُنْكَرًا في دارِ الإسْلامِ مِثْلَ: إحْداثِ البِيَعِ والكَنائِسِ في دارِ الإسْلامِ ورَفْعِ الأصْواتِ بِكُتُبِهِمْ والضَّرْبِ بِالنَّواقِيسِ وإطالَةِ البِناءِ عَلى أبْنِيَةِ المُسْلِمِينَ وإظْهارِ الخَمْرِ والخِنْزِيرِ، وكَذَلِكَ ما أُخِذَ عَلَيْهِمْ تَرْكُهُ مِنَ التَّشَبُّهِ بِالمُسْلِمِينَ في مَلْبُوسِهِمْ ومَرْكُوبِهِمْ وشُعُورِهِمْ وكُناهم. قالَ: والجَوابُ أنَّ مِن أصْحابِنا مَن جَعَلَهُ ناقِضًا لِلْعَهْدِ بِهَذِهِ الأشْياءِ - وهو ظاهِرُ كَلامِ الخِرَقِيِّ، فَإنَّهُ قالَ: " ومَن نَقَضَ العَهْدَ بِمُخالَفَةِ شَيْءٍ مِمّا صُولِحُوا عَلَيْهِ عادَ حَرْبِيًّا " - فَعَلى هَذا لا نُسَلِّمُ، وإنْ سَلَّمْناهُ فَلَمّا تَبَيَّنَ فِيها أنَّهُ لا ضَرَرَ عَلى المُسْلِمِينَ فِيها وإنَّما نُهُوا عَنْ فِعْلِها لِما في إظْهارِها مِنَ المُنْكَرِ، ولَيْسَ كَذَلِكَ في مِلَّتِنا لِأنَّ في فِعْلِها ضَرَرًا بِالمُسْلِمِينَ فَبانَ الفَرْقُ، انْتَهى كَلامُهُ. قالَ شَيْخُنا: فَعَلى التَّقْدِيرَيْنِ فَقَدِ اقْتَضى العَقْدُ ألّا يُظْهِرُوا شَيْئًا مِن عَيْبِ دِينِنا، وأنَّهم مَتى أظْهَرُوهُ فَقَدْ نَكَثُوا وطَعَنُوا في الدِّينِ فَيَدْخُلُونَ في عُمُومِ الآيَةِ لَفْظًا ومَعْنًى، ومِثْلُ هَذا العُمُومِ يَبْلُغُ دَرَجَةَ النَّصِّ. * [فَصْلٌ: كُلُّ مَن طَعَنَ في دِينِنا فَهو مِن أئِمَّةِ الكُفْرِ] وَفِي الآيَةِ دَلِيلٌ مِن وجْهٍ آخَرَ وهو قَوْلُهُ تَعالى: ﴿فَقاتِلُوا أئِمَّةَ الكُفْرِ﴾ [التوبة: ١٢] وهُمُ الَّذِينَ نَكَثُوا أيْمانَهم مِن بَعْدِ عَهْدِهِمْ وطَعَنُوا في دِينِنا، ولَكِنْ أقامَ الظّاهِرَ مَقامَ المُضْمَرِ بَيْنَهُما عَلى الوَصْفِ الَّذِي اسْتَحَقُّوا بِهِ المُقاتَلَةَ كَقَوْلِهِ: ﴿والَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالكِتابِ وأقامُوا الصَّلاةَ إنّا لا نُضِيعُ أجْرَ المُصْلِحِينَ﴾ [الأعراف: ١٧٠] ونَظائِرِهِ، فَدَلَّ عَلى أنَّ مَن نَكَثَ يَمِينَهُ وطَعَنَ في دِينِنا فَهو مِن أئِمَّةِ الكُفْرِ، وإمامُ الكُفْرِ هو الدّاعِي إلَيْهِ المُتَّبَعُ فِيهِ. وَإنَّما صارَ إمامًا في الكُفْرِ لِأجْلِ الطَّعْنِ، وإلّا فَإنَّ مُجَرَّدَ النَّكْثِ لا يُوجِبُ ذَلِكَ وهَذا ظاهِرٌ، فَإنَّ الطّاعِنَ في الدِّينِ يَعِيبُهُ ويَذُمُّهُ ويَدْعُو إلى خِلافِهِ، وهَذا شَأْنُ الإمامِ، فَإذا طَعَنَ الذِّمِّيُّ في الدِّينِ كانَ إمامًا في الكُفْرِ فَيَجِبُ قِتالُهُ. وَقَوْلُهُ: ﴿إنَّهم لا أيْمانَ لَهُمْ﴾ [التوبة: ١٢] عِلَّةٌ أُخْرى لِقِتالِهِ، فَأمّا عَلى قِراءَةِ الكَسْرِ فَتَكُونُ الآيَةُ قَدْ تَضَمَّنَتْ ذِكْرَ المُقْتَضِي لِلْقِتالِ - وهو نَكْثُ العَهْدِ والطَّعْنُ في الدِّينِ - وبَيانُ عَدَمِ المانِعِ مِنَ القِتالِ وهو الإيمانُ العاصِمُ. وَأمّا عَلى قِراءَةِ فَتْحِ الألِفِ فالأيْمانُ جَمْعُ يَمِينٍ، وهي أحْسَنُ القِراءَتَيْنِ؛ لِأنَّهُ قَدْ تَقَدَّمَ في أوَّلِ الآيَةِ قَوْلُهُ: ﴿وَإنْ نَكَثُوا أيْمانَهُمْ﴾ [التوبة: ١٢] فَأخْبَرَ سُبْحانَهُ عَنْ سَبَبِ القِتالِ - وهو نَكْثُ الأيْمانِ والطَّعْنُ في الدِّينِ - ثُمَّ أخْبَرَ أنَّهُ لا أيْمانَ لَهم تَعْصِمُهم مِنَ القَتْلِ لِأنَّهم قَدْ نَكَثُوها. والمُرادُ بِالأيْمانِ هُنا العُهُودُ لا القَسَمُ بِاللَّهِ، فَإنَّ النَّبِيَّ ﷺ لَمْ يُقاسِمْهم بِاللَّهِ عامَ الحُدَيْبِيَةِ وإنَّما عاهَدَهُمْ، ونُسْخَةُ الكِتابِ مَحْفُوظَةٌ لَيْسَ فِيها قَسَمٌ، وهَذا لِأنَّ كُلًّا مِنَ المُتَعاهِدَيْنِ يَمُدُّ يَمِينَهُ إلى الآخَرِ، ثُمَّ صارَ مُجَرَّدُ الكَلامِ بِالعَهْدِ يُسَمّى يَمِينًا، وإنْ لَمْ يَحْصُلْ فِيهِ مَدُّ اليَمِينِ. وَقَدْ قِيلَ: سُمِّيَ العَهْدُ يَمِينًا؛ لِأنَّ اليَمِينَ هي القُوَّةُ والشِّدَّةُ، كَما قالَ تَعالى: ﴿لَأخَذْنا مِنهُ بِاليَمِينِ﴾ [الحاقة: ٤٥] ولَمّا كانَ الحَلِفُ مَعْقُودًا مَشْدُودًا سُمِّيَ يَمِينًا، فاسْمُ اليَمِينِ جامِعٌ لِلْعَهْدِ الَّذِي بَيْنَ العَبْدِ وبَيْنَ رَبِّهِ وإنْ كانَ نَذْرًا، ومِنهُ قَوْلُ النَّبِيِّ ﷺ " النَّذْرُ حَلْفَةٌ " ولِلْعَهْدِ الَّذِي بَيْنَ المَخْلُوقِينَ، ومِنهُ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وَلا تَنْقُضُوا الأيْمانَ بَعْدَ تَوْكِيدِها﴾ [النحل: ٩١] فالنَّهْيُ عَنْ [نَقْضِ] العُهُودِ وإنْ لَمْ يَكُنْ فِيها قَسَمٌ، وقالَ تَعالى: ﴿وَمَن أوْفى بِما عاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أجْرًا عَظِيمًا﴾ [الفتح: ١٠] وإنْ لَمْ يَكُنْ هُناكَ قَسَمٌ، ومِنهُ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿واتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَساءَلُونَ بِهِ والأرْحامَ﴾ [النساء: ١] مَعْناهُ: تَتَعاهَدُونَ وتَتَعاقَدُونَ بِهِ، والمَقْصُودُ أنَّ كُلَّ مَن طَعَنَ في دِينِنا بَعْدَ أنْ عاهَدْناهُ عَهْدًا يَقْتَضِي ألّا يَفْعَلَ ذَلِكَ، فَهو إمامٌ في الكُفْرِ لا يَمِينَ لَهُ فَيَجِبُ قَتْلُهُ بِنَصِّ الآيَةِ، وبِهَذا يَظْهَرُ الفَرْقُ بَيْنَهُ وبَيْنَ النّاكِثِ الَّذِي لَيْسَ بِإمامٍ في الكُفْرِ، وهو مَن خالَفَ بِفِعْلِ شَيْءٍ مِمّا صُولِحَ عَلَيْهِ. * [فَصْلٌ الهَمُّ بِإخْراجِ الرَّسُولِ مُوجِبٌ لِقِتالِهِمْ] قَوْلُهُ تَعالى: ﴿ألا تُقاتِلُونَ قَوْمًا نَكَثُوا أيْمانَهم وهَمُّوا بِإخْراجِ الرَّسُولِ﴾ [التوبة: ١٣] فَجَعَلَ هَمَّهم بِإخْراجِ الرَّسُولِ مُوجِبًا لِقِتالِهِمْ لِما فِيهِ مِنَ الأذى لَهُ. وَمَعْلُومٌ قَطْعًا أنَّ سَبَّهُ أعْظَمُ أذًى لَهُ مِن مُجَرَّدِ إخْراجِهِ مِن بَلَدِهِ، ولِهَذا عَفا ﷺ عامَ الفَتْحِ عَنِ الَّذِينَ هَمُّوا بِإخْراجِهِ ولَمْ يَعْفُ عَمَّنْ سَبَّهُ، فالذِّمِّيُّ إذا أظْهَرَ سَبَّهُ فَقَدْ نَكَثَ عَهْدَهُ وفَعَلَ ما هو أعْظَمُ مِنَ الهَمِّ بِإخْراجِ الرَّسُولِ وبَدَأ بِالأذى فَيَجِبُ قِتالُهُ. * [فَصْلٌ الأمْرُ بِقِتالِ النّاكِثِينَ الطّاعِنِينَ في الدِّينِ] قَوْلُهُ تَعالى: ﴿قاتِلُوهم يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأيْدِيكم ويُخْزِهِمْ ويَنْصُرْكم عَلَيْهِمْ ويَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ - ويُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ﴾ [التوبة: ١٤-١٥] فَأمَرَ سُبْحانَهُ بِقِتالِ النّاكِثِينَ الطّاعِنِينَ في الدِّينِ، ورَتَّبَ عَلى ذَلِكَ أشْياءَ: تَعْذِيبِهِمْ بِأذى المُؤْمِنِينَ، وخِزْيِهِمْ، والنُّصْرَةِ عَلَيْهِمْ، وشِفاءِ صُدُورِ المُؤْمِنِينَ، وذَهابِ غَيْظِ قُلُوبِهِمْ، وتَوْبَتِهِ عَلى غَيْرِهِمْ. والتَّقْدِيرُ: إنْ تُقاتِلُوهم يَحْصُلْ هَذا. وَإذا كانَتْ هَذِهِ الأُمُورُ مُرَتَّبَةً عَلى قِتالِ النّاكِثِ والطّاعِنِ في الدِّينِ - وهي أُمُورٌ مَطْلُوبَةٌ - كانَ سَبَبُها المُقْتَضِي لَها مَطْلُوبًا لِلشّارِعِ - وهو القِتالُ - وإذا كانَتْ هَذِهِ الأُمُورُ مَطْلُوبَةً حاصِلَةً بِالقِتالِ لَمْ يَجُزْ تَعْطِيلُ القِتالِ الَّذِي هو سَبَبُها مَعَ قِيامِ المُقْتَضِي لَهُ مِن جِهَةِ مَن يُقاتِلُهُ، وهو النَّكْثُ والطَّعْنُ في الدِّينِ. فَشِفاءُ الصُّدُورِ الحاصِلُ مِن ألَمِ النَّكْثِ والطَّعْنِ، وذَهابُ الغَيْظِ الحاصِلِ في صُدُورِ المُؤْمِنِينَ مِن ذَلِكَ، مَقْصُودٌ لِلشّارِعِ مَطْلُوبُ الحُصُولِ، ولا رَيْبَ أنَّ مَن أظْهَرَ سَبَّ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ مِن أهْلِ الذِّمَّةِ فَإنَّهُ يَغِيظُ المُؤْمِنِينَ ويُؤْلِمُهم أكْثَرَ مِن سَفْكِ دِماءِ بَعْضِهِمْ وأخْذِ أمْوالِهِمْ، فَإنَّ هَذا يُثِيرُ الغَضَبَ لِلَّهِ والحَمِيَّةَ لَهُ ولِرَسُولِهِ. وَهَذا القَدْرُ لا يَهِيجُ في قَلْبِ المُؤْمِنِ غَيْظٌ أكْثَرَ مِنهُ، بَلِ المُؤْمِنُ المُسَدَّدُ لا يَغْضَبُ هَذا الغَضَبَ إلّا لِلَّهِ ورَسُولِهِ، واللَّهُ سُبْحانَهُ يُحِبُّ شِفاءَ صُدُورِ المُؤْمِنِينَ وذَهابَ غَيْظِ قُلُوبِهِمْ، وهَذا إنَّما يَحْصُلُ بِقَتْلِ السَّبّابِ لِأوْجُهٍ: أحَدُها: أنَّ [تَعْزِيرَهُ] وتَأْدِيبَهُ يُذْهِبُ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ إذا شَتَمَ أحَدًا مِن المُسْلِمِينَ، فَلَوْ أذْهَبَ التَّعْزِيرُ والتَّأْدِيبُ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ إذا شَتَمَ الرَّسُولَ لَكانَ غَيْظُهم مِن سَبِّ نَبِيِّهِمْ مِثْلَ غَيْظِهِمْ مِن سَبِّ واحِدٍ مِنهُمْ، وهَذا باطِلٌ قَطْعًا. الثّانِي: أنَّ شَتْمَهُ أعْظَمُ عِنْدَهم مِن أنْ يُسْفَكَ دِماءُ بَعْضِهِمْ بَعْضًا، ثُمَّ لَوْ قَتَلَ واحِدٌ مِنهم لَمْ يَشْفِ صُدُورَهم إلّا قَتْلُهُ، فَأنْ لا تُشْفى صُدُورُهم إلّا بِقَتْلِ السّابِّ أوْلى وأحْرى. الثّالِثُ: أنَّ اللَّهَ جَعَلَ قِتالَهم هو السَّبَبَ في حُصُولِ الشِّفاءِ، والأصْلُ عَدَمُ سَبَبٍ آخَرَ يُحَصِّلُهُ فَيَجِبُ أنْ يَكُونَ القَتْلُ هو الشّافِيَ لِصُدُورِ المُؤْمِنِينَ مِن مِثْلِ هَذا. الرّابِعُ: أنَّ النَّبِيَّ ﷺ لَمّا فُتِحَتْ مَكَّةُ وأرادَ أنْ يَشْفِيَ صُدُورَ خُزاعَةَ - وهُمُ القَوْمُ المُؤْمِنُونَ - مِن بَنِي بَكْرٍ الَّذِينَ قاتَلُوهم مَكَّنَهم مِنهم نِصْفَ النَّهارِ أوْ أكْثَرَ مَعَ أمانِهِ لِسائِرِ النّاسِ، فَلَوْ كانَ شِفاءُ صُدُورِهِمْ وذَهابُ غَيْظِ قُلُوبِهِمْ يَحْصُلُ بِدُونِ القَتْلِ لِلَّذِينَ نَكَثُوا أوْ طَعَنُوا لَما فَعَلَ ذَلِكَ مَعَ أمانِهِ النّاسَ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب