الباحث القرآني

﴿ولَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنكم في السَّبْتِ﴾ اللّامُ في لَقَدْ: هي لامُ تَوْكِيدٍ، وتُسَمّى: لامُ الِابْتِداءِ في نَحْوِ: لَزَيْدٌ قائِمٌ. ومِن أحْكامِها: أنَّ ما كانَ في حَيِّزِها لا يَتَقَدَّمُ عَلَيْها، إلّا إذا دَخَلَتْ عَلى خَبَرِ إنَّ عَلى ما قُرِّرَ في النَّحْوِ. وقَدْ صَنَّفَ بَعْضُ النَّحْوِيِّينَ كِتابًا في اللّاماتِ ذَكَرَها فِيهِ وأحْكامَها. ويُحْتَمَلُ أنْ تَكُونَ جَوابًا لِقِسْمٍ مَحْذُوفٍ، ولَكِنَّهُ جِيءَ عَلى سَبِيلِ التَّوْكِيدِ؛ لِأنَّ مِثْلَ هَذِهِ القِصَّةِ يُمْكِنُ أنْ يَبْهَتُوا في إنْكارِها، وذَلِكَ لَمّا نالَ في عُقْبى أُولَئِكَ المُعْتَدِينَ مِن مَسْخِهِمْ قِرَدَةً، فاحْتِيجَ في ذَلِكَ إلى تَوْكِيدٍ، وأنَّهم عَلِمُوا ذَلِكَ حَقِيقَةً. وعَلِمَ هُنا كَعَرَفَ، فَلِذَلِكَ تَعَدَّتْ إلى واحِدٍ، وظاهِرُ هَذا أنَّهم عَلِمُوا أعْيانَ المُعْتَدِينَ، وقَدَّرَهُ بَعْضُهم: عَلِمْتُمْ أحْكامَ الَّذِينَ، وقَدَّرَهُ بَعْضُهم: اعْتِداءَ الَّذِينَ، والِاعْتِداءُ كانَ عَلى ما نُقِلَ مِن أنَّ مُوسى أمَرَهُ اللَّهُ بِصَوْمِ يَوْمِ الجُمُعَةَ، وعَرَّفَهُ فَضْلَهُ، كَما أمَرَ بِهِ سائِرَ الأنْبِياءِ، فَذَكَرَ ذَلِكَ لِبَنِي إسْرائِيلَ، وأمَرَهم بِالتَّشَرُّعِ فِيهِ، فَأبَوْهُ وتَعَدَّوْهُ إلى يَوْمِ السَّبْتِ، فَأوْحى اللَّهُ إلى مُوسى: أنْ دَعْهم وما اخْتارُوهُ، وامْتَحَنَهم فِيهِ بِأنْ أمَرَهم بِتَرْكِ العَمَلِ، وحَرَّمَ عَلَيْهِمْ فِيهِ صَيْدَ الحِيتانِ، فَكانَتْ تَأْتِي يَوْمَ السَّبْتِ حَتّى تَخْرُجَ إلى الأفْنِيَةِ، قالَهُ الحَسَنُ بْنُ أبِي الحَسَنِ، وقِيلَ: حَتّى تُخْرِجَ خَراطِيمَها مِنَ الماءِ، وكانَ أمْرُ بَنِي إسْرائِيلَ بِأيْلَةَ عَلى البَحْرِ، فَإذا ذَهَبَ السَّبْتُ ذَهَبَتِ الحِيتانُ فَلَمْ يَظْهَرُوا لِلسَّبْتِ الآخَرِ. فَبَقُوا عَلى ذَلِكَ زَمانًا حَتّى اشْتَهَوُا الحُوتَ، فَعَمَدَ رَجُلٌ يَوْمَ السَّبْتِ، فَرَبَطَ حُوتًا بِخَزَمَةٍ، وضَرَبَ لَهُ وتَدًا بِالسّاحِلِ. فَلَمّا ذَهَبَ السَّبْتُ، جاءَ فَأخَذَهُ فَسَمِعَ قَوْمٌ بِفِعْلِهِ، فَصَنَعُوا مِثْلَ ما صَنَعَ، وقِيلَ: بَلْ حَفَرَ رَجُلٌ في غَيْرِ السَّبْتِ حَفِيرًا يَخْرُجُ إلَيْهِ البَحْرُ، فَإذا كانَ يَوْمُ السَّبْتِ، خَرَجَ الحُوتُ وحَصَلَ في الحَفِيرَةِ، فَإذا جَزَرَ البَحْرُ، ذَهَبَ الماءُ مِن طَرِيقِ الحَفِيرَةِ وبَقِيَ الحُوتُ، فَجاءَ بَعْدَ السَّبْتِ فَأخَذَهُ. فَفَعَلَ قَوْمٌ مِثْلَ فِعْلِهِ. وكَثُرَ ذَلِكَ، حَتّى صادُوهُ يَوْمَ السَّبْتِ عَلانِيَةً وباعُوهُ في الأسْواقِ. فَكانَ هَذا مِن أعْظَمِ الِاعْتِداءِ. وقَدْ رُوِيَتْ زِياداتٌ في كَيْفِيَّةِ الِاعْتِداءِ، اللَّهُ أعْلَمُ بِصِحَّةِ ذَلِكَ. والَّذِي يَصِحُّ في ذَلِكَ هو ما ذَكَرَهُ اللَّهُ في كِتابِهِ، وما صَحَّ عَنْ نَبِيِّهِ. (مِنكم) في مَوْضِعِ الحالِ، فَيَتَعَلَّقُ بِمَحْذُوفٍ، تَقْدِيرُهُ: كائِنِينَ مِنكم، ومِن: لِلتَّبْعِيضِ. (في السَّبْتِ) مُتَعَلِّقٌ بِاعْتَدَوْا، إمّا عَلى إضْمارِ (يَوْمَ) أوْ حُكْمٌ. والحامِلُ عَلى الِاعْتِداءِ قِيلَ: الشَّيْطانُ وسْوَسَ لَهم وقالَ: إنَّما نُهِيتُمْ عَنْ أخْذِها يَوْمَ السَّبْتِ، ولَمْ تُنْهَوْا عَنْ حَبْسِها، فَأطاعُوهُ، فَفَعَلُوا ذَلِكَ. وقِيلَ: لَمّا فَعَلَ ذَلِكَ بَعْضُهم، ولَمْ يُعَجَّلْ لَهُ عُقُوبَةٌ، وتَشَبَّهَ بِهِ أُناسٌ مِنهم، وفَعَلُوا لِفِعْلِهِ، ظَنُّوا أنَّ السَّبْتَ قَدْ أُبِيحَ لَهم، فَتَمالَأ عَلى ذَلِكَ جَمْعٌ كَبِيرٌ، فَأصابَهم ما أصابَهم. وقِيلَ: أقْدَمُوا عَلى ذَلِكَ مُتَأوِّلِينَ؛ لِأنَّهُ أمَرَهم بِتَرْكِ العَمَلِ يَوْمَ السَّبْتِ، (p-٢٤٦)وقالُوا: إنَّما نَهانا اللَّهُ عَنْ أسْبابِ الِاكْتِسابِ الَّتِي تَشْغَلُنا عَنِ العِبادَةِ، ولَمْ يَنْهَنا عَنِ العَمَلِ اليَسِيرِ. وقِيلَ: فَعَلَ ذَلِكَ أوْباشُهم تَجَرِّيًا وعِصْيانًا، فَعَمَّ اللَّهُ الجَمِيعَ بِالعَذابِ. ﴿فَقُلْنا لَهم كُونُوا﴾: أمْرٌ مِنَ الكَوْنِ ولَيْسَ بِأمْرٍ حَقِيقَةً؛ لِأنَّ صَيْرُورَتَهم إلى ما ذُكِرَ لَيْسَ فِيهِ تَكَسُّبٌ لَهم؛ لِأنَّهم لَيْسُوا قادِرِينَ عَلى قَلْبِ أعْيانِهِمْ قِرَدَةً، بَلِ المُرادُ مِنهُ سُرْعَةُ الكَوْنِ عَلى هَذا الوَصْفِ، كَقَوْلِهِ تَعالى: ﴿إنَّما قَوْلُنا لِشَيْءٍ إذا أرَدْناهُ أنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ﴾ [النحل: ٤٠]، ومَجازُهُ: أنَّهُ لَمّا أرادَ مِنهم ذَلِكَ صارُوا كَذَلِكَ. وظاهِرُ القُرْآنِ مَسْخُهم قِرَدَةً. وقِيلَ: لَمْ يُمْسَخُوا قِرَدَةً، وإنَّما هو مَثَلٌ ضَرَبَهُ اللَّهُ لَهم، كَما قالَ تَعالى: ﴿كَمَثَلِ الحِمارِ يَحْمِلُ أسْفارًا﴾ [الجمعة: ٥]، قالَهُ مُجاهِدٌ. وقِيلَ: مُسِخَتْ قُلُوبُهم حَتّى صارَتْ كَقُلُوبِ القِرَدَةِ، لا تَقْبَلُ وعْظًا ولا تَعِي زَجْرًا، وهو مَحْكِيٌّ عَنْ مُجاهِدٍ أيْضًا. والقَوْلُ الأوَّلُ هو قَوْلُ الجُمْهُورِ، ويَجُوزُ أنْ يُبْقِيَ اللَّهُ لَهم فَهْمَ الإنْسانِيَّةِ بَعْدَ صَيْرُورَتِهِمْ قِرَدَةً. ورُوِيَ في بَعْضِ قَصَصِهِمْ: أنِ الواحِدَ مِنهم كانَ يَأْتِيهِ الشَّخْصُ مِن أقارِبِهِ الَّذِينَ نَهَوْهم فَيَقُولُ لَهُ: ألَمْ أنْهَكَ ؟ فَيَقُولُ لَهُ بِرَأْسِهِ: بَلى، وتَسِيلُ دُمُوعُهُ عَلى خَدِّهِ، ولَمْ يَتَعَرَّضْ في هَذا المَسْخِ شَيْءٌ مِنهم خَنازِيرُ. ورُوِيَ عَنْ قَتادَةَ: أنَّ الشَّبابَ صارُوا قِرَدَةً، والشُّيُوخَ صارُوا خَنازِيرَ، وما نَجا إلّا الَّذِينَ نُهُوا، وهَلَكَ سائِرُهم. ورُوِيَ في قَصَصِهِمْ: أنَّ اللَّهَ تَعالى مَسَخَ العاصِينَ قِرَدَةً بِاللَّيْلِ، فَأصْبَحَ النّاجُونَ إلى مَساجِدِهِمْ ومُجْتَمَعاتِهِمْ، فَلَمْ يَرَوْا أحَدًا مِنَ الهالِكِينَ، فَقالُوا: إنَّ لِلنّاسِ لَشَأْنًا، فَفَتَحُوا عَلَيْهِمُ الأبْوابَ، كَما كانَتْ مُغْلَقَةً بِاللَّيْلِ، فَوَجَدُوهم قِرَدَةً يَعْرِفُونَ الرَّجُلَ والمَرْأةَ. وقِيلَ: إنِ النّاجِينَ قَدْ قَسَمُوا بَيْنَهم وبَيْنَ العاصِينَ القَرْيَةَ بِجِدارٍ تَبَرِّيًا مِنهم، فَأصْبَحُوا ولَمْ تُفْتَحْ مَدِينَةُ الهالِكِينَ، فَتَسَوَّرُوا عَلَيْهِمُ الجِدارَ، فَإذا هم قِرَدَةٌ يَثِبُ بَعْضُهم عَلى بَعْضٍ. قالَ قَتادَةُ: وصارُوا قِرَدَةً تُعاوِي، لَها أذْنابٌ، بَعْدَما كانُوا رِجالًا ونِساءً. ﴿قِرَدَةً خاسِئِينَ﴾: كِلاهُما خَبَرُ كانَ، والمَعْنى: أنَّهم يَكُونُونَ قَدْ جَمَعُوا بَيْنَ القِرَدَةِ والخُسُوءِ. ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ خاسِئِينَ صِفَةً لِقِرْدَةٍ، ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ حالًا مِنِ اسْمِ كُونُوا. ومَعْنى خاسِئِينَ: مُبْعَدِينَ. وقالَ أبُو رَوْقٍ: خاسِرِينَ، كَأنَّهُ فَسَّرَ بِاللّازِمِ؛ لِأنَّ مَن أبْعَدَهُ اللَّهُ فَقَدْ خَسِرَ. وجُمْهُورُ المُفَسِّرِينَ: عَلى أنَّ الَّذِينَ مَسَخَهُمُ اللَّهُ لَمْ يَأْكُلُوا، ولَمْ يَشْرَبُوا، ولَمْ يَنْسَلُوا، بَلْ ماتُوا جَمِيعًا، وأنَّهم لَمْ يَعِيشُوا أكْثَرَ مِن ثَلاثَةِ أيّامٍ. وزَعَمَ مُقاتِلٌ أنَّهم عاشُوا سَبْعَةَ أيّامٍ، وماتُوا في اليَوْمِ الثّامِنِ، وكانَ هَذا في زَمَنِ داوُدَ، عَلى نَبِيِّنا وعَلَيْهِ أفْضَلُ الصَّلاةِ والسَّلامِ، وكانُوا في قَرْيَةٍ يُقالُ لَها: أيْلَةُ، وقِيلَ: مَدْيَنُ. ورَوى مُسْلِمٌ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ، «أنَّ رَسُولَ اللَّهِ، ﷺ، قالَ لِمَن سَألَهُ عَنِ القِرَدَةِ والخَنازِيرِ: أهِيَ مِمّا مُسِخَ ؟ فَقالَ: ”اللَّهُ لَمْ يُهْلِكْ قَوْمًا أوْ يُعَذِّبْ قَوْمًا فَيَجْعَلَ لَهم نَسْلًا، وأنَّ القِرَدَةَ والخَنازِيرَ كانُوا قَبْلَ ذَلِكَ“» . واخْتارَ القاضِي أبُو بَكْرِ بْنِ العَرَبِيِّ أنَّهم عاشُوا، وأنَّ القِرَدَةَ المَوْجُودِينَ الآنَ مِن نَسْلِهِمْ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب