الباحث القرآني

﴿ولَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنكم في السَّبْتِ﴾ اللّامُ واقِعَةٌ في جَوابِ قَسَمٍ مُقَدَّرٍ، وعَلِمَ هُنا كَعَرَفَ، فَلِذَلِكَ تَعَدَّتْ إلى واحِدٍ، وظاهِرُ هَذا أنَّهم عَلِمُوا أعْيانَ المُعْتَدِينَ، وقَدَّرَ بَعْضُهم مُضافًا، أيِ اعْتِداءَ الَّذِينَ، وقِيلَ: أحْكامَهُمْ، (ومِنكُمْ) في مَوْضِعِ الحالِ، والسَّبْتُ اسْمٌ لِلْيَوْمِ المَعْرُوفِ، وهو مَأْخُوذٌ مِنَ السَّبْتِ الَّذِي هو القَطْعُ، لِأنَّهُ سُبِتَ فِيهِ خَلْقُ كُلِّ شَيْءٍ وعَمَلُهُ، وقِيلَ: مِنَ السُّبُوتِ، وهو الرّاحَةُ، والدَّعَةُ، والمُرادُ بِهِ هُنا اليَوْمُ، والكَلامُ عَلى حَذْفِ مُضافٍ، أيْ في حُكْمِ السَّبْتِ، لِأنَّ الِاعْتِداءَ والتَّجاوُزَ لَمْ يَقَعْ في اليَوْمِ، بَلْ وقَعَ في حُكْمِهِ بِناءً عَلى ما حُكِيَ أنَّ مُوسى عَلَيْهِ السَّلامُ أرادَ أنْ يَجْعَلَ يَوْمًا خالِصًا لِلطّاعَةِ، وهو يَوْمُ الجُمُعَةِ فَخالَفُوهُ، وقالُوا: نَجْعَلُهُ يَوْمَ السَّبْتِ، لِأنَّ اللَّهَ تَعالى لَمْ يَخْلُقْ فِيهِ شَيْئًا، فَأوْحى اللَّهُ تَعالى إلَيْهِ أنْ دَعْهُمْ، وما اخْتارُوا، ثُمَّ امْتَحَنَهم فِيهِ، فَأمَرَهم بِتَرْكِ العَمَلِ، وحَرَّمَ عَلَيْهِمْ فِيهِ صَيْدَ الحِيتانِ، فَلَمّا كانَ زَمَنُ داوُدَ عَلَيْهِ السَّلامُ اعْتَدَوْا، وذَلِكَ أنَّهم كانُوا يَسْكُنُونَ قَرْيَةً عَلى السّاحِلِ يُقالُ لَها أيْلَةُ، وإذا كانَ يَوْمُ السَّبْتِ لَمْ يَبْقَ حُوتٌ في البَحْرِ إلّا حُظِرَ هُناكَ، وأخْرَجَ خُرْطُومَهُ، وإذا مَضى تَفَرَّقَتْ، فَحَفَرُوا حِياضًا، وأشْرَعُوا إلَيْها الجَداوِلَ، وكانَتِ الحِيتانُ تَدْخُلُها يَوْمَ السَّبْتِ بِالمَوْجِ، فَلا تَقْدِرُ عَلى الخُرُوجِ لِبُعْدِ العُمْقِ، وقِلَّةِ الماءِ، فَيَصْطادُونَها يَوْمَ الأحَدِ، ورُوِيَ أنَّهم فَعَلُوا ذَلِكَ زَمانًا فَلَمْ يَنْزِلْ عَلَيْهِمْ عُقُوبَةٌ، فاسْتَبْشَرُوا، وقالُوا: قَدْ أُحِلَّ لَنا العَمَلُ في السَّبْتِ، فاصْطادُوا فِيهِ عَلانِيَةً وباعُوا في الأسْواقِ، وعَلى هَذا يَصِحُّ جَعْلُ اليَوْمِ ظَرْفًا لِلِاعْتِداءِ، ولا يَحْتاجُ إلى تَقْدِيرِ مُضافٍ، وقِيلَ: المُرادُ بِالسَّبْتِ هُنا مَصْدَرُ سَبَتَتِ اليَهُودُ إذا عَظَّمَتْ يَوْمَ السَّبْتِ، ولَيْسَ بِمَعْنى اليَوْمِ، فَحِينَئِذٍ لا حاجَةَ إلى تَقْدِيرِ مُضافٍ، إذْ يُؤَوَّلُ المَعْنى إلى أنَّهُمُ اعْتَدَوْا في التَّعْظِيمِ، وهَتَكُوا الحُرْمَةَ الواجِبَةَ عَلَيْهِمْ، وقَدْ ذَكَرَ بَعْضُهم أنَّ تَسْمِيَةَ العَرَبِ لِلْأيّامِ بِهَذِهِ الأسْماءِ المَشْهُورَةِ حَدَثَتْ بَعْدَ عِيسى عَلَيْهِ السَّلامُ، وأنَّ أسْماءَها قَبْلُ غَيْرُ ذَلِكَ، وهي الَّتِي في قَوْلِهِ: ؎(p-283)أُؤَمِّلُّ أنْ أعِيشَ وأنَّ يَوْمِي بِأوَّلَ أوْ بِأهْوَنَ أوْ جُبارِ ؎أوِ التّالِي دُبارٍ فَإنْ أفُتْهُ فَمُونِسٍ ∗∗∗ أوْ عَرُوبَةَ أوْ شِبارِ واسْتُدِلَّ بِهَذِهِ الآيَةِ عَلى تَحْرِيمِ الحِيَلِ في الأُمُورِ الَّتِي لَمْ تُشْرَعْ كالرِّبا، وإلى ذَلِكَ ذَهَبَ الإمامُ مالِكٌ، فَلا تَجُوزُ عِنْدَهُ بِحالٍ، قالَ الكَواشِيُّ: وجَوَّزَها أكْثَرُهم ما لَمْ يَكُنْ فِيها إبْطالُ حَقٍّ، أوْ إحْقاقُ باطِلٍ، وأجابُوا عَنِ التَّمَسُّكِ بِالآيَةِ فَأنَّها لَيْسَتْ حِيلَةٌ، وإنَّما هي عَيْنُ المَنهِيِّ عَنْهُ، لِأنَّهم إنَّما نُهُوا عَنْ أخْذِها، ولا يَخْفى ما في هَذا الجَوابِ، وتَحْقِيقُهُ في كُتُبِ الفِقْهِ، ﴿فَقُلْنا لَهم كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ﴾ القِرَدَةُ جَمْعُ قِرْدٍ، وهو مَعْرُوفٌ ويُجْمَعُ فِعْلٌ الِاسْمُ قِياسًا عَلى فُعُولٍ وقَلِيلًا عَلى فِعَلَةٍ، والخُسُوُّ الصَّغارُ والذِّلَّةُ، ويَكُونُ مُتَعَدِّيًا ولازِمًا، ومِنهُ قَوْلُهم لِلْكَلْبِ: أخْسَأْ، وقِيلَ: الخُسُوءُ والخَسْأُ مَصْدَرُ خَسَأ الكَلْبُ بَعُدَ، وبَعْضُهم ذَكَرَ الطَّرْدَ عِنْدَ تَفْسِيرِ الخُسُوءِ كالإبْعادِ، فَقِيلَ: هو لِاسْتِيفاءِ مَعْناهُ لا لِبَيانِ المُرادِ، وإلّا لَكانَ الخاسِئُ بِمَعْنى الطّارِدِ، والتَّحْقِيقُ أنَّهُ مُعْتَبَرٌ في المَفْهُومِ إلّا أنَّهُ بِالمَعْنى المَبْنِيِّ لِلْمَفْعُولِ، وكَذَلِكَ الإبْعادُ، فالخاسِئُ الصّاغِرُ المُبْعَدُ المَطْرُودُ، وظاهِرُ القُرْآنِ أنَّهم مُسِخُوا قِرَدَةً عَلى الحَقِيقَةِ، وعَلى ذَلِكَ جُمْهُورُ المُفَسِّرِينَ، وهو الصَّحِيحُ، وذَكَرَ غَيْرُ واحِدٍ مِنهم أنَّهم بَعْدَ أنْ مُسِخُوا لَمْ يَأْكُلُوا، ولَمْ يَشْرَبُوا، ولَمْ يَتَناسَلُوا، ولَمْ يَعِيشُوا أكْثَرَ مِن ثَلاثَةِ أيّامٍ، وزَعَمَ مُقاتِلٌ أنَّهم عاشُوا سَبْعَةَ أيّامٍ، وماتُوا في اليَوْمِ الثّامِنِ، واخْتارَ أبُو بَكْرِ بْنُ العَرَبِيِّ أنَّهم عاشُوا، وأنَّ القِرَدَةَ المَوْجُودِينَ اليَوْمَ مِن نَسْلِهِمْ، ويَرُدُّهُ ما رَواهُ مُسْلِمٌ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُ «أنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ قالَ لِمَن سَألَهُ عَنِ القِرَدَةِ والخَنازِيرِ أهِيَ مِمّا مُسِخَ؟ (إنَّ اللَّهَ تَعالى لَمْ يُهْلِكْ قَوْمًا أوْ يُعَذِّبْ قَوْمًا فَيَجْعَلَ لَهم نَسْلًا، وإنَّ القِرَدَةَ والخَنازِيرَ كانُوا قَبْلَ ذَلِكَ)،» ورَوى ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ مُجاهِدٍ أنَّهُ ما مُسِخَتْ صُوَرُهم ولَكِنْ مُسِخَتْ قُلُوبُهُمْ، فَلا تَقْبَلُ وعْظًا، ولا تَعِي زَجْرًا، فَيَكُونُ المَقْصُودُ مِنَ الآيَةِ تَشْبِيهُهم بِالقِرَدَةِ كَقَوْلِهِ: ؎إذا أنْتَ لَمْ تَعْشَقْ ولَمْ تَدْرِ ما الهَوى ∗∗∗ فَكُنْ حَجَرًا مِن يابِسِ الصَّخْرِ جَلْمَدا (وكُونُوا) عَلى الأوَّلِ لَيْسَ بِأمْرٍ حَقِيقَةً لِأنَّ صَيْرُورَتَهم إلى ما ذُكِرَ لَيْسَ فِيهِ تَكَسُّبٌ لَهُمْ، لِأنَّهم لَيْسُوا قادِرِينَ عَلى قَلْبِ أعْيانِهِمْ، بَلِ المُرادُ مِنهُ سُرْعَةُ التَّكْوِينِ، وأنَّهم صارُوا كَذَلِكَ، كَما أرادَ مِن غَيْرِ امْتِناعٍ، ولا لُبْثٍ. وعَلى الثّانِي يَكُونُ الأمْرُ مَجازًا عَنِ التَّخْلِيَةِ، والتَّرْكِ، والخِذْلانِ، كَما في قَوْلِهِ صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ: «(اصْنَعْ ما شِئْتَ)،» وقَدْ قَرَّرَهُ العَلّامَةُ في تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعالى: ﴿لِيَكْفُرُوا بِما آتَيْناهم ولِيَتَمَتَّعُوا﴾ والمَنصُوبانِ خَبَرانِ لِلْفِعْلِ النّاقِصِ، ويَجُوزَ أنْ يَكُونَ خاسِئِينَ حالًا مِنَ الِاسْمِ، ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ صِفَةً لِـ(قِرَدَةً)، والمُرادُ وصْفُهم بِالصَّغارِ عِنْدَ اللَّهِ تَعالى دَفْعًا لِتَوَهُّمِ أنْ يُجْعَلَ مُسْخُهم وتَعْجِيلُ عَذابِهِمْ في الدُّنْيا لِدَفْعِ ذُنُوبِهِمْ، ورَفْعِ دَرَجاتِهِمْ. واعْتُرِضَ أنَّهُ لَوْ كانَ صِفَةً لَها لَوَجَبَ أنْ يَقُولَ: خاسِئَةً لِامْتِناعِ الجَمْعِ بِالواوِ والنُّونِ في غَيْرِ ذَوِي العِلْمِ، وأُجِيبَ بِأنَّ ذَلِكَ عَلى تَشْبِيهِهِمْ بِالعُقَلاءِ، كَما في ساجِدِينَ، أوْ بِاعْتِبارِ أنَّهم كانُوا عُقَلاءَ، أوْ بِأنَّ المَسْخَ إنَّما كانَ بِتَبَدُّلِ الصُّورَةِ فَقَطْ، وحَقِيقَتُهم سالِمَةٌ عَلى ما رُوِيَ أنَّ الواحِدَ مِنهم كانَ يَأْتِيهِ الشَّخْصُ مِن أقارِبِهِ الَّذِينَ نَهَوْهم فَيَقُولُ لَهُ: ألَمْ أنْهَكَ؟ فَيَقُولُ: بَلى، ثُمَّ تَسِيلُ دُمُوعُهُ عَلى خَدِّهِ، ولَمْ يَتَعَرَّضْ في الآيَةِ بِمَسْخِ شَيْءٍ مِنهم خَنازِيرَ، ورُوِيَ عَنْ قَتادَةَ أنَّ الشَّبابَ صارُوا قِرَدَةً، والشُّيُوخَ صارُوا خَنازِيرَ، وما نَجا إلّا الَّذِينَ نَهَوْا، وهَلَكَ سائِرُهُمْ، وقُرِئَ (قَرِدَةً) بِفَتْحِ القافِ، وكَسْرِ الرّاءِ، و(خاسِينَ) بِغَيْرِ هَمْزٍ،
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب