الباحث القرآني
﴿ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ مِن بَعْدِ ذَلِكَ﴾: أيْ أعْرَضْتُمْ عَنِ المِيثاقِ والعَمَلِ بِما فِيهِ، وأصْلُ التَّوَلِّي: أنْ يَكُونَ بِالجِسْمِ، ثُمَّ اسْتُعْمِلَ في الإعْراضِ عَنِ الأُمُورِ والأدْيانِ والمُعْتَقَداتِ، اتِّساعًا ومَجازًا. ودُخُولُ (ثُمَّ) مُشْعِرٌ بِالمُهْلَةِ، و(مَن) تُشْعِرُ بِابْتِداءِ الغايَةِ. لَكِنْ بَيْنَ الجُمْلَتَيْنِ كَلامٌ مَحْذُوفٌ، التَّقْدِيرُ، واللَّهُ أعْلَمُ: فَأخَذْتُمْ ما آتَيْناكم، وذَكَرْتُمْ ما فِيهِ، وعَمِلْتُمْ بِمُقْتَضاهُ. فَلا بُدَّ مِنِ ارْتِكابِ مَجازٍ في مَدْلُولِ (مَن) وأنَّهُ لِسُرْعَةِ التَّوَلِّي مِنهم واجْتِماعِهِمْ عَلَيْهِ، كَأنَّهُ ما تَخَلَّلَ بَيْنَ ما أُمِرُوا بِهِ وبَيْنَ التَّوَلِّي شَيْءٌ. وقَدْ عُلِمَ أنَّهم بَعْدَما قَبِلُوا التَّوْراةَ، تَوَلَّوْا عَنْها بِأُمُورٍ، فَحَرَّفُوها، وتَرَكُوا العَمَلَ بِها، وقَتَلُوا الأنْبِياءَ، وكَفَرُوا بِاللَّهِ، وعَصَوْا أمْرَهُ، ومِن ذَلِكَ ما اخْتُصَّ بِهِ بَعْضُهم، وما عَمِلَهُ أوائِلُهم، وما عَمِلَهُ أواخِرُهم، ولَمْ يَزالُوا في التِّيهِ، مَعَ مُشاهَدَتِهِمُ الأعاجِيبَ، يُخالِفُونَ مُوسى، ويُظاهِرُونَ بِالمَعاصِي في عَسْكَرِهِمْ، حَتّى خُسِفَ بِبَعْضِهِمْ، وأحْرَقَتِ النّارُ بَعْضَهم، وعُوقِبُوا بِالطّاعُونِ، وكُلُّ هَذا مَذْكُورٌ في تَراجِمِ التَّوْراةِ الَّتِي يَقْرَأُونَ بِها، ثُمَّ فَعَلَ ساحِرُوهم ما لا خَفاءَ بِهِ، حَتّى عُوقِبُوا بِتَخْرِيبِ بَيْتِ المَقْدِسِ، وكَفَرُوا بِالمَسِيحِ وهَمُّوا بِقَتْلِهِ، والقُرْآنُ وإنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ بَيانُ ما تَوَلَّوْا بِهِ عَنِ التَّوْراةِ فالجُمْلَةُ مَعْرُوفَةٌ، وذَلِكَ إخْبارٌ مِنَ اللَّهِ عَنْ أسْلافِهِمْ. فَغَيْرُ عَجِيبٍ إنْكارُهم ما جاءَ بِهِ مُحَمَّدُ، ﷺ، وحالُهم في كِتابِهِ ما ذَكَرَ.
والإشارَةُ بِـ (ذَلِكَ) في قَوْلِهِ: ﴿مِن بَعْدِ ذَلِكَ﴾ [البقرة: ٥٢] إلى قَبُولِ ما أُوتُوهُ، أوْ إلى أخْذِ المِيثاقِ والوَفاءِ بِهِ، ورَفْعِ الجَبَلِ، أوْ خُرُوجِ مُوسى مِن بَيْنِهِمْ، أوِ الإيمانِ. أقْوالٌ.
﴿فَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكم ورَحْمَتُهُ﴾، الفَضْلُ: الإسْلامُ، والرَّحْمَةُ: القُرْآنُ، قالَهُ أبُو العالِيَةِ. أوِ الفَضْلُ: قَبُولُ التَّوْبَةِ، والرَّحْمَةُ: العَفْوُ عَنِ الزَّلَّةِ، أوِ الفَضْلُ: التَّوْفِيقُ لِلتَّوْبَةِ، والرَّحْمَةُ: القَبُولُ. أوِ الفَضْلُ: الرَّحْمَةُ، فَأخْبَرَ اللَّهُ عَنْهم. أوِ الفَضْلُ والرَّحْمَةُ: بَعْثَةُ رَسُولُ اللَّهِ، ﷺ، وإدْراكُهم لِمُدَّتِهِ، وعَلى هَذا القَوْلِ يَكُونُ مِن تَلْوِينِ الخِطابِ، إذْ صارَ هَذا عائِدًا عَلى الحاضِرِينَ. والأقْوالُ قَبْلَهُ تَدُلُّ عَلى أنَّ المُخاطَبَ بِهِ مَن سَلَفَ؛ لِأنَّهُ جاءَ في سِياقِ قِصَّتِهِمْ. وفَضْلُ اللَّهِ عَلى مَذْهَبِ البَصْرِيِّينَ مَرْفُوعٌ عَلى الِابْتِداءِ، والخَبَرُ مَحْذُوفٌ تَقْدِيرِهِ: مَوْجُودٌ، وما يُشْبِهُهُ مِمّا يَلِيقُ بِالمَوْضِعِ. وعَلَيْكم: مُتَعَلِّقٌ بِـ (فَضْلُ)، أوْ مَعْمُولٌ لَهُ، فَلا يَكُونُ في مَوْضِعِ الخَبَرِ. والتَّقْدِيرُ: ﴿فَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكم ورَحْمَتُهُ﴾ مَوْجُودانِ.
(لَكُنْتُمْ): جَوابُ لَوْلا، والأكْثَرُ أنَّهُ إذا كانَ مُثْبَتًا تَدْخُلُهُ اللّامُ، ولَمْ يَجِئْ في القُرْآنِ مُثْبَتًا إلّا بِاللّامِ، إلّا فِيما زَعَمَ بَعْضُهم أنَّ قَوْلَهُ تَعالى: ﴿وهَمَّ بِها﴾ [يوسف: ٢٤]، جَوابُ لَوْلا قُدِّمَ فَإنَّهُ لا لامَ مَعَهُ. وقَدْ جاءَ في كَلامِ العَرَبِ بِغَيْرِ لامٍ، وبَعْضُ النَّحْوِيِّينَ يَخُصُّ ذَلِكَ بِالشِّعْرِ، قالَ الشّاعِرُ:
؎لَوْلا الحَياءُ ولَوْلا الدِّينُ عِبْتُكُما بِبَعْضِ ما فِيكُما إذْ عِبْتُما عَوَرِي
وقَدْ جاءَ في كَلامِهِمْ بَعْدَ اللّامِ قَدْ، قالَ الشّاعِرُ:
؎لَوْلا الأمِيرُ ولَوْلا حَقُّ طاعَتِهِ ∗∗∗ لَقَدْ شَرِبْتُ دَمًا أحْلى مِنَ العَسَلِ
(p-٢٤٥)وقَدْ جاءَ في كَلامِهِمْ أيْضًا حَذْفُ اللّامِ وإبْقاءُ (قَدْ) نَحْوَ: لَوْلا زَيْدٌ قَدْ أكْرَمْتُكَ.
﴿مِنَ الخاسِرِينَ﴾: تَقَدَّمَ أنَّ الخُسْرانَ: هو النُّقْصانُ، ومَعْناهُ مِنَ الهالِكِينَ في الدُّنْيا والأُخْرى. ويُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ (كانَ) هُنا بِمَعْنى: صارَ. قالَ القُشَيْرِيُّ: أخَذَ سُبْحانَهُ مِيثاقَ المُكَلَّفِينَ، ولَكِنَّ قَوْمًا أجابُوهُ طَوْعًا؛ لِأنَّهُ تَعَرَّفَ إلَيْهِمْ، فَوَحَّدُوهُ، وقَوْمًا أجابُوهُ كَرْهًا؛ لِأنَّهُ سَتَرَ عَلَيْهِمْ فَجَحَدُوهُ، ولا حُجَّةَ أقْوى مِن عِيانِ ما رُفِعَ فَوْقَهم مِنَ الطَّوْرِ، ولَكِنْ عَدِمُوا نُورَ البَصِيرَةِ، فَلَمْ يَنْفَعْهم عِيانُ البَصَرِ. قالَ تَعالى: ﴿ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ﴾، أيْ رَجَعْتُمْ إلى العِصْيانِ بَعْدَ مُشاهَدَتِكُمُ الإيمانَ بِالعِيانِ، ولَوْلا حُكْمُهُ بِإمْهالِهِ، وحُكْمُهُ بِإفْضالِهِ، لَعاجَلَكم بِالعُقُوبَةِ، ولَحَلَّ بِكم عَظِيمُ المُصِيبَةِ.
وقالَ بَعْضُ أهْلِ اللَّطائِفِ: كانَتْ نُفُوسُ بَنِي إسْرائِيلَ مِن ظُلُماتِ عِصْيانِها، تَخْبِطُ في عَشْواءَ حالِكَةَ الجِلْبابِ، وتَخْطُرُ مِن غَلَوائِها وعُلُوِّها، في حُلَّتَيْ كِبْرٍ وإعْجابٍ. فَلَمّا أُمِرُوا بِأخْذِ التَّوْراةِ، ورَأوْا ما فِيها مِن أثْقالِ التَّكالِيفِ، ثارَتْ نُفُوسُهُمُ الآبِيَةُ، فَرَفَعَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الجَبَلَ، فَوَجَدُوهُ أثْقَلَ مِمّا كُلِّفُوهُ، فَهانَ عَلَيْهِمْ حَمْلُ التَّوْراةِ مَعَ ما فِيها مِنَ التَّكْلِيفِ والنَّصَبِ، إذْ ذاكَ أهْوَنُ مِنَ الهَلاكِ، قالَ الشّاعِرُ:
؎إلى اللَّهِ يُدْعى بِالبَراهِينِ مَن أبى ∗∗∗ فَإنْ لَمْ يُجِبْ نادَتْهُ بِيضُ الصَّوارِمِ
{"ayah":"ثُمَّ تَوَلَّیۡتُم مِّنۢ بَعۡدِ ذَ ٰلِكَۖ فَلَوۡلَا فَضۡلُ ٱللَّهِ عَلَیۡكُمۡ وَرَحۡمَتُهُۥ لَكُنتُم مِّنَ ٱلۡخَـٰسِرِینَ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق