الباحث القرآني

﴿قالَتْ﴾ أيْ: بَعْدَما ذَهَبَ الهُدْهُدُ بِالكِتابِ فَألْقاهُ إلَيْهِمْ وتَنَحّى عَنْهم حَسْبَما أُمِرَ بِهِ، وإنَّما طُوِيَ ذِكْرُهُ؛ إيذانًا بِكَمالِ مُسارَعَتِهِ إلى إقامَةِ ما أُمِرَ بِهِ مِنَ الخِدْمَةِ، وإشْعارًا بِالِاسْتِغْناءِ عَنِ التَّصْرِيحِ بِهِ لِغايَةِ ظُهُورِهِ. رُوِيَ أنَّهُ - عَلَيْهِ السَّلامُ - كَتَبَ كِتابَهُ، وطَبَعَهُ بِالمِسْكِ، وخَتَمَهُ بِخاتَمِهِ، ودَفَعَهُ إلى الهُدْهُدِ، فَذَهَبَ بِهِ فَوَجَدَها راقِدَةً في قَصْرِها بِمَأْرَبٍ، وكانَتْ إذا رَقَدَتْ غَلَّقَتِ الأبْوابَ ووَضَعَتِ المَفاتِيحَ تَحْتَ رَأْسِها، فَدَخَلَ مِن كُوَّةٍ وطَرَحَ الكِتابَ عَلى نَحْرِها وهي مُسْتَلْقِيَةٌ، وفي رِوايَةٍ: بَيْنَ ثَدْيَيْها، وقِيلَ: نَقَرَها فانْتَبَهَتْ فَزِعَةً، وقِيلَ: أتاها والقادَةُ والجُنُودُ حَوالَيْها فَرَفْرَفَ ساعَةً، والنّاسُ يَنْظُرُونَ حَتّى رَفَعَتْ رَأْسَها فَألْقى الكِتابَ في حِجْرِها، فَلَمّا رَأتِ الخاتَمَ ارْتَعَدَتْ وخَضَعَتْ فَقالَتْ ما قالَتْ. وقِيلَ: كانَتْ في البَيْتِ كُوَّةٌ تَقَعُ الشَّمْسُ مِنها كُلَّ يَوْمٍ، فَإذا نَظَرَتْ إلَيْها سَجَدَتْ، فَجاءَ الهُدْهُدُ فَسَدَّها بِجَناحَيْهِ فَرَأتْ ذَلِكَ وقامَتْ إلَيْهِ فَألْقى الكِتابَ إلَيْها، وكانَتْ قارِئَةً كاتِبَةً عَرَبِيَّةً مَن نَسْلِ يَعْرُبَ بْنِ قَحْطانَ، واشْتُهِرَ أنَّها مِن نَسْلِ تُبَّعٍ الحِمْيَرِيِّ، وكانَ الخَطُّ العَرَبِيُّ في غايَةِ الإحْكامِ والإتْقانِ والجَوْدَةِ في دَوْلَةِ التَّبابِعَةِ، وهو المُسَمّى بِالخَطِّ الحِمْيَرِيِّ، وكانَ بِحِمْيَرَ كِتابَةٌ تُسَمّى المُسْنَدَ، حُرُوفُها مُفَصَّلَةٌ، وكانُوا يَمْنَعُونَ مِن تَعْلِيمِها إلّا بِإذْنِهِمْ، ومِن حِمْيَرٍ تَعَلَّمَ مُضَرٌ، وقَدْ تَقَدَّمَ بَعْضُ الكَلامِ في ذَلِكَ. واخْتارَ ابْنُ خَلْدُونَ القَوْلَ بِأنَّهُ تَعَلَّمَ الكِتابَةَ العَرَبِيَّةَ مِنَ التَّبابِعَةِ وحَمِيرٍ أهْلُ الحِيرَةِ، وتَعَلَّمَها مِنهم أهْلُ الحِجازِ. وظاهِرٌ كَوْنُ بِلْقِيسَ مِنَ العَرَبِ، وأنَّها قَرَأتِ الكِتابَ يَقْتَضِي أنَّ الكِتابَ كانَ عَرَبِيًّا، ولَعَلَّ سُلَيْمانَ - عَلَيْهِ السَّلامُ - كانَ يَعْرِفُ العَرَبِيَّ - وإنْ لَمْ يَكُنْ مِنَ العَرَبِ - ومَن عُلِّمَ مَنطِقَ الطَّيْرِ لا يَبْعُدُ أنْ يُعَلَّمَ مَنطِقَ العَرَبِ الَّذِي هو أشْرَفُ مَنطِقٍ، ويُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ عِنْدَهُ مَن يَعْرِفُ ذَلِكَ، وكَذا مَن يَعْرِفُ غَيْرَهُ مِنَ اللُّغاتِ كَعادَةِ المُلُوكِ يَكُونُ عِنْدَهم مَن يَتَكَلَّمُ بِعِدَّةِ لُغاتٍ؛ لِيُتَرْجِمَ لَهم ما يَحْتاجُونَهُ، ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ الكِتابُ غَيْرَ عَرَبِيٍّ بَلْ بِلُغَةِ سُلَيْمانَ - عَلَيْهِ السَّلامُ – وقَلَمِهِ، وكانَ قَلَمُهُ - كَما نُقِلَ عَنِ الإمامِ أحْمَدَ البَوْنِيِّ – كاهِنِيًّا، وكانَ عِنْدَ بِلْقِيسَ مَن تَرْجَمَهُ لَها، وأعْلَمَها بِما فِيهِ، فَجَمَعَتْ أشْرافَ قَوْمِها وأخْبَرَتْهم بِذَلِكَ واسْتَشارَتْهم كَما حَكى سُبْحانَهُ عَنْها بِقَوْلِهِ - جَلَّ وعَلا - قالَتْ: ﴿يا أيُّها المَلأُ إنِّي أُلْقِيَ إلَيَّ كِتابٌ كَرِيمٌ﴾ ... إلَخْ. وأقْدَمَ سُلَيْمانَ - عَلَيْهِ السَّلامُ - عَلى كِتابَةِ الكِتابِ إلَيْها كَذَلِكَ قَوْلُ الهُدْهُدِ: ﴿وأُوتِيَتْ مِن كُلِّ شَيْءٍ﴾ والمُتَرْجِمُ مِنَ الأشْياءِ الَّتِي يَحْتاجُ إلَيْها المَلِكُ، وأنَّ اللّائِقَ بِشَأْنِهِ وعَظْمَتِهِ أنْ لا يَتْرُكَ لِسانَهُ ويَتَشَبَّهُ بِها في لِسانِها، ويُحْتَمَلُ أنَّها كانَتْ بِنَفْسِها تَعْرِفُ تِلْكَ الكِتابَةَ فَقَرَأتِ الكِتابَ لِذَلِكَ، ورُجِّحَ احْتِمالُ أنْ يَكُونَ الكِتابُ غَيْرَ عَرَبِيٍّ بِأنَّ الكِتابَةَ لَها بِالعَرَبِيَّةِ تَسْتَدْعِي الوُقُوفَ عَلى حالِها، وهو - عَلَيْهِ السَّلامُ - ما وقَفَ عَلَيْهِ بَعْدَ. وتُعُقِّبَ بِأنَّهُ دَلَّهُ عَلى كَوْنِها عَرَبِيَّةً قَوْلُ الهُدْهُدِ: ﴿وجِئْتُكَ مِن سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ﴾ ﴿إنِّي وجَدْتُ امْرَأةً تَمْلِكُهُمْ﴾ فَإنَّهُ - عَلَيْهِ السَّلامُ - مِمَّنْ لا يَخْفى عَلَيْهِ كَوْنُ سَبَأٍ مِنَ العَرَبِ، والظّاهِرُ كَوْنُ مَلِكَتِهِمْ مِنهُمْ، ووَصَفَتِ الكِتابَ بِالكَرِيمِ؛ لِكَوْنِهِ مَخْتُومًا، فَفي الحَدِيثِ: ««كَرَمُ الكِتابِ خَتْمُهُ»». وفِي شَرْحِ أدَبِ الكاتِبِ يُقالُ: أكْرَمْتُ الكِتابَ فَهو كَرِيمٌ إذا خَتَمْتَهُ، وقالَ ابْنُ المُقَفَّعِ: مَن كَتَبَ إلى أخِيهِ كِتابًا ولَمْ يَخْتِمْهُ فَقَدِ اسْتَخَفَّ بِهِ، وقَدْ فَسَّرَ ابْنُ عَبّاسٍ، وقَتادَةُ، وزُهَيْرُ بْنُ مُحَمَّدٍ «الكَرِيمَ» هُنا بِالمَخْتُومِ، وفِيهِ - كَما قِيلَ - اسْتِحْبابُ خَتْمِ الكِتابِ لِكَرَمِ مَضْمُونِهِ وشَرَفِهِ، أوْ لِكَرَمِ (p-195)مُرْسِلِهِ وعُلُوِّ مَنزِلَتِهِ، وعَلِمَتْ ذَلِكَ بِالسَّماعِ أوْ بِكَوْنِ كِتابِهِ مَخْتُومًا بِاسْمِهِ - عَلى عادَةِ المُلُوكِ والعُظَماءِ - أوْ بِكَوْنِ رَسُولِهِ بِهِ الطَّيْرَ، أوْ لِبَداءَتِهِ بِاسْمِ اللَّهِ - عَزَّ وجَلَّ - أوْ لِغَرابَةِ شَأْنِهِ ووُصُولِهِ إلَيْها عَلى مِنهاجٍ غَيْرِ مُعْتادٍ، وقِيلَ: إنَّ ذَلِكَ لِظَنِّها إيّاهُ - بِسَبَبِ أنَّ المُلْقِيَ لَهُ طَيْرٌ - أنَّهُ كِتابٌ سَماوِيٌّ ولَيْسَ بِشَيْءٍ. وبِناءُ (أُلْقِيَ) لِلْمَفْعُولِ لِعَدَمِ الِاهْتِمامِ بِالفاعِلِ، وقِيلَ: لِجَهْلِها بِهِ أوْ لِكَوْنِهِ حَقِيرًا. وقالَ الشَّيْخُ الأكْبَرُ - قُدِّسَ سِرُّهُ - في الفُصُوصِ: مِن حِكْمَةِ بِلْقِيسَ كَوْنُها لَمْ تَذْكُرْ مَن ألْقى إلَيْها الكِتابَ، وما ذاكَ إلّا لِتُعْلِمَ أصْحابَها أنَّ لَها اتِّصالًا إلى أُمُورٍ لا يَعْلَمُونَ طَرِيقَها، وفي ذَلِكَ سِياسَةٌ مِنها، أوْرَثَتِ الحَذَرَ مِنها في أهْلِ مَمْلَكَتِها، وخَواصِّ مُدَبِّرِيها، وبِهَذا اسْتَحَقَّتِ التَّقْدِيمَ عَلَيْهِمُ، انْتَهى. وتَأْكِيدُ الجُمْلَةِ لِلِاعْتِناءِ بِشَأْنِ الحُكْمِ،
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب