(p-٣١٢)﴿وإذا رَآكَ الَّذِينَ كَفَرُوا إنْ يَتَّخِذُونَكَ إلّا هُزُوًا أهَذا الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكم وهم بِذِكْرِ الرَّحْمَنِ هم كافِرُونَ﴾ ﴿خُلِقَ الإنْسانُ مِن عَجَلٍ سَأُرِيكم آياتِي فَلا تَسْتَعْجِلُونِ﴾ ﴿ويَقُولُونَ مَتى هَذا الوَعْدُ إنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ﴾ ﴿لَوْ يَعْلَمُ الَّذِينَ كَفَرُوا حِينَ لا يَكُفُّونَ عَنْ وُجُوهِهِمُ النّارَ ولا عَنْ ظُهُورِهِمْ ولا هم يُنْصَرُونَ﴾ ﴿بَلْ تَأْتِيهِمْ بَغْتَةً فَتَبْهَتُهم فَلا يَسْتَطِيعُونَ رَدَّها ولا هم يُنْظَرُونَ﴾ ﴿ولَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِن قَبْلِكَ فَحاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنهم ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ﴾ ﴿قُلْ مَن يَكْلَؤُكم بِاللَّيْلِ والنَّهارِ مِنَ الرَّحْمَنِ بَلْ هم عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِمْ مُعْرِضُونَ﴾ ﴿أمْ لَهم آلِهَةٌ تَمْنَعُهم مِن دُونِنا لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَ أنْفُسِهِمْ ولا هم مِنّا يُصْحَبُونَ﴾:
قالَ السُّدِّيُّ ومُقاتِلٌ: مَرَّ الرَّسُولُ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ بِأبِي جَهْلٍ وأبِي سُفْيانَ، فَقالَ أبُو جَهْلٍ: هَذا نَبِيُّ عَبْدِ مَنافٍ، فَقالَ أبُو سُفْيانَ: وما تُنْكِرُونَ أنْ يَكُونَ نَبِيًّا في بَنِي عَبْدِ مَنافٍ، فَسَمِعَهُما الرَّسُولُ ﷺ فَقالَ لِأبِي جَهْل: (ما تَنْتَهِي حَتّى يَنْزِلَ بِكَ ما نَزَلَ بِعَمِّكِ الوَلِيدِ بْنِ المُغِيرَةِ، وأمّا أنْتَ يا أبا سُفْيانَ فَإنَّما قُلْتَ ما قُلْتَ حَمِيَّةً) فَنَزَلَتْ.
ولَمّا كانَ الكُفّارُ يَغُمُّهم ذِكْرُ آلِهَتِهِمْ بِسُوءٍ شَرَعُوا في الِاسْتِهْزاءِ وتَنْقِيصِ مَن يَذْكُرُهم عَلى سَبِيلِ المُقابَلَةِ و(إنْ) نافِيَةٌ بِمَعْنى ما، والظّاهِرُ أنَّ جَوابَ (إذا) هو ﴿إنْ يَتَّخِذُونَكَ﴾ وجَوابُ إذا بِإنِ النّافِيَةِ لَمْ يَرِدْ مِنهُ في القُرْآنِ إلّا هَذا وقَوْلُهُ في القُرْآنِ ﴿وإذا رَأوْكَ إنْ يَتَّخِذُونَكَ إلّا هُزُوًا﴾ [الفرقان: ٤١] ولَمْ يَحْتَجْ إلى الفاءِ في الجَوابِ كَما لَمْ تَحْتَجْ إلَيْهِ ما إذا وقَعَتْ جَوابًا كَقَوْلِهِ: ﴿وإذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ ما كانَ حُجَّتَهُمْ﴾ [الجاثية: ٢٥] بِخِلافِ أدَواتِ الشَّرْطِ، فَإنَّها إذا كانَ الجَوابُ مُصَدَّرًا بِما النّافِيَةِ فَلا بُدَّ مِنَ الفاءِ، نَحْوَ إنْ تَزُورُنا فَما نُسِيءُ إلَيْكَ. وفي الجَوابِ لِإذا بِـإنْ وما النّافِيَتَيْنِ دَلِيلٌ واضِحٌ عَلى أنَّ (إذا) لَيْسَتْ مَعْمُولَةً لِلْجَوابِ، بَلِ العامِلُ فِيها الفِعْلُ الَّذِي يَلِيها ولَيْسَتْ مُضافَةً لِلْجُمْلَةِ خِلافًا لِأكْثَرِ النُّحاةِ. وقَدِ اسْتَدْلَلْنا عَلى ذَلِكَ بِغَيْرِ هَذا مِنَ الأدِلَّةِ في شَرْحِ التَّسْهِيلِ.
وقِيلَ: جَوابُ (إذا) مَحْذُوفٌ وهو يَقُولُونَ المَحْكِيُّ بِهِ قَوْلُهم ﴿أهَذا الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ﴾ وقَوْلُهُ ﴿إنْ يَتَّخِذُونَكَ إلّا هُزُوًا﴾ كَلامٌ مُعْتَرِضٌ بَيْنَ (إذا) وجَوابِهِ و﴿يَتَّخِذُونَكَ﴾ يَتَعَدّى إلى اثْنَيْنِ، والثّانِي (هُزُوًا) أيْ مَهْزُوأً بِهِ، وهَذا اسْتِفْهامٌ فِيهِ إنْكارٌ وتَعَجُّبٌ. والذِّكْرُ يَكُونُ بِالخَيْرِ وبِالشَّرِّ، فَإذا لَمْ يُذْكَرْ مُتَعَلَّقُهُ فالقَرِينَةُ تَدُلُّ عَلَيْهِ، فَإنْ كانَ مِن صَدِيقٍ فالذِّكْرُ ثَناءٌ أوْ مِن غَيْرِهِ فَذَمٌّ، ومِنهُ ﴿سَمِعْنا فَتًى يَذْكُرُهُمْ﴾ [الأنبياء: ٦٠] أيْ بِسُوءٍ، وكَذَلِكَ هُنا ﴿أهَذا الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ﴾ .
ثُمَّ نَعى عَلَيْهِ إنْكارَهم عَلَيْهِ ذِكْرَ آلِهَتِهِمْ بِهَذِهِ الجُمْلَةِ الحالِيَّةِ وهي ﴿وهم بِذِكْرِ الرَّحْمَنِ هم كافِرُونَ﴾ أيْ يُنْكِرُونَ وهَذِهِ حالُهم يَكْفُرُونَ بِذِكْرِ الرَّحْمَنِ، وهو ما أُنْزِلَ مِنَ القُرْآنِ فَمَن هَذِهِ حالُهُ لا يَنْبَغِي أنْ يُنْكِرَ عَلى مَن يَعِيبُ آلِهَتَهم، والظّاهِرُ أنَّ هَذِهِ الجُمْلَةَ حالٌ مِنَ الضَّمِيرِ في يَقُولُونَ المَحْذُوفِ.
وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: والجُمْلَةُ في مَوْضِعِ الحالِ أيْ (يَتَّخِذُونَكَ هُزُوًا) وهم عَلى حالٍ هي أصْلُ الهُزْءِ والسُّخْرِيَةِ وهي الكُفْرُ بِاللَّهِ. انْتَهى. فَجَعَلَ الجُمْلَةَ الحالِيَّةَ العامِلَ فِيها (يَتَّخِذُونَكَ هُزُوًا) المَحْذُوفَةَ وكَرَّرَهم عَلى سَبِيلِ التَّوْكِيدِ. ورُوِيَ أنَّها نَزَلَتْ حِينَ أنْكَرُوا لَفْظَةَ (الرَّحْمَنِ) وقالُوا: ما نَعْرِفُ الرَّحْمَنَ إلّا في اليَمامَةِ، والمُرادُ بِالرَّحْمَنِ هُنا اللَّهُ، كَأنَّهُ قِيلَ ﴿وهم بِذِكْرِ﴾ اللَّهِ ولَمّا كانُوا يَسْتَعْجِلُونَ عَذابَ اللَّهِ وآياتِهِ المُلْجِئَةَ إلى الإقْرارِ والعِلْمِ نَهاهم تَعالى عَنِ الِاسْتِعْجالِ وقَدَّمَ أوَّلًا ذَمَّ الإنْسانِ عَلى إفْراطِ العَجَلَةِ وأنَّهُ مَطْبُوعٌ عَلَيْها، والظّاهِرُ أنَّهُ يُرادُ بِالإنْسانِ هُنا اسْمُ الجِنْسِ وكَوْنُهُ (خُلِقَ) ﴿مِن عَجَلٍ﴾ وهو عَلى سَبِيلِ المُبالَغَةِ لَمّا كانَ يَصْدُرُ مِنهُ كَثِيرًا. كَما يَقُولُ لِمُكْثِرِ اللَّعِبِ أنْتَ مِن لَعِبٍ، وفي الحَدِيثِ (لَسْتُ مَن دَدٍ ولا دَدٌ مِنِّي) . وقالَ الشّاعِرُ:
؎وإنّا لَمِمّا يَضْرِبُ الكَبْشَ ضَرْبَةً عَلى رَأْسِهِ تُلْقِي اللِّسانَ مِنَ الفَمِ
لَمّا كانُوا أهْلَ ضَرْبِ الهامِ ومُلازَمَةِ الحَرْبِ قالَ: إنَّهم مِنَ الضَّرْبِ، وبِهَذا التَّأْوِيلِ يَتِمُّ مَعْنى الآيَةِ ويَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: ﴿سَأُرِيكم آياتِي﴾ أيْ آياتِ الوَعِيدِ ﴿فَلا تَسْتَعْجِلُونِ﴾ في رُؤْيَتِكُمُ العَذابَ الَّذِي تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ، ومَن يَدَّعِي القَلْبَ فِيهِ وهو أبُو عَمْرٍو وأنَّ التَّقْدِيرَ خَلْقُ العَجَلِ مِنَ الإنْسانِ وكَذا قِراءَةُ عَبْدِ اللَّهِ عَلى مَعْنى أنَّهُ جُعِلَ طَبِيعَةً مِن طَبائِعِهِ وجُزْءًا مِن أخْلاقِهِ، فَلَيْسَ قَوْلُهُ بِجَيِّدٍ لِأنَّ القَلْبَ الصَّحِيحَ (p-٣١٣)فِيهِ أنْ لا يَكُونَ في كَلامٍ فَصِيحٍ وإنَّ بابَهُ الشِّعْرُ. قِيلَ: فَمِمّا جاءَ في الكَلامِ مِن ذَلِكَ قَوْلُ العَرَبِ: إذا طَلَعَتِ الشِّعْرى اسْتَوى العُودُ عَلى الحِرْباءِ. وقالُوا: عُرِضَتِ النّاقَةُ عَلى الحَوْضِ وفي الشِّعْرِ قَوْلُهُ:
؎حَسَرْتُ كَفِّي عَنِ السِّرْبالِ آخُذُهُ
وقالَ مُجاهِد وسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وعِكْرِمَةُ والسُّدِّيُّ والضَّحّاكُ ومُقاتِلٌ والكَلْبِيُّ (الإنْسانُ) هُنا آدَمُ. قالَ مُجاهِد: لَمّا دَخَلَ الرُّوحُ رَأْسَهُ وعَيْنَيْهِ رَأى الشَّمْسَ قارَبَتِ الغُرُوبَ فَقالَ: يا رَبِّ عَجِّلْ تَمامَ خَلْقِي قَبْلَ أنْ تَغِيبَ الشَّمْسُ. وقالَ سَعِيدٌ: لَمّا بَلَغَتِ الرُّوحُ رُكْبَتَيْهِ كادَ يَقُومُ فَقالَ اللَّهُ ﴿خُلِقَ الإنْسانُ مِن عَجَلٍ﴾ . وقالَ ابْنُ زَيْدٍ: خَلَقَهُ اللَّهُ يَوْمَ الجُمُعَةِ عَلى عَجَلَةٍ في خَلْقِهِ. وقالَ الأخْفَشُ ﴿مِن عَجَلٍ﴾ لِأنَّ اللَّهَ قالَ لَهُ كُنْ فَكانَ. وقالَ الحَسَنُ: ﴿مِن عَجَلٍ﴾ أيْ ضَعِيفٍ يَعْنِي النُّطْفَةَ. وقِيلَ: خُلِقَ بِسُرْعَةٍ وتَعْجِيلٍ عَلى غَيْرِ تَرْتِيبِ الآدَمِيِّينَ مِنَ النُّطْفَةِ والعَلَقَةِ والمُضْغَةِ، وهَذا يَرْجِعُ لِقَوْلِ الأخْفَشِ. وقِيلَ: ﴿مِن عَجَلٍ﴾ مِن طِينٍ والعَجَلُ بِلُغَةِ حِمْيَرَ الطِّينُ. وأنْشَدَ أبُو عُبَيْدَةَ لِبَعْضِ الحِمْيَرِيِّينَ:
؎النَّبْعُ في الصَّخْرَةِ الصَّمّاءِ مَنبَتُهُ ∗∗∗ والنَّخْلُ مَنبَتُهُ في الماءِ والعَجَلِ
وقِيلَ: ﴿الإنْسانُ﴾ هُنا النَّضْرُ بْنُ الحارِثِ، والَّذِي يَنْبَغِي أنْ تُحْمَلَ الآيَةُ عَلَيْهِ هو القَوْلُ الأوَّلُ وهو الَّذِي يُناسِبُ آخِرَها. والآياتُ هُنا قِيلَ: الهَلاكُ المُعَجَّلُ في الدُّنْيا والعَذابُ في الآخِرَةِ أيْ يَأْتِيكم في وقْتِهِ. وقِيلَ: أدِلَّةُ التَّوْحِيدِ وصِدْقِ الرَّسُولِ. وقِيلَ: آثارُ القُرُونِ الماضِيَةِ بِالشّامِ واليَمَنِ، والقَوْلُ الأوَّلُ ألْيَقُ أيْ سَيَأْتِي ما يَسُؤُوكم إذا دُمْتُمْ عَلى كُفْرِكم، كَأنَّهُ يُرِيدُ يَوْمَ بَدْرٍ وغَيْرَهُ في الدُّنْيا وفي الآخِرَةِ.
وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فَإنْ قُلْتَ: لِمَ نَهاهم عَنِ الِاسْتِعْجالِ مَعَ قَوْلِهِ ﴿خُلِقَ الإنْسانُ مِن عَجَلٍ﴾ وقَوْلِهِ: ﴿وكانَ الإنْسانُ عَجُولًا﴾ [الإسراء: ١١] ألَيْسَ هَذا مِن تَكْلِيفِ ما لا يُطاقُ ؟ قُلْتُ: هَذا كَما رُكِّبَ فِيهِ مِنَ الشَّهْوَةِ وأمَرَهُ أنْ يَغْلِبَها لِأنَّهُ أعْطاهُ القُدْرَةَ الَّتِي يَسْتَطِيعُ بِها قَمْعَ الشَّهْوَةِ وتَرْكَ العَجَلَةِ. انْتَهى. وهو عَلى طَرِيقِ الِاعْتِزالِ.
وقَرَأ مُجاهِدٌ وحُمَيدٌ وابْنُ مِقْسَمٍ (خَلَقَ) مَبْنِيًّا لِلْفاعِلِ (الإنْسانَ) بِالنَّصْبِ أيْ (خَلَقَ) اللَّهُ (الإنْسانَ) وقَوْلُهُ: ﴿مَتى هَذا الوَعْدُ﴾ اسْتِفْهامٌ عَلى جِهَةِ الهُزْءِ، وكانَ المُسْلِمُونَ يَتَوَعَّدُونَهم عَلى لِسانِ الشَّرْعِ و(مَتى) في مَوْضِعِ الجَرِّ لِهَذا فَمَوْضِعُهُ رَفْعٌ، ونُقِلَ عَنْ بَعْضِ الكُوفِيِّينَ أنَّ مَوْضِعَ (مَتى) نَصْبٌ عَلى الظَّرْفِ والعامِلُ فِيهِ فِعْلٌ مُقَدَّرٌ تَقْدِيرُهُ يَكُونُ أوْ يَجِيءُ، وجَوابُ (لَوْ) مَحْذُوفٌ لِدَلالَةِ الكَلامِ عَلَيْهِ، وحَذْفُهُ أبْلَغُ وأهْيَبُ مِنَ النَّصِّ عَلَيْهِ فَقَدَّرَهُ ابْنُ عَطِيَّةَ لَمّا اسْتَعْجَلُوا ونَحْوَهُ، وقَدَّرَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ لَمّا كانُوا بِتِلْكَ الصِّفَةِ مِنَ الكُفْرِ والِاسْتِهْزاءِ والِاسْتِعْجالِ. وقِيلَ: لَعَلِمُوا صِحَّةَ البَعْثِ. وقِيلَ: لَعَلِمُوا صِحَّةَ المَوْعُودِ. وقالَ الحَوْفِيُّ: لَسارَعُوا إلى الإيمانِ. وقالَ الكِسائِيُّ: هو تَنْبِيهٌ عَلى تَحْقِيقِ وُقُوعِ السّاعَةِ وحِينَ يُرادُ بِهِ وقْتُ السّاعَةِ يَدُلُّ عَلى ذَلِكَ بَلْ تَأْتِيهِمْ بَغْتَةً. انْتَهى.
و(حِينَ) قالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: مَفْعُولٌ بِهِ لِيَعْلَمَ أيْ لَوْ يَعْلَمُونَ الوَقْتَ الَّذِي يَسْتَعْجِلُونَ عَنْهُ بِقَوْلِهِمْ ﴿مَتى هَذا الوَعْدُ﴾ وهو وقْتٌ صَعْبٌ شَدِيدٌ تُحِيطُ بِهِمُ النّارُ مِن وراءُ وقُدّامُ، ولَكِنَّ جَهْلَهم بِهِ هو الَّذِي هَوَّنَهُ عِنْدَهم. قالَ: ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ (يَعْلَمُ) مَتْرُوكًا فَلا تَعْدِيَةَ بِمَعْنى (لَوْ) كانَ مَعَهم عِلْمٌ ولَمْ يَكُونُوا جاهِلِينَ لَما كانُوا مُسْتَعْجِلِينَ، و(حِينَ) مَنصُوبٌ بِمُضْمَرٍ أيْ ﴿حِينَ لا يَكُفُّونَ عَنْ وُجُوهِهِمُ النّارَ﴾ يَعْلَمُونَ أنَّهم كانُوا عَلى الباطِلِ، ويَنْتَفِي عَنْهم هَذا الجَهْلُ العَظِيمُ أيْ لا يَكُفُّونَها. انْتَهى. والَّذِي يَظْهَرُ أنَّ مَفْعُولَ (يَعْلَمُ) مَحْذُوفٌ لِدَلالَةِ ما قَبْلَهُ أيْ لَوْ يَعْلَمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مَجِيءَ المَوْعُودِ الَّذِي سَألُوا عَنْهُ واسْتَنْبَطُوهُ. و(حِينَ) مَنصُوبٌ بِالمَفْعُولِ الَّذِي هو مَجِيءٌ ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ مِن بابِ الإعْمالِ عَلى حَذْفِ مُضافٍ، وأُعْمِلَ الثّانِي والمَعْنى لَوْ يَعْلَمُونَ مُباشَرَةَ النّارِ حِينَ لا يَكُفُّونَها عَنْ وُجُوهِهِمْ، وذَكَرَ الوُجُوهَ لِأنَّها أشْرَفُ ما في الإنْسانِ ومَحَلُّ حَواسِّهِ، والإنْسانُ أحْرَصُ عَلى الدِّفاعِ عَنْهُ مِن غَيْرِهِ مِن أعْضائِهِ، ثُمَّ عَطَفَ عَلَيْها الظُّهُورَ والمُرادُ عُمُومُ النّارِ لِجَمِيعِ أبْدانِهِمْ ولا أحَدَ (p-٣١٤)يَمْنَعُهم مِنَ العَذابِ ﴿بَلْ تَأْتِيهِمْ بَغْتَةً﴾ أيْ تَفْجَؤُهم. قالَ ابْنُ عَطِيَّةَ ﴿بَلْ تَأْتِيهِمْ﴾ اسْتِدْراكٌ مُقَدَّرٌ قَبْلَهُ نَفْيٌ تَقْدِيرُهُ إنَّ الآياتِ لا تَأْتِي بِحَسَبِ اقْتِراحِهِمْ. انْتَهى. والظّاهِرُ أنَّ الضَّمِيرَ في (تَأْتِيهِمْ) عائِدٌ عَلى النّارِ. وقِيلَ: عَلى السّاعَةِ الَّتِي تُصَبِّرُهم إلى العَذابِ. وقِيلَ: عَلى العُقُوبَةِ. وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: في عَوْدِ الضَّمِيرِ إلى النّارِ أوْ إلى الوَعْدِ لِأنَّهُ في مَعْنى النّارِ وهي الَّتِي وعَدُوها، أوْ عَلى تَأْوِيلِ العِدَةِ والمَوْعِدَةِ أوْ إلى الحِينِ لِأنَّهُ في مَعْنى السّاعَةِ أوْ إلى البَعْثَةِ. انْتَهى.
وقَرَأ الأعْمَشُ بَلْ يَأْتِيهِمْ بِالياءِ بَغْتَةً بِفَتْحِ الغَيْنِ فَيَبْهَتُهم بِالياءِ والضَّمِيرُ عائِدٌ إلى الوَعْدِ أوِ الحِينِ قالَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ. وقالَ أبُو الفَضْلِ الرّازِيُّ: لَعَلَّهُ جَعَلَ النّارَ بِمَعْنى العَذابِ فَذَكَرَ ثُمَّ رَدَّ رَدَّها إلى ظاهِرِ اللَّفْظِ ﴿ولا هم يُنْظَرُونَ﴾ أيْ يُؤَخَّرُونَ عَمّا حَلَّ بِهِمْ، ولَمّا تَقَدَّمَ قَوْلُهُ: ﴿إنْ يَتَّخِذُونَكَ إلّا هُزُوًا﴾ سَلّاهُ تَعالى بِأنَّ مَن تَقَدَّمَهُ مِنَ الرُّسُلِ وقَعَ مِن أُمَمِهِمُ الِاسْتِهْزاءُ بِهِمْ، وأنَّ ثَمَرَةَ اسْتِهْزائِهِمْ جَنَوْها هَلاكًا وعِقابًا في الدُّنْيا والآخِرَةِ، فَكَذَلِكَ حالُ هَؤُلاءِ المُسْتَهْزِئِينَ. وتَقَدَّمَ تَفْسِيرُ مِثْلِ هَذِهِ الآيَةِ في الأنْعامِ.
ثُمَّ أمَرَهُ تَعالى أنْ يَسْألَهم مَنِ الَّذِي يَحْفَظُكم في أوْقاتِكم مِن بَأْسِ اللَّهِ أيْ لا أحَدَ يَحْفَظُكم مِنهُ، وهو اسْتِفْهامُ تَقْرِيعٍ وتَوْبِيخٍ. وفي آخِرِ الكَلامِ تَقْدِيرُ مَحْذُوفٍ كَأنَّهُ لَيْسَ لَهم مانِعٌ ولا كالِئٌ، وعَلى هَذا النَّفْيِ تَرْكِيبُ بَلْ في قَوْلِهِ: ﴿بَلْ هم عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِمْ مُعْرِضُونَ﴾ قالَهُ ابْنُ عَطِيَّةَ. وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: بَلْ هم مُعْرِضُونَ عَنْ ذِكْرِهِ لا يُخْطِرُونَهُ بِبالِهِمْ فَضْلًا أنْ يَخافُوا بَأْسَهُ حَتّى إذا رُزِقُوا الكِلاءَةَ مِنهُ عَرَفُوا مَنِ الكالِئُ وصَلَحُوا لِلسُّؤالِ عَنْهُ، والمُرادُ أنَّهُ أمَرَ رَسُولَهُ بِسُؤالِهِمْ عَنِ الكالِئِ ثُمَّ بَيَّنَ أنَّهم لا يَصْلُحُونَ لِذَلِكَ لِإعْراضِهِمْ عَنْ ذِكْرِ مَن يَكْلَؤُهم. انْتَهى.
وقَرَأ أبُو جَعْفَرٍ والزُّهْرِيُّ وشَيْبَةُ: يَكْلُوكم بِضَمَّةٍ خَفِيفَةٍ مِن غَيْرِ هَمْزٍ. وحَكى الكِسائِيُّ والفَرّاءُ يَكْلُوكم بِفَتْحِ اللّامِ وإسْكانِ الواوِ.
﴿أمْ لَهم آلِهَةٌ﴾ بِمَعْنى بَلْ، والهَمْزَةُ كَأنَّهُ قِيلَ بَلْ ألَهم آلِهَةٌ فَأضْرَبَ ثُمَّ اسْتَفْهَمَ ﴿تَمْنَعُهُمْ﴾ مِنَ العَذابِ. وقالَ الحَوْفِيُّ ﴿مِن دُونِنا﴾ مُتَعَلِّقٌ بِتَمْنَعُهم. انْتَهى. قِيلَ: والمَعْنى ألْهم آلِهَةٌ تَجْعَلُهم في مَنَعَةٍ وعِزٍّ مِن أنْ يَنالَهم مَكْرُوهٌ مِن جِهَتِنا. وقالَ ابْنُ عَبّاسٍ: في الكَلامِ تَقْدِيمٌ وتَأْخِيرٌ، تَقْدِيرُهُ أمْ لَهم آلِهَةٌ مِن دُونِنا تَمْنَعُهم تَقُولُ: مَنَعْتُ دُونَهُ كَفَفْتُ أذاهُ فَمِن دُونِنا هو مِن صِلَةٍ ﴿آلِهَةٌ﴾ أيْ أمْ لَهم آلِهَةٌ دُونَنا أوْ مِن صِلَةٍ ﴿تَمْنَعُهُمْ﴾ أيْ ﴿أمْ لَهُمْ﴾ مانِعٌ مِن سِوانا. ثُمَّ اسْتَأْنَفَ الإخْبارَ عَنْ آلِهَتِهِمْ فَبَيَّنَ أنَّ ما لَيْسَ بِقادِرٍ عَلى نَصْرِ نَفْسِهِ ومَنعِها ولا بِمَصْحُوبٍ مِنَ اللَّهِ بِالنَّصْرِ والتَّأْيِيدِ كَيْفَ يَمْنَعُ غَيْرَهُ ويَنْصُرُهُ ؟ وقالَ ابْنُ عَبّاسٍ ﴿يُصْحَبُونَ﴾ يُمْنَعُونَ. وقالَ مُجاهِد: يُنْصُرُونَ. وقالَ قَتادَةُ: لا يُصْحَبُونَ مِنَ اللَّهِ بِخَيْرٍ. وقالَ الشّاعِرُ:
؎يُنادِي بِأعْلى صَوْتِهِ مُتَعَوِّذًا ∗∗∗ لِيُصْحَبَ مِنّا والرِّماحُ دَوانِ
وقالَ مُجاهِد: يُحْفَظُونَ. وقالَ السُّدِّيُّ: لا يَصْحَبُهم مِنَ المَلائِكَةِ مَن يَدْفَعُ عَنْهم، والظّاهِرُ عَوْدُ الضَّمِيرِ في ﴿ولّاهُمْ﴾ [البقرة: ١٤٢] عَلى الأصْنامِ وهو قَوْلُ قَتادَةَ. وقِيلَ: عَلى الكُفّارِ وهو قَوْلُ ابْنِ عَبّاسٍ، وفي التَّحْرِيرِ مَدارُ هَذِهِ الكَلِمَةِ يَعْنِي ﴿يُصْحَبُونَ﴾ عَلى مَعْنَيَيْنِ أحَدُهُما أنَّهُ مِن صَحِبَ يَصْحَبُ، والثّانِي مِنَ الإصْحابِ أصْحَبَ الرَّجُلَ مَنَعَهُ مِنَ الآفاتِ.
{"ayahs_start":36,"ayahs":["وَإِذَا رَءَاكَ ٱلَّذِینَ كَفَرُوۤا۟ إِن یَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُوًا أَهَـٰذَا ٱلَّذِی یَذۡكُرُ ءَالِهَتَكُمۡ وَهُم بِذِكۡرِ ٱلرَّحۡمَـٰنِ هُمۡ كَـٰفِرُونَ","خُلِقَ ٱلۡإِنسَـٰنُ مِنۡ عَجَلࣲۚ سَأُو۟رِیكُمۡ ءَایَـٰتِی فَلَا تَسۡتَعۡجِلُونِ","وَیَقُولُونَ مَتَىٰ هَـٰذَا ٱلۡوَعۡدُ إِن كُنتُمۡ صَـٰدِقِینَ","لَوۡ یَعۡلَمُ ٱلَّذِینَ كَفَرُوا۟ حِینَ لَا یَكُفُّونَ عَن وُجُوهِهِمُ ٱلنَّارَ وَلَا عَن ظُهُورِهِمۡ وَلَا هُمۡ یُنصَرُونَ","بَلۡ تَأۡتِیهِم بَغۡتَةࣰ فَتَبۡهَتُهُمۡ فَلَا یَسۡتَطِیعُونَ رَدَّهَا وَلَا هُمۡ یُنظَرُونَ","وَلَقَدِ ٱسۡتُهۡزِئَ بِرُسُلࣲ مِّن قَبۡلِكَ فَحَاقَ بِٱلَّذِینَ سَخِرُوا۟ مِنۡهُم مَّا كَانُوا۟ بِهِۦ یَسۡتَهۡزِءُونَ","قُلۡ مَن یَكۡلَؤُكُم بِٱلَّیۡلِ وَٱلنَّهَارِ مِنَ ٱلرَّحۡمَـٰنِۚ بَلۡ هُمۡ عَن ذِكۡرِ رَبِّهِم مُّعۡرِضُونَ","أَمۡ لَهُمۡ ءَالِهَةࣱ تَمۡنَعُهُم مِّن دُونِنَاۚ لَا یَسۡتَطِیعُونَ نَصۡرَ أَنفُسِهِمۡ وَلَا هُم مِّنَّا یُصۡحَبُونَ"],"ayah":"لَوۡ یَعۡلَمُ ٱلَّذِینَ كَفَرُوا۟ حِینَ لَا یَكُفُّونَ عَن وُجُوهِهِمُ ٱلنَّارَ وَلَا عَن ظُهُورِهِمۡ وَلَا هُمۡ یُنصَرُونَ"}