الباحث القرآني

﴿قالَتْ ياأيُّها المَلَأُ إنِّي أُلْقِيَ إلَيَّ كِتابٌ كَرِيمٌ﴾ ﴿إنَّهُ مِن سُلَيْمانَ وإنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ﴾ ﴿ألّا تَعْلُوا عَلَيَّ وأْتُونِي مُسْلِمِينَ﴾ ﴿قالَتْ ياأيُّها المَلَأُ أفْتُونِي في أمْرِي ما كُنْتُ قاطِعَةً أمْرًا حَتّى تَشْهَدُونِ﴾ ﴿قالُوا نَحْنُ أُولُو قُوَّةٍ وأُولُو بَأْسٍ شَدِيدٍ والأمْرُ إلَيْكِ فانْظُرِي ماذا تَأْمُرِينَ﴾ ﴿قالَتْ إنَّ المُلُوكَ إذا دَخَلُوا قَرْيَةً أفْسَدُوها وجَعَلُوا أعِزَّةَ أهْلِها أذِلَّةً وكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ﴾ ﴿وإنِّي مُرْسِلَةٌ إلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ فَناظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ المُرْسَلُونَ﴾ ﴿فَلَمّا جاءَ سُلَيْمانَ قالَ أتُمِدُّونَنِ بِمالٍ فَما آتانِيَ اللَّهُ خَيْرٌ مِمّا آتاكم بَلْ أنْتُمْ بِهَدِيَّتِكم تَفْرَحُونَ﴾ ﴿ارْجِعْ إلَيْهِمْ فَلَنَأْتِيَنَّهم بِجُنُودٍ لا قِبَلَ لَهم بِها ولَنُخْرِجَنَّهم مِنها أذِلَّةً وهم صاغِرُونَ﴾ . (p-٧٢)فِي الكَلامِ حَذْفٌ تَقْدِيرُهُ: فَأخَذَ الهُدْهُدُ الكِتابَ وذَهَبَ بِهِ إلى بِلْقِيسَ وقَوْمِها وألْقاهُ إلَيْهِمْ، كَما أمَرَهُ سُلَيْمانُ. فَقِيلَ: أخَذَهُ بِمِنقارِهِ. وقِيلَ: عَلَّقَهُ في عُنُقِهِ، فَجاءَها حَتّى وقَفَ عَلى رَأْسِها، وحَوْلَها جُنُودُها، فَرَفْرَفَ بِجَناحَيْهِ، والنّاسُ يَنْظُرُونَ إلَيْهِ، حَتّى رَفَعَتْ رَأْسَها، فَألْقى الكِتابَ في حَجْرِها. وقِيلَ: كانَتْ في قَصْرِها قَدْ غَلَّقَتِ الأبْوابَ واسْتَلْقَتْ عَلى فِراشِها نائِمَةً، فَألْقى الكِتابَ عَلى نَحْرِها. وقِيلَ: كانَتْ في البَيْتِ كُوَّةٌ تَقَعُ الشَّمْسُ فِيها كُلَّ يَوْمٍ، فَإذا نَظَرَتْ إلَيْها سَجَدَتْ، فَجاءَ الهُدْهُدُ فَسَدَّها بِجَناحِهِ، فَرَأتْ ذَلِكَ وقامَتْ إلَيْهِ، فَألْقى الكِتابَ إلَيْها، وكانَتْ قارِئَةً عَرَبِيَّةً مِن قَوْمِ تُبَّعٍ. وقِيلَ: ألْقاهُ مِن كُوَّةٍ وتَوارى فِيها. فَأخَذَتِ الكِتابَ ونادَتْ أشْرافَ قَوْمِها: ﴿قالَتْ يا أيُّها المَلَأُ﴾ . وكُرِّمَ الكِتابُ لِطَبْعِهِ بِالخاتَمِ، وفي الحَدِيثِ: ”كَرَمُ الكِتابِ خَتْمُهُ“ أوْ لِكَوْنِهِ مِن سُلَيْمانَ، وكانَتْ عالِمَةً بِمُلْكِهِ، أوْ لِكَوْنِ الرَّسُولِ بِهِ الطَّيْرَ، فَظَنَّتْهُ كِتابًا سَماوِيًّا؛ أوْ لِكَوْنِهِ تَضَمَّنَ لُطْفًا ولِينًا، لا سَبًّا ولا ما يُغَيِّرُ النَّفْسَ، أوْ لِبَداءَتِهِ بِاسْمِ اللَّهِ، أقْوالٌ. ثُمَّ أخْبَرَتْهم فَقالَتْ: ﴿إنَّهُ مِن سُلَيْمانَ﴾ كَأنَّها قِيلَ لَها: مِمَّنِ الكِتابُ وما هو ؟ فَقالَتْ: ﴿إنَّهُ مِن سُلَيْمانَ﴾ وإنَّهُ كَيْتَ وكَيْتَ. أبْهَمَتْ أوَّلًا ثُمَّ فَسَّرَتْ، وفي بِنائِها ”أُلْقِيَ“ لِلْمَفْعُولِ دَلالَةٌ عَلى جَهْلِها بِالمُلْقِي، حَيْثُ حَذَفَتْهُ، أوْ تَحْقِيرًا لَهُ، حَيْثُ كانَ طائِرًا، إنْ كانَتْ شاهَدَتْهُ. والظّاهِرُ أنَّ بَداءَةَ الكِتابِ مِن سُلَيْمانَ باسِمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، إلى آخَرِ ما قَصَّ اللَّهُ مِنهُ خاصَّةً، فاحْتُمِلَ أنْ يَكُونَ مِن سُلَيْمانَ مُقَدَّمًا عَلى بِسْمِ اللَّهِ، وهو الظّاهِرُ، وقَدَّمَهُ لِاحْتِمالِ أنْ يَنْدُرَ مِنها ما لا يَلِيقُ؛ إذْ كانَتْ كافِرَةً، فَيَكُونُ اسْمُهُ وِقايَةً لِاسْمِ اللَّهِ - تَعالى - . أوْ كانَ عُنْوانًا في ظاهِرِ الكِتابِ، وباطِنُهُ فِيهِ بِسْمِ اللَّهِ إلى آخِرِهِ. واحْتُمِلَ أنْ يَكُونَ مُؤَخَّرًا في الكِتابَةِ عَنْ بِسْمِ اللَّهِ، وإنِ ابْتَدَأ الكِتابُ بِاسْمِ اللَّهِ، وحِينَ قَرَأتْهُ عَلَيْهِمْ بَعْدَ قِراءَتِها لَهُ في نَفْسِها، قَدَّمَتْهُ في الحِكايَةِ، وإنْ لَمْ يَكُنْ مُقَدَّمًا في الكِتابَةِ. وقالَ أبُو بَكْرِ بْنُ العَرَبِيِّ: كانَتْ رُسُلُ المُتَقَدِّمِينَ إذا كَتَبُوا كِتابًا بَدَءُوا بِأنْفُسِهِمْ، مِن فُلانٍ إلى فُلانٍ، وكَذَلِكَ جاءَتِ الإشارَةُ. وعَنْ أنَسٍ: ما كانَ أحَدٌ أعْظَمَ حُرْمَةً مِن رَسُولِ اللَّهِ ﷺ وكانَ أصْحابُهُ إذا كَتَبُوا إلَيْهِ كِتابًا بَدَءُوا بِأنْفُسِهِمْ. وقالَ أبُو اللَّيْثِ في (كِتابِ البُسْتانِ) لَهُ: ولَوْ بَدَأ بِالمَكْتُوبِ إلَيْهِ جازَ؛ لِأنَّ الأُمَّةَ قَدْ أجْمَعَتْ عَلَيْهِ وفَعَلُوهُ. وقَرَأ الجُمْهُورُ: ”إنَّهُ مِن سُلَيْمانَ وإنَّهُ“ بِكَسْرِ الهَمْزَةِ فِيهِما. وقَرَأ عَبْدُ اللَّهِ: ”وإنَّهُ مِن سُلَيْمانَ“، بِزِيادَةِ واوٍ عَطْفًا عَلى ﴿إنِّي أُلْقِي﴾ . وقَرَأ عِكْرِمَةُ، وابْنُ أبِي عَبْلَةَ: بِفَتْحِهِما، وخَرَجَ عَلى البَدَلِ مِن كِتابِ، أيْ أُلْقِيَ إلَيَّ أنَّهُ، أوْ عَلى أنْ يَكُونَ التَّقْدِيرُ لِأنَّهُ، كَأنَّها عَلَّلَتْ كَرَمَ الكِتابِ لِكَوْنِهِ مِن سُلَيْمانَ وتَصْدِيرِهِ بِبِسْمِ اللَّهِ. وقَرَأ أُبَيٌّ: أنْ مِن سُلَيْمانَ وأنْ بِسْمِ اللَّهِ، بِفَتْحِ الهَمْزَةِ ونُونٍ ساكِنَةٍ، فَخَرَّجَ عَلى أنَّ ”أنْ“ هي المُفَسِّرَةُ، لِأنَّهُ قَدْ تَقَدَّمَتْ جُمْلَةٌ فِيها مَعْنى القَوْلِ، وعَلى أنَّها ”أنْ“ المُخَفَّفَةُ مِنَ الثَّقِيلَةِ، وحُذِفَتِ الهاءُ وبِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، اسْتِفْتاحٌ شَرِيفٌ بارِعُ المَعْنى مَبْدُوءٌ بِهِ في الكُتُبِ في كُلِّ لُغَةٍ وكُلِّ شَرْعٍ. وأنَّ في قَوْلِهِ: ﴿ألّا تَعْلُوا﴾ قِيلَ: في مَوْضِعِ رَفْعٍ عَلى البَدَلِ مِن كِتابِ. وقِيلَ: في مَوْضِعِ نَصْبٍ عَلى مَعْنى بِأنْ لا تَعْلُوا، وعَلى هَذَيْنِ التَّقْدِيرَيْنِ تَكُونُ ”أنْ“ ناصِبَةً لِلْفِعْلِ. وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: و”أنْ“ في ﴿ألّا تَعْلُوا عَلَيَّ﴾ مُفَسِّرَةٌ، فَعَلى هَذا تَكُونُ لا في لا تَعْلُوا لِلنَّهْيِ، وهو حَسَنٌ لِمُشاكَلَةِ عَطْفِ الأمْرِ عَلَيْهِ. وجَوَّزَ أبُو البَقاءِ أنْ يَكُونَ التَّقْدِيرُ هو ”أنْ لا تَعْلُوا“، فَيَكُونَ خَبَرَ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ. ومَعْنى لا تَعْلُوا: لا تَتَكَبَّرُوا، كَما يَفْعَلُ المُلُوكُ. وقَرَأ ابْنُ عَبّاسٍ، في رِوايَةِ وهْبِ بْنِ مُنَبِّهٍ والأشْهَبِ العُقَيْلِيِّ: ”أنْ لا تَغْلُوا“، بِالغَيْنِ المُعْجَمَةِ، أيْ ألّا تَتَجاوَزُوا الحَدَّ، وهو مِنَ الغُلُوِّ. والظّاهِرُ أنَّهُ طَلَبَ مِنهم أنْ يَأْتُوهُ وقَدْ أسْلَمُوا، وتَرَكُوا الكُفْرَ وعِبادَةَ الشَّمْسِ. وقِيلَ: مَعْناهُ مُذْعِنِينَ مُسْتَسْلِمِينَ مِن الِانْقِيادِ والدُّخُولِ في الطّاعَةِ، وما كَتَبَهُ سُلَيْمانُ في غايَةِ الإيجازِ والبَلاغَةِ، وكَذَلِكَ كُتُبُ الأنْبِياءِ. والظّاهِرُ أنَّ (p-٧٣)الكِتابَ هو ما نَصَّ اللَّهُ عَلَيْهِ فَقَطْ. واحْتُمِلَ أنْ يَكُونَ مَكْتُوبًا بِالعَرَبِيِّ، إذِ المُلُوكُ يَكُونُ عِنْدَهم مَن يُتَرْجِمُ بِعِدَّةِ ألْسُنٍ، فَكَتَبَ بِالخَطِّ العَرَبِيِّ واللَّفْظِ العَرَبِيِّ؛ لِأنَّها كانَتْ عَرَبِيَّةً مِن نَسْلِ تُبَّعِ بْنِ شَراحِيلَ الحِمْيَرِيِّ. واحْتُمِلَ أنْ يَكُونَ بِاللِّسانِ الَّذِي كانَ سُلَيْمانُ يَتَكَلَّمُ بِهِ، وكانَ عِنْدَها مَن يُتَرْجِمُ لَها، إذْ كانَتْ هي عارِفَةً بِذَلِكَ اللِّسانِ. ورُوِيَ أنَّ نُسْخَةَ الكِتابِ مِن عَبْدِ اللَّهِ سُلَيْمانَ بْنِ داوُدَ إلى بِلْقِيسَ مَلِكَةِ سَبَأٍ: السَّلامُ عَلى مَنِ اتَّبَعَ الهُدى، أمّا بَعْدُ، فَلا تَعْلُوا عَلَيَّ وائْتَوِنِي مُسْلِمِينَ. وكانَتْ كُتُبُ الأنْبِياءِ جُمَلًا لا يُطِيلُونَ ولا يُكْثِرُونَ، وطُبِعَ الكِتابُ بِالمِسْكِ، وخَتَمَهُ بِخاتَمِهِ. ورُوِيَ أنَّهُ لَمْ يَكْتُبْ أحَدٌ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ قَبْلَ سُلَيْمانَ، ولَمّا قَرَأتْ عَلى المَلَأِ الكِتابَ، ورَأتْ ما فِيهِ مِن الِانْتِقالِ إلى سُلَيْمانَ، اسْتِشارَتْهم في أمْرِها. قالَ قَتادَةُ: وكانَ أُولُو مَشُورَتِها ثَلاثَمِائَةٍ واثْنَيْ عَشَرَ، وعَنْهُ: وثَلاثَةَ عَشَرَ، كُلُّ رَجُلٍ مِنهم عَلى عَشَرَةِ آلافٍ، وكانَتْ بِأرْضِ مَأْرِبَ مِن صَنْعاءَ عَلى ثَلاثَةِ أيّامٍ، وذُكِرَ عَنْ عَسْكَرِها ما هو أعْظَمُ وأكْثَرُ مِن هَذا، واللَّهُ أعْلَمُ بِذَلِكَ. وتَقَدَّمَ الكَلامُ في الفَتْوى في سُورَةِ يُوسُفَ، والمُرادُ هُنا: أشِيرُوا عَلَيَّ بِما عِنْدَكم في ما حَدَثَ لَها مِنَ الرَّأْيِ السَّدِيدِ والتَّدْبِيرِ. وقَصَدَتْ بِإشارَتِهِمْ: اسْتِطْلاعَ آرائِهِمْ واسْتِعْطافَهم وتَطْيِيبَ أنْفُسِهِمْ لِيُمالِئُوها ويَقُومُوا. ﴿ما كُنْتُ قاطِعَةً أمْرًا﴾ أيْ مُبْرِمَةً وفاصِلَةً أمْرًا ﴿حَتّى تَشْهَدُونَ﴾ أيْ تَحْضُرُوا عِنْدِي، فَلا أسْتَبِدُّ بِأمْرٍ، بَلْ تَكُونُونَ حاضِرِينَ مَعِي. وفي قِراءَةِ عَبْدِ اللَّهِ: ما كُنْتُ قاضِيَةً أمْرًا، أيْ لا أبُتُّ إلّا وأنْتُمْ حاضِرُونَ مَعِي. وما كُنْتُ قاطِعَةً أمْرًا، عامٌّ في كُلِّ أمْرٍ، أيْ إذا كانَتْ عادَتِي هَذِهِ مَعَكم، فَكَيْفَ لا أسْتَشِيرُكم في هَذِهِ الحادِثَةِ الكُبْرى الَّتِي هي الخُرُوجُ مِنَ المُلْكِ والِانْسِلاكُ في طاعَةِ غَيْرِي والصَّيْرُورَةُ تَبَعًا ؟ فَراجَعَها المَلَأُ بِما أقَرَّ عَيْنَها مِن قَوْلِهِمْ: إنَّهم ﴿أُولُو قُوَّةٍ﴾ أيْ قُوَّةٍ بِالعَدَدِ والعُدَدِ ﴿وأُولُو بَأْسٍ شَدِيدٍ﴾ أيْ أصْحابُ شَجاعَةٍ ونَجْدَةٍ. أظْهَرُوا القُوَّةَ العَرْضِيَّةَ، ثُمَّ القُوَّةَ الذّاتِيَّةَ، أيْ نَحْنُ مُتَهَيِّئُونَ لِلْحَرْبِ ودَفْعِ هَذا الحادِثِ. ثُمَّ قالُوا: ﴿والأمْرُ إلَيْكِ فانْظُرِي ماذا تَأْمُرِينَ﴾ وذَلِكَ مِن حُسْنِ مُحاوَرَتِهِمْ، إذْ وكَّلُوا الأمْرَ إلَيْها، وهو دَلِيلٌ عَلى الطّاعَةِ المُفْرِطَةِ، أيْ نَحْنُ ذَكَرْنا ما نَحْنُ عَلَيْهِ، ومَعَ ذَلِكَ فالأمْرُ مَوْكُولٌ إلَيْكِ، كَأنَّهم أشارُوا أوَّلًا عَلَيْها بِالحَرْبِ، أوْ أرادُوا: نَحْنُ أبْناءُ الحَرْبِ لا أبْناءُ الِاسْتِشارَةِ، وأنْتِ ذاتُ الرَّأْيِ والتَّدْبِيرِ الحَسَنِ. فانْظُرِي ماذا تَأْمُرِينَ بِهِ، نَرْجِعُ إلَيْكِ ونَتَّبِعُ رَأْيَكِ، و”فانْظُرِي“ مِنَ التَّأمُّلِ والتَّفَكُّرِ، وماذا هو المَفْعُولُ الثّانِي لِـ ”تَأْمُرِينَ“، والمَفْعُولُ الأوَّلُ مَحْذُوفٌ لِفَهْمِ المَعْنى، أيْ تَأْمُرِينَنا. والجُمْلَةُ مُعَلَّقٌ عَنْها ”انْظُرِي“، فَهي في مَوْضِعِ مَفْعُولٍ لِـ ”انْظُرِي“ بَعْدَ إسْقاطِ الحَرْفِ مِنِ اسْمِ الِاسْتِفْهامِ. ولَمّا وصَلَ إلَيْها كِتابُ سُلَيْمانَ، لا عَلى يَدِ رَجُلٍ بَلْ عَلى طائِرٍ، اسْتَعْظَمَتْ مُلْكَ سُلَيْمانَ، وعَلِمَتْ أنَّ مَن سُخِّرَ لَهُ الطَّيْرُ حَتّى يُرْسِلَهُ بِأمْرٍ خاصٍّ إلى شَخْصٍ خاصٍّ مُغْلَقٍ عَلَيْهِ الأبْوابُ، غَيْرُ مُمْتَنِعٍ عَلَيْهِ تَدْوِيخُ الأرْضِ ومُلُوكِها، فَأخْبَرَتْ بِحالِ المُلُوكِ ومالَتْ إلى المُهاداةِ والصُّلْحِ فَقالَتْ: ﴿إنَّ المُلُوكَ إذا دَخَلُوا قَرْيَةً﴾ أيْ تَغَلَّبُوا عَلَيْها ﴿أفْسَدُوها﴾ أيْ خَرَّبُوها بِالهَدْمِ والحَرْقِ والقَطْعِ، وأذَلُّوا أعِزَّةَ أهْلِها بِالقَتْلِ والنَّهْبِ والأسْرِ، وقَوْلُها فِيهِ تَزْيِيفٌ لِآرائِهِمْ في الحَرْبِ، وخَوْفٌ عَلَيْهِمْ وحِياطَةٌ لَهم، واسْتِعْظامٌ لِمُلْكِ سُلَيْمانَ. والظّاهِرُ أنَّ ﴿وكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ﴾ هو مِن قَوْلِها، أيْ عادَةُ المُلُوكِ المُسْتَمِرَّةُ تِلْكَ مِنَ الإفْسادِ والتَّذْلِيلِ، وكانَتْ ناشِئَةً في بَيْتِ المُلْكِ، فَرَأتْ ذَلِكَ وسَمِعَتْ. ذَكَرَتْ ذَلِكَ تَأْكِيدًا لِما ذَكَرَتْ مِن حالِ المُلُوكِ. وقِيلَ: هو مِن كَلامِ اللَّهِ إعْلامًا لِرَسُولِهِ ﷺ وأُمَّتِهِ، وتَصْدِيقًا لِإخْبارِها عَنِ المُلُوكِ إذا تَغَلَّبُوا. ولَمّا كانَتْ عادَةُ المُلُوكِ قَبُولَ الهَدايا، وأنَّ قَبُولَها يَدُلُّ عَلى الرِّضا والأُلْفَةِ، قالَتْ: ﴿وإنِّي مُرْسِلَةٌ إلَيْهِمْ﴾ أيْ إلى سُلَيْمانَ ومَن مَعَهُ، رُسُلًا بِهَدِيَّةٍ، وجاءَ لَفْظُ الهَدِيَّةِ مُبْهَمًا. وقَدْ ذَكَرُوا في تَعْيِينِها أقْوالًا مُضْطَرِبَةً مُتَعارِضَةً، وذَكَرُوا مِن حِيَلِها ومِن حالِ سُلَيْمانَ حِينَ وصَلَتْ إلَيْهِ الهَدِيَّةُ وكَلامِهِ مَعَ رُسُلِها ما اللَّهُ أعْلَمُ بِهِ. و﴿فَناظِرَةٌ﴾ مَعْطُوفٌ عَلى ﴿مُرْسَلَةٌ﴾ . (p-٧٤)و﴿بِمَ﴾ مُتَعَلِّقٌ بِـ”يَرْجِعُ“ . ووَقَعَ لِلْحَوْفِيِّ أنَّ الباءَ مُتَعَلِّقَةٌ بِـ ”ناظِرَةٌ“، وهو وهْمٌ فاحِشٌ، والنَّظَرُ هُنا مُعَلَّقٌ أيْضًا. والجُمْلَةُ في مَوْضِعِ مَفْعُولٍ بِهِ، وفِيهِ دَلالَةٌ عَلى أنَّها لَمْ تَثِقْ بِقَبُولِ الهَدِيَّةِ، بَلْ جَوَّزَتِ الرَّدَّ، وأرادَتْ بِذَلِكَ أنْ يَنْكَشِفَ لَها غَرَضُ سُلَيْمانَ. والهَدِيَّةُ: اسْمٌ لِما يُهْدى، كالعَطِيَّةِ هي اسْمٌ لِما يُعْطى. ورُوِيَ أنَّها قالَتْ لِقَوْمِها: إنْ كانَ مَلِكًا دُنْياوِيًّا أرْضاهُ المالُ وعَمِلْنا مَعَهُ بِحَسَبِ ذَلِكَ، وإنْ كانَ نَبِيًّا، لَمْ يُرْضِهِ المالُ ويَنْبَغِي أنْ نَتَّبِعَهُ عَلى دِينِهِ، وفي الكَلامِ حَذْفٌ تَقْدِيرُهُ: فَأرْسَلَتِ الهَدِيَّةَ، فَلَمّا جاءَ - أيِ الرَّسُولُ - سُلَيْمانَ، والمُرادُ بِالرَّسُولِ الجِنْسُ لا حَقِيقَةَ المُفْرَدِ، وكَذَلِكَ الضَّمِيرُ في ”ارْجِعْ“ و”الرَّسُولُ“ يَقَعُ عَلى الجَمْعِ والمُفْرَدِ والمُذَكَّرِ والمُؤَنَّثِ. وقَرَأ عَبْدُ اللَّهِ: ”فَلَمّا جاءُوا“، قَرَأ: ”ارْجِعُوا“، جَعَلَهُ عائِدًا عَلى قَوْلِهِ: ﴿المُرْسَلُونَ﴾ . و﴿أتُمِدُّونَنِي بِمالٍ﴾ اسْتِفْهامُ إنْكارٍ واسْتِقْلالٍ، وفي ذَلِكَ دَلالَةٌ عَلى عُزُوفِهِ عَنِ الدُّنْيا، وعَدَمِ تَعَلُّقِ قَلْبِهِ - عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ - بِها. ثُمَّ ذَكَرَ نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْهِ، وأنَّ ما آتاهُ اللَّهُ مِنَ النُّبُوَّةِ وسِعَةِ المُلْكِ خَيْرٌ مِمّا آتاكم، بَلْ أنْتُمْ بِما يُهْدى إلَيْكم تَفْرَحُونَ بِحُبِّكُمُ الدُّنْيا، والهَدِيَّةُ تَصِحُّ إضافَتُها إلى المُهْدِي وإلى المَهْدى إلَيْهِ، وهي هُنا مُضافَةٌ لِلْمُهْدى إلَيْهِ، وهَذا هو الظّاهِرُ. ويَجُوزُ أنْ تَكُونَ مُضافَةً إلى المُهْدِي، أيْ بَلْ أنْتُمْ بِهَدِيَّتِكم هَذِهِ الَّتِي أهْدَيْتُمُوها تَفْرَحُونَ فَرَحَ افْتِخارٍ عَلى المُلُوكِ، فَإنَّكم قَدَرْتُمْ عَلى إهْداءِ مِثْلِها. ويَجُوزُ أنْ تَكُونَ عِبارَةً عَنِ الرَّدِّ، كَأنَّهُ قالَ: بَلْ أنْتُمْ مِن حَقِّكم أنْ تَأْخُذُوا هَدِيَّتَكم وتَفْرَحُوا بِها. وقَرَأ جُمْهُورُ السَّبْعَةِ: أتُمِدُّونَنِي، بِنُونَيْنِ، وأثْبَتَ بَعْضٌ الياءَ. وقَرَأ حَمْزَةُ: بِإدْغامِ نُونِ الرَّفْعِ في نُونِ الوِقايَةِ وإثْباتِ ياءِ المُتَكَلِّمِ. وقَرَأ المُسَيَّبِيُّ، عَنْ نافِعٍ: بِنُونٍ واحِدَةٍ خَفِيفَةٍ. وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: (فَإنْ قُلْتَ): ما الفَرْقُ بَيْنَ قَوْلِكَ: أتُمِدُّونَنِي بِمالٍ وأنا أغْنى مِنكم، وبَيْنَ أنْ يَقُولَهُ بِالفاءِ ؟ (قُلْتُ): إذا قُلْتُهُ بِالواوِ، فَقَدْ جَعَلْتُ مُخاطِبِي عالِمًا بِزِيادَتِي عَلَيْهِ في الغِنى، وهو مَعَ ذَلِكَ يَمُدُّنِي بِالمالِ، وإذا قَلَتُهُ بِالفاءِ، فَقَدْ جَعَلْتُهُ مِمَّنْ خَفِيَتْ عَنْهُ حالِي، وأنا أُخْبِرُهُ السّاعَةَ بِما لا أحْتاجُ مَعَهُ إلى إمْدادِهِ، كَأنِّي أقُولُ لَهُ: أُنْكِرُ عَلَيْكَ ما فَعَلْتَ، فَإنِّي غَنِيٌّ عَنْهُ. وعَلَيْهِ ورَدَ قَوْلُهُ: ﴿فَما آتانِيَ اللَّهُ﴾ . (فَإنْ قُلْتَ): فَما وجْهُ الإضْرابِ ؟ (قُلْتُ): لَمّا أنْكَرَ عَلَيْهِمُ الإمْدادَ وعَلَّلَ إنْكارَهُ، أضْرَبَ عَنْ ذَلِكَ إلى بَيانِ السَّبَبِ الَّذِي حَمَلَهم عَلَيْهِ، وهو أنَّهم لا يَعْرِفُونَ سَبَبَ رِضًا ولا فَرَحٍ إلّا أنْ يُهْدى إلَيْهِمْ حَظٌّ مِنَ الدُّنْيا الَّتِي لا يَعْلَمُونَ غَيْرَها. انْتَهى. ﴿ارْجِعْ إلَيْهِمْ﴾ هو خِطابٌ لِلرَّسُولِ الَّذِي جاءَ بِالهَدِيَّةِ، وهو المُنْذِرُ بْنُ عَمْرٍو أمِيرُ الوَفْدِ، والمَعْنى: ارْجِعْ إلَيْهِمْ بِهَدِيَّتِهِمْ، وتَقَدَّمَتْ قِراءَةُ عَبْدِ اللَّهِ: ارْجِعُوا إلَيْهِمْ، وارْجِعُوا هُنا لا تَتَعَدّى، أيِ انْقَلِبُوا وانْصَرِفُوا إلَيْهِمْ. وقِيلَ: الخِطابُ بِقَوْلِهِ: ارْجِعْ، لِلْهُدْهُدِ مُحَمَّلًا كِتابًا آخَرَ. ثُمَّ أقْسَمَ سُلَيْمانُ فَقالَ: ﴿فَلَنَأْتِيَنَّهم بِجُنُودٍ﴾ مُتَوَعِّدًا لَهم، وفِيهِ حَذْفٌ، أيْ إنْ لَمْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ. ودَلَّ هَذا التَّوَعُّدُ عَلى أنَّهم كانُوا كُفّارًا باقِينَ عَلى الكُفْرِ إذْ ذاكَ. والضَّمِيرُ في (بِها) عائِدٌ عَلى الجُنُودِ، وهو جَمْعُ تَكْسِيرٍ، فَيَجُوزُ أنْ يَعُودَ الضَّمِيرُ عَلَيْهِ، كَما يَعُودُ عَلى الواحِدَةِ، كَما قالَتِ العَرَبُ: الرِّجالُ وأعْضادُها. وقَرَأ عَبْدُ اللَّهِ: ”بِهِمْ“ . ومَعْنى ﴿لا قِبَلَ﴾ لا طاقَةَ، وحَقِيقَةُ القِبَلِ المُقاوَمَةُ والمُقابَلَةُ، أيْ لا تَقْدِرُونَ أنْ تُقابِلُوهم. والضَّمِيرُ في مِنها عائِدٌ عَلى سَبَأٍ، وهي أرْضُ بِلْقِيسَ وقَوْمِها. وانْتَصَبَ ﴿أذِلَّةً﴾ عَلى الحالِ. ﴿وهم صاغِرُونَ﴾ حالٌ أُخْرى. والذُّلُّ: ذَهابُ ما كانُوا فِيهِ مِنَ العِزِّ، والصَّغارُ: وُقُوعُهم في أسْرٍ واسْتِعْبادٍ، ولا يَقْتِصَرُ بِهِمْ عَلى أنْ يَرْجِعُوا سُوقَةً بَعْدَ أنْ كانُوا مُلُوكًا. وفي مَجِيءِ هاتَيْنِ الحالَتَيْنِ دَلِيلٌ عَلى جَوازِ أنْ يَقْضِيَ العامِلُ حالَيْنِ لِذِي حالٍ واحِدٍ، وهي مَسْألَةُ خِلافٍ، ويُمْكِنُ أنْ يُقالَ: إنَّ الثّانِيَةَ هُنا جاءَتْ تَوْكِيدًا لِقَوْلِهِ: ﴿أذِلَّةً﴾ فَكَأنَّهُما حالٌ واحِدَةٌ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب