الباحث القرآني
(p-١٤٧)بِسْمِ اللهِ الرَحْمَنِ الرَحِيمِ
تَفْسِيرُ سُورَةِ آلِ عِمْرانَ
هَذِهِ السُورَةُ مَدَنِيَّةٌ بِإجْماعٍ فِيما عَلِمْتُ، وذَكَرَ النَقّاشُ أنَّ اسْمَ هَذِهِ السُورَةِ في التَوْراةِ طَيِّبَةُ.
قوله عزّ وجلّ:
﴿الم﴾ ﴿اللهُ لا إلَهَ إلا هو الحَيُّ القَيُّومُ﴾ ﴿نَزَّلَ عَلَيْكَ الكِتابَ بِالحَقِّ مُصَدِّقًا لِما بَيْنَ يَدَيْهِ وأنْزَلَ التَوْراةَ والإنْجِيلَ﴾ ﴿مِن قَبْلُ هُدًى لِلنّاسِ وأنْزَلَ الفُرْقانَ إنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللهِ لَهم عَذابٌ شَدِيدٌ واللهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقامٍ﴾
قَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُ اخْتِلافِ العُلَماءِ في الحُرُوفِ الَّتِي في أوائِلِ السُوَرِ في أوَّلِ سُورَةِ البَقَرَةِ، ومِن حَيْثُ جاءَ في هَذِهِ السُورَةِ ﴿اللهُ لا إلَهَ إلا هو الحَيُّ القَيُّومُ﴾ جُمْلَةً قائِمَةً بِنَفْسِها فَتُتَصَوَّرُ تِلْكَ الأقْوالُ كُلُّها فِي: "الم" في هَذِهِ السُورَةِ، وذَهَبَ الجُرْجانِيُّ في النَظْمِ إلى أنَّ أحْسَنَ الأقْوالِ هُنا أنْ يَكُونَ "الم" إشارَةً إلى حُرُوفِ المُعْجَمِ كَأنَّهُ يَقُولُ: هَذِهِ الحُرُوفُ كِتابُكَ أو نَحْوُ هَذا، ويَدُلُّ قَوْلُهُ ﴿اللهُ لا إلَهَ إلا هو الحَيُّ القَيُّومُ﴾ ﴿نَزَّلَ عَلَيْكَ الكِتابَ﴾ عَلى ما تَرَكَ ذِكْرَهُ مِمّا هو خَبَرٌ عَنِ الحُرُوفِ، قالَ: وذَلِكَ في نَظْمِهِ مِثْلُ قَوْلِهِ تَعالى: ﴿أفَمَن شَرَحَ اللهُ صَدْرَهُ لِلإسْلامِ فَهو عَلى نُورٍ مِن رَبِّهِ﴾ [الزمر: ٢٢] وتَرْكُ الجَوابِ لِدَلالَةِ قَوْلِهِ: ﴿فَوَيْلٌ لِلْقاسِيَةِ قُلُوبُهم مِن ذِكْرِ اللهِ﴾ [الزمر: ٢٢] تَقْدِيرُهُ: كَمَن قَسا قَلْبُهُ. ومِنهُ قَوْلُ الشاعِرِ:(p-١٤٨)
؎ فَلا تَدْفِنُونِي إنَّ دَفْنِي مُحَرَّمٌ ∗∗∗ عَلَيْكُمْ، ولَكِنْ خامِرِي أُمَّ عامِرِ
التَقْدِيرُ: ولَكِنِ اتْرُكُونِي لِلَّتِي يُقالُ لَها: "خامِرِي أُمَّ عامِرٍ".
قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللهُ:
يَحْسُنُ في هَذا القَوْلِ أنْ يَكُونَ "نَزَّلَ" خَبَرَ قَوْلِهِ "اللهُ" حَتّى يَرْتَبِطَ الكَلامُ إلى هَذا المَعْنى. وهَذا الَّذِي ذَكَرَهُ القاضِي الجُرْجانِيُّ فِيهِ نَظَرٌ، لِأنَّ مِثْلَهُ لَيْسَتْ صَحِيحَةَ الشَبَهِ بِالمَعْنى الَّذِي نَحا إلَيْهِ، وما قالَهُ في الآيَةِ مُحْتَمَلٌ، ولَكِنَّ الأبْرَعَ في نَظْمِ الآيَةِ أنْ تَكُونَ "الم" لا تَضُمُّ ما بَعْدَها إلى نَفْسِها في المَعْنى، وأنْ يَكُونَ ﴿اللهُ لا إلَهَ إلا هو الحَيُّ القَيُّومُ﴾ كَلامًا مُبْتَدَأً جَزْمًا جُمْلَةً رادَّةً عَلى نَصارى نَجْرانَ الَّذِينَ وفَدُوا عَلى رَسُولِ اللهِ عَلَيْهِ السَلامُ فَحاجُّوهُ في عِيسى ابْنِ مَرْيَمَ وقالُوا: إنَّهُ اللهُ، وذَلِكَ أنَّ ابْنَ إسْحاقَ والرَبِيعَ وغَيْرَهُما مِمَّنْ ذَكَرَ السِيَرَ، رَوَوْا «أنَّ وفْدَ نَجْرانَ قَدِمَ عَلى رَسُولِ اللهِ ﷺ: نَصارى سِتُّونَ راكِبًا، فِيهِمْ مِن أشْرافِهِمْ أرْبَعَةَ عَشَرَ رَجُلًا، في الأرْبَعَةَ عَشَرَ ثَلاثَةُ نَفَرٍ، إلَيْهِ يَرْجِعُ أمْرُهُمُ: العاقِبُ أمِيرُ القَوْمِ وذُو رَأْيِهِمْ واسْمُهُ عَبْدُ المَسِيحِ، والسَيِّدُ ثِمالُهم وصاحِبُ مُجْتَمَعِهِمْ واسْمُهُ الأيْهَمُ، وأبُو حارِثَةَ بْنُ عَلْقَمَةَ أحَدُ بَنِي بَكْرِ بْنِ وائِلٍ أُسْقُفُهم وعالِمُهُمْ؛ فَدَخَلُوا عَلى رَسُولِ اللهِ ﷺ المَسْجِدَ إثْرَ صَلاةِ العَصْرِ، عَلَيْهِمُ الحَبِراتُ جِبَبٌ وأرْدِيَةٌ، فَقالَ أصْحابُ رَسُولِ اللهِ عَلَيْهِ السَلامُ: ما رَأيْنا وفْدًا مِثْلَهم جَمالًا وجَلالَةً، وحانَتْ صَلاتُهم فَقامُوا فَصَلُّوا في مَسْجِدِ رَسُولِ اللهِ ﷺ إلى المَشْرِقِ، فَقالَ النَبِيُّ ﷺ: "دَعُوهُمْ"؛ ثُمَّ أقامُوا بِالمَدِينَةِ أيّامًا يُناظِرُونَ رَسُولَ اللهِ ﷺ في عِيسى ويَزْعُمُونَ أنَّهُ اللهُ، إلى غَيْرِ ذَلِكَ مِن أقْوالٍ بَشِعَةٍ مُضْطَرِبَةٍ، ورَسُولُ اللهِ ﷺ يَرُدُّ عَلَيْهِمْ بِالبَراهِينِ الساطِعَةِ وهم لا يُبْصِرُونَ، ونَزَلَ فِيهِمْ صَدْرُ هَذِهِ السُوَرِ إلى نَيِّفٍ وثَمانِينَ آيَةً، إلى أنْ آلَ أمْرُهم إلى أنْ دَعاهم رَسُولُ اللهِ ﷺ إلى الِابْتِهالِ،» وسَيَأْتِي تَفْسِيرُ ذَلِكَ.
(p-١٤٩)وَقَرَأ السَبْعَةُ "ألَمَ اللهُ" بِفَتْحِ المِيمِ والألِفِ ساقِطَةً، ورُوِيَ عن عاصِمٍ أنَّهُ سَكَّنَ المِيمَ ثُمَّ قَطَعَ الألِفَ، رَوى الأُولى الَّتِي هي كالجَماعَةِ حَفْصٌ، ورَوى الثانِيَةَ أبُو بَكْرٍ، وذَكَرَها الفَرّاءُ عن عاصِمٍ، وقَرَأ أبُو جَعْفَرٍ الرُؤاسِيُّ وأبُو حَيْوَةَ " ألَمِ" بِكَسْرِ المِيمِ لِلِالتِقاءِ وذَلِكَ رَدِيءٌ لِأنَّ الياءَ تَمْنَعُ مِن ذَلِكَ، والصَوابُ الفَتْحُ قِراءَةُ جُمْهُورِ الناسِ. قالَ أبُو عَلِيٍّ: حُرُوفُ التَهَجِّي مَبْنِيَّةٌ عَلى الوَقْفِ فالمِيمُ ساكِنَةٌ واللامُ ساكِنَةٌ، فَحُرِّكَتِ المِيمُ بِالفَتْحِ كَما حُرِّكَتِ النُونُ في قَوْلِكَ: مِنَ اللهِ ومِنَ المُسْلِمِينَ إلى غَيْرِ ذَلِكَ.
قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللهُ:
ومَن قالَ بِأنَّ حَرَكَةَ الهَمْزَةِ أُلْقِيَتْ عَلى المِيمِ فَذَلِكَ ضَعِيفٌ لِإجْماعِهِمْ عَلى أنَّ الألِفَ المَوْصُولَةَ في التَعْرِيفِ تَسْقُطُ في الوَصْلِ، فَما يَسْقُطُ فَلا تُلْقى حَرَكَتُهُ، قالَهُ أبُو عَلِيٍّ.
وقَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ قَوْلِهِ: "الحَيُّ القَيُّومُ" في آيَةِ الكُرْسِيِّ، والآيَةُ هُنالِكَ إخْبارٌ لِجَمِيعِ الناسِ، وكُرِّرَتْ هُنا إخْبارًا لِحُجَجِ هَؤُلاءِ النَصارى، ولِلرَّدِّ عَلَيْهِمْ أنْ هَذِهِ الصِفاتِ لا يُمْكِنُهُمُ ادِّعاؤُها لِعِيسى عَلَيْهِ السَلامُ، لِأنَّهم إذْ يَقُولُونَ إنَّهُ صُلِبَ، فَذَلِكَ مَوْتٌ في مُعْتَقَدِهِمْ لا مَحالَةَ، إذْ مِنَ البَيِّنِ أنَّهُ لَيْسَ بِقَيُّومٍ.
وقَرَأ جُمْهُورُ القُرّاءِ "القَيُّومُ" وزْنُهُ فَيْعُولُ، وقَرَأ عُمَرُ بْنُ الخَطّابِ رَضِيَ اللهُ عنهُ وعَبْدُ اللهِ بْنُ مَسْعُودٍ وعَلْقَمَةُ بْنُ قَيْسٍ "القَيّامُ" وزْنُهُ- فَيْعالُ- ورُوِيَ عن عَلْقَمَةَ أيْضًا أنَّهُ (p-١٥٠)قَرَأ "القَيِّمُ" وزْنُهُ فَيْعِلُ، وهَذا كُلُّهُ مِن: قامَ بِالأمْرِ يَقُومُ بِهِ إذا اضْطَلَعَ بِحِفْظِهِ وبِجَمِيعِ ما يَحْتاجُ إلَيْهِ في وُجُودِهِ، فاللهُ تَعالى القَيّامُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ بِما يَنْبَغِي لَهُ أو فِيهِ أو عَلَيْهِ.
وتَنْزِيلُ اللهِ الكِتابَ هو بِواسِطَةِ المَلَكِ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَلامُ، و"الكِتابَ" في هَذا المَوْضِعِ القُرْآنُ بِاتِّفاقٍ مِنَ المُفَسِّرِينَ، وقَرَأ جُمْهُورُ الناسِ "نَزَّلَ عَلَيْكَ" بِتَشْدِيدِ الزايِ "الكِتابَ" بِنَصْبِ الباءِ، وقَرَأ إبْراهِيمُ النَخْعِيُّ "نَزَلَ عَلَيْكَ الكِتابُ" بِتَخْفِيفِ الزايِ ورَفْعِ الباءِ، وهَذِهِ الآيَةُ تَقْتَضِي أنَّ قَوْلَهُ: ﴿اللهُ لا إلَهَ إلا هو الحَيُّ القَيُّومُ﴾ جُمْلَةٌ مُسْتَقِلَّةٌ مُنْحازَةٌ.
وقَوْلُهُ "بِالحَقِّ" يَحْتَمِلُ مَعْنَيَيْنِ: أحَدُهُما: أنْ يَكُونَ المَعْنى ضِمْنَ الحَقائِقِ مِن خَيْرِهِ وأمْرِهِ ونَهْيِهِ ومَواعِظِهِ، فالباءُ عَلى حَدِّها في قَوْلِهِ: جاءَنِي كِتابٌ بِخَبَرِ كَذا وكَذا، أيْ ذَلِكَ الخَبَرُ مُقْتَصٌّ فِيهِ، والثانِي: أنْ يَكُونَ المَعْنى أنَّهُ نَزَّلَ الكِتابَ بِاسْتِحْقاقِ أنْ يَنْزِلَ لِما فِيهِ مِنَ المَصْلَحَةِ الشامِلَةِ، ولَيْسَ ذَلِكَ عَلى أنَّهُ واجِبٌ عَلى اللهِ تَعالى أنْ يَفْعَلَهُ، بَلْ لَهُ بِالحَقِّ أنْ يَفْعَلَهُ، فالباءُ في هَذا المَعْنى عَلى حَدِّها في قَوْلِهِ تَعالى حِكايَةً عن عِيسى عَلَيْهِ السَلامُ: ﴿سُبْحانَكَ ما يَكُونُ لِي أنْ أقُولَ ما لَيْسَ لِي بِحَقٍّ﴾ [المائدة: ١١٦]. وقالَ مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرِ بْنِ الزُبَيْرِ: مَعْنى قَوْلِهِ "بِالحَقِّ": أيْ مِمّا اخْتَلَفَ فِيهِ أهْلُ الكِتابِ واضْطَرَبَ فِيهِ هَؤُلاءِ النَصارى الوافِدُونَ، وهَذا داخِلٌ في المَعْنى الأوَّلِ.
و"مُصَدِّقًا" حالٌ مُؤَكِّدَةٌ، وهي راتِبَةٌ غَيْرُ مُنْتَقِلَةٍ لِأنَّهُ لا يُمْكِنُ أنْ يَكُونَ غَيْرَ مُصَدِّقٍ لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِن كِتابِ اللهِ، فَهو كَقَوْلِ ابْنِ دارَةَ:
؎ أنا ابْنُ دارَةَ مَعْرُوفًا بِها نَسَبِي ∗∗∗ ∗∗∗ وهَلْ بِدارَةَ يا لَلنّاسِ مِن عارِ؟
و"ما بَيْنَ يَدَيْهِ" التَوْراةُ والإنْجِيلُ وسائِرُ كُتُبِ اللهِ الَّتِي تُلُقِّيَتْ مِن شَرْعِنا كالزَبُورِ (p-١٥١)والصُحُفِ؛ وما بَيْنَ اليَدِ في هَذِهِ الحَوادِثِ هو المُتَقَدِّمُ في الزَمَنِ.
و"التَوْراةَ والإنْجِيلَ" اسْمانِ أصْلُهُما عِبْرانِيٌّ، لَكِنَّ النُحاةَ وأهْلَ اللِسانِ حَمَلُوها عَلى الِاشْتِقاقِ العَرَبِيِّ، فَقالُوا في التَوْراةِ: إنَّها مِن ورِيَ الزَنْدُ يَرِي إذا قُدِحَ وظَهَرَتْ نارُهُ، يُقالُ: أورَيْتُهُ فَوَرِيَ، ومِنهُ قَوْلُهُ تَعالى: "فالمُورِياتِ" وقَوْلُهُ: ﴿أفَرَأيْتُمُ النارَ الَّتِي تُورُونَ﴾ [الواقعة: ٧١]. قالَ أبُو عَلِيٍّ: فَأمّا قَوْلُهُمْ: ورِيَتْ بِكَ زِنادِي عَلى وزْنِ فَعِلَتْ، فَزَعَمَ أبُو عُثْمانَ أنَّهُ اسْتُعْمِلَ في هَذا الكَلامِ فَقَطْ ولَمْ يُجاوَزْ بِهِ غَيْرُهُ.
وتَوْراةٌ عِنْدَ الخَلِيلِ وسِيبَوَيْهِ وسائِرِ البَصْرِيِّينَ فَوْعَلَةٌ، كَحَوْقَلَةٍ، أصْلُها ووْرَيَةٌ قُلِبَتِ الواوُ الأُولى تاءً، كَما قُلِبَتْ في "تَوْلَجَ" وأصْلُهُ "وَوْلَجَ" مِن: ولَجَتْ. وحَكى الزَجّاجُ عن بَعْضِ الكُوفِيِّينَ: أنَّ تَوْراةً أصْلُها تَفْعَلَةٌ بِفَتْحِ العَيْنِ، مِن: ورِيَتْ بِكَ زِنادِي، قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللهُ:
وإنَّما يَنْبَغِي أنْ تَكُونَ مِن: أورَيْتَ، قالَ: فَهي تَوْرِيَةٌ. وقالَ بَعْضُهُمْ: يَصْلُحُ أنْ تَكُونَ تَفْعِلَةً بِكَسْرِ العَيْنِ مِثْلَ تَوْصِيَةٍ "ثُمَّ رُدَّتْ إلى تَفْعَلَةٍ بِفَتْحِ العَيْنِ. قالَ الزَجّاجُ وكَأنَّهُ يُجِيزُ في تَوْصِيَةٍ" تَوْصِأةً وذَلِكَ غَيْرُ مَسْمُوعٍ، وعَلى كُلِّ قَوْلٍ فالياءُ لَمّا انْفَتَحَ ما قَبْلَها وتَحَرَّكَتْ هي انْقَلَبَتْ ألِفًا فَقِيلَ: تَوْراةٌ، ورَجَّحَ أبُو عَلِيٍّ قَوْلَ البَصْرِيِّينَ وضَعَّفَهُ غَيْرُهُ.
وقَرَأ ابْنُ كَثِيرٍ وابْنُ عامِرٍ وعاصِمٌ "التَوْراةَ" مَفْتُوحَةَ الراءِ، وكانَ حَمْزَةُ ونافِعٌ يَلْفِظانِ بِالراءِ بَيْنَ اللَفْظَيْنِ بَيْنَ الفَتْحِ والكَسْرِ، وكَذَلِكَ فَعَلا في قَوْلِهِ: "مَعَ الأبْرارِ" و"مِنَ الأشْرارِ" و"مِن قَرارٍ" إذا كانَ الحَرْفُ مَخْفُوضًا. ورَوى المُسَيِّبِيُّ عن نافِعٍ فَتْحَ الراءِ مِنَ التَوْراةِ، ورَوى ورْشٌ عنهُ كَسْرَها، وكانَ أبُو عَمْرٍو والكِسائِيُّ يَكْسِرانِ (p-١٥٢)الراءَ مِنَ التَوْراةِ ويُمِيلانِ "مِنَ الأبْرارِ" وغَيْرَها أشَدَّ مِن إمالَةِ حَمْزَةَ ونافِعٍ.
وقالُوا في الإنْجِيلِ: إنَّهُ إفْعِيلٌ مِنَ النَجْلِ، وهو الماءُ الَّذِي يَنِزُّ مِنَ الأرْضِ؛ قالَ الخَلِيلُ: اسْتَنْجَلَتِ الأرْضُ وبِها نِجالٌ إذا خَرَجَ مِنها الماءُ. والنَجْلُ أيْضًا الوَلَدُ والنَسْلُ قالَهُ الخَلِيلُ وغَيْرُهُ، ونَجَلَهُ أبُوهُ أيْ ولَدَهُ، ومِن ذَلِكَ قَوْلُ الأعْشى:
؎ أنْجَبَ أيّامَ والِداهُ بِهِ ∗∗∗ ∗∗∗ إذْ نَجَلاهُ فَنِعْمَ ما نَجَلا
قالَ ابْنُ سِيدَهْ عن أبِي عَلِيٍّ: مَعْنى قَوْلِهِ: "أيّامَ والِداهُ بِهِ" كَما تَقُولُ: أنا بِاللهِ وبِكَ، وقالَ أبُو الفَتْحِ: مَعْنى البَيْتِ: أنْجَبَ والِداهُ بِهِ أيّامَ إذْ نَجَلاهُ، فَهو كَقَوْلِكَ: حِينَئِذٍ ويَوْمَئِذٍ لَكِنَّهُ حالٌ بِالفاعِلِ بَيْنَ المُضافِ الَّذِي هو "أيّامَ" وبَيْنَ المُضافِ إلَيْهِ الَّذِي هو "إذْ". ويُرْوى هَذا البَيْتُ: "أنْجَبَ أيّامَ والِدَيْهِ". والنَجْلُ: الرَمْيُ بِالشَيْءِ وذَلِكَ أيْضًا مِن مَعْنى الظُهُورِ وفِراقِ شَيْءٍ شَيْئًا، وحَكى أبُو القاسِمِ الزَجّاجِيُّ في نَوادِرِهِ: أنَّ الوالِدَ يُقالُ لَهُ: نَجْلٌ، وأنَّ اللَفْظَةَ مِنَ الأضْدادِ، وأمّا بَيْتُ زُهَيْرٍ فالرِوايَةُ الصَحِيحَةُ فِيهِ:
؎ ....................... ∗∗∗ وكُلُّ فَحْلٍ لَهُ نَجْلُ
أيْ ولَدٌ كَرِيمٌ ونَسْلٌ. ورَوى الأصْمَعِيُّ فِيما حُكِيَ "عنهُ" "وَكُلُّ فَرْعٍ لَهُ نَجْلُ"، وهَذا لا يَتَّجِهُ إلّا عَلى تَسْمِيَةِ الوالِدِ نَجْلًا. وقالَ الزَجّاجُ:
الإنْجِيلُ مَأْخُوذٌ مِنَ النَجْلِ وهو الأصْلُ، فَهَذا يَنْحُو إلى ما حَكى أبُو القاسِمِ.
قالَ أبُو الفَتْحِ: فالتَوْراةُ مِن ورى الزِنادُ إذا ظَهَرَتْ نارُهُ والإنْجِيلُ مِن نَجَلَ إذا ظَهَرَ ولَدُهُ، أو مِن ظُهُورِ الماءِ مِنَ الأرْضِ، فَهو مُسْتَخْرَجٌ إمّا مِنَ اللَوْحِ المَحْفُوظِ وإمّا مِنَ التَوْراةِ.
و"الفُرْقانَ" مِنَ الفَرْقِ بَيْنَ الحَقِّ والباطِلِ، فَحُرُوفُها مُخْتَلِفَةٌ، والمَعْنى قَرِيبٌ (p-١٥٣)بَعْضُهُ مِن بَعْضٍ، إذْ كُلُّها مَعْناهُ: ظُهُورُ الحَقِّ، وبَيانُ الشَرْعِ وفَصْلُهُ مِن غَيْرِهِ مِنَ الأباطِيلِ.
وقَرَأ الحَسَنُ بْنُ أبِي الحَسَنِ "الأنْجِيلَ" - بِفَتْحِ الهَمْزَةِ - وذَلِكَ لا يَتَّجِهُ في كَلامِ العَرَبِ، ولَكِنْ تَحْمِيهِ مَكانَةُ الحَسَنِ مِنَ الفَصاحَةِ، وأنَّهُ لا يَقْرَأُ إلّا بِما رَوى، وأراهُ نَحا بِهِ نَحْوَ الأسْماءِ الأعْجَمِيَّةِ.
وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿مِن قَبْلُ﴾ يَعْنِي مِن قَبْلِ القُرْآنِ.
وقَوْلُهُ: "هُدىً لِلنّاسِ" مَعْناهُ دُعاءٌ، والناسُ: بَنُو إسْرائِيلَ في هَذا المَوْضِعِ، لِأنَّهُمُ المَدْعُوُّونَ بِهِما لا غَيْرُ، وإنْ أرادَ أنَّهُما هُدىً في ذاتِهِما مَدْعُوٌّ إلَيْهِ فِرْعَوْنُ وغَيْرُهُ، مَنصُوبٌ لِمَنِ اهْتَدى بِهِ، فالناسُ عامٌّ في كُلِّ مَن شاءَ حِينَئِذٍ أنْ يَسْتَبْصِرَ.
قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللهُ: وقالَ هُنا "لِلنّاسِ"، وقالَ في القُرْآنِ: "هُدىً لِلْمُتَّقِينَ" وذَلِكَ عِنْدِي لِأنَّ هَذا خَبَرٌ مُجَرَّدٌ، وقَوْلُهُ: "هُدىً لِلْمُتَّقِينَ" خَبَرٌ مُقْتَرِنٌ بِهِ الِاسْتِدْعاءُ والصَرْفُ إلى الإيمانِ، فَحَسُنَتِ الصِفَةُ، لِيَقَعَ مِنَ السامِعِ النَشاطُ والبِدارُ، وذَكَرَ الهُدى الَّذِي هو إيجادُ الهِدايَةِ في القَلْبِ، وهُنا إنَّما ذَكَرَ الهُدى الَّذِي هو الدُعاءُ، والهُدى الَّذِي هو في نَفْسِهِ مُعَدٌّ يَهْتَدِي بِهِ الناسُ، فَسُمِّيَ هُدىً لِذَلِكَ، وقالَ ابْنُ فُورَكٍ: التَقْدِيرُ هُنا: هُدىً لِلنّاسِ المُتَّقِينَ، ويَرُدُّ هَذا العامَّ إلى ذَلِكَ الخاصِّ، وفي هَذا نَظَرٌ.
والفُرْقانُ: القُرْآنُ، سُمِّيَ بِذَلِكَ لِأنَّهُ فَرَّقَ بَيْنَ الحَقِّ والباطِلِ، قالَ مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ: فَرَّقَ بَيْنَ الحَقِّ والباطِلِ في أمْرِ عِيسى عَلَيْهِ السَلامُ، الَّذِي جادَلَ فِيهِ الوَفْدُ، وقالَ قَتادَةُ والرَبِيعُ وغَيْرُهُما: فَرَّقَ بَيْنَ الحَقِّ والباطِلِ في أحْكامِ الشَرائِعِ، وفي الحَلالِ والحَرامِ (p-١٥٤)وَنَحْوِهِ، والفُرْقانُ يَعُمُّ هَذا كُلَّهُ. وقالَ بَعْضُ المُفَسِّرِينَ: الفُرْقانُ هُنا: كُلُّ أمْرٍ فَرَّقَ بَيْنَ الحَقِّ والباطِلِ، فِيما قَدُمَ وحَدُثَ، فَيَدْخُلُ في هَذا التَأْوِيلِ طُوفانُ نُوحٍ، وفَرْقُ البَحْرِ لِغَرَقِ فِرْعَوْنَ، ويَوْمُ بَدْرٍ، وسائِرُ أفْعالِ اللهِ تَعالى المُفَرِّقَةِ بَيْنَ الحَقِّ والباطِلِ، فَكَأنَّهُ تَعالى ذَكَرَ الكِتابَ العَزِيزَ، ثُمَّ التَوْراةَ والإنْجِيلَ، ثُمَّ كُلَّ أفْعالِهِ ومَخْلُوقاتِهِ الَّتِي فَرَّقَتْ بَيْنَ الحَقِّ والباطِلِ، كَما فَعَلَتْ هَذِهِ الكُتُبُ ثُمَّ تَوَعَّدَ تَعالى الكُفّارَ عُمُومًا بِالعَذابِ الشَدِيدِ، وذَلِكَ يَعُمُّ عَذابَ الدُنْيا بِالسَيْفِ والغَلَبَةِ، وعَذابَ الآخِرَةِ بِالنارِ، والإشارَةُ بِهَذا الوَعِيدِ إلى نَصارى نَجْرانَ، وقالَ النَقّاشُ: إلى اليَهُودِ، كَعْبِ بْنِ الأشْرَفِ، وكَعْبِ بْنِ أسَدٍ، وابْنَيْ أخْطَبَ وغَيْرِهِمْ.
و"عَزِيزٌ"، مَعْناهُ: غالِبٌ، وقَدْ ذَلَّ لَهُ كُلُّ شَيْءٍ والنِقْمَةُ والِانْتِقامُ: مُعاقَبَةُ المُذْنِبِ بِمُبالَغَةٍ في ذَلِكَ..
{"ayahs_start":1,"ayahs":["الۤمۤ","ٱللَّهُ لَاۤ إِلَـٰهَ إِلَّا هُوَ ٱلۡحَیُّ ٱلۡقَیُّومُ","نَزَّلَ عَلَیۡكَ ٱلۡكِتَـٰبَ بِٱلۡحَقِّ مُصَدِّقࣰا لِّمَا بَیۡنَ یَدَیۡهِ وَأَنزَلَ ٱلتَّوۡرَىٰةَ وَٱلۡإِنجِیلَ","مِن قَبۡلُ هُدࣰى لِّلنَّاسِ وَأَنزَلَ ٱلۡفُرۡقَانَۗ إِنَّ ٱلَّذِینَ كَفَرُوا۟ بِـَٔایَـٰتِ ٱللَّهِ لَهُمۡ عَذَابࣱ شَدِیدࣱۗ وَٱللَّهُ عَزِیزࣱ ذُو ٱنتِقَامٍ"],"ayah":"ٱللَّهُ لَاۤ إِلَـٰهَ إِلَّا هُوَ ٱلۡحَیُّ ٱلۡقَیُّومُ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق