الباحث القرآني
سُورَةُ آلِ عِمْرانَ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ﴿الم﴾ ﴿اللَّهُ لا إلَهَ إلّا هو الحَيُّ القَيُّومُ﴾ ﴿نَزَّلَ عَلَيْكَ الكِتابَ بِالحَقِّ مُصَدِّقًا لِما بَيْنَ يَدَيْهِ وأنْزَلَ التَّوْراةَ والإنْجِيلَ﴾ [آل عمران: ٣] ﴿مِن قَبْلُ هُدًى لِلنّاسِ وأنْزَلَ الفُرْقانَ إنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللَّهِ لَهم عَذابٌ شَدِيدٌ واللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقامٍ﴾ [آل عمران: ٤] ﴿إنَّ اللَّهَ لا يَخْفى عَلَيْهِ شَيْءٌ في الأرْضِ ولا في السَّماءِ﴾ [آل عمران: ٥] ﴿هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكم في الأرْحامِ كَيْفَ يَشاءُ لا إلَهَ إلّا هو العَزِيزُ الحَكِيمُ﴾ [آل عمران: ٦] ﴿هُوَ الَّذِي أنْزَلَ عَلَيْكَ الكِتابَ مِنهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الكِتابِ وأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ فَأمّا الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنهُ ابْتِغاءَ الفِتْنَةِ وابْتِغاءَ تَأْوِيلِهِ وما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إلّا اللَّهُ والرّاسِخُونَ في العِلْمِ يَقُولُونَ آمَنّا بِهِ كُلٌّ مِن عِنْدِ رَبِّنا وما يَذَّكَّرُ إلّا أُولُو الألْبابِ﴾ [آل عمران: ٧] ﴿رَبَّنا لا تُزِغْ قُلُوبَنا بَعْدَ إذْ هَدَيْتَنا وهَبْ لَنا مِن لَدُنْكَ رَحْمَةً إنَّكَ أنْتَ الوَهّابُ﴾ [آل عمران: ٨] ﴿رَبَّنا إنَّكَ جامِعُ النّاسِ لِيَوْمٍ لا رَيْبَ فِيهِ إنَّ اللَّهَ لا يُخْلِفُ المِيعادَ﴾ [آل عمران: ٩] ﴿إنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهم أمْوالُهم ولا أوْلادُهم مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وأُولَئِكَ هم وقُودُ النّارِ﴾ [آل عمران: ١٠] ﴿كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ والَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآياتِنا فَأخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ واللَّهُ شَدِيدُ العِقابِ﴾ [آل عمران: ١١]
(التَّوْراةُ): اسْمٌ عِبْرانِيٌّ، وقَدْ تَكَلَّفَ النُّحاةُ في اشْتِقاقِها وفي وزْنِها، وذَلِكَ بَعْدَ تَقْرِيرِ النُّحاةِ أنَّ الأسْماءَ الأعْجَمِيَّةَ لا يَدْخُلُها اشْتِقاقٌ، وأنَّها لا تُوزَنُ، يَعْنُونَ اشْتِقاقًا عَرَبِيًّا. (p-٣٧١)فَأمّا اشْتِقاقُ (التَّوْراةَ) فَفِيهِ قَوْلانِ: أحَدُهُما: إنَّها مِن: ورى الزَّنْدُ يَرى، إذا قَدَحَ وظَهَرَ مِنهُ النّارُ، فَكَأنَّ التَّوْراةَ ضِياءٌ مِنَ الضَّلالِ، وهَذا الِاشْتِقاقُ قَوْلُ الجُمْهُورِ، وذَهَبَ أبُو فَيْدٍ مُوَرَّجٌ السَّدُوسِيُّ إلى أنَّها مُشْتَقَّةٌ مِن: ورّى، كَما رُوِيَ أنَّهُ كانَ إذا أرادَ سَفَرًا ورّى بِغَيْرِهِ؛ لِأنَّ أكْثَرَ التَّوْراةِ تَلْوِيحٌ. وأمّا وزْنُها فَذَهَبَ الخَلِيلُ، وسِيبَوَيْهِ، وسائِرُ البَصْرِيِّينَ إلى أنَّ وزْنَها: فَوْعَلَةٌ، والتّاءُ بَدَلٌ مِنَ الواوِ، كَما أُبْدِلَتْ في: تُولِجُ، فالأصْلُ فِيها ووَزْنُهُ ووَلَجَ؛ لِأنَّهُما مِن ورّى، ومِن ولَجَ، فَهي: كَحَوْقَلَةَ، وذَهَبَ الفَرّاءُ إلى أنَّ وزْنَها: تَفْعِلَةٌ، كَتَوْصِيَةٍ، ثُمَّ أُبْدِلَتْ كَسْرَةُ العَيْنِ فَتْحَةً والياءُ ألِفًا، كَما قالُوا في: ناصِيَةٍ، وجارِيَةٍ: ناصاهُ وجاراهُ.
وقالَ الزَّجّاجُ: كَأنَّهُ يُجِيزُ في تَوْصِيَةٍ تَوْصاهَ، وهَذا غَيْرُ مَسْمُوعٍ، وذَهَبَ بَعْضُ الكُوفِيِّينَ إلى أنَّ وزْنَها: تَفْعَلَةٌ، بِفَتْحِ العَيْنِ مِن: ورَّيْتُ بِكَ زَنادِيَّ، وتَجُوزُ إمالَةُ التَّوْراةِ وقَدْ قُرِئَ بِذَلِكَ عَلى ما سَيَأْتِي إنْ شاءَ اللَّهُ تَعالى.
(الإنْجِيلَ) اسْمٌ عِبْرانِيٌّ أيْضًا، ويَنْبَغِي أنْ لا يَدْخُلَهُ اشْتِقاقٌ، وأنَّهُ لا يُوزَنُ، وقَدْ قالُوا: وزْنُهُ: إفْعِيلُ كَإجْفِيلَ، وهو مُشْتَقٌّ مِنَ النَّجْلِ، وهو الماءُ الَّذِي يَنِزُّ مِنَ الأرْضِ. قالَ الخَلِيلُ: اسْتَنْجَلَتِ الأرْضُ نِجالًا، وبِها نِجالٌ، إذا خَرَجَ مِنها الماءُ، والنَّجْلُ أيْضًا: الوَلَدُ والنَّسْلُ، قالَهُ الخَلِيلُ، وغَيْرُهُ، ونَجَلَهُ أبُوهُ أيْ: ولَدَهُ، وحَكى أبُو القاسِمِ الزَّجّاجِيُّ في نَوادِرِهِ: أنَّ الوَلَدَ يُقالُ لَهُ: نَجْلٌ، وأنَّ اللَّفْظَةَ مِنَ الأضْدادِ، والنَّجْلُ أيْضًا: الرَّمْيُ بِالشَّيْءِ. وقالَ الزَّجّاجُ: الإنْجِيلُ مَأْخُوذٌ مِنَ النَّجْلِ، وهو الأصْلُ، فَهَذا يَنْحُو إلى ما حَكاهُ الزَّجّاجِيُّ.
قالَ أبُو الفَتْحِ: فَهو مِن نَجَلَ إذا ظَهَرَ ولَدُهُ، أوْ مِن ظُهُورِ الماءِ مِنَ الأرْضِ، فَهو مُسْتَخْرَجٌ إمّا مِنَ اللَّوْحِ المَحْفُوظِ، وإمّا مِنَ التَّوْراةِ، وقِيلَ: هو مُشْتَقٌّ مِنَ التَّناجُلِ، وهو التَّنازُعُ، سُمِّيَ بِذَلِكَ لِتُنازِعِ النّاسِ فِيهِ.
وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: التَّوْراةُ والإنْجِيلُ اسْمانِ أعْجَمِيّانِ، وتَكَلَّفَ اشْتِقاقُهُما مِنَ الوَرْيِ والنَّجْلِ، ووَزْنُهُما مُتَفْعَلَةٌ وإفْعِيلٌ: إنَّما يَصِحُّ بَعْدَ كَوْنِهِما عَرَبِيَّيْنِ، انْتَهى، وكَلامُهُ صَحِيحٌ، إلّا أنَّ في كَلامِهِ اسْتِدْراكًا في قَوْلِهِ: مُتَفْعَلَةٌ، ولَمْ يَذْكُرْ مَذْهَبَ البَصْرِيِّينَ في أنَّ وزْنَها: فَوْعَلَةٌ، ولَمْ يُنَبِّهْ في: تَفْعَلَةٍ، عَلى أنَّها مَكْسُورَةُ العَيْنِ، أوْ مَفْتُوحَتُها، وقِيلَ: هو مُشْتَقٌّ مِن نَجَلَ العَيْنَ، كَأنَّهُ وسَّعَ فِيهِ ما ضَيَّقَ في التَّوْراةِ.
الِانْتِقامُ: افْتِعالٌ مِنَ النِّقْمَةِ، وهو السَّطْوَةُ والِانْتِصارُ، وقِيلَ: هي المُعاقَبَةُ عَلى الذَّنْبِ مُبالَغَةً في ذَلِكَ، ويُقالُ: نَقَمَ ونَقِمَ إذا أنْكَرَ، وانْتَقَمَ عاقَبَ.
صَوَّرَ: جَعَلَ لَهُ صُورَةً، قِيلَ: وهو بِناءٌ لِلْمُبالَغَةِ مَن صارَ يُصَوِّرُ، إذا أمالَ، وثَنى إلى حالٍ، ولَمّا كانَ التَّصْوِيرُ إمالَةً إلى حالٍ وإثْباتًا فِيها، جاءَ بِناؤُهُ عَلى المُبالَغَةِ، والصُّورَةُ: الهَيْئَةُ يَكُونُ عَلَيْها الشَّيْءُ بِالتَّأْلِيفِ. وقالَ المَرْوَزِيُّ: التَّصْوِيرُ إنَّهُ ابْتِداءُ مِثالٍ مِن غَيْرِ أنْ يَسْبِقَهُ مِثْلُهُ.
الزَّيْغُ: المَيْلُ، ومِنهُ: زاغَتِ الشَّمْسُ (وزاغَتِ الأبْصارُ) وقالَ الرّاغِبُ: الزَّيْغُ: المَيْلُ عَنِ الِاسْتِقامَةِ إلى أحَدِ الجانِبَيْنِ، وزاغَ وزالَ وما يَتَقارَبُ، لَكِنْ زاغَ لا يُقالُ إلّا فِيما كانَ مِن حَقٍّ إلى باطِلٍ.
التَّأْوِيلُ: مَصْدَرُ أوَّلَ، ومَعْناهُ: آخِرُ الشَّيْءِ ومَآلُهُ، قالَهُ الرّاغِبُ، وقالَ غَيْرُهُ: التَّأْوِيلُ المَرَدُّ والمَرْجِعُ، قالَ:
؎أؤَوِّلُ الحُكْمَ عَلى وجْهِهِ لَيْسَ قَضائِي بِالهَوى الجائِرِ
الرُّسُوخُ: الثُّبُوتُ، قالَ:
؎لَقَدْ رَسَخَتْ في القَلْبِ مَنِّي مَوَدَّةٌ ∗∗∗ لِلَيْلى أبَتْ أيّامُها أنْ تُغَيَّرا
الهِبَةُ: العَطِيَّةُ المُتَبَرَّعِ بِها، يُقالُ: وهَبَ يَهَبُ هِبَةً، وأصْلُهُ: أنْ يَأْتِيَ المُضارِعُ عَلى يَفْعِلُ، بِكَسْرِ العَيْنِ، ولِذَلِكَ حُذِفَتِ الواوُ لِوُقُوعِها بَيْنَ ياءٍ وكَسْرَةٍ، لَكِنْ لَمّا كانَتِ العَيْنُ حَرْفَ حَلْقٍ فُتِحَتْ مَعَ مُراعاةِ الكَسْرَةِ المُقَدَّرَةِ، وهو نَحْوُ: وضَعَ يَضَعُ، إلّا أنَّ هَذا فُتِحَ لِكَوْنِ لامِهِ حَرْفَ حَلْقٍ، والأصْلُ فِيهِما: يُوهِبُ ويُوضِعُ، ويَكُونُ: وهَبَ، بِمَعْنى جَعَلَ، ويَتَعَدّى إذْ ذاكَ إلى مَفْعُولَيْنِ، تَقُولُ العَرَبُ: وهَبَنِي اللَّهُ فِداكَ، أيْ: جَعَلَنِي اللَّهُ فِداكَ، وهي في هَذا الوَجْهِ لا تَتَصَرَّفُ، فَلا تُسْتَعْمَلُ مِنها بِهَذا المَعْنى إلّا الفِعْلُ الماضِي خاصَّةً.
لَدُنْ: (p-٣٧٢)ظَرْفٌ، وقَلَّ أنْ تُفارِقَها: مِن، قالَهُ ابْنُ جِنِّي، ومَعْناها: ابْتِداءُ الغايَةِ في زَمانٍ أوْ مَكانٍ، أوْ غَيْرِهِ مِنَ الذَّواتِ غَيْرِ المَكانِيَّةِ، وهي مَبْنِيَّةٌ عِنْدَ أكْثَرِ العَرَبِ، وإعْرابُها لُغَةٌ قَيْسِيَّةٌ، وذَلِكَ إذا كانَتْ مَفْتُوحَةَ اللّامِ مَضْمُومَةَ الدّالِ، بَعْدَها النُّونُ، فَمَن بَناها قِيلَ: فَلِشِبْهِها بِالحُرُوفِ في لُزُومِ اسْتِعْمالٍ واحِدٍ، وامْتِناعِ الإخْبارِ بِها، بِخِلافِ: عِنْدَ، ولَدَيَّ، فَإنَّهُما لا يَلْزَمانِ اسْتِعْمالًا واحِدًا فَإنَّهُما يَكُونانِ لِابْتِداءِ الغايَةِ، وغَيْرِ ذَلِكَ، ويُسْتَعْمَلانِ فَضْلَةً وعُمْدَةً، فالفَضْلَةُ كَثِيرٌ، ومِنَ العُمْدَةِ ﴿وعِنْدَهُ مَفاتِحُ الغَيْبِ﴾ [الأنعام: ٥٩] ﴿ولَدَيْنا كِتابٌ يَنْطِقُ بِالحَقِّ﴾ [المؤمنون: ٦٢] وأوْضَحَ بَعْضُهم عِلَّةَ البِناءِ فَقالَ: عِلَّةُ البِناءِ كَوْنُها تَدُلُّ عَلى المُلاصَقَةِ لِلشَّيْءِ وتَخْتَصُّ بِها، بِخِلافِ (عِنْدَ) فَإنَّها لا تَخْتَصُّ بِالمُلاصَقَةِ، فَصارَ فِيها مَعْنًى لا يَدُلُّ عَلَيْهِ الظَّرْفُ، بَلْ هو مِن قَبِيلِ ما يَدُلُّ عَلَيْهِ الحَرْفُ، فَهي كَأنَّها مُتَضَمِّنَةٌ لِلْحَرْفِ الَّذِي كانَ يَنْبَغِي أنْ يُوضَعَ دَلِيلًا عَلى القُرْبِ، ومِثْلُهُ: ثُمَّ وهَنا؛ لِأنَّهُما بُنِيا لَمّا تَضَمَّنا مَعْنى الحَرْفِ الَّذِي كانَ يَنْبَغِي أنْ يُوضَعَ لِيَدُلَّ عَلى الإشارَةِ، ومَن أعْرَبَها، وهم قَيْسٌ، فَتَشْبِيهًا بِعِنْدَ لِكَوْنِ مَوْضِعِها صالِحًا لِعِنْدَ، وفِيها تِسْعُ لُغاتٍ غَيْرُ الأُولى: لَدُنْ، ولَدْنٌ، ولَدِنٌ، ولُدْنٌ، ولَدِنِ، ولَدْ ولُدْ، ولُدُ ولَتْ، بِإبْدالِ الدّالِّ تاءً، وتُضافُ إلى المُفْرَدِ لَفْظًا كَثِيرًا، وإلى الجُمْلَةِ قَلِيلًا، فَمِن إضافَتِها إلى الجُمْلَةِ الفِعْلِيَّةِ قَوْلُ الشّاعِرِ:
؎صَرِيعُ غَوانٍ راقَهُنَّ ورُقْنَهُ ∗∗∗ لَدُنْ شَبَّ حَتّى شابَ سُودُ الذَّوائِبِ
وقالَ الآخَرُ:
؎لَزِمْنا لَدُنْ سَألْتُمُونا وفاقَكم ∗∗∗ فَلا يَكُ مِنكم لِلْخِلافِ جُنُوحُ
ومِن إضافَتِها إلى الجُمْلَةِ الِاسْمِيَّةِ قَوْلُ الشّاعِرِ:
؎تَذْكُرُ نَعَّماهُ لَدُنْ أنْتَ يافِعُ ∗∗∗ إلى أنْتَ ذُو فَوْدَيْنِ أبْيَضُ كالنَّسْرِ
وجاءَ إضافَتُها إلى: أنْ والفِعْلِ، قالَ:
؎ولَيْتَ فَلَمْ يَقْطَعْ لَدُنْ أنْ ولَيْتَنا ∗∗∗ قُرابَةُ ذِي قُرْبى ولا حَقُّ مُسْلِمِ
وأحْكامُ لَدُنْ كَثِيرَةٌ، ذُكِرَتْ في عِلْمِ النَّحْوِ.
الإغْناءُ: الدَّفْعُ والنَّفْعُ، وفُلانٌ عَظِيمُ الغِنى، أيِ: الدَّفْعُ والنَّفْعُ. الدَّأْبُ: العادَةُ، دَأبَ عَلى كَذا: واظَبَ عَلَيْهِ وأدْمَنَ، قالَ زُهَيْرُ:
؎لَأرْتَحِلَنَّ بِالفَجْرِ ثُمَّ لَأدْأبَنَّ ∗∗∗ إلى اللَّيْلِ إلّا أنْ يُعَرِّجَنِي طِفْلُ
الذَّنْبُ: التِّلْوُ؛ لِأنَّ العِقابَ يَتْلُوهُ، ومِنهُ الذَّنْبُ والذُّنُوبُ لِأنَّهُ يَتْبَعُ الجاذِبَ.
(p-٣٧٣)بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ﴿الم﴾ ﴿اللَّهُ لا إلَهَ إلّا هو الحَيُّ القَيُّومُ﴾ هَذِهِ السُّورَةُ، سُورَةُ آلِ عِمْرانَ، وتُسَمّى: الزَّهْراءَ، والأمانَ، والكَنْزَ، والمُعِينَةَ، والمُجادِلَةَ، وسُورَةَ الِاسْتِغْفارِ، وطِيبَةَ، وهي مَدَنِيَّةٌ، الآياتُ سِتِّينَ، وسَبَبُ نُزُولِها فِيما ذَكَرَهُ الجُمْهُورُ: «أنَّهُ وفَدَ عَلى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ وفْدُ نَصارى نَجْرانَ، وكانُوا سِتِّينَ راكِبًا، فِيهِمْ أرْبَعَةَ عَشَرَ مِن أشْرافِهِمْ، مِنهم ثَلاثَةٌ إلَيْهِمْ يَئُولُ أمْرُهم، أمِيرُهُمُ العاقِبُ عَبْدُ المَسِيحِ، وصاحِبُ رَحْلِهِمُ السَّيِّدُ الأيْهَمُ، وعالِمُهم أبُو حارِثَةَ بْنُ عَلْقَمَةَ، أحَدُ بَنِي بَكْرِ بْنِ وائِلٍ، وذَكَرَ مِن جَلالَتِهِمْ، وحُسْنُ شارَتِهِمْ (p-٣٧٤)وهَيْئَتِهِمْ، وأقامُوا بِالمَدِينَةِ أيّامًا يُناظِرُونَ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ في عِيسى، ويَزْعُمُونَ تارَةً أنَّهُ اللَّهُ، وتارَةً ولَدُ الإلَهِ، وتارَةً: ثالِثُ ثَلاثَةٍ، ورَسُولُ اللَّهِ ﷺ يَذْكُرُ لَهم أشْياءَ مِن صِفاتِ البارِي تَعالى، وانْتِفاءَها عَنْ عِيسى، وهم يُوافِقُونَهُ عَلى ذَلِكَ، ثُمَّ أبَوْا إلّا جُحُودًا، ثُمَّ قالُوا: يا مُحَمَّدُ، ألَسْتَ تَزْعُمُ أنَّهُ كَلِمَةُ اللَّهِ ورُوحٌ مِنهُ ؟ قالَ: ”بَلى“ قالُوا: فَحَسْبُنا، فَأنْزَلَ اللَّهُ فِيهِمْ صَدْرَ هَذِهِ السُّورَةِ إلى نَيِّفٍ وثَمانِينَ آيَةً مِنها، إلى أنْ دَعاهم رَسُولُ اللَّهِ ﷺ إلى الِابْتِهالِ» .
وقالَ مُقاتِلٌ: نَزَلَتْ في اليَهُودِ المُبْغِضِينَ لِعِيسى، القاذِفِينَ لِأُمِّهِ، المُنْكِرِينَ لِما أنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْهِ مِنَ الإنْجِيلِ.
ومُناسَبَةُ هَذِهِ السُّورَةِ لِما قَبْلَها واضِحَةٌ؛ لِأنَّهُ لَمّا ذَكَرَ آخِرَ البَقَرَةِ ﴿أنْتَ مَوْلانا فانْصُرْنا عَلى القَوْمِ الكافِرِينَ﴾ [البقرة: ٢٨٦] ناسَبَ أنْ يَذْكُرَ نُصْرَةَ اللَّهِ تَعالى عَلى الكافِرِينَ، حَيْثُ ناظَرَهم رَسُولُ اللَّهِ ﷺ ورَدَّ عَلَيْهِمْ بِالبَراهِينِ السّاطِعَةِ، والحُجَجِ القاطِعَةِ، فَقَصَّ تَعالى أحْوالَهم، ورَدَّ عَلَيْهِمْ في اعْتِقادِهِمْ، وذَكَرَ تَنْزِيهَهَ تَعالى عَمّا يَقُولُونَ، وبَداءَةَ خَلْقِ مَرْيَمَ وابْنِها المَسِيحِ إلى آخَرِ ما رَدَّ عَلَيْهِمْ، ولَمّا كانَ مُفْتَتَحُ آيَةِ آخِرِ البَقَرَةِ ﴿آمَنَ الرَّسُولُ بِما أُنْزِلَ إلَيْهِ مِن رَبِّهِ﴾ [البقرة: ٢٨٥] فَكَأنَّ في ذَلِكَ الإيمانَ بِاللَّهِ وبِالكُتُبِ، ناسَبَ ذِكْرَ أوْصافِ اللَّهِ تَعالى، وذَكَرَ ما أنْزَلَ عَلى رَسُولِهِ، وذَكَرَ المُنَزَّلَ عَلى غَيْرِهِ، صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِمْ.
قَرَأ السَّبْعَةُ: الم اللَّهُ، بِفَتْحِ المِيمِ، وألْفُ الوَصْلِ ساقِطَةٌ، ورَوى أبُو بَكْرٍ في بَعْضِ طُرُقِهِ، عَنْ عاصِمٍ: سُكُونَ المِيمِ، وقَطْعَ الألِفِ، وذَكَرَها الفَرّاءُ عَنْ عاصِمٍ، ورُوِيَتْ هَذِهِ القِراءَةُ عَنِ الحَسَنِ، وعَمْرِو بْنِ عُبَيْدٍ، والرَّواسِيِّ، والأعْمَشِ، والبُرْجُمِيِّ، وابْنِ القَعْقاعِ: وقَفُوا عَلى المِيمِ، كَما وقَفُوا عَلى الألِفِ واللّامِ، وحَقُّها ذَلِكَ، وأنْ يُبْدَأ بَعْدَها كَما تَقُولُ: واحِدٌ اثْنانِ.
وقَرَأ أبُو حَيْوَةَ بِكَسْرِ المِيمِ، ونَسَبُها ابْنُ عَطِيَّةَ إلى الرَّواسِيِّ، ونَسَبَها الزَّمَخْشَرِيُّ إلى عَمْرِو بْنِ عُبَيْدٍ، وقالَ: تَوَهَّمَ التَّحْرِيكَ لِالتِقاءِ السّاكِنَيْنِ، وما هي بِمَقْبُولَةٍ، يَعْنِي: هَذِهِ القِراءَةَ، انْتَهى، وقالَ غَيْرُهُ: ذَلِكَ رَدِيءٌ؛ لِأنَّ الياءَ تَمْنَعُ مِن ذَلِكَ، والصَّوابُ الفَتْحُ، قِراءَةُ جُمْهُورِ النّاسِ، انْتَهى، وقالَ الأخْفَشُ: يَجُوزُ الم اللَّهُ، بِكَسْرِ المِيمِ لِالتِقاءِ السّاكِنَيْنِ. قالَ الزَّجّاجُ: هَذا خَطَأٌ، ولا تَقُولُهُ العَرَبُ لِثِقْلِهِ.
واخْتَلَفُوا في فَتْحَةِ المِيمِ: فَذَهَبَ سِيبَوَيْهِ إلى أنَّها حُرِّكَتْ لِالتِقاءِ السّاكِنَيْنِ، كَما حَرَّكُوا: مِنَ اللَّهِ، وهَمْزَةُ الوَصْلِ ساقِطَةٌ لِلدَّرَجِ كَما سَقَطَتْ في نَحْوِ: مِنَ الرَّجُلِ، وكانَ الفَتْحُ أوْلى مِنَ الكَسْرِ لِأجْلِ الياءِ، كَما قالُوا: أيْنَ وكَيْفَ، ولِزِيادَةِ الكَسْرَةِ قَبْلَ الياءِ، فَزالَ الثِّقَلُ، وذَهَبَ الفَرّاءُ إلى أنَّها حَرَكَةُ نَقْلٍ مِن هَمْزَةِ الوَصْلِ؛ لِأنَّ حُرُوفَ الهِجاءِ يُنْوى بِها الوَقْفُ، فَيُنْوى بِما بَعْدَها الِاسْتِئْنافُ، فَكَأنَّ الهَمْزَةَ في حُكْمِ الثَّباتِ كَما في أنْصافِ الأبْياتِ نَحْوُ:
؎لَتَسْمَعَنَّ وشِيكًا في دِيارِكُمُ ∗∗∗ أللَّهُ أكْبَرُ يا ثاراتِ عُثْمانا
وضَعُفَ هَذا المَذْهَبُ بِإجْماعِهِمْ عَلى أنَّ الألِفَ المَوْصُولَةَ في التَّعْرِيفِ تَسْقُطُ في الوَصْلِ، وما يَسْقُطُ لا تُلْقى حَرَكَتُهُ، قالَهُ أبُو عَلِيٍّ، وقَدِ اخْتارَ مَذْهَبَ الفَرّاءِ في أنَّ الفَتْحَةَ في المِيمِ هي حَرَكَةُ الهَمْزَةِ حِينَ (p-٣٧٥)أُسْقِطَتْ لِلتَّخْفِيفِ الزَّمَخْشَرِيُّ، وأوْرَدَ أسْئِلَةً وأجابَ عَنْها، فَقالَ: فَإنْ قُلْتَ: كَيْفَ جازَ إلْقاءُ حَرَكَتِها عَلَيْها وهي هَمْزَةُ وصْلٍ لا تَثْبُتُ في دَرَجِ الكَلامِ، فَلا تَثْبُتُ حَرَكَتُها؛ لِأنَّ ثَباتَ حَرَكَتِها كَثَباتِها ؟ قُلْتُ: لَيْسَ هَذا بِدَرَجٍ؛ لِأنَّ المِيمَ في حُكْمِ الوَقْفِ والسُّكُونِ، والهَمْزَةَ في حُكْمِ الثّابِتِ، وإنَّما حُذِفَتْ تَخْفِيفًا، وأُلْقِيَتْ حَرَكَتُها عَلى السّاكِنِ قَبْلَها لِتَدُلَّ عَلَيْها، ونَظِيرُهُ قَوْلُهم: واحِدِ اثْنانِ، بِإلْقاءِ حَرَكَةِ الهَمْزَةِ عَلى الدّالِ، انْتَهى هَذا السُّؤالُ وجَوابُهُ، ولَيْسَ جَوابُهُ بِشَيْءٍ؛ لِأنَّهُ ادَّعى أنَّ المِيمَ حِينَ حُرِّكَتْ مَوْقُوفَةً عَلَيْها، وأنَّ ذَلِكَ لَيْسَ بِدَرَجٍ، بَلْ هو وقْفٌ، وهَذا خِلافٌ لِما أجْمَعَتِ العَرَبُ والنُّحاةُ عَلَيْهِ مِن أنَّهُ لا يُوقَفُ عَلى مُتَحَرِّكٍ ألْبَتَّةَ، سَواءٌ كانَتْ حَرَكَتُهُ إعْرابِيَّةً، أوْ بِنائِيَّةً، أوْ نَقْلِيَّةً، أوْ لِالتِقاءِ السّاكِنَيْنِ، أوْ لِلْحِكايَةِ، أوْ لِلِاتِّباعِ، فَلا يَجُوزُ في: قَدْ أفْلَحَ، إذا حُذِفَتِ الهَمْزَةُ، ونُقِلَتْ حَرَكَتُها إلى دالِ قَدْ، أنْ تَقِفَ عَلى دالِ قَدْ، بِالفَتْحَةِ، بَلْ تَسْكُنُها قَوْلًا واحِدًا.
وأمّا قَوْلُهُ: ونَظِيرُ ذَلِكَ قَوْلُهم: واحِدِ اثْنانِ بِإلْقاءِ حَرَكَةِ الهَمْزَةِ عَلى الدّالِ، فَإنَّ سِيبَوَيْهِ ذَكَرَ أنَّهم يُشِمُّونَ آخِرَ واحِدٍ لِتَمَكُّنِهِ، ولَمْ يَحْكِ الكَسْرَ لُغَةً، فَإنْ صَحَّ الكَسْرُ فَلَيْسَ واحِدٌ مَوْقُوفًا عَلَيْهِ، كَما زَعَمَ الزَّمَخْشَرِيُّ، ولا حَرَكَتُهُ حَرَكَةَ نَقْلٍ مِن هَمْزَةِ الوَصْلِ، ولَكِنَّهُ مَوْصُولٌ بِقَوْلِهِمْ: اثْنانِ، فالتَقى ساكِنانِ، دالُ واحِدٍ، وثاءُ اثْنَيْنِ، فَكُسِرَتِ الدّالُ لِالتِقائِهِما، وحُذِفَتِ الهَمْزَةُ؛ لِأنَّها لا تَثْبُتُ في الوَصْلِ، وأمّا ما اسْتَدَلَّ بِهِ الفَرّاءُ مِن قَوْلِهِمْ: ثَلاثَةٌ أرْبَعَةٌ، بِإلْقاءِ الهَمْزَةِ عَلى الهاءِ، فَلا دَلالَةَ فِيهِ؛ لِأنَّ هَمْزَةَ أرْبَعَةَ هَمْزَةُ قَطْعٍ في حالِ الوَصْلِ بِما قَبْلَها وابْتِدائِها، ولَيْسَ كَذَلِكَ هَمْزَةُ الوَصْلِ نَحْوُ: مِنَ اللَّهِ، وأيْضًا، فَقَوْلُهم: ثَلاثَةٌ أرْبَعَةٌ بِالنَّقْلِ لَيْسَ فِيهِ وقَفٌ عَلى ثَلاثَةٍ، إذْ لَوْ وُقِفَ عَلَيْها لَمْ تَكُنْ تَقْبَلُ الحَرَكَةَ، ولَكِنْ أُقِرَّتْ في الوَصْلِ هاءً اعْتِبارًا بِما آلَتْ إلَيْهِ في حالٍ ما، لا أنَّها مَوْقُوفٌ عَلَيْها.
ثُمَّ أوْرَدَ الزَّمَخْشَرِيُّ سُؤالًا ثانِيًا، فَقالَ: فَإنْ قُلْتَ هَلّا زَعَمْتَ أنَّها حُرِّكَتْ لِالتِقاءِ السّاكِنَيْنِ ؟ قُلْتُ: لِأنَّ التِقاءَ السّاكِنَيْنِ لا نُبالِي بِهِ في بابِ الوَقْفِ، وذَلِكَ كَقَوْلِكَ: هَذا إبْراهِيمُ، وداوُدُ، وإسْحاقُ، ولَوْ كانَ لِالتِقاءِ السّاكِنَيْنِ في حالِ الوَقْفِ مُوجِبُ التَّحْرِيكِ لَحُرِّكَ المِيمانِ في ألِفْ لامْ مِيمْ لِالتِقاءِ السّاكِنَيْنِ، ولَمّا انْتَظَرَ ساكِنٌ آخَرُ، انْتَهى هَذا السُّؤالُ وجَوابُهُ، وهو سُؤالٌ صَحِيحٌ، وجَوابٌ صَحِيحٌ، لَكِنَّ الَّذِي قالَ: إنَّ الحَرَكَةَ هي لِالتِقاءِ السّاكِنَيْنِ لا يَتَوَهَّمُ أنَّهُ أرادَ التِقاءَ الياءِ والمِيمِ مِن ألِفْ لامْ مِيمْ في الوَقْفِ، وإنَّما عَنى التِقاءَ السّاكِنَيْنِ اللَّذَيْنِ هُما: مِيمْ مِيمِ الأخِيرَةِ، ولامُ التَّعْرِيفِ، كالتِقاءِ نُونِ مِن ولامِ الرَّجُلِ، إذا قُلْتَ: مِنَ الرَّجُلِ.
ثُمَّ أوْرَدَ الزَّمَخْشَرِيُّ سُؤالًا ثالِثًا، فَقالَ: فَإنْ قُلْتَ: إنَّما لَمْ يُحَرِّكُوا لِالتِقاءِ السّاكِنَيْنِ في مِيمْ؛ لِأنَّهم أرادُوا (p-٣٧٦)الوَقْفَ، وأمْكَنَهُمُ النُّطْقُ بِساكِنَيْنِ، فَإذا جاءَ بِساكِنٍ ثالِثٍ لَمْ يُمْكِنْ إلّا التَّحْرِيكُ فَحَرَّكُوا ؟ قُلْتُ: الدَّلِيلُ عَلى أنَّ الحَرَكَةَ لَيْسَتِ لِمُلاقاةِ السّاكِنِ أنَّهم كانَ يُمْكِنُهم أنْ يَقُولُوا: واحِدْ اثْنانِ، بِسُكُونِ الدّالِ مَعَ طَرْحِ الهَمْزَةِ، فَجَمَعُوا بَيْنَ ساكِنَيْنِ، كَما قالُوا: أصْيَمْ ومَدْيَقْ، فَلَمّا حَرَّكُوا الدّالَّ عُلِمَ أنَّ حَرَكَتَها هي حَرَكَةُ الهَمْزَةِ السّاقِطَةِ لا غَيْرَ، ولَيْسَتْ لِالتِقاءِ السّاكِنَيْنِ، انْتَهى هَذا السُّؤالُ وجَوابُهُ، وفي سُؤالِهِ تَعْمِيَةٌ في قَوْلِهِ: فَإنْ قُلْتَ: إنَّما لَمْ يُحَرِّكُوا لِالتِقاءِ السّاكِنَيْنِ ؟ ويَعْنِي بِالسّاكِنَيْنِ: الياءَ والمِيمَ في مِيمْ، وحِينَئِذٍ يَجِيءُ التَّعْلِيلُ بِقَوْلِهِ: لِأنَّهم أرادُوا الوَقْفَ وأمْكَنَهُمُ النُّطْقُ بِساكِنَيْنِ، يَعْنِي الياءَ والمِيمَ، ثُمَّ قالَ: فَإنْ جاءَ بِساكِنٍ ثالِثٍ، يَعْنِي لامَ التَّعْرِيفِ، لَمْ يُمْكِنْ إلّا التَّحْرِيكُ، يَعْنِي في المِيمِ، فَحَرَّكُوا - يَعْنِي المِيمَ - لِالتِقائِها ساكِنَةً مَعَ لامِ التَّعْرِيفِ، إذْ لَوْ لَمْ يُحَرِّكُوا لاجْتَمَعَ ثَلاثَةُ سَواكِنَ، وهو لا يُمْكِنُ، هَذا شَرْحُ السُّؤالِ.
وأمّا جَوابُ الزَّمَخْشَرِيِّ عَنْ سُؤالِهِ، فَلا يُطابِقُ؛ لِأنَّهُ اسْتَدَلَّ عَلى أنَّ الحَرَكَةَ لَيْسَتْ لِمُلاقاةِ ساكِنٍ بِإمْكانِيَّةِ الجَمْعِ بَيْنَ ساكِنَيْنِ في قَوْلِهِمْ: واحِدِ اثْنانِ، بِأنْ يُسَكِّنُوا الدّالَ، والثّاءُ ساكِنَةٌ، وتَسْقُطُ الهَمْزَةُ، فَعَدَلُوا عَنْ هَذا الإمْكانِ إلى نَقْلِ حَرَكَةِ الهَمْزَةِ إلى الدّالِ، وهَذِهِ مُكابَرَةٌ في المَحْسُوسِ، لا يُمْكِنُ ذَلِكَ أصْلًا، ولا هو في قُدْرَةِ البَشَرِ أنْ يَجْمَعُوا في النُّطْقِ بَيْنَ سُكُونِ الدّالِ وسُكُونِ الثّاءِ، وطَرْحِ الهَمْزَةِ.
وأمّا قَوْلُهُ: فَجَمَعُوا بَيْنَ ساكِنَيْنِ، فَلا يُمْكِنُ الجَمْعُ كَما قُلْناهُ، وأمّا قَوْلُهُ: كَما قالُوا: أصْيَمْ ومَدْيَقْ، فَهَذا مُمْكِنٌ كَما هو في: رادْ وضال؛ لِأنَّ في ذَلِكَ التِقاءَ السّاكِنَيْنِ عَلى حَدِّهِما المَشْرُوطِ في النَّحْوِ، فَأمْكَنَ النُّطْقُ بِهِ، ولَيْسَ مِثْلَ: واحِدِ اثْنانِ؛ لِأنَّ السّاكِنَ الأوَّلَ لَيْسَ حَرْفَ عِلَّةٍ، ولا الثّاءَ في مُدْغَمٍ، فَلا يُمْكِنُ الجَمْعُ بَيْنَهُما.
وأمّا قَوْلُهُ: فَلَمّا حَرَّكُوا الدّالَ عُلِمَ أنَّ حَرَكَتَها هي حَرَكَةُ الهَمْزَةِ السّاقِطَةِ لا غَيْرَ، ولَيْسَتْ لِالتِقاءِ السّاكِنَيْنِ، لِما بُنِيَ عَلى أنَّ الجَمْعَ بَيْنَ السّاكِنَيْنِ في واحِدِ اثْنانِ مُمْكِنٌ، وحَرَكَةُ التِقاءِ السّاكِنَيْنِ إنَّما هي لا يُمْكِنُ أنْ يَجْتَمِعا فِيهِ في اللَّفْظِ، ادَّعى أنَّ حَرَكَةَ الدّالِّ هي حَرَكَةُ الهَمْزَةِ السّاقِطَةِ لِالتِقاءِ السّاكِنَيْنِ، وقَدْ ذَكَرْنا عَدَمَ إمْكانِ ذَلِكَ، فَإنَّ صَحَّ كَسْرُ الدّالِ، كَما نَقَلَ هَذا الرَّجُلُ، فَتَكُونُ حَرَكَتُها لِالتِقاءِ السّاكِنَيْنِ لا لِنَقْلٍ، وقَدْ رُدَّ قَوْلُ الفَرّاءِ، واخْتِيارُ الزَّمَخْشَرِيِّ إيّاهُ بِأنْ قِيلَ: لا يَجُوزُ أنْ تَكُونَ حَرَكَةَ المِيمِ حَرَكَةُ الهَمْزَةِ أُلْقِيَتْ عَلَيْها، لِما في ذَلِكَ مِنَ الفَسادِ والتَّدافُعِ، وذَلِكَ أنَّ سُكُونَ آخَرِ مِيمْ إنَّما هو عَلى نِيَّةِ الوَقْفِ عَلَيْها، وإلْقاءَ حَرَكَةِ الهَمْزَةِ عَلَيْها إنَّما هو عَلى نِيَّةِ الوَصْلِ، ونِيَّةُ الوَصْلِ تُوجِبُ حَذْفَ الهَمْزَةِ، ونِيَّةُ الوَقْفِ عَلى ما قَبْلَها تُوجِبُ ثَباتَها وقَطْعَها، وهَذا مُتَناقِضٌ، انْتَهى، وهو رَدٌّ صَحِيحٌ.
والَّذِي تَحَرَّرَ في هَذِهِ الكَلِماتِ: أنَّ العَرَبَ مَتى سَرَدَتْ أسْماءَ مُسَكَّنَةَ الآخِرِ وصْلًا ووَقْفًا، فَلَوِ التَقى آخِرُ مُسَكَّنٍ مِنها، بِساكِنٍ آخَرَ، حُرِّكَ لِالتِقاءِ السّاكِنَيْنِ، فَهَذِهِ الحَرَكَةُ الَّتِي في مِيمِ: الم اللَّهُ، هي حَرَكَةُ التِقاءِ السّاكِنَيْنِ.
والكَلامُ عَلى تَفْسِيرِ: ﴿الم﴾ [البقرة: ١] تَقَدَّمَ في أوَّلِ البَقَرَةِ، واخْتِلافُ النّاسِ في ذَلِكَ الِاخْتِلافَ المُنْتَشِرَ الَّذِي لا يُوقَفُ مِنهُ عَلى شَيْءٍ يُعْتَمَدُ عَلَيْهِ في تَفْسِيرِهِ وتَفْسِيرِ أمْثالِهِ مِنَ الحُرُوفِ المُقَطَّعَةِ.
والكَلامُ عَلى: ﴿اللَّهُ لا إلَهَ إلّا هو الحَيُّ القَيُّومُ﴾ تَقَدَّمَ في آيَةِ ﴿وإلَهُكم إلَهٌ واحِدٌ لا إلَهَ﴾ [البقرة: ١٦٣] وفي أوَّلِ آيَةِ الكُرْسِيِّ، فَأغْنى ذَلِكَ عَنْ إعادَتِهِ هُنا.
وذَكَرَ ابْنُ عَطِيَّةَ عَنِ القاضِي الجُرْجانِيِّ أنَّهُ ذَهَبَ في النَّظْمِ إلى أنَّ أحْسَنَ الأقْوالِ هُنا أنْ يَكُونَ ﴿الم﴾ إشارَةً إلى حُرُوفِ المُعْجَمِ، كَأنَّهُ يَقُولُ: هَذِهِ الحُرُوفُ كِتابُكَ، أوْ نَحْوُ هَذا.
ويَدُلُّ قَوْلُهُ ﴿اللَّهُ لا إلَهَ إلّا هو الحَيُّ القَيُّومُ نَزَّلَ عَلَيْكَ الكِتابَ﴾ عَلى ما تُرِكَ ذِكْرُهُ، مِمّا هو خَبَرٌ عَنِ الحُرُوفِ، قالَ: وذَلِكَ في نَظْمِهِ مِثْلُ قَوْلِهِ: ﴿أفَمَن شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإسْلامِ فَهو عَلى نُورٍ مِن رَبِّهِ﴾ [الزمر: ٢٢] وتَرَكَ الجَوابَ لِدَلالَةِ قَوْلِهِ ﴿فَوَيْلٌ لِلْقاسِيَةِ قُلُوبُهم مِن ذِكْرِ اللَّهِ﴾ [الزمر: ٢٢] عَلَيْهِ، تَقْدِيرُهُ: كَمَن قَسا قَلْبُهُ، ومِنهُ قَوْلُ الشّاعِرِ:(p-٣٧٧)
؎فَلا تَدْفِنُونِي إنَّ دَفْنِي مُحَرَّمٌ ∗∗∗ عَلَيْكم ولَكِنَّ خامِرِي أُمَّ عامِرِ
أيْ: ولَكِنِ اتْرُكُونِي لِلَّتِي يُقالُ لَها: خامِرِي أُمَّ عامِرٍ.
قالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: يحْسُنُ في هَذا القَوْلِ أنْ يَكُونَ نَزَلَ خَبَرُ قَوْلِهِ: (اللَّهُ) حَتّى يَرْتَبِطَ الكَلامُ إلى هَذا المَعْنى الَّذِي ذَكَرَهُ الجُرْجانِيُّ، وفِيهِ نَظَرٌ؛ لِأنَّ مِثْلِيَّتَهُ لَيْسَتْ صَحِيحَةَ الشَّبَهِ بِالمَعْنى الَّذِي نَحا إلَيْهِ، وما قالَهُ في الآيَةِ مُحْتَمَلٌ، ولَكِنَّ الأبْرَعَ في نَظْمِ الآيَةِ أنْ يَكُونَ ﴿الم﴾ لا يُضَمُّ ما بَعْدَها إلى نَفْسِها في المَعْنى، وأنْ يَكُونَ ﴿اللَّهُ لا إلَهَ إلّا هو الحَيُّ القَيُّومُ﴾ كَلامًا مُبْتَدَأً جَزْمًا، جُمْلَةٌ رادَّةٌ عَلى نَصارى نَجْرانَ الَّذِينَ وفَدُوا عَلى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ فَحاجُّوهُ في عِيسى ابْنِ مَرْيَمَ، وقالُوا: إنَّهُ اللَّهُ، انْتَهى كَلامُهُ.
قالَ ابْنُ كَيْسانَ: مَوْضِعُ (الم) نَصْبٌ، والتَّقْدِيرُ: اقْرَءُوا الم، وعَلَيْكُمُ الم، ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ في مَوْضِعِ رَفْعٍ بِمَعْنى: هَذا الم، وذَلِكَ الم، وتَقَدَّمَ مِن قَوْلِ الجُرْجانِيِّ أنْ يَكُونَ مُبْتَدَأً، والخَبَرُ مَحْذُوفٌ، أيْ: هَذِهِ الحُرُوفُ كِتابُكَ.
وقَرَأ عُمَرُ بْنُ الخَطّابِ وعَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ، وعَلْقَمَةُ بْنُ قَيْسٍ (القَيّامُ) وقالَ خارِجَةٌ في مُصْحَفِ عَبْدِ اللَّهِ (القَيَّمُ) ورُوِيَ هَذا أيْضًا عَنْ عَلْقَمَةَ.
(اللَّهُ) رُفِعَ عَلى الِابْتِداءِ، وخَبَرُهُ: (لا إلَهَ إلّا هو) و﴿نَزَّلَ عَلَيْكَ الكِتابَ﴾ [آل عمران: ٣] خَبَرٌ بَعْدَ خَبَرٍ، ويُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ (نَزَّلَ) هو الخَبَرُ، و(لا إلَهَ إلّا هو) جُمْلَةَ اعْتِراضٍ، وتَقَدَّمَ في آيَةِ الكُرْسِيِّ اسْتِقْصاءُ إعْرابِ: ﴿لا إلَهَ إلّا هو الحَيُّ القَيُّومُ﴾ فَأغْنى عَنْ إعادَتِهِ هُنا.
وقالَ الرّازِيُّ: مَطْلَعُ هَذِهِ السُّورَةِ عَجِيبٌ؛ لِأنَّهم لَمّا نازَعُوا كَأنَّهُ قِيلَ: إمّا أنْ تُنازِعُوا في مَعْرِفَةِ اللَّهِ، أوْ في النُّبُوَّةِ، فَإنْ كانَ الأوَّلَ فَهو باطِلٌ؛ لِأنَّ الأدِلَّةَ العَقْلِيَّةَ دَلَّتْ عَلى أنَّهُ: حَيٌّ قَيُّومٌ، والحَيُّ القَيُّومُ يَسْتَحِيلُ أنْ يَكُونَ لَهُ ولَدٌ، وإنْ كانَ في الثّانِي فَهو باطِلٌ؛ لِأنَّ الطَّرِيقَ الَّذِي عَرَفْتُمْ أنَّ اللَّهَ تَعالى أنْزَلَ التَّوْراةَ والإنْجِيلَ، هو بِعَيْنِهِ قائِمٌ هُنا، وذَلِكَ هو المُعْجِزَةُ.
{"ayahs_start":1,"ayahs":["الۤمۤ","ٱللَّهُ لَاۤ إِلَـٰهَ إِلَّا هُوَ ٱلۡحَیُّ ٱلۡقَیُّومُ"],"ayah":"ٱللَّهُ لَاۤ إِلَـٰهَ إِلَّا هُوَ ٱلۡحَیُّ ٱلۡقَیُّومُ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق