الباحث القرآني

﴿الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أمْوالَهم بِاللَّيْلِ والنَّهارِ سِرًّا وعَلانِيَةً﴾ قالَ أبُو ذَرٍّ، وأبُو الدَّرْداءِ، وابْنُ عَبّاسٍ، وأبُو أُمامَةَ، وعَبْدُ اللَّهِ بْنُ بِشْرٍ الغافِقِيُّ، ومَكْحُولٌ، ورَباحُ بْنُ بُرَيْدٍ، والأوْزاعِيُّ: هي في عَلَفِ الخَيْلِ المُرْتَبِطَةِ في سَبِيلِ اللَّهِ، ومُرْتَبَطِها، وكانَ أبُو هُرَيْرَةَ إذا مَرَّ بِفَرَسٍ سَمِينٍ قَرَأ هَذِهِ الآيَةَ، وقالَ ابْنُ عَبّاسٍ أيْضًا، والكَلْبِيُّ: نَزَلَتْ في عَلِيٍّ، كانَتْ عِنْدَهُ أرْبَعَةُ دَراهِمَ، (p-٣٣١)قالَ الكَلْبِيُّ: لَمْ يَمْلُكْ غَيْرَها، فَتَصَدَّقَ بِدِرْهَمٍ لَيْلًا، وبِدِرْهَمٍ نَهارًا، وبِدِرْهَمٍ سِرًا، وبِدِرْهَمٍ عَلانِيَةً. وقالَ ابْنُ عَبّاسٍ أيْضًا: نَزَلَتْ في عَلِيٍّ؛ بَعَثَ بِوَسَقِ تَمْرٍ إلى أهْلِ الصُّفَّةِ لَيْلًا، وفي عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ؛ بَعَثَ إلَيْهِمْ بِدَراهِمَ كَثِيرَةٍ نَهارًا. وقالَ قَتادَةُ: نَزَلَتْ في المُنْفِقِينَ مِن غَيْرِ تَبْذِيرٍ ولا تَقْتِيرٍ، انْتَهى. وقِيلَ: نَزَلَتْ في أبِي بِكْرٍ؛ تَصَدَّقَ بِأرْبَعِينَ ألْفَ دِينارٍ: عَشَرَةٌ بِاللَّيْلِ، وعَشَرَةٌ بِالنَّهارِ وعَشَرَةٌ في السِّرِّ، وعَشَرَةٌ في الجَهْرِ. والآيَةُ، وإنْ نَزَلَتْ عَلى سَبَبٍ خاصٍّ، فَهي عامَّةٌ في جَمِيعِ ما دَلَّتْ عَلَيْهِ ألْفاظُ الآيَةِ، والمَعْنى أنَّهم فِيما قالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: يَعُمُّونَ الأوْقاتِ والأحْوالَ بِالصَّدَقَةِ لِحِرْصِهِمْ عَلى الخَيْرِ، فَكُلَّما نَزَلَتْ بِهِمْ حاجَةُ مُحْتاجٍ عَجَّلُوا قَضاءَها، ولَمْ يُؤَخِّرُوهُ، ولَمْ يَتَعَلَّلُوا بِوَقْتٍ ولا حالٍ، انْتَهى. ولَمْ يُبَيِّنْ في هَذِهِ الآيَةِ أفْضَلِيَّةَ الصَّدَقَةِ في أحَدِ الزَّمانَيْنِ، ولا في إحْدى الحالَتَيْنِ اعْتِمادًا عَلى الآيَةِ قَبْلَها، وهي: ﴿إنْ تُبْدُوا الصَّدَقاتِ﴾ [البقرة: ٢٧١] أوْ جاءَ تَفْصِيلًا عَلى حَسَبِ الواقِعِ مِن صَدَقَةِ أبِي بَكْرٍ، وصَدَقَةِ عَلِيٍّ، وقَدْ يُقالُ: إنَّ تَقْدِيمَ اللَّيْلِ عَلى النَّهارِ، والسِّرِّ عَلى العَلانِيَةِ يَدُلُّ عَلى تِلْكَ الأفْضَلِيَّةِ، واللَّيْلُ مَظِنَّةُ صَدَقَةِ السِّرِّ، فَقَدَّمَ الوَقْتَ الَّذِي كانَتِ الصَّدَقَةُ فِيهِ أفْضَلَ، والحالُ الَّتِي كانَتْ فِيها أفْضَلَ. والباءُ في (بِاللَّيْلِ) ظَرْفِيَّةٌ، وانْتِصابُ ﴿سِرًّا وعَلانِيَةً﴾ عَلى أنَّهُما مَصْدَرانِ في مَوْضِعِ الحالِ أيْ: مُسَرِّينَ ومُعْلِنِينَ، أوْ عَلى أنَّهُما حالانِ مِن ضَمِيرِ الإنْفاقِ عَلى مَذْهَبِ سِيبَوَيْهِ، أوْ نَعْتانِ لِمَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ أيْ: إنْفاقًا سِرًّا، عَلى مَشْهُورِ الإعْرابِ في: قُمْتُ طَوِيلًا، أيْ قِيامًا طَوِيلًا. ﴿فَلَهم أجْرُهم عِنْدَ رَبِّهِمْ ولا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ ولا هم يَحْزَنُونَ﴾ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ هَذا فَلا نُعِيدُهُ، ودَخَلَتِ الفاءُ في (فَلَهم) لِتَضَمُّنِ المَوْصُولِ مَعْنى اسْمِ الشَّرْطِ لِعُمُومِهِ. قالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وإنَّما يُوجَدُ الشَّبَهُ، يَعْنِي بَيْنَ المَوْصُولِ واسْمِ الشَّرْطِ، إذا كانَ (الَّذِي) مَوْصُولًا بِفِعْلٍ، وإذا لَمْ يَدْخُلْ عَلى (الَّذِي) عامِلٌ يُغَيِّرُ مَعْناهُ، انْتَهى، فَحَصَرَ الشَّبَهَ فِيما إذا كانَ (الَّذِي) مَوْصُولًا بِفِعْلٍ، وهَذا كَلامٌ غَيْرُ مُحَرَّرٍ، إذْ ما ذُكِرَ لَهُ قُيُودٌ. أوَّلُها: أنَّ ذَلِكَ لا يَخْتَصُّ بِالَّذِي بَلْ كُلُّ مَوْصُولٍ غَيْرُ الألِفِ واللّامِ حُكْمُهُ في ذَلِكَ حُكْمُ الَّذِي بَلا خِلافٍ، وفي الألِفِ واللّامِ خِلافٌ، ومَذْهَبُ سِيبَوَيْهِ المَنعُ مِن دُخُولِ الفاءِ، الثّانِي: قَوْلُهُ مَوْصُولًا بِفِعْلٍ، فَأطْلَقَ في الفِعْلِ واقْتَصَرَ عَلَيْهِ ولَيْسَ كَذَلِكَ، بَلْ شَرْطُ الفِعْلِ أنْ يَكُونَ قابِلًا لِأداةِ الشَّرْطِ، فَلَوْ قُلْتَ: الَّذِي يَأْتِينِي، أوْ لَمّا يَأْتِينِي، أوْ ما يَأْتِينِي، أوْ لَيْسَ يَأْتِينِي، فَلَهُ دِرْهَمٌ، لَمْ يَجُزْ لِأداةِ الشَّرْطِ، لا يُصْلِحُ أنْ تَدْخُلَ عَلى شَيْءٍ مِن ذَلِكَ، وأمّا الِاقْتِصارُ عَلى الفِعْلِ فَلَيْسَ كَذَلِكَ، بَلِ الظَّرْفُ والجارُّ والمَجْرُورُ كالفِعْلِ في ذَلِكَ، فَمَتى كانَتِ الصِّلَةُ واحِدًا مِنهُما جازَ دُخُولُ الفاءِ، وقَوْلُهُ: وإذا لَمْ يَدْخُلْ عَلى (الَّذِي) عامِلٌ يُغَيِّرُ عِبارَةً غَيْرَ مُخَلِّصَةٍ؛ لِأنَّ العامِلَ الدّاخِلَ عَلَيْهِ كائِنًا ما كانَ لا يُغَيِّرُ مَعْنى المَوْصُولِ، إنَّما يَنْبَغِي أنْ يَقُولَ: مَعْنى جُمْلَةِ الِابْتِداءِ في المَوْصُولِ وخَبَرُهُ، فَيُخْرِجُهُ إلى تَغْيِيرِ المَعْنى الِابْتِدائِيِّ مِن: تَمَنٍّ، أوْ تَشْبِيهٍ، أوْ ظَنٍّ، أوْ غَيْرِ ذَلِكَ. لَوْ قُلْتَ: الَّذِي يَزُورُنا فَيُحْسِنُ إلَيْنا لَمْ يَجُزْ، وكانَ يَنْبَغِي أيْضًا لِابْنِ عَطِيَّةَ أنْ يَذْكُرَ أنَّ شَرْطَ دُخُولِ الفاءِ في الخَبَرِ أنْ يَكُونَ مُسْتَحَقًّا بِالصِّلَةِ، نَحْوَ ما جاءَ في الآيَةِ؛ لِأنَّ تَرَتُّبَ الأجْرِ إنَّما هو عَلى الإنْفاقِ، ومَسْألَةُ دُخُولِ الفاءِ في خَبَرِ المُبْتَدَأِ يَسْتَدْعِي كَلامًا طَوِيلًا، وفي بَعْضِ مَسائِلِها خِلافٌ وتَفْصِيلٌ، قَدْ ذَكَرْنا ذَلِكَ في كِتابِ (التَّذْكِرَةِ) مِن تَأْلِيفِنا. * * * ﴿الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أمْوالَهم بِاللَّيْلِ والنَّهارِ سِرًّا وعَلانِيَةً فَلَهم أجْرُهم عِنْدَ رَبِّهِمْ ولا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ ولا هم يَحْزَنُونَ﴾ ﴿ا لَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبا لا يَقُومُونَ إلّا كَما يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطانُ مِنَ المَسِّ ذَلِكَ بِأنَّهم قالُوا إنَّما البَيْعُ مِثْلُ الرِّبا وأحَلَّ اللَّهُ البَيْعَ وحَرَّمَ الرِّبا فَمَن جاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِن رَبِّهِ فانْتَهى فَلَهُ ما سَلَفَ وأمْرُهُ إلى اللَّهِ ومَن عادَ فَأُولَئِكَ أصْحابُ النّارِ هم فِيها خالِدُونَ﴾ ﴿يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبا ويُرْبِي الصَّدَقاتِ واللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ كَفّارٍ أثِيمٍ﴾ [البقرة: ٢٧٦] الرِّبا: الزِّيادَةُ يُقالُ: رَبا يَرْبُو وأرْباهُ غَيْرُهُ: وأرْبى الرَّجُلُ، عامَلَ بِالرِّبا، ومِنهُ الرَّبْوَةُ والرّابِيَةُ، وقالَ حاتِمٌ:(p-٣٣٢) ؎وأسْمَرَ خَطِّيًّا كَأنَّ كُعُوبَهُ نَوى القَسْبُ قَدْ أرْبى ذِراعًا عَلى العَشْرِ وكُتِبَ في القُرْآنِ بِالواوِ والألِفِ بَعْدَها، ويَجُوزُ أنْ يُكْتَبَ بِالياءِ لِلْكَسْرَةِ، وبِالألِفِ، وتُبْدَلُ الباءُ مِيمًا قالُوا: (الرِّما) كَما أبْدَلُوها في كَتَبَ قالُوا: كَتَمَ، ويُثَنّى: رِبَوانِ، بِالواوِ عِنْدَ البَصْرِيِّينَ؛ لِأنَّ ألِفَهُ مُنْقَلِبَةٌ عَنْها، وقالَ الكُوفِيُّونَ: ويُكْتَبُ بِالياءِ، وكَذَلِكَ الثُّلاثِيُّ المَضْمُومُ الأوَّلُ نَحْوُ: ضُحى، فَتَقُولُ: رِبَيانِ وضَحْيانِ، فَإنْ كانَ مَفْتُوحًا نَحْوَ: صَفا، فاتَّفَقُوا عَلى الواوِ، وأمّا الرِّبا الشَّرْعِيُّ فَهو مَحْدُودٌ في كُتُبِ الفُقَهاءِ عَلى حَسَبِ اخْتِلافِ مَذاهِبِهِمْ. تَخَبَّطَ: تَفَعَّلَ مِنَ الخَبْطِ وهو الضَّرْبُ عَلى غَيْرِ اسْتِواءٍ، وخَبَطَ البَعِيرُ الأرْضَ بِأخْفافِهِ، ويُقالُ لِلَّذِي يَتَصَرَّفُ ولا يَهْتَدِي: خَبْطَ عَشْواءَ، وتَوَرَّطَ في عَمْياءَ وقَوْلُ عَلْقَمَةَ: ؎وفِي كُلِّ حَيٍّ قَدْ خَبَطْتَ بِنِعْمَةٍ أيْ: أعْطَيْتَ مَن أرَدْتَ بِلا تَمْيِيزٍ كَرَمًا. سَلَفَ: مَضى وانْقَضى، ومِنهُ سالِفُ الدَّهْرِ أيْ: ماضِيهِ. عادَ عَوْدًا: رَجَعَ، وذَكَرَ بَعْضُهم أنَّها تَكُونُ بِمَعْنى صارَ، وأنْشَدَ: ؎تَعُدُّ فِيكُمُ جَزْرَ الجَزُورِ رِماحُنا ∗∗∗ ويَرْجِعْنَ بِالأسْيافِ مُنْكَسِراتِ المَحْقُ: نُقْصانُ الشَّيْءِ حالًا بَعْدَ حالٍ، ومِنهُ: المَحاقُ في الهِلالِ، يُقالُ: مَحَقَهُ اللَّهُ فانْمَحَقَ وامْتَحَقَ أنْشَدَ اللَّيْثُ: ؎يَزْدادُ حَتّى إذا ما تَمَّ أعْقَبَهُ ∗∗∗ كَرُّ الجَدِيدَيْنِ نَقْصًا ثُمَّ يَنْمَحِقُّ
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب